فكرتان يفيض فيهما أبو العتاهية إفاضة ظاهرة: إحداهما زوال الدنيا وغرورها وباطلها، والثانية هول الموت ووحشة القبر وبشاعة الفناء، فأما الأولى فليس في تصوير أبي العتاهية إياها أمر غير مألوف لزهاد الإنسانية عامة، ولأتقياء صدر الإسلام خاصة، فالقرآن يقول:
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، وقد تكرر هذا المعنى في خطب الرسول وخلفائه، ولا سيما صاحب نهج البلاغة، وقد حفظ الأدب عند زهاد القرن الأول كالحسن البصري وغيره أقوالا في ذم الدنيا كفيلة أن تلهم شاعرا متزهدا مثل أبي العتاهية ألوانا من المعاني وضروبا من التصوير.
فالدنيا عند شاعرنا ليست بدار بقاء، وإنما هي دار فناء، حلاوتها ممزوجة بمرارة، وراحتها ممزوجة بعناء، تداعيها سريع، وزوالها وشيك، من ولد فيها فللموت، ومن بنى فللخراب، ما طلعت فيها شمس ولا غربت إلا لآجال، ومن عجب أننا فيها نلهو وأيامنا تذهب، ونلعب والموت لا يلعب، ونتكالب على الدنيا وهي تجتاحنا، ونتطاحن عليها ورحاها تدور من فوق رءوسنا.
وأما الموت فموقف أبي العتاهية منه غريب حقا، فهو لا يحن إلى الموت كلما حن إليه الزهاد في مختلف العصور، وهو لا يدلف إلى منيته بنفس مطمئنة ظامئة إلى لقاء الله، ولكنه يبدو في صورة المغيظ المحنق، الفزع من أهوال الموت وسكراته، ومن وحشة البلى وضمة القبر وفعل الفناء في الأجسام، فهذا الموت لا والدا يبقي ولا ولدا، ولا صغيرا ولا شيخا ولا أحدا، وله في الناس سهام غير مخطئة، من فاته اليوم سهم لم يفته غدا، والمنايا تجوس البلاد، وتبيد العباد، وستنال منا كما نالت من قبل من ثمود وعاد، ومن نزار وإياد، ومن بني الأصفر أهل القباب والأطواد، ونحن نريد بقاءه والخطوب تكيد لنا، والموت يهوي فاغرا فاه نحونا، فيجردنا من أصدقائنا أو يختطفنا من بين أحبائنا، ويلقي بنا إلى حفر تنعفر فيها الوجوه النضرة، وتبلي الأجساد المنعمة، فلا يبقى منها بعد ذلك إلا جماجم عارية وعظام نخرة، وليت الأمر وقف عند هذا.
فلو كان هول الموت لا شيء بعده
لهان علينا الأمر واحتقر الأمر
ولكنه حشر ونشر وجنة
ونار وما قد يستطيل به الخبر
فأبو العتاهية في تصويره للموت إنما يقف منه موقف الساخط المتشائم الذي يكره الموت والبلى، ويعجبه ريح الحياة وطيبها، ولكن أين أين المفر؟! وإذا فليزهد الشاعر في الحياة ما دامت هذه نهايتها، وليقف فنه على تحذير الناس من الركون إليها، وليشرح لهم حماقة من يبني فيها القصور ويشيد الدور ويجمع الأموال، وينشد المنصب والجاه.
وظاهر أن هذا الموقف لا يطابق تمام المطابقة وجهة النظر الإسلامية العامة في الحياة والموت، والفناء والبقاء؛ فالإسلام في غالبية نصوصه ومواقف العارفين بأسراره قد جعل الدنيا مطية الآخرة، وحبب إلى الناس لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، والموت حق، والجنة حق، والنار حق، والمؤمنون مطالبون أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا، ويعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا، وربما وردت في أقوال الصالحين من رجال الصدر الأول عبارات زهد في الدنيا؛ لأن نهايتها الفناء، ولكنها أقوال عابرة نادرة لا تؤلف عند أصحابها مثل هذا الموقف اليائس المتشائم الذي وقفه أبو العتاهية.
صفحه نامشخص