ولكن الفلسفة خذلته أكثر مما خذله العلم التقليدي، فهو ينشد إيمان الروح، إيمان القلب، والفلسفة وإن أرضت العقل الحر أو العقل المعتز بنفسه أو العقل الذي لا يطيق الخضوع ويتعالى بالكبرياء فهي لا ترضي القلب الذي ينشد السلام ولا ترضي الروح التي تنشد الاطمئنان، فأضاف الغزالي شكوكا جديدة في الفلسفة إلى شكوكه القديمة في العلوم التقليدية.
ومن هنا تحرر الغزالي من كل قيد فكري كما تحرر من كل قيد يقيني، فانطلق حرا طليق الفكر ينشد الهداية بين المذاهب والنحل، ويتلمسها في الشك تارة، وفي التأملات الغامضة أخرى، غير مثقل العقل بميراث يقيده ولا مشغول اليدين بعلم خاص يجله ويكبره.
وأمسى الغزالي وأصبح فإذا به المتهكم الأكبر في جيله، وعرفته محافل العلم أستاذا بارعا متعمقا في كل بحث مغرما بالمجادلات والمناقشات، ومغرما أشد الغرام بالتحطيم والتجريح، فلم يغادر مذهبا من المذاهب لم ينقضه، ولم يدع فرقة من الفرق بدون تجريح وإيلام.
وقد أوتي أسلوبا بارعا وقلما ساحرا وعرضا عبقريا، وتلك أسلحة فكرية رهيبة عظيمة الخطورة إذا وضعت في يد متهكمة مغرمة بالقتال والصيال مغرمة بالبحث والجدال علها ترضي صياح الشك في أعماقها أو ترضي الظمأ إلى اليقين في روحها.
فلا عجب إذا رأينا ملاحم متتابعة متلاحقة شديدة الأوار تنشب بين الغزالي وجيله، وهي ملاحم أضافت إلى التراث الفكري كنوزا من المعرفة لا يزال شعاعها واضح النور والسناء.
ونحن ننقل من كتابه «المنقذ من الضلال» قطعة توضح تلك الفترة الثائرة من حياته وتهدي إلى طريقته في دراساته للمذهب، ومهاجمته للنحل والأفكار والعقائد، قال:
ولم أزل في عنفوان شبابي من راهقت البلوغ، وقد أنافت السن الآن على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومحاولته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا إلا وأتجسس وراءه للتنبه إلى أسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان شبابي، غريزة وفطرة من الله وضعت في جبلتي، لا باختياري وحيلتي.
تلك هي صورة الغزالي العالم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عرف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه أمام الحرمين حتى رشحه ليقوم مقامه في التدريس.
ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح وليقارن فيها حظه بحظوظ العلماء والدارسين.
كانت حياة الغزالي منذ شعاعها الأول، حياة فكرية خالصة، حياة عازفة عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.
صفحه نامشخص