بين يدي الطبعة الثانية
الأفق الأعلى
نشأته وحياته
الشعراني طالب العلم
شيوخه في الطريق
الشعراني والخواص
الشعراني في مدرسة خوند
الشعراني والخليفة
زاوية الشعراني
إلى الملأ الأعلى
رسالة التصوف
التصوف الإسلامي والمعارف العالمية
الطريق الرباني والمعارف الإلهية
هل تتعارض المعارف الصوفية مع القرآن والسنة؟
التصوف المفترى عليه
التصوف بريء من وحدة الوجود
مقام الفناء وأخطاء الحلوليين
مقام الفناء وابن تيمية
جهاد الشعراني
بين الشعراني وأدعياء التصوف
موقف الشعراني من المتصوفة العاطلين
الشعراني وفقهاء الأزهر
فقهاء عصر الشعراني
ثورة الأزهر على الشعراني
الشعراني وعلماء الكلام والتوحيد
الجن والأرواح والعوالم غير المنظورة
الشعراني المفترى عليه حيا وميتا
صلاته بالملوك والوزراء
الزعيم الروحي والشعبي
الشعراني رجل المثالية الخلقية
بين يدي الطبعة الثانية
الأفق الأعلى
نشأته وحياته
الشعراني طالب العلم
شيوخه في الطريق
الشعراني والخواص
الشعراني في مدرسة خوند
الشعراني والخليفة
زاوية الشعراني
إلى الملأ الأعلى
رسالة التصوف
التصوف الإسلامي والمعارف العالمية
الطريق الرباني والمعارف الإلهية
هل تتعارض المعارف الصوفية مع القرآن والسنة؟
التصوف المفترى عليه
التصوف بريء من وحدة الوجود
مقام الفناء وأخطاء الحلوليين
مقام الفناء وابن تيمية
جهاد الشعراني
بين الشعراني وأدعياء التصوف
موقف الشعراني من المتصوفة العاطلين
الشعراني وفقهاء الأزهر
فقهاء عصر الشعراني
ثورة الأزهر على الشعراني
الشعراني وعلماء الكلام والتوحيد
الجن والأرواح والعوالم غير المنظورة
الشعراني المفترى عليه حيا وميتا
صلاته بالملوك والوزراء
الزعيم الروحي والشعبي
الشعراني رجل المثالية الخلقية
التصوف الإسلامي والإمام الشعراني
التصوف الإسلامي والإمام الشعراني
تأليف
طه عبد الباقي سرور
بين يدي الطبعة الثانية
منذ خمسة عشر عاما وهذا القلم ينطلق على أجنحة من هدى الله وتوفيقه، ليحلق في سموات التصوف وآفاقه، يقتبس من كل نجم أبهى أشعته، ومن كل زهر أطهر عبيره، ومن كل لحن أسمى أنغامه، ويمزج الطهر بالخير، والنور بالعطر، والشعاع باللحن، والجمال بالإيمان، ثم يتجلى رضاء الله فتتحول كل هذه المبهجات إلى كلمات مؤمنات مشرقات تضج بالحياة، وتنبض بالقوة، وتقدم زادا روحيا للقلوب المتفتحة، ونغما علويا للأرواح العابدة، ومنهاجا وضاء هاديا لخير أمة أخرجت للناس.
منذ خمسة عشر عاما كان مولد هذه الدراسات الصوفية التي تتابعت أجزاؤها، وتماسكت حلقاتها، واتحدت لبناتها في سبيل السمو والشموخ بالصرح الصوفي الذي تترقبه القلوب العابدة، وتأمل أن يكون حصنا من حصون الإيمان، ونقطة ارتكاز قوية للوثبة الإسلامية الكبرى.
وشاءت عناية الله - ونحن أرقاء هذه العناية - أن يستقبل العالم الإسلامي هذه الدراسات استقباله لأضواء الفجر، وقطرات الغيث، فنفدت طبعاتها سراعا، ولا يزال الحب يطالب بها، ويلح عليها، ويسر الله - جل جلاله - فأعيدت طبعات كتابي «الغزالي» و«محيي الدين»، وها هي ذي الطبعة الثانية من «التصوف الإسلامي والإمام الشعراني» محررة منقحة، مضافا إليها زيادات وتعقيبات لم تتيسر لنا في الطبعة الأولى، نقدمها لعشاق التصوف والروحانية الإسلامية، شاكرين فخورين. وما توفيقنا إلا بالله رب العالمين.
وهذا الكتاب هو واسطة العقد من هذه الدراسات؛ فقد تميز بمناهج كاملة للتصوف وأهدافه ورسالاته، وما يحمل بين أجنحته من خير وهدى ورحمة للموقنين.
كما عني عناية كبرى بتنقية التصوف من كل ما نسب إليه ودس عليه من مذاهب فلسفية، ودجليات شعبية، مما امتلأت به حقائب التاريخ، وفاضت به صحف المغرضين ولحونهم.
إنه لصورة كاملة للثروة الصوفية الضخمة، صورة صادقة لأقوى روحانية عالمية مشت بين الناس بالسلام والجمال، والخير والحب، واليقين المشرق المبين.
ولقد جاءت هذه الطبعة الجديدة في ميقاتها الذي أراده الله، جاءت لتكون ردا حاسما على هؤلاء الذين أمسكوا بمزمار إبليس، وراحوا يريقون السحر الخادع المضلل هنا وهناك، لينالوا من التصوف والمتصوفة، وليتسللوا إلى منائر الإيمان محطمين مدمرين.
هؤلاء الذين ملئوا أفواههم بكلمات كأنها رءوس الشياطين غلظة وبشاعة، محاولين أن ينقضوا الصرح من أساسه، ويحطموا المحراب على الساجدين العابدين.
لقد أمسكوا وحدهم برحمة الله، ويبيعون الجنة لأنصارهم، واللظى والكفر والمروق لغير الساجدين على عتبات من يسجدون لهم، كل شيء بدعة، وكل شيء ضلالة، وكل تسبيحة جحود، وكل تكبيرة مروق إلا تكبيراتهم هم؛ حيث يحلو لهم التكبير والتهليل.
ولن نقف طويلا مع خصوم التصوف التاريخيين. لقد صاحوا حتى شقت حناجرهم عبر القرون، ثم ذهبوا قبضة من رماد، وصيحة من شيطان، ذهبوا إلى الفناء، وبقي التصوف بمنابره ومنائره، ومواجيده ولحونه، يرشد الناس إلى ربهم، ويأخذ بأيديهم إلى الحياة الصاعدة الطاهرة.
ولست أدري كيف تكون الحياة لو خلت من ذلك الإيمان الصوفي القوي الحار الذي يملأ سموات الوجود بألحان الحب، وموسيقى السلام، ووثبات الأرواح، وأشواق القلوب.
إن المتصوفة لعمالقة بين أقزام، عمالقة في جهادهم لأنفسهم، عمالقة في أسلوب حياتهم، وألوان تعبداتهم، ومثالياتهم المجنحة المتعالية.
وحسب النهج الصوفي أن الله - جل جلاله - خلده في قرآنه خلودا لا يدنو منه الفناء:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
تلك هي حجتنا، وهذه آيتنا.
وبعد ... ترى هل ذهبنا بعيدا ونحن نقدم كتابنا؟ إن الدفاع عن التصوف لهدف من أكبر أهدافنا، وعلى هذا الضوء تكون تلك الكلمات مقدمة طبيعية بين يدي «التصوف الإسلامي والإمام الشعراني».
وتبارك رب العزة القائل:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين .
طه عبد الباقي سرور
20 / 12 / 1955
الأفق الأعلى
الشعراني هو آخر نجم بزغ في الأفق الأعلى؛ الأفق الأعلى للتفكير الإسلامي والنهج الصوفي.
ولقد درج التصوف مع الإسلام منذ يومه الأول أفقا خاصا للقلوب المتصدعة من خشية الله، المتفجرة الينابيع بحبه ونجواه، وسماء مجلوة للعقول السابحة في عجائب الكون، المفكرة في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من آيات للموقنين، العقول التي أودع فيها المهيمن نور الحكمة، ورزقها جلاء البصيرة، وفتوحات العبادة والطاعة، واتقوا الله ويعلمكم الله.
والقلب المتصدع العابد، والعقل المفكر المؤمن، والنفس المطمئنة الذاكرة المحبة يؤلفون معا النفحة العلوية، المعلمة الملهمة، التي ترتفع بالإنسان وترتفع حتى يكون من الملهمين الربانيين المندرجين تحت أفق قوله تعالى:
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
إن شئت فسم تلك المثاليات بالتصوف أو بالأفق الأعلى، وإن أحببت فليكن عنوانها نورانية العبودية أو الروحانية الإسلامية.
فالتصوف هو جماع تلك المثاليات، وهو الذي يرسم الأفق الأعلى لمن يتسامى، الأفق الأعلى المشرق بالروحانية الإسلامية، الأفق الأعلى الذي تتجلى فيه العبودية الكاملة بأنوارها وإلهاماتها.
وسبيل التصوف إلى تلك الآفاق هو الاستعداد الفطري الممثل في الحب الإلهي، ثم الذكر الدائم، والخلق الكامل، والتطوع المتواصل لما فوق الفرائض والنوافل.
وفي الحديث القدسي: «فلا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولإن استعاذني لأعيذنه.»
تلك هي مرتبة النوافل، وما أدراك ما هي؟ ولكن فوقها مرتبة التطوع الدائم؛ وهي جعل الحياة كلها ذكرا وعبادة
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ،
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ،
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما .
وأفق تلك المرتبة؛ مرتبة العبودية الكاملة، الأثر المشهور: «عبدي أطعني تكن ربانيا؛ تقول للشيء: كن فيكون.»
وهذا الأفق جبار المرتقى لا يذلل لكل طالب، فلا يطيقه ولا يصبر عليه إلا صفوة من عباد الرحمن الذين اجتباهم واصطفاهم، وجعلهم أئمة وهداة وورثة لأنوار النبوة المحمدية
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
وليس ما نقول ضربا من الأشواق الوجدانية والسبحات الخيالية؛ «فقد روى أنس - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمشي إذ استقبله رجل شاب من الأنصار، فقال له النبي - صلوات الله عليه: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: انظر ما تقول؛ فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم. عبد نور الله الإيمان في قلبه.»
وفي رواية أخرى عن محمد بن الحسن: «لكأني أنظر إلى ربي - عز وجل - فوق عرشه يقضي بين خلقه.»
ذلك عبد نور الله الإيمان في قلبه. وما أجمل وأحلى هذا التعبير النبوي! فعاش في الأفق الأعلى، فتجلت عليه روح الإسلام، فحلق بأجنحة قلبه النورانية حتى رأى الملكوت الأسنى، فشاهد النار والجنة والعرش، ثم ارتقى فرأى الله - جل جلاله - وهو يقضي بين خلقه، رأى وشاهد تلك الآيات بعين الموقنين، عين الإيمان القلبي، وهو يخطر بقدميه على السيار الأرضي.
وقصة الخضر؛ العبد الذي ارتقى فاهتدى، فآتاه الله من لدنه علما باطنيا ربانيا معجزا لا يسامقه علم، ولا تدانيه معرفة.
ذلك هو التصوف الذي كان له أكبر الأثر في توجيهات العالم الإسلامي الفكرية والتعبدية، بل أكبر الأثر في فتوحاته وانتصاراته العالمية، وفي رسم أهدافه ومثله العليا الاجتماعية والخلقية والروحية.
ذلك هو التصوف الذي استحال إلى شخصيات وبطولات ملهمة عبقرية تتفاعل مع الجماهير وتقودها فتهديها وترشدها، واستحالت تلك البطولات إلى قوة روحية زاحفة مشرقة بالنور، فياضة بالإيمان، تطير بألوية الإسلام، وتزكي شعلته، وتحفظ مثاليته، وتفتح له الآفاق في شتى الميادين العقلية والعلمية.
وهذا هو التفسير الصادق لهذا الحشد الخالد من الشخصيات العجيبة والبطولات الفذة التي حفل بها تاريخ التصوف، آيات معجزات لا تسمو عبقريات الدنيا إليهم، ومثاليات تخجل حياتنا حين نتحدث عنهم، وقوة روحية غلابة ملهمة لم يعرفها تاريخ الإيمان العالمي لسواهم.
ولا بد لنا حينما نتحدث عنهم من أن نعقد الصلات بينهم وبين الروح الصوفي الذي يعد مصدر هذه الطاقة، ومشعل نورها، وصانع أجنحتها.
ومقياس عظمة كل عبقرية من تلك العبقريات اللدنية هو استعدادها للترقي في المعارج العلوية، وطاقتها على تحمل العبودية الكاملة، والحب الإلهي الفاتح لباب الفيض الرباني.
والباب الموصل لتلك المعارج هو الاقتداء الكامل، والاحتذاء الصادق الصارم بالمثل الأعلى للإنسان الكامل، بالنبوة المحمدية - صلوات الله وسلامه على صاحبها.
تلك النبوة التي تلقت الفيض كله كاملا، واستوعبته، وأطاقت تلقيه وصبرت عليه، وعاشت له وبه، فكانت رمزه الأعلى، وكانت أفقه الأسمى، وكانت معينه الزاخر الفياض الذي تكفي قطرة منه لصوغ عبقري ملهم من هؤلاء العباقرة الملهمين.
العباقرة الملهمين الذين عاشوا تحت أفق خاتم الأنبياء وسيد المرسلين - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - كل بقدر ما فيه من استعداد للتلقي، واستعداد للاستيعاب، واستعداد للصبر والتحمل، واستعداد للفيض والإشراق.
وهذا هو السر في فهم المتصوفة وإجلالهم للنبوة المحمدية، فهما وإجلالا لا أغالي إذا قلت إنه يفوق مثيله في قلب كل محمدي.
لقد آمنوا بأن محمدا رسول الله هو المفتاح الرباني للأبواب الإلهية؛ حيث تهطل الفيوضات والفتوحات، وأن السر كل السر في المفتاح والباب، فكل من حاد عن الطريق السوي؛ طريق الهدى المحمدي، فقد المفتاح وتوارى عنه الباب، فحرم من الفتح والعطاء، وضل سواء السبيل.
تلك هي المدرسة التي أنجبت عباقرة التصوف، مدرسة الاحتذاء والاقتداء بالسنن المحمدي، مدرسة العبودية الكاملة. ولقد كانت تلك المدرسة - ولا تزال - قلب الإسلام وروحه وأفقه الأعلى.
وتلك المدرسة المحمدية؛ مدرسة التفكر في آيات الله، والتعبد المتواصل في محاريب الحياة، وكل ما في الحياة محاريب ومساجد للمؤمنين الموقنين، مدرسة الحب الإلهي بما فيها من إشراق وإلهام وفيوضات، هي التي أنجبت أبا المواهب الزعيم العملاق عبد الوهاب الشعراني.
والشعراني عجيبة ضخمة من عجائب تلك المدرسة، أو إن شئت فعجيبة من عجائب التصوف، وصنيعة من صنائع الإيمان، ولطيفة من لطائف التقوى، وقبس من أقباس النور المفاض على الأرواح المتطهرة العابدة.
فدعك من البحث عن مدرسته العلمية، ودعك من البحث عن مناهجه ودراساته، فقد كونته إلهامات القلب وسبحات الروح، وأبرزته الطاعة والخلوة والمحبة والحضرة، ورعته وحبته وزكته عناية الله ورضاه.
وليس معنى هذا أن الشعراني لم يكن عالما فحلا، ودارسا مبرزا على معاصريه في علومهم ومعارفهم، وإنما نريد أن نقول إن تلك العملاقية العلمية التي ارتفعت به منارا، فنت في نوره علوم معاصريه، وتضاءلت حياله معارف مصاوليه ومجادليه، كان سرها أنها من الأفق الأعلى، من النبع الرباني الذي لا تفنى إلهاماته، ولا تنضب إمداداته.
وحسب الشعراني أن رجال الاستشراق عكفوا على كتبه يستنطقونها، ويتلمسون أسرارها، ويقبلونها على أوجه شكوكهم الملحة، ويعرضونها على موازينهم القاسية، وخرجوا بعد الشوط الطويل يحنون الهامات أمام العملاق الضخم الشامخ، ويطلقون القول معترفين في وضوح وصراحة بأن الشعراني أعجوبة من أعاجيب العباقرة المتصوفين، أعجوبة لا يكاد تاريخ الإسلام يعرف لها مثيلا.
يقول المستشرق «فولرز»: «إن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفيا من الطراز الأول، وكان في الوقت نفسه كاتبا بارزا أصيلا في ميدان الفقه وأصوله، وكان مصلحا يكاد الإسلام لا يعرف له نظيرا، وإن كتبه التي تجاوزت السبعين عدا، من بينها أربعة وعشرون كتابا تعتبر ابتكارا محضا أصيلا لم يسبق إليه أبدا، ولم يعالج فكرتها أحد قبله.»
ويقول العلامة «ماكدونالد»: «إن الشعراني كان رجلا دراكا نفاذا مخلصا واسع العقل.» ويقول في موضع آخر: «إنه كان يجمع بين أعظم المميزات، وإنه كان مشرعا ذا أصالة ونفاذ، وكان عقله من العقول النادرة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، وإنه رجل أخلاق تهزه أنفة عالية.»
ويقول المستشرق «نيكلسون» عنه: «إنه أعظم صوفي عرفه العالم الإسلامي كله، وإنه منذ فتح المغول العالم الإسلامي ركدت الحركة الفكرية في الإسلام، واقتصر علماؤه على الجمع والتقليد، فلا نجد بوادر انطلاق، أو إنتاج خصب منتج، أو أي أثر لتفكير أصيل وضيء، باستثناء شخصيتين شاذتين؛ هما: ابن خلدون المؤرخ، والشعراني الصوفي. وكان الشعراني بالذات مفكرا مبدعا أصيلا أثر تأثيرا واسع المدى في العالم الإسلامي، يشهد به إلى يومنا إلحاح القراء إلحاحا متواصلا في طلب مؤلفاته.»
تلك هي شهادات العلماء العالميين الذين وزنوا الشعراني بموازينهم العلمية الدنيوية، لا بميزان النورانية الصوفية، ومع هذا فقد ارتفعت به موازينهم إلى القمة المنفردة شموخا وخلودا.
ولنعد إلى الأفق الأعلى؛ أفق التصوف الوعر العسير المرتقى، لقد صعد الشعراني في معارجه، وتنسم الذروة في محرابه، وتزعم وساد في آفاقه.
والصعود في تلك المعارج، وتنسم الذروة والزعامة والسيادة الصوفية قد أتيحت من قبل الشعراني لغير قليل في هذا الأفق.
ولكن الشعراني كان آخر نجم في ذلك الأفق؛ آخر نجم بحسب الترتيب الزمني؛ ولهذا انفرد وحده بخوض أعنف معارك التصوف في أحلك الأزمنة وأقساها وأشدها.
وحسبه أنه حارب كل معاصريه حتى المتصوفة، المتصوفة اسما لا معنى، فلقد فقد التصوف في عصره حلاه وعلاه.
حارب وحده، وانتصر وحده، وارتقى الذروة وحيدا، وأقام للتصوف دولة عاشت طوال حياته عزيزة غلابة.
حارب وانتصر في أشد العصور الإسلامية رهبة وظلاما وجمودا وجهلا، فأطلق آية النور المبصرة التي تمحو الظلمات، وأعاد للفكر الإسلامي قوته وهداه، وأعاد إلى القلوب القلقة إيمانها وتقواها.
كانت الأمة الإسلامية قبيل عهده تعيش في ظلمات يعلو بعضها بعضا، ظلمات خارجية تمثلت في أمواج بربرية من جنود المغول والتتر قادمة من المشرق تجتث الشعوب الإسلامية من أساسها، وتدمر حضارتها، وتطفئ شعلتها، وأمواج صليبية قادمة من المغرب فوارة بالغضب والتعصب، مشرعة السيف بالحقد والبغضاء.
وفي الداخل كانت الظلمات أشد وأقسى، كان الركود الروحي هو العلة الكبرى؛ فإن التسوية التي قام بها الغزالي بين المتصوفة والفقهاء كانت قد أهدرت من جانب الأشاعرة، الذين سلوا سيف الإجماع المصطنع ضد المفكرين تارة، وضد المتصوفة تارة أخرى.
حتى إن تاريخ الفكر الإسلامي بعد الغزالي منذ القرن السادس الهجري هو تاريخ النزاع المشبوب بين المتصوفة والأشاعرة من جهة، وبين المتصوفة ورجال الحديث من جهة أخرى، وأعقب هذا الصراع العنيف هبوط فكري عام في قواهم جميعا، كما تنتج المعارك الحربية الضعف والانهيار في القوات المتحاربة، وتحمل العالم الإسلامي بأسره وزر تلك المعارك الجدلية الهوجاء جهلا وجمودا، وبلادة ذهنية، وخمودا روحيا قاتلا.
وجاء ابن تيمية في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد في قعقعة وزوبعة، يملأ الدنيا صياحا ضد كل مفكر سواه، ويخص بحملته الكبرى ومعركته العظمى التصوف والمتصوفة.
نادى ابن تيمية بالمعنى الحرفي للقرآن، ولم يقبل في الآيات المجسمة تأويلا، وفسق كل المذاهب الإسلامية في علم الكلام، وحرم الاجتهاد على الناس جميعا وأباحه لنفسه، فحدد صفات الله تعالى حسب رأيه، وحرم زيارة الأولياء وقراءة القرآن لهم، وتغالى فنادى بأن من يزور قبر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - تقربا أو طلبا للشفاعة فهو ضال مبتدع.
وعاش ابن تيمية حليف السجون، ومات سجينا، ولكنه كان قد أطلق صيحة ملتهبة متوقدة الجمر، وتناول أتباعه كلماته فضخموها وألبسوها أردية فضفاضة زادت نار الحرب وقودا وضراما، حتى امتلأت شوارع القاهرة بالصراع والدماء بين أتباعه والمتصوفة، كما يقول الجبرتي.
وكان السبب الأكبر في هذا الجدل والحوار، وفي تلك الخصومات المجنونة الرعناء، هو أن النهضة الإسلامية العلمية كانت قد خمدت جذوتها، وخبا ضوؤها، وأخذت البدع والخرافات والأساطير تنطلق في أفق العالم الإسلامي.
لقد ذبل المشعل الذي ظل يتقد عشرة قرون، والذي أنارت أشعته الفكرية أرجاء الوجود، ذبل بل فني مخنوقا في الظلمات.
ويكفي لتصوير ظلمات هذا العصر أن التصوف، وهو قلب الإسلام النابض، أصبح في تلك الصورة المهلهلة التي رسمها الشعراني بقلمه: «كان التصوف حالا فصار كارا، وكان احتسابا فصار اكتسابا، وكان استنارا فصار اشتهارا، وكان اتباعا للسلف فصار اتباعا للعلف، وكان عمارة للصدور فصار عمارة للغرور، وكان تعففا فصار تملقا، وكان تجريدا فصار ثريدا.»
يكفي لتصوير هذا العصر المظلم أن الشعراني يحدثنا عن رجل يسمى الشيخ شعبان المجذوب كان يجلس على كراسي المساجد أيام الجمع وغيرها، ويقرأ ما يزعم أنه قرآن كريم، وقد سمعه الشعراني يقول على طريقة قراءة القرآن: «وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا بالمؤتفكات يضربوننا، ويأخذون أموالنا، وما لنا من ناصرين.»
ثم يعقب على هذا قائلا: «اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان.» ويعلق الشعراني قائلا: «ولم أسمع أحدا ينكر عليه شيئا من حاله، بل يعدون رؤيته عيدا عندهم.»
1
وكان زميله إبراهيم العريان يصعد إلى منبر المسجد عاريا ويخطب الناس قائلا: السلطان ودمياط وباب اللوق وبين الصورين وجامع طولون، والحمد لله رب العالمين؛ فيحصل للناس بسط عظيم، كما يقول الشعراني.
2
في تلك الظلمات، وفي هذا الجو الزاخر بالجهالات، بزغ نجم الشعراني متلألئا مشرقا كأنه ظاهرة كونية جاءت في موعدها المحدد، ووقتها المرسوم.
جاء كموجة صوفية أطلقها البحر الأعظم لتجتث كل شيء من جذوره، ثم تنحصر فتملأ الدنيا خصبا ونماء وبركة ونورا.
وهبه الله ومن عليه فكان كما صاغته عناية الله ورحمته، وكان أينما شرع قلمه تحف به الهبات والمنن؛ فيأتي كلمه زخارا باليقين والهدى.
جاء مكافحا مصلحا، وزعيما قائدا، ومرشدا هاديا، فتمثلت فيه خصائص تلك الصفات، فكان كما لقب: أبا المواهب.
حرر التصوف من الأساطير والبدع، وجلاه محمديا قرآنيا، كما أراده الله لعباده، قوة روحية محلقة في الأفق الأعلى.
وحرر الفقه من جموده وتزمته، فكان الأصولي الألمعي الذي مزج الفقه بحرارة الإيمان، فأنقذه من الجفوة والجفاف، وحببه إلى الجماهير يوم جعله لا مجرد أحكام شرعية فحسب، بل حقائق روحية مشرقة.
وحرر علم الكلام - التوحيد - من نزوات المجسدين، وأهواء المجادلين، وأعاده إلى نوره ورونقه الإيماني الذي عرفه واهتدى به الصدر الأول والتابعون.
وأنقذ الأمة الإسلامية من الجدل والحوار والجري وراء الأوهام والخيالات، وردها إلى النبع الصافي والعمل الخالص لوجه الله.
ولم ينسه جهاده الديني زعامته الشعبية، فكان المصلح الاجتماعي المدافع عن الفقير والمسكين والضعيف، القائم في وجه الولاة والحكام يرفع كلمة الحق، وينتزع حقوق الضعفاء من الأقوياء.
ووقفت الدنيا في عهده ترقب كلمة من فيه، أو إشارة من يده، فهو الملجأ والملاذ للمظلوم ينشد حقا، وللظالم يطلب رحمة، وهو المرشد الهادي إلى حقائق الإيمان، ولطائف العقائد، ومشكلات الفكر والحياة، وهو الزعيم الحبيب الذي إذا غضب اضطربت لغضبه قلوب الملايين.
وهو - بعد هذا وذاك - مؤرخ التصوف والمتصوفة، وخليفة الغزالي الأوحد على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والتعبدية في الإسلام، والمدافع الأكبر عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فيلسوف التصوف العبقري، ومحيي عالم الزوايا التي يعمرها القرآن، والتي يسمع فيها ذكر الله آناء الليل وأطراف النهار.
وقد روي عن النبي - صلوات الله عليه وسلامه عليه - عن ربه - عز وجل - في الحديث القدسي: «إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري، وأذكر بذكرهم.»
تلك علامة المتصوفة، وآية الشعراني، وفي الخالدين من يذكر بذكر الله، ومن يذكر الله بذكره ...
نشأته وحياته
أسرته
إلى الدوحة العلوية الهاشمية يرتفع نسب الشعراني، فجده الأعلى هو محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما.
وقد هاجر أجداده إلى المغرب الأقصى في الموجات المهاجرة من البيت العلوي التي اختارت الأطراف النائية من الإمبراطورية الإسلامية، فرارا من الملاحم المتتابعة بينهم وبين البيت الأموي تارة، وبين البيت العباسي تارة أخرى.
وفي المغرب الأقصى استطاع العلويون أن يؤسسوا دولا، وأن ينشئوا حضارات، وأن يظفروا بالحب والتأييد من شعوب الشمال الأفريقي كافة.
ولكنهم مع هذا لم يستطيعوا أن يوحدوا كلمتهم ودولتهم، بل انقسم بيتهم إلى بيوت، وتفرق جمعهم إلى قبائل وبطون؛ ولهذا تعددت دولهم، وتعددت بيوتهم المالكة، وتعددت قبائلهم الحاكمة.
وكان الملك في مدينة تلمسان وما جاورها لقبيلة بني زغلة، وإلى تلك القبيلة ينتسب عبد الوهاب الشعراني.
ومن خصائص العلويين أن الملك لم يصرفهم عن العلم، ولم يباعد بينهم وبين الولاية الدينية والزعامة الروحية، فكان منهم الملوك، وكان منهم الأئمة الهداة.
ولهذا نرى في تاريخ بني زغلة «أسرة الشعراني» الملك والتصوف يدرجان معا، ويعيشان معا، ويتقاسمان الحياة سويا، ونشاهد جده موسى ابن السلطان أحمد يؤثر طريق الله على الملك ومجده، فيتتلمذ على ابن مدين الصوفي، ويترك المغرب مهاجرا إلى مصر تلبية لأمره.
ولقد أرخ الشعراني لنفسه في كتابه المنن، فلنتركه يحدثنا عن نسبه: «أحمد الله تعالى حيث جعلني من أبناء الملوك
1
فإني - بحمد الله تعالى - عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن زوفا بن الشيخ موسى، المكنى في بلاد البهنسا بأبي العمران، جدي السادس ابن السلطان أحمد ابن السلطان سعيد ابن السلطان فاشين ابن السلطان محيا ابن السلطان زوفا ابن السلطان ريان ابن السلطان محمد بن موسى ابن السيد محمد ابن الحنفية ابن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.
وكان جدي السابع الذي هو السلطان أحمد
2
سلطانا بمدينة تلمسان في عصر الشيخ أبي مدين المغربي، ولما اجتمع به جدي موسى قال له الشيخ أبو مدين: لمن تنتسب؟ قال: والدي السلطان أحمد، فقال له: إنما عنيت نسبك من جهة الشرف، فقال: أنتسب إلى السيد محمد ابن الحنفية، فقال له: ملك وشرف وفقر - أي تصوف - لا يجتمعن، فقال: يا سيدي، قد خلعت ما عدا الفقر، فرباه، فلما كمل في الطريق أمره بالسفر إلى صعيد مصر، وقال له: اسكن بناحية «هو»
3
فإن بها قبرك، فكان الأمر كما قال.»
وإذن فالشعراني يقرر أن جده موسى قد حضر إلى مصر بإشارة صوفية من الإمام أبي مدين؛ ليتولى تربية المريدين والسالكين، ويقيم للإيمان دولة على ضفاف النيل، مؤثرا طريق الله ومجاهداته على نعيم الملك وأمجاده.
وهذا الأمر نهج صوفي نعرفه من تاريخ التصوف، فالمتصوفة يعتبرون أنفسهم المدرسة الإسلامية الكبرى التي تهيمن وتشرف على القلوب المحمدية، وتهيمن وتشرف وتسأل أيضا عن النهضة الإسلامية والعبادات الربانية. ينظر المتصوفة إلى العالم الإسلامي على اعتباره أمة واحدة، هم رأسه المفكر وقلبه النابض؛ ولهذا درج كبار المتصوفة على تربية أفذاذ الرجال، حتى إذا كملوا وأعدوا بعثوا بهم إلى المراكز الإسلامية التي تحتاج إليهم دعاة وهداة.
وإذن فقد استقر الشيخ موسى أبو العمران ببلدة «هو» - وهي قرية كبرى من قرى الصعيد الأعلى، وأهلها من قبائل الهوارة أولي البأس والعصبية الإسلامية - وأسس الشيخ موسى فيها زاوية غدت مركزا من مراكز التصوف في مصر، ومهدا من المهود التي يستنبت بها رجال الدعوة الصوفية.
ولم يحدد لنا التاريخ السنة التي هاجر فيها موسى إلى مصر، ولكن كتب التاريخ حددت لنا تاريخ وفاته، فقد توفي ببلدة «هو» عام 707ه، بعد أن نجحت دعوته، واهتدى بهديها جمهور ضخم من الصعيد الأعلى.
واستمرت أسرة الشعراني بالصعيد تحمل لواء العلم والولاية حتى مطلع القرن التاسع الهجري، فهاجر عميدها أحمد إلى ساقية أبي شعرة بالمنوفية، وأسس بها زاوية للعلم والعبادة، والتف الناس حوله ينهلون من معارفه وفتوحاته؛ فقد عرف بالتفوق في العلوم الصوفية رغم أميته، كما اشتهر بالولاية والنفحات، وانتقل إلى جوار ربه عام 828ه.
وحمل اللواء بعده حفيده أحمد الذي أوتي حظا من العلم المعروف في الأزهر في عهده، وحظوظا من العلوم الربانية التي اختص بها المتصوفة.
ثم تأذن ربك لهذا البيت الكريم؛ بيت الملك والدين ، بأن عهد كماله وتمامه قد حان، فوهبه في ليلة مباركة الطفل العملاق عبد الوهاب الشعراني.
مولده
ولد الشعراني على أصح الروايات وأشهرها في 27 من شهر رمضان عام 898ه، وكان مولده في بلدة «قلقشندة» - وهي قرية جده لأمه - ثم انتقل بعد أربعين يوما من مولده إلى قرية أبيه، وإليها انتسب، فلقب بالشعراني، وعرف بهذا اللقب واشتهر به، وإن كان هو قد سمى نفسه في بعض مؤلفاته بالشعراوي.
ولقد اضطرب رجال التاريخ في تحديد مولده، فقد ذكر صاحب النور السافر تاريخا لمولده قبل هذا التاريخ بقليل، وقد ذكر صاحب المناقب الكبرى تاريخا آخر، وأما المناوي وعلي مبارك والمستشرق شاخت فقد أيدوا التاريخ الذي ذكرناه.
ونحن نرجح رواية المناوي؛ لأنه تلميذ الشعراني الأول وصفيه وصديقه، وهو بعد هذا أكبر المؤرخين الصوفيين بعد الشعراني، ويزداد ترجيحنا لهذه الرواية اتفاقها مع رواية علي مبارك، وهو من أدق من أرخ لهذه الفترة من التاريخ.
واضطرب رجال التاريخ أيضا في الحديث عن طفولته ونشأته، فذهب المستشرقان «كرويمر» و«نيكلسون» إلى أنه اشتغل في مطلع حياته بالحياكة.
ولكن المستشرق «فولرز» يسخر من هذا القول قائلا: «إن حياة الشعراني كانت زاخرة بالعبادة، حافلة بالتعليم، فلم يكن من الميسور أن يجد وقتا يحترف فيه عملا.»
ولست أدري من أين جاء المستشرقان بتلك الأقصوصة وتاريخ طفولة الشعراني صريح في أنه لم يضيع لحظة واحدة في غير العلم والعبادة؛ فقد حفظ القرآن وهو في سن التمييز، كما يقول، ودرس كتب النحو قبل العاشرة.
فهل هذا تاريخ رجل وهب نفسه للعلم والعبادة، أم تاريخ من يشتغل بالارتزاق من الحياكة؟ والشعراني يقول في صراحة: إن من منن الله عليه «أنه لم تكن هناك عوائق دنيوية تعيقني عن طلب العلم والعبادة، وكانت القناعة من الدنيا باليسير سداي ولحمتي، وهذه القناعة أغنتني عن الوقوع في الذل لأحد من أبناء الدنيا، ولم يقم لي أنني باشرت حرفة ولا وظيفة لها معلوم دنيوي من منذ بلغت، ولم يزل الحق تعالى يرزقني من حيث لا أحتسب إلى وقتي هذا، وعرضوا علي الألف دينار وأكثر فرددتها ولم أقبل منها شيئا، وكان التجار والكبراء يأتون بالذهب والفضة فأنثرهما في صحن جامع العمري فيلتقطه المجاورون.»
وجرى رجال التاريخ على أنه انتقل إلى القاهرة مع والده، وأن والده قد سعى له حتى أدخله الأزهر الشريف.
وتلك الروايات أيضا تنحرف عن الحق وتجانب الصواب، فإن الشعراني - وهو أصدق من يؤرخ لنفسه - يقول في المنن: «إنه حفظ في قريته القرآن الكريم وهو في باكورة طفولته، ثم حفظ «أبو شجاع» والأجرومية ودرسهما على أخيه الشيخ عبد القادر بعد وفاة والده.»
وإذن فقد مات والده، كما ماتت والدته، قبل حضوره إلى القاهرة، وكان هذا - كما يقول - من منن الله عليه؛ إذ نشأ يتيما من الأبوين، فكان نصيره ووليه الله.
ولقد مات والده عام سبع وتسعمائة للهجرة، ودفن في زاويته بساقية أبي شعرة، وتاريخ انتقال الشعراني إلى القاهرة كما أرخه بنفسه يأتي بعد تاريخ وفاة والده بثلاثة أعوام.
الشعراني في القاهرة
مات أبوه وتركه طفلا يتيما فقيرا، ولكن هذا الطفل اليتيم الفقير كان عجبا، كان عابدا متبتلا مستغرقا في صلواته وأذكاره استغراقا لا يعرف في مثل سنه، وحسبك أنه كان يقوم الليل وهو في الثامنة من عمره.
وكان يؤمن في أعماق نفسه بأنه قد حف بعناية ربانية تعصمه من النقص في دينه، كما تعصمه من السوء في حياته.
وكان يؤمن بهذا إيمانا قلبيا وجدانيا، ويسوق على إيمانه حشدا من الأحداث والأدلة التي وقعت له في طفولته، ونجاه الله منها، وحفظه من عواقبها.
وكان دارسا فطنا ألمعيا ذا شغف ونهم بالعلوم، وحسبك أنه قبل أن يتم العاشرة كان قد درس من كتب النحو ما أهله لمجالسة العلماء.
وكان من يؤمن أيضا إيمانا قلبيا وجدانيا بأن الله قد وهبه فوق الذاكرة الواعية الحافظة فهما في العلم، وبصيرة في إدراك غوامضه ودقائقه.
مات أبوه فكفله أخوه العالم الصوفي الورع الشيخ عبد القادر، وعبد الوهاب يدين لأخيه بالكثير من التوجيه والحب الصادق، والرعاية الكاملة الواهبة المانحة، بل ويدين له فوق ذلك بالحضور إلى القاهرة حيث تفتحت أمامه الآفاق.
ويقص علينا الشعراني تاريخ حضوره إلى القاهرة بذلك الأسلوب الأخاذ الصادق الذي عرف عن الشعراني وعرف به، فيقول: «وكان مجيء إلى القاهرة افتتاح سنة عشرة وتسعمائة، وعمري إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، فأقمت في جامع سيدي «أبو العباس الغمري»، وحنن الله علي شيخ الجامع وأولاده، فمكثت بينهم كأني واحد منهم؛ آكل ما يأكلون، وألبس ما يلبسون، فأقمت عندهم حتى حفظت متون الكتب الشرعية وآلاتها على الأشياخ.»
ثم يقول: «ولم أزل - بحمد الله - محفوظ الظاهر من الوقوع في المعاصي، معتقدا عند الناس، يعرضون علي كثيرا من الذهب والفضة والثياب، فتارة أردها، وتارة أطرحها في صحن الجامع فيلتقطها المجاورون.»
والشعراني هنا يغفل الإشارة إلى حقبة من تاريخه في طلب العلم، وهي الفترة التي مكثها في الأزهر.
فإجماع رجال التاريخ على أنه حضر من قريته إلى الأزهر؛ حيث قضى خمس سنوات يتلقى العلم على يد شيخه علي الشوني، الذي أحبه وقربه واصطفاه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسجد الغمري بناء على مشورة شيخه علي الشوني.
ومسجد الغمري كان في ذلك الوقت منارة للعلم، ومثابة للطلاب، وكانت الحياة فيه على غرار أمثاله من المساجد التي تحولت في العالم الإسلامي إلى معاهد علمية، لا يكتفى فيها بالتعليم فقط، بل تجرى فيها أيضا الأرزاق من الأوقاف والهبات على من يلازمها ويتخصص للعلم فيها.
4
ولبث الشعراني في مسجد الغمري يعلم ويتعلم ويتهجد ويتعبد سبعة عشر عاما، ثم انتقل إلى مدرسة أم خوند، وفي تلك المدرسة بزغ نجم الشعراني، وتألق تألقا ملأ الدنيا حوله صياحا؛ صياحا امتزج فيه هتاف الإعجاب من محبيه بعاصفة الانتقاد والافتراء من حساده وشانئيه.
وقد حاول بعض المستشرقين، وجاراهم بعض دارسي الشعراني من المعاصرين، أن يلقوا ظلالا من الشكوك والريب حول انتقاله المفاجئ من مسجد الغمري إلى مدرسة خوند، فحاكوا أسطورة خيالية حول حب الشعراني لابنة شيخ مسجد الغمري، وغضب والدها لذلك، ولم يأتوا بدليل واحد على دعواهم، وإنما أقاموها استنتاجا خياليا؛ لأنهم كما يقولون لم يجدوا مبررا لهذا الانتقال، فلا بد إذن أن يكون هناك ثمة سبب خفي. وهذا السبب الخفي لا بد وأن يكون شجارا بين الشعراني وشيخ المسجد، وهذا الشجار لا بد وأن يكون أساسه حبا فاشلا بين الشعراني وابنة الشيخ.
وتلك الأسطورة الاستنتاجية أشبه بالروايات المهلهلة التي أولع بها كتاب القصص الذين لا ينظرون إلى الحياة إلا من وراء عدسات الخيال الجنسي.
ويحدثنا علي مبارك عن تلك الفترة من حياة الشعراني فيقول: «لقد راض الشعراني نفسه على النهج الصوفي وهو في جامع الغمري، فطار ذكره وذاع في الناس أمره، وكان شيخه علي الشوني قد أذن له في أن يرتب بهذا المسجد مجلسا للصلاة والسلام على رسول الله، ولكن أولاد الغمري أكل قلوبهم الحسد على تلك المكانة العالية التي ظفر بها الشعراني، فطلبوا منه أن يغادر مسجدهم.»
ويروي صاحب النور السافر أن الشعراني أخذته حالة وجد ذات يوم، فصاح باسم الله صيحة ارتجت لها جدران المسجد، وكاد يتصدع منها بيت الشيخ أبي الحسن الغمري، وكان على كثب منه، فاستفسر هذا عن صاحب الصوت حتى إذا عرفه هم بالرحيل إلى بيت آخر، ولكن الشعراني كان قد سبقه إلى الرحيل تاركا وراءه كل ما يملك، وولى وجهه شطر بين السورين، حتى حط رحاله بمدرسة أم خوند، وأقام تجاهها ستة أيام، فرأى في منامه أن رسول الله - صلوات الله عليه - قد أذن له بالإقامة بها، فدخلها مع أسرته.
ولا تعارض في الجوهر بين رواية علي مبارك وبين رواية صاحب النور السافر؛ ففي الرواية الأولى أن أولاد الغمري نفسوا عليه مكانته حتى طلبوا منه الرحيل عن مسجدهم.
وفي الرواية الثانية أن الشيخ تظاهر بالرحيل لسبب تافه يضمر وراءه أكثر من معنى، وأدرك الشعراني الغاية والهدف من هذا التظاهر؛ فسارع هو بالانتقال أدبا مع شيخه، واختصارا للخطوة الثانية التي لا ريب فيها، بعد أن طغى اسم الشعراني على الشيخ وعلى أسرة الشيخ.
وإذن فهذا الانتقال كان سره التنافس والحسد لا الحب والهوى. كان ضرورة طبيعية للشعراني، فقد آن أن يستقل بنفسه وبمجالسه العلمية، وآن له أن يكون صدرا لهذه المجالس لا مجرد تابع وتلميذ.
الشعراني طالب العلم
جاء الشعراني من قريته إلى القاهرة مهاجرا في سبيل العلم، فعاش تحت ظلال المساجد ليله ونهاره، متبتلا في طلب العلم، عالما في التعبد، عاش للعلم والتقوى تقيا طاهرا مجدا مكافحا.
وقد اتصل منذ يومه الأول بالقاهرة بصفوة علمائها: جلال الدين السيوطي، وزكريا الأنصاري، وناصر الدين اللقاني، والرملي، والسمنودي، وأضرابهم، وقد أفاض الشعراني في ذكر أساتذته مما استغرق صفحات وصفحات من كتبه، كما أفاض في ذكر إجلاله لهم وحبهم له.
ودرس الشعراني على أساتذته المكتبة الإسلامية كلها، بشتيت فنونها وعلومها في التصوف والفقه والحديث والتفسير واللغة والأصول، حتى غدا كما يقول: لا يتصور أحد من معاصريه أحاط بما أحاط به علما أو تخلق بما تخلق به عملا.
درس الشعراني كل معارف عصره العلمية دراسة فهم وتذوق بروح المجتهد المؤمن المحب، بروح الطالب المثالي الذي ينشد الحق فلا يتعصب لمذهب من غير دليل، والذي يجل أئمة الإسلام ورجال الفكر فيه، فلا يسارع إلى تخطئة أحدهم، ولا يبادر إلى الاعتراض عليه؛ لإيمانه بأن علماء الإسلام وأئمته على هدى من ربهم، وبصيرة من نور علمهم.
ثم هو بعد ذلك خاشع القلب متواضعه في محاريب العلم، فإذا أدرك بفهمه لطيفة علمية، أو لمس بذكائه واستنباطه حقيقة من حقائق المعرفة في كتاب الله وأحاديث رسوله، فلا يجزم - كما يقول - بأن ما فهمه أو استنبطه هو مراد الله من آيه، أو مراد رسوله من حديثه، تأدبا وتحرزا من دعوى العلم، أو التلبس برداء كبره وغروره.
ومن خلقه العلمي أنه حفظ نفسه من الجدل والجدال ورفع الصوت في مجالس العلم، ولنترك الشعراني يحدثنا عن دراساته بأسلوبه البسيط الساحر: «ثم لما جئت إلى مصر حفظت كتاب المنهاج للنووي، ثم ألفية ابن مالك، ثم التوضيح لابن هشام، ثم جمع الجوامع، ثم ألفية العراقي، ثم تلخيص المفتاح، ثم الشاطبية، ثم قواعد ابن هشام وغير ذلك من المختصرات، وحفظت هذه الكتب حتى صرت أعرف متشابهاتها كالقرآن من جودة الحفظ، ثم ارتفعت الهمة إلى حفظ كتاب الروض مختصر الروضة؛ لكونه أجمع كتاب في مذهب الشافعي، فحفظت منه إلى باب القضاء على الغائب - وهو في أواخر الكتاب - فلقيني بعض أرباب الأحوال بباب الخرق - باب الخلق - خارج باب زويلة، فقال لي مكاشفا: قف على باب القضاء على الغائب، ولا تقض على غائب بشيء.
فما قدرت بعد ذلك على حفظ شيء منه، لكنني طالعت الكتاب ودرسته نحو مائة مرة، وكنت أقرأ محفوظي للمتن في الشرح، وأنظر كل شيء توقفت في فهمه حتى صار شرحه للشيخ زكريا
1
عندي نصب عيني.
ثم لقيني الشيخ أحمد البهلول - رضي الله عنه - فقال لي مكاشفا: أقبل على الاشتغال بالله، ويكفيك من العلم ما قد تعلمته، فشاورت في ذلك مشايخي فقالوا: لا تدخل طريق القوم إلا بعد شرح محفوظاتك كلها على الأشياخ، فإذا فهمتها وتبحرت فيها؛ فعليك بطريق القوم.»
ثم يقول: «وقرأت محفوظاتي على شيوخي - وهم نحو خمسين شيخا - فقرأت على الشيخ أمين الدين شرح المنهاج للجلال المحلي، وكنت أطالع على درسي هذا القوت للأذرعي، والقطعة والتكملة للإسنوي والزركشي، والقطعة للسبكي، والعمدة لابن الملقن، وشرح ابن قاضي شهبة، وشرح الروض للشيخ زكريا الأنصاري، وأكتب زوائد هذه الكتب على الشيخ جلال الدين، وألصق به أوراقا - حتى ربما تصير الحواشي أكثر من الكتاب - ثم أقرؤها كلها عليه.
وقرأت عليه أيضا شرح جمع الجوامع للشيخ جلال الدين، وحاشية الشيخ كمال الدين، وشرح العراقي للجلال الحافظ السخاوي.»
ويمضي الشعراني في الحديث عن دراساته وشيخوخته حتى يذهل القارئ بذلك الفيض الدافق من الكتب التي أحاط بها وألم بدقائقها وأسرارها.
الشعراني في طريقه إلى الله
تنفس الشعراني أول ما تنفس الحياة في جو صوفي خالص، وفي بيت قوامه التعبد والتبتل، فهو ينحدر من أسرة ترك رأسها الأول مجد الملك ورفاهيته ونعيمه إلى النهج الصوفي ومجاهداته، ومسارح تعبداته، ومجال تأملاته، وأجواء تحليقاته، ومطالع أنواره وإلهاماته، حتى إذا كمل وارتوى واستوى انطلق داعيا إلى الله على بصيرة من أمره.
وقفى أبناؤه أثر خطواته، فما كان منهم إلا تقي نقي، وعالم رباني، وإمام من الهداة، وجاء الشعراني فرأى أول ما رأى والده الصوفي صاحب الخلوة الذي كان قليلا من الليل ما يهجع، وشاهد شقيقه العالم الصوفي الذي وهب نفسه لله، فكان يستغفر الله مع كل نفس من أنفاسه، والذي ترك الحلال خشية الشبهات.
وعاش الشعراني طاهرا بين أطهار، قوته القرآن الذي حفظه قبل التمييز، ولم يكن لهوه في طفولته عبث أطفال، وشغب صغار، بل فتح عينيه ليقرأ ويقرأ في التفسير والحديث والفقه والأصول، وليجالس العلماء ويتلقى منهم، وينهل من معارفهم وهو في الثانية عشرة من عمره.
ومن الله عليه فكان شيوخه جميعا في دراساته ممن جمعوا بين الدراسة العلمية والمناهج التعبدية الصوفية.
ولهذا رأينا الشعراني ينزع إلى التصوف، ويتعجل السبل إلى أن يشق طريقه على أيدي أرباب الطريق، ورأينا شيوخه يطلبون منه التريث حتى يستكمل العلوم الظاهرية حفظا وفهما واستنباطا.
ولكن الشعراني كان من حيث لا يشعر صوفيا كاملا من صغره، فقد زاول التصوف عملا بفطرته، فنحن نراه يكبح شهواته ويرد رغباته حتى عن الحلال المباح، ويقبل على ذكر الله ليله ونهاره، حتى ليعلق في سقف خلوته حبلا يطوق عنقه متى جلس منذ العشاء حتى مطلع الفجر؛ ليأمن سنات النوم وغفواته، فإن غلبه النعاس على أمره صب على جسمه الماء البارد.
ولقد أخذ نفسه في العبادة منذ صغره بالأحوط والأكمل، والأحوط عنده اجتناب المكروه كأنه حرام، والاعتناء بالسنة كأنها واجبة وهكذا.
والشعراني نفسه يفصل هذا المقام فيقول: إن من منن الله عليه أن ألهمه مجاهدة نفسه من غير شيخ، لما تبحر في العلم، ثم بشيخ ليساعده - كما يقول - على إزالة الموانع التي تعوقه عن العمل بما علمه.
ولنترك الشعراني يحدثنا بأسلوبه القلبي الساحر راويا لنا قصة عباداته ومجاهداته: «وتركت أكل لذيذ الطعام، ولبست الخيش والمرقعات نحو سنتين، ثم أكلت التراب لما فقدت الحلال نحو شهرين، ثم أغاثني الله - تبارك وتعالى - بالحلال المناسب لمقامي إذ ذاك، وكنت لا آكل طعام أمين ولا مباشر ولا تاجر ولا فقيه وغيرهم ممن كسبهم شك، وضاقت علي الأرض كلها، ونفرت من جميع الناس، فكنت أقيم في المساجد المهجورة والأبراج الخراب مدة طويلة، وما رأيت أصفى من تلك الأيام.
وكنت أطوي الثلاثة أيام وأكثر ثم أفطر على نحو أوقية من الخبز، وضعفت بشريتي، وقويت روحانيتي، حتى كنت أصعد بالهمة في الهواء إلى الصاري المنصوب على صحن جامع الغمري
2
فأجلس عليه في الليل والناس نيام، ثم إذا نزلت من السلم إلى الجامع أنزل بجهد وتعب لغلبة روحانيتي.
وطلبها الصعود إلى عالمها؛ فإنه لا يثقل الإنسان إلى الأرض إلا كثرة الشهوات، وهذا هو سبب تحريك الإنسان رأسه حال الذكر وتلاوة القرآن، فكأن الروح تشتاق إلى القرب من حضرة ربها، إذا سمعت كلامه أو اسمه فتكاد تلحق بعالمها العلوي.
ولما غلب علي طلب العزلة عن الناس، تنكرت مني قلوب أصحابي، ونفروا مني حتى كأنهم لا يعرفونني من ضيق وقتي عن مباسطتهم بالكلام اللغو.
وكنت إذا فتحت مجلس الذكر بعد العشاء لا أختمه إلا عند طلوع الفجر، ثم أصلي الصبح وأذكر إلى ضحوة النهار، ثم أصلي الضحى وأذكر حتى يدخل وقت الظهر، فأصلي الظهر ثم أذكر إلى العصر، ومن صلاة العصر إلى المغرب، ومن صلاة المغرب إلى العشاء وهكذا، فمكثت على ذلك نحو سنة، وكنت كثيرا ما أصلي بربع القرآن بين المغرب والعشاء، ثم أتهجد بباقيه فأختمه قبل الفجر، وربما صليت بالقرآن كله في ركعة، وكان نومي غلبة تخطف رأسي خطفة بعد خطفة، وخفقة بعد خفقة، وكثيرا ما يغلب علي النوم فأضرب أفخاذي بالسوط، وربما نزلت بثيابي في الماء البارد في الشتاء حتى لا يأخذني النوم.»
وهذه الأمور من قاعدة ما إذا تعارض عندنا مفسدتان وجب ارتكاب أخفهما مفسدة، ولا شك في أن وقوف المحب بين يدي الله - عز وجل - في الظلام مع تألم جسمه بالضرب، أحسن عنده من نومه عن ربه - عز وجل - حال تجليه مع صحة جسمه، كما أشار إليه قوله
صلى الله عليه وسلم : «خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ .» ولكل مقام رجال، ومن طلب نفيسا خاطر بنفيس، فعلم أن المحب لله في واد والمنكر عليه في واد آخر، ومن طالع أحوال القوم في مجاهداتهم سهل عليه ما يكابده في نفسه، فقد وقع للشبلي أنه كان إذا غلب عليه النوم يضرب نفسه بقضيب الخيزران، حتى ربما أفنى الحزمة في الليلة الواحدة «وكان صلوات الله وسلامه عليه يقوم الليل حتى تورمت قدماه.» فأنزل الله عليه:
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى
الآية.
وهكذا كان الشعراني صوفيا بغير شيخ.
ويمضي الشعراني في وصف مجاهداته لنفسه، وهي مجاهدات لا يطيقها إلا رجال الله، بل لا يصبر على الاستماع إليها، ولا يجد مذاقها عند ذكرها إلا من أحبه الله وارتضاه لهداه، حتى يقبل قول الشعراني أنه حينما طعم التراب لما افتقد الحلال في مطعمه خاله لحما وسمنا ولبنا.
أجل، من ارتضاه الله للهدى، وأنار قلبه، يرتضي هذا القول من الشعراني، ويفسره تفسيرا روحيا، أليس كل شيء نأكله أصلا من التراب؟
ثم يعطف الشعراني على ثمرة هذه المجاهدات في خلقه وحياته فيقول: «إنه بلغ مقاما في الزهد حتى لو أمطرت السماء ذهبا وصار الناس ينتهبونه لم يجد داعيا إلى أخذ شيء منه إلا لأمر مشروع، ولو مر على تلال الذهب والفضة من غير مزاحم عليها من أبناء الدنيا، ولا حساب عليها في العقبى لم يتناول منها دينارا واحدا إلا لضرورة شرعية، فقد فني اختياره مع الله، وفقدت أعضاؤه الشهوة للمعصية أو الجاه، ثم حضوره دائما بقلبه مع الله، أو كما يقول: «ثم حضوري مع الله حال أكلي ومشربي كأني في الصلاة.»
وبلغ مقاما في الخلق من ضفافه شفقته على جميع المسلمين شفقة قلبية حتى ليتألم كما يتألم أخوه المؤمن، ويحس بشقائه كما يحس به، ثم صعوده فوق ذلك درجات لتشمل رحمته الدنيا بأسرها؛ إذ يقول: «ثم ستري لعورات الناس وعيونهم حتى العصاة.» وذلك لون من الخلق والرحمة لم يعرف لغير المتصوفة.
ثم تصدره للدعوة والإرشاد وإعلاء كلمة الله ، حتى إنه ليقف في وجه كبار العصاة والولاة هاتفا بكلمة الحق ودعوته؛ لأن روحه وقلبه عند الله لا عند الناس، ولأنه جعل أخلاقه مقاصد لا وسائل.
ثم ماذا؟ ثم كما يقول: «غيرتي على أذني أن تسمع زورا، وعلى عيني أن تنظر محرما، وعلى لساني أن يتكلم باطلا».»
ذلك بعض ما أخذ الشعراني به نفسه من تعبد وخلق قبل تصوفه، أو قبل أن يسلك الطريق إلى الله على أيدي شيوخه.
شيوخه في الطريق
يقول شيخ المتصوفة القشيري في ترجمة أبي علي الثقفي: «لو أن رجلا جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس كلهم، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة، من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لم يأخذ أدبه من أستاذ يربيه ويريه عيوب أعماله، ورعونات نفسه، لا يحل الاقتداء به في تصحيح المعاملات.»
ويقول الشعراني: «... ولو أن طريق القوم يوصل إليها بالفهم لما احتاج مثل الغزالي وعز الدين بن عبد السلام إلى شيخ، مع أنهما كانا يقولان قبل دخولهما الطريق: من قال: إن ثم طريقا للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على الله كذبا، فلما دخلا الطريق كانا يقولان: قد ضيعنا عمرنا بالبطالة والحجاب.»
والمتصوفة جميعا قد أجمعوا على أن السالك لطريق الله لا بد له من شيخ مرشد، ليكشف له الصحيح من الزائف في الإلهامات والواردات، وليعلمه الأدب وطرائق التحلي به، وليفصل له في خواطر قلبه، وليعصمه من الزلل، وليداوي أمراضه النفسية، من الكبر والرياء وحب الدنيا والحسد والغل والنفاق وأمثالها.
فالتصوف إلهامات تبدأ بعد نهايات أهل الفكر والدرس، وقوامه معان واستنباطات، وفهم في أسرار القرآن، فلا بد لرائده من مصباح وهاد، والشيخ هو المصباح الهادي.
والتصوف آداب وتزكية نفوس، وتطهير أخلاق، ومجاهدات، وتصحيح معاملات، والشيخ هنا يثبت ويرشد ويلهم ويفصل الآيات.
ثم يقول الشعراني ردا على من يقول بأن السلف الصالح لم يعرف هذا اللون من التربية، وهذا اللون الممثل في الشيخ والمريد: «وقد كان السلف الصالح لصفاء نفوسهم وقلوبهم لا يحتاجون في طريق العمل بعلمهم إلى شيخ لعدم الموانع، وصار الناس اليوم لهم موانع لا تحصى؛ لذلك وجب اتخاذ شيخ يرشد إلى طريق إزالة هذه الموانع، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن اشتغل المريد بعد ذلك بالعلم، أو صلى أو صام، أو تورع أو زهد، كان محفوظا من الرعونات التي تجرح مقام الإخلاص أو تحبط العمل.
وحقيقة الصوفي هو عالم عمل بعلمه، على وفق ما أمر الله به. وكانت صور مجاهداتي لنفسي من غير شيخ أنني كنت أطالع كتب القوم؛ كرسالة القشيري، وعوارف المعارف، والقوت لأبي طالب المكي، والإحياء للغزالي، ونحو ذلك، وأعمل كالذي يدخل دربا لا يدري هل ينفذ أم لا؟ فإن رآه نافذا خرج منه، وإلا رجع من التعب. فهذا مثال من لا شيخ له، فإن فائدة الشيخ إنما هي اختصار الطريق للمريد، ومن سلك من غير شيخ تاه، وقطع عمره ولم يصل إلى مقصوده؛ لأن مثال الشيخ مثال دليل الحجاج إلى مكة في الليالي المظلمة.»
ثم يقول: «والشيخ في الطريق ضرورة لازمة، بالغ ما بلغ علم المريد، ولو حفظ آلاف الكتب فهو في هذه الحالة كمن يحفظ كتابا في الطب ولا يعرف عمليا منازل الدواء على الداء، فإذا سمعه سامع وهو يدرس الكتاب قال: إنه طبيب عظيم، فإذا رآه حين يسأل عن اسم المرض وكيفية إزالته علم حينئذ مقدار جهله.» «ويشترط في الشيخ - كما يقول الشعراني - فوق تعبده ووصوله، أن يكون متبحرا في علوم الشريعة على اختلاف أنواعها، عارفا بالأصول ومذاهب الأئمة الأربعة وغيرها، بحيث يعرف أدلتها ومنازع أقوالها، محيطا بأم الكتاب التي يتفرع منها كل قول.»
ولما جاء ميقات الشعراني ليسلك الطريق إلى باريه وهاديه، سلوكا كما اشترط المتصوفة، وكما رسمه العابدون الواصلون الأولون، أشار عليه «أحمد البهلول» صفيه ونجيه، بأنه وإن كان قاب قوسين أو أدنى من النور الرباني والفتح الإلهي، إلا أن القمم العالية لا يعبدها إلا الشيخ السالك المدرب الموهوب المأذون له.
واستقر كلام صفيه ونجيه في قلبه، فلما آب إلى منزله وانتهى من أوراده وتسبيحاته لم يجد قلبه خالصا، بل وجد كلام صفيه ونجيه أحمد البهلول يراوده، ويأخذ عليه مجامع قلبه، وخواطر نفسه، حتى إذا أسلمه الجهد إلى سنة من النوم؛ إذ بطيف تتلألأ أجنحته، ويفوح طيبه وعطره، يهمس له في منامه بالإشارة والبشارة.
وإذا بالبشارة والإشارة تتحولان إلى كلام حلو جميل لازم قلب الشعراني طوال حياته. «إن أردت حياة قلبك الحياة التي لا موت بعدها؛ فاخرج عن الركون إلى الخلق، ومت عن هواك وإرادتك، فهناك يحييك الله - عز وجل - حياة لا موت بعدها، ويغنيك غنى لا فقر بعده، ويعطيك عطاء لا منع بعده، ويريحك راحة لا تعب بعدها، ويعلمك علما لا جهل بعده، ويطهرك طهارة لا تدنيس بعدها، ويرفع قدرك في قلوب عباده فلا تحقر بعدها.
قد ذهبت أيام المحن وجاءت أيام المنن ...»
واستيقظ الشعراني عامر القلب بالأماني، فانطلق إلى شيوخ الطريق - وهم بعض أصدقائه وبعض شيوخه - ولنترك الشعراني يحدثنا بحديثه القلبي عن انتقاله من مقامات العلم والزهد إلى مقامات الفتح والصفاء. «... ولقد اجتمعت بخلائق لا تحصى من أهل الطريق، التمس لديهم المفاتيح والأبواب، فلم يكن لي وديعة عند أحد منهم سوى ثلاثة: علي المرصفي، ومحمد الشناوي، وعلي الخواص - رضي الله عنهم.
فسلكت على يد الأولين شيئا يسيرا، وكان فطامي على يد علي الخواص، أعني الفطام اليسير المعهود بين القوم، وإلا فالحق أنه لا فطام حتى يموت الإنسان.
ومنهم عرفت يقينا أنه لا بد من شيخ في الطريق كما قال موسى للخضر:
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا .
وقد اعترف الإمام أحمد بن حنبل لأبي حمزة البغدادي بالفضل عليه كما اعترف الإمام ابن سريح لأبي القاسم الجنيد.
وكان الغزالي يقول بعد اجتماعه بشيخه: ضيعنا عمرنا بالبطالة، وهو حجة الإسلام، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام - وهو من هو - يقول: ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعي على الشيخ أبي الحسن الشاذلي.
ولما اجتمعت بأهل الطريق قالوا لي: اجعل أعمالك كلها مقاصد لتحضر فيها مع الله تعالى، ولا تتخذها وسائل فتموت ولا تصل إلى مقصودك، فقربوا علي الطريق ...»
الشعراني والخواص
الخواص رجال من رجال الله، وعلم من الأعلام الهداة، ومحجة ومنارة من المنارات التي يهبها الله لعباده لتكون للسالكين إليه نورا وسلما.
ولكل رجل من رجال الله مقام، ولكل رجل من رجال الله رسالة في الحياة، فمنهم من رسالته في التربية والتوجيه القلم والبيان، ومنهم من رسالته الكرامات وخوارق العادات للتثبيت واليقين، ومنهم من رسالته تربية المريدين، ومن رسالته تربية العارفين.
والمربون للعارفين هم الكمل السادة، ومنهم من يظهره الله، ومنهم من يحجبه، ومنهم بين هؤلاء وهؤلاء.
فالخواص في الطريق وعند أهله كامل من السادة، وإن جهله الناس، وإن أنكره العوام؛ العوام رغم علمهم، ورغم ما بأيديهم من أقلام وكتب.
الخواص كامل من السادة، وحجته على مكانته عند أهل الطريق معروفة واضحة، وحجته عند غيرهم أنه صنع العارف بالله عبد الوهاب الشعراني.
ولقد صنع الخواص عبد الوهاب الصوفي، وعبد الوهاب خلد بتصوفه؛ أي الجانب الذي تولاه الخواص، وحسب الخواص هذا عند من لا يعرفه.
ولقد عاش الشعراني طوال حياته الصوفية وعاء من أوعية الخواص، فالخواص إمامه وهاديه، وأستاذه وملقنه ومربيه.
والخواص هو معراج الشعراني وسلمه الذي صعد عليه إلى أبواب الفتح، وسموات المنح، ومناطق الإلهام والنور، وليس في هذا ما ينقص الشعراني، بل في هذا مفخرته؛ لأن به كان خلوده.
وصلة الخواص بالشعراني هي آية الآيات على مقام الشيخ في الطريق، وهي آية كونية على مقام العلم اللدني؛ فلقد كان الخواص أميا، وكان الشعراني عالما، ذلك هو حكم الظاهر. أما حكم الباطن فلقد كان الخواص عالما، وكان الشعراني أميا.
علم الأول كان الوهب، وعلم الثاني كان الكتب، والعلم الحقيقي عند الصوفية العلم الذي يقول صاحبه بملء فيه: إنه علمي. هو علوم الفتح؛ لأنها خاصة بصاحبها. أما علوم الكسب فهي ليست علوم صاحبها؛ إنما هي علوم الكتب، أو كما يقول الخواص: «علوم الرجل حقيقة» هو ما لم يسبق إليه، وأما من كان علمه مستفادا من النقل؛ فليس ذلك له بعلم، إنما هو صاحب لصاحب العلم .
والشعراني يقول: إن من منن الله عليه أن كان وصوله وفتحه على يد أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ويقول في وصف هذا الأمي: «رجل غلب عليه الخفاء فلا يكاد يعرفه بالولاية والعلم إلا العلماء العاملون؛ لأنه رجل كامل عندنا بلا شك، والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان صار غريبا في الأكوان.»
ولنترك الشعراني يحدثنا بحديثه الروحي العذب عن وصوله إلى معارج المعارف العلوية على يدي شيخه، ثم يحدثنا عن بحار علوم شيخه ومرشده: «وكانت مجاهداتي على يدي سيدي علي الخواص كثيرة متنوعة، منها أنه أمرني أول اجتماعي عليه ببيع جميع كتبي والتصدق بثمنها على الفقراء، ففعلت - وكانت كتبها نفيسة مما يساوي عادة ثمنا كثيرا - فبعتها وتصدقت بثمنها، فصار عندي التفات إليها لكثرة تعبي فيها وكتابة الحواشي والتعليقات عليها، حتى صرت كأنني سلبت العلم، فقال لي: اعمل على قطع التفاتك إليها بكثرة ذكر الله - عز وجل - فإنهم قالوا: ملتفت لا يصل، فعملت على قطع الالتفات إليها مدة حتى خلصت بحمد الله من ذلك.
ثم أمرني بالعزلة عن الناس مدة حتى صفا وقتي، وكنت أهرب من الناس وأرى نفسي خيرا منهم، فقال لي: اعمل على قطع أنك خير منهم، فجاهدت نفسي حتى صرت أرى أرذلهم خيرا مني.
ثم أمرني بالاختلاط بهم، والصبر على أذاهم، وعدم مقابلتهم بالمثل، فعملت على ذلك حتى قطعته، فرأيت نفسي حينئذ أنني صرت أفضل مقاما منهم، فقال لي: اعمل على قطع ذلك أيضا، فعملت حتى قطعته.
ثم أمرني بالاشتغال بذكر الله سرا وعلانية والانقطاع بالكلية إليه، وكل خاطر خطر لي مما سوى الله - عز وجل - صرفته عن خاطري فورا، فمكثت على ذلك عدة أشهر.
ثم أمرني بترك أكل الشهوات مطلقا فتركتها، واكتفيت بما يسد الرمق ويمسك الحياة، حتى صرت أكاد أصعد بالهمة في الهواء، وصارت العلوم النقلية تزاحم العلوم الوهبية، ثم أمرني بالتوجه إلى الله - تبارك وتعالى - في أن يطلعني على أدلتها الشرعية، فلما اطلعت عليها وصار لوح قلبي ممسوحا من العلوم النقلية لاندراجها تحت الأدلة، ترادفت علي حينئذ العلوم الوهبية.»
ثم يتحدث الشعراني حديثا طويلا عن ترقبه للواردات والإلهامات والفتح، وكيف أمره شيخه الخواص بضروب من المجاهدات لصفاء قلبه، واستكمال قطع علائقه الدنيوية، وأخيرا أخبره شيخه بأن بداية فتحه ستكون على شاطئ النيل في مكان حدده له، فإذا انتهى الشعراني من ذلك قال: «فبينما أنا واقف على ساحل النيل عند بيوت البرابرة وسواقي القلعة أنتظر وأترقب، إذا بأبواب من العلوم اللدنية انفتحت لقلبي، كل باب أوسع مما بين السماء والأرض، فصرت أتكلم على معاني القرآن والحديث، واستنبط منها الأحكام وقواعد النحو والأصول وغير ذلك من العلوم، حتى استغنيت عن النظر في كتب المؤلفين، فكتبت على ذلك نحو مائة كراسة، فلما عرضتها على سيدي علي الخواص أمرني بغسله وقال: هذا علم مخلوط بفكر وكسب، وعلوم الوهب منزهة عن مثل ذلك، فغسلتها، وأمرني بالعمل على تصفية القلب من شوائب الفكر، وقال: بينك وبين علم الوهب الخالص ألف مقام، فصرت أعرض عليه كل شيء فتح به علي وهو يقول: أعرض عن هذا، واطلب ما فوقه، إلى أن كان ما كان، فهذا صورة فتحي بهذه المجاهدة على يدي شيخي. فالحمد لله رب العالمين.»
ثم يصور لنا الشعراني بعد ذلك فيما يصور، من صلاته بالخواص، بحر العلم الخاص بشيخه، فيصفه بأنه مبسوط الرحاب، عميق القاع، أمواجه الكشف الصحيح، وعبابه التعريف الإلهي.
ولقد غطس الشعراني - كما يقول - في بحر شيخه خمس مرات - ومن حق المريد أن يغترف من بحر المعرفة الخاص بشيخه - فلما هم بالسادسة استحال البحر حجرا.
وقد وجد الشعراني في كل مرة غاص فيها صيدا ثمينا، صيدا هو خزانة من خزائن العلم اللدني.
ففي المرة الأولى وجد خزانة على بابها قفل، ففتحها بقول: «لا إله إلا الله»، فوجد فيها عجبا، وجد العلوم التي برزت من اللوح المحفوظ إلى هذا العالم على اختلاف طبقاته، من الصديقية الكبرى إلى آخر درجات الولاية.
وتلك الخزانة تشتمل على علوم لا تحصى ولا تدرك إلا بتعريف من الله - عز وجل - ووجد الشعراني علوم تلك الخزانة مرتبة منسقة، وعلى كل علم اسمه.
ولقد أخرج الشعراني كما يقول جميع تلك العلوم من الخزانة، وجعلها من جملة ذخائره ومعارفه، وأضافها إلى ما عنده.
فلما غطس في المرة الثانية وجد خزانة أخرى على بابها قفلان، ففتحها باسم «الله»، فوجد فيها جملة من آيات القرآن العظيم من أول سورة الحاقة إلى آخر القرآن، ووجد تفسير كل آية من تلك الآيات مكتوبا، وهو علم لا تدركه العقول، ولا يستفاد من كتب.
وأخرج الشعراني أيضا علوم تلك الخزانة وأضافها إلى معارفه وذخائره، وضمها إلى ثروته وكنوزه.
وهكذا يمضي الشعراني مصورا لنا بحار شيخه ومعارفه اللدنية، شارحا للخزن المملوءة بالكنوز التي عثر عليها في تلك البحار، وكيفية فتحها، وما فيها من علوم استحوذ عليها واستفاد بها، وهو تصوير برعت فيه الأقلام الصوفية، ومرن عليه الذوق الصوفي.
والمراد بالخزن وأقفالها وما كتب عليها وطرائق فتحها هو - فيما نعتقد - الرمز إلى أسرار الذكر، وأسرار أسماء الله الحسنى، وفتوحات تلاوتها.
والذكر هو سر التصوف وروحه، كما أنه عندهم بداية الإلهام ونهايته، وليس بصوفي من غفل قلبه لحظة عن ذكر الله، أو التفكير في آياته.
وعلى هذا النهج تصوف الشعراني، فكان تصوفه بداية خلوده، وكان تصوفه فتحا ربانيا - كما يقولون - لعصره والعصور المتعاقبة.
فلقد ربى الشعراني آلافا من المريدين والتلاميذ المعاصرين له، وجعل منهم مدرسة إيمانية تذكر الله، وتدعو إلى هداه، ولا تزال كتبه تربي وتمنح الهدى واليقين للآلاف من التلاميذ والمريدين.
الشعراني في مدرسة خوند
استقر الشعراني بمدرسة أم خوند، بعيدا عن مسجد الغمري المشحون بالدسائس والحسد، وزالت أيام المحن جميعها، وأقبلت أيام المنن جميعها كما يقول الشعراني.
وفي مدرسة أم خوند دخل الشعراني دورا جديدا من أدوار حياته الكبرى، وابتدأت الخطوط العريضة لمجده العريض ترتسم وتتحدد، وتأخذ ألوانها، وتتجه إلى أهدافها.
ففي تلك المدرسة تصوف الشعراني، وسلك الطريق إلى الله، وفيها كانت مجالسه العلمية والتعبدية التي غدت قبلة لصفوة العباد والعلماء يلوذون بالشعراني الإمام العابد العالم، ينهلون من علمه، ويغترفون من فيضه ، ويلتمسون النور في هديه وكلمه.
كما غدت تلك المجالس أيضا مهوى أفئدة الكبراء والأمراء وأصحاب الوجاهة، يلتمسون لدى صاحبها شفاعة في أمور دنياهم، أو توددا للجماهير وزلفى لديهم؛ فقد أصبح الشعراني زعيما شعبيا مرهوب الجانب، كما غدا صاحب صوت وكلمة عالية في مصر، ومطاعة في إستانبول، عاصمة الإسلام ومقر الخلافة التي تدين لها مصر بالتبعية والولاء.
ولا يخلو الأمر أيضا من التماس بركات هذا القطب؛ القطب الذي بزغ نجمه وتلألأ، وأخذت الدنيا تمتلئ وتفيض بالأحاديث الساحرة عن نفحاته وعجائبه.
الشعراني والخليفة
وجاء السلطان سليم، خليفة العالم الإسلامي، إلى مصر زائرا، فكان يومه عيدا، وكانت أيامه بمصر تاريخا، وكان القرب منه أو التشرف برؤيته عزا وجاها ومطلبا عاليا.
وحف به الأمراء، ولاذ به الكبراء، وهرع إليه العلماء والفقهاء، يأملون في القبول، ويرفعون آيات الولاء.
وبقي رجل واحد لا يسعى إلى أمير المؤمنين، ولا يمشي في الركاب، ولا يحني رأسه تلك الانحناءات الذليلة التي عرفت في المراسيم التركية.
وارتفع همس إلى السلطان سليم بتخلفه، وتضخم الهمس فغدا دويا، فاسم الشعراني يزاحم الشمس، فلا يمكن أن يختفي، ولا يمكن أن يتوارى، ولا يمكن ألا يلمس الزائر العظيم تخلفه.
وحدثت الكرامة أو حدثت الآية التي طالما أكرم الله بها رجاله وعباده الذين عفوا عن الدنيا، فسعت إليهم الدنيا.
أجل لقد سعت الدنيا، سعت الخلافة التركية بجلالها وبهائها إلى الرجل العابد القانت المتواضع المعرض عن الدنيا وأساليب الحياة.
سعى الخليفة العظيم إلى الصوفي العظيم، فكان ما بينهما رمزا إلى الدنيا والآخرة، وبين دهشة الحاشية وعجب الأمراء وذهول العلماء والفقهاء، التمس السلطان سليم طريقه إلى الشعراني.
وكان يوما عظيما تاريخيا للرجلين الكبيرين، ومن هذا اليوم لم يستطع حاكم في القاهرة أن يعصي للشعراني أمرا، أو يرد له طلبا.
وكان القضاء في مصر خلال تلك الحقبة من التاريخ للقاضي محيي الدين عبد القادر الأزبكي، وكان في طبعه حدة، فاصطدم بنائب السلطان سليم على مصر، فأهدر النائب دمه، وخصص جائزة لقتله.
واختفى القاضي طويلا حتى إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وضاقت به حياته انطلق إلى الشعراني شاكيا لائذا، وتعهد للشعراني أن يقيم مسجدا لله إن أنقذه من شر خصمه ونجاه من تلك المحنة.
وابتسم الشعراني وتناول عودا رفيعا من الأرض وقال له: اذهب فألق الحاكم بهذا العود، ولا تخش سوءا ولا شرا.
فتردد القاضي وأذهله هذا الأمر، فقد تشفع له الأمراء والسادة فلم تقبل شفاعتهم، فكيف يستجيب الحاكم بعد ذلك، ولا شفاعة اليوم ولا وساطة إلا عود صغير من الشيخ.
ولاحظ أتباع الشيخ تردده فثار ثائرهم، وهتفوا به: اذهب وسترى عجبا، فالشيخ لا يمزح وإن بدا الأمر شاذا غريبا، وأسرار الشيخ ونفحاته لا تنكر ولا تجحد. ومضى القاضي على وجل للقاء الحاكم، حتى إذا دنا من مجلسه ألقى العود أمامه، وبين عجبه ودهشته خف الباشا لاستقباله والاحتفاء به، وأعاده إلى منصبه، وأصدر أمرا بالعفو عنه.
تلك رواية كتب المناقب، وفي رواية أخرى أن الشعراني التمس من السلطان سليم العفو عن القاضي المهدر الدم، فأجاب طلبه وقبل شفاعته.
وسواء كانت الرواية الأولى أو الثانية، فقد غدا القاضي يدين بحياته للشعراني، ويدين أيضا ببناء مسجد لله يخصص للشعراني ولمجالسه العلمية والتعبدية.
وابتاع القاضي أرض فضاء في أطراف حي باب الشعرية ليقيم فيها المسجد الذي وعد به، وقبل أن يبدأ القاضي في البناء عدا أحد الأمراء الأتراك على الأرض فاغتصبها، واعتزم أن يقيم عليها بيتا له.
وتصدى للأمير التركي رجل من أصحاب الأحوال، فأنذره بسوء العاقبة إن لم يترك هذه الأرض التي قدر لها أن تكون مسجدا لله، ومقرا للشعراني حيا وميتا.
وضحك الأمير التركي، وأعلن لحاشيته وسط السخرية اللاذعة أنه لا يؤمن بالمجاذيب، ولا يعتقد في الكرامات، وأن الاهتمام بمثل هذه الأمور صغار لا يليق بالسادة الأمراء.
ومضى ركب الحياة، فإذا بالشلل يأخذ جسد الأمير بعد أيام، ثم يسلمه للموت ولم يمض أسبوع واحد على هذا العدوان.
وأسرع القاضي محيي الدين إلى الأرض، فشاد عليها مسجدا عظيما فخما واسع الرحاب، هو المسجد الذي عرف في التاريخ باسم مسجد الشعراني ، وابتنى في المسجد زاوية انتقل إليها الشعراني بأهله، بعد أن جعلها القاضي وقفا عليه وعلى أسرته، وغدت الزاوية بعد ذلك جزءا من تاريخ الشعراني؛ لأن بها كانت أعظم أيامه، ولأنها غدت من أعظم مراكز العلم والتعبد في العالم الإسلامي.
وحفر البناءون كثيرا من الآبار لهذه الزاوية، ولكنهم لم يعثروا على الماء، فطلب الشعراني من شيخه «نور الدين الشوني» حلا لهذا الأمر، والشوني يتحدث عنه الرواة بأنه كان يجتمع برسول الله - صلوات الله عليه -يقظة ومناما.
وبعد أيام جاء نور الدين الشوني ليقول للشعراني بأن البئر يجب أن تحفر في مكان حدده وعينه، وقال: إن هذا بناء عن إذن من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه.
وحفرت البئر فكان ماؤها سلسبيلا عذبا، حتى لقد تطايرت الشائعات بأن ماءها يتصل ببئر زمزم، وأقبلت الجماهير عليها التماسا لبركات مائها وأسراره.
زاوية الشعراني
لعبت الزوايا والمساجد في تاريخ الإسلام دورا كبيرا خطيرا، فقد كان المسجد مكتبة ومدرسة ومصلى، كان معهدا لتربية العقول، ومعبدا لتطهير القلوب، بل لقد كان مسجد رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - في المدينة كلية حربية يتعلم فيها الصحابة - تحت رعاية نبيهم - القتال، من ضرب الرماح إلى رشق السهام.
والذين تربوا تحت ظلال المساجد في تاريخ الإسلام هم علماؤه وفقهاؤه، بل وفرسانه ومقاتلوه أيضا.
ولقد خطا أحمد بن طولون خطوة أخرى في واجبات المساجد، فألحق بمسجده الكبير صيدلية تداوي المرضى، وتوزع الدواء بالمجان على الفقراء والمحتاجين، وبذلك غدت المساجد محور القوى الروحية والفكرية والبدنية في العالم الإسلامي، وهل ينسى تاريخ الإسلام، بل تاريخ الحضارة العالمية الأعمال الخالدة التي حققتها المدارس الكاملية والنظامية والطولونية والأزهر؟
فمن تلك المساجد شعت أنوار المعرفة التي حملت للعالم أزكى الحضارات، وأطهر الدراسات، أنوار المعرفة التي صاغت العقول الإسلامية، وأضاءت لها الحياة أكثر من عشرة قرون، ومكنت للقوة الإسلامية في الأرض حتى كانت وحدها صاحبة القول الفصل في شئون الكوكب الأرضي.
وزاوية الشعراني كانت في القرن العاشر الهجري منافسا خطيرا للأزهر، بل لقد كانت الناحية التعبدية فيها أكبر مما يطيق الأزهر، وكانت سبل العيش لطلابها أيسر وأهنأ. وزاوية الشعراني جزء لا يتجزأ من تاريخه، بل إن تاريخه ليفقد جانبا مضيئا ساحرا لو أهملنا الحديث عنها.
والحديث عن زاوية الشعراني يترقرق ويتشعب لمن يريد أن يحيط بألوانها وصورها، بل هو حديث في حاجة إلى كتاب خاص، ودراسة مستقلة، فلقد نهضت تلك الزاوية بما يساوي جهد وزارتين من الوزارات التي نعرفها، أعني وزارتي الشئون والمعارف.
ونحن هنا نحاول أن نعطي صورة سريعة لحياة الشعراني داخل زاويته، وصورة سريعة لأثرها في المجتمع المصري.
حول الشعراني الزاوية التي بناها له القاضي محيي الدين إلى رباط للعباد، ومدرسة للعلم والتعليم، وزاوية للصوفيين المستجدين، ومسجد للصلاة وإقامة الشعائر، وتكية للفقراء والمحتاجين، وكان هو قطب الرحى لتلك الحركة الدائبة.
ولقد أوقف عليها القاضي محيي الدين أوقافا وأرزاقا كفلت الحياة لموظفيها من المؤذنين والفقراء والأئمة والخطباء.
ولكن الحياة قد اتسعت داخل الزاوية، فقد كفل اسم الشعراني لزاويته مكانة عالية، فأقبل عليها الراغبون من كل حدب ينسلون.
أقبل عليها الأمراء والسادة يوقفون عليها أملاكهم وأموالهم، ويقدمون إلى طلابها المنح والهدايا على اختلاف أنواعها.
وأقبل عليها آلاف المريدين والطالبين للعلم من الفقراء الذين أعسروا فلم يستطيعوا طلبا للعلم، بل لم يستطيعوا الحياة الكريمة، فكفل لهم الشعراني داخل زاويته العلم، العلم بشقيه من تثقيف وتعبد، كما كفل لهم الحياة الكريمة بأوسع معاني تلك الكلمة.
حتى لقد أفسح للمتزوجين منهم مكانا في زاويته، يقيمون فيه مع أولادهم وزوجاتهم طاعمين كاسين ممتعين، لا يحملون من هموم الرزق كثيرا ولا قليلا ما داموا قد انقطعوا للعلم، وما دامت أخلاقهم وعباداتهم مما يرضى عنه الله. ولقد بلغ عدد طلاب الزاوية في أول أمرها مائتين، بينهم تسعة وعشرون كفيفا.
ويحدثنا التاريخ حديثا عجبا عن ميزانية تلك الزاوية، وعن الخيرات والنعم التي تجري في ساحاتها، فلقد كان يعد لطلابها من الخبز كل صباح إردب وثلث الإردب من أنقى أنواع القمح.
أما ميزانيتها عن عام: فعشرة قناطير من عسل النحل، وعشرين قنطارا من عسل القصب ، وأربعين إردبا من الفول، ومن الكشك سبعة، ومن الأرز مثلها، ومن البسلة والعدس خمسة وعشرين إردبا ... وهكذا.
فإذا أقبل العيد؛ عيد الفطر، كانت ميزانيتها من الكعك خمسة أرادب غير الهدايا، ومن الجوز والبندق والخروب والتمر والزبيب والتين ما قدر بخمسة قناطير، ومن الفواكه شيء لا يقع تحت حصر. ويكفي أن نذكر أن ميزانية الزاوية من البطيخ في العام كانت أكثر من ألفين.
ولم يقتصر الأمر على هذا النعيم فقط، بل شملت رعاية الشعراني مريديه وتلامذته في أوسع الآفاق، فهم أبناؤه وأحبابه في الله، ومن حقهم عليه أن يدبر أمورهم كافة، ومن تدبير أمرهم أن ينظر في أمر استكمال دينهم، ومن كمال الدين الزواج؛ ولهذا زوج الشعراني في زاويته أربعين رجلا من مريديه، قام عنهم بالمهر ونفقات الزواج، وحرص على تزويد زوجاتهم بكل شيء يخطر على العقل من شئون النساء ولوازمهن، حتى اللبان الشامي والحجازي والشمع والخضاب، وغرائب أنواع الزينة، وألوان العطور، وأدوات التطرية والتجميل.
ومن كمال الدين الحج إلى بيت الله؛ ولهذا أرسل الشعراني أفواجا من تلامذته إلى الأرض المقدسة، باذلا في سبيل راحتهم والعناية بأمرهم مثل ما بذل في أمر زواجهم من الاهتمام العجيب بكل دقيقة وصغيرة، مما يدل على شفافية ذلك الروح الكبير الذي شمل حبه وحنانه كل من أحاط به أو لاذ برحابه.
ولم تقف مكارم الشعراني عند هذا الحد، بل تحدثنا كتب المناقب بأنه كان يقوم بتزويد العلماء والفقهاء والمشايخ في مصر وغيرها بالغذاء والكساء والماء، حتى لكأن كل فقير من أهل العلم أمانة في عنقه. ويحدثنا الشعراني بأنه قد كسا بالثياب عددا لا يحصيه عد، ولا يحيط به حصر من الشيوخ الفقراء آلافا مؤلفة.
أما ضيوف الشعراني ورواده في زاويته، والذين قدروا في كتب التاريخ بحوالي مائة زائر يوميا، فقد كان الشيخ معهم سخي اليد، سخي القلب، سخي العاطفة.
ومع هذا العبء العظيم، وهذه النفقات الطائلة التي حملها الشعراني، لم يغض نبع الخيرات في زاويته، بل كان دفاقا جياشا دائما، وفي وسط هذا النعيم والخير المقيم، كان الشعراني يعيش يومه على جرعة من ماء وتمرات يقمن صلبه.
تلك هي الناحية المادية من زاوية الشعراني. أما الحياة الروحية فيها، فهي الوجه الأكثر وضاءة وإشراقا؛ فلقد تحدث مؤرخوه من معاصريه بأن زاويته كانت أعظم المنارات العلمية والتعبدية في العالم الإسلامي خلال القرن العاشر الهجري.
فقلد كان الشعراني أوسع أهل عصره علما، وأعلاهم كعبا في التصوف والنفحات اللدنية، كما كان ذروة في التعبد والخلق لا تطاولها ذروة. وبتلك العملاقية العلمية والروحانية التعبدية طبع الشعراني زاويته، وربى مريديه وتلامذته، فدرسوا على يديه العلوم الشرعية على اختلاف أنواعها، وتلقوا منه المعارف الصوفية على اتساع آفاقها وشمولها، ودقائق أسرارها، ومكارم أخلاقها.
وكان قراء القرآن الكريم فيها يواصلون القراءة ليلا ونهارا حتى لا تخلو الزاوية دقيقة واحدة من قراءة القرآن.
وبجوار قراءة القرآن، المجالس العلمية، فلا يفرغ قارئ في الحديث حتى يبدأ قارئ في التفسير، وما ينتهي حتى يشرع ثالث في قراءة التصوف، ولا ينتهي حتى يليه قارئ في الفقه، وهكذا آناء الليل وأطراف النهار من غير انقطاع.
ويحدثنا المناوي وصاحب «طبقات الشاذلية» بأن الناس كانوا يسمعون لزاويته دويا كدوي النحل ليلا ونهارا.
وبجوار هؤلاء وهؤلاء كان العباد والذاكرون المنقطعون للذكر والعبادة، حتى ليقول الشبلي المؤرخ بأنه لم ير في مشارق الأرض ومغاربها خيرا من زاوية الشعراني علما وفضلا وتصوفا وأدبا.
ولقد أخرجت تلك الزاوية الخالدة أعظم علماء القرن العاشر الهجري، وأكبر متصوفيه. لقد كانت زاوية خالدة، وكانت زاوية الخالدين.
إلى الملأ الأعلى
حدثنا الشعراني عن سلوكه إلى الله على يد شيخه الخواص، وكيف أجلسه الخواص في محاريب الطهارة والتعبد، وأخذ عليه العهد ولقنه الذكر، وأعطاه الورد، وأخلاه عما سوى الله، وأنبأه بأن الفتح الإلهي والهبات الربانية اللدنية ستكون بدايتها في مكان معلوم مقدر بروضة المقياس على شاطئ النيل.
ثم حدثنا عن أحاسيسه القلبية في أيام ترقبه وانتظاره، وكيف تسللت العلوم الوهبية إلى قلبه فكتب منها ما شاء الله أن يكتب، ثم عرضها على شيخه فأنبأه بأنها لا تخلو من علوم ظاهرية ، وطلب إليه محوها وانتظار علوم أكثر صفاء وثباتا.
وتكرر الأمر بينه وبين شيخه حتى جاء الفتح الإلهي، وكانت بدايته أن ألهم علم آداب العبودية في يوم الاثنين، السابع عشر من شهر رجب، سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة للهجرة.
فلما عرض ما وهبه الله له في هذا اليوم على شيخه قال له: «تم أمرك، وعلا شأنك، وروي قلبك، فابق على ما تكتب.» فسجل الشعراني فتوحاته الأولى في كتابه «الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية».
وتوالت المنح والفتوحات على الشعراني، فقد تم أمره، وعلا قدره، وروي قلبه، وآن له أن يهب الفكر الإسلامي شيئا مما منحه الله، فانطلق ينثر علومه في مجالسه العلمية، ويجعل من زاويته منارة عالمية، ومحفلا من محافل العلم الكبرى، ومنهلا عذبا سلسبيلا للأمة المحمدية.
ثم أقبل الشعراني على التحرير والتأليف في شتى فروع المعرفة، حتى وهب المكتبة الإسلامية أكثر من مائة كتاب في التصوف والفقه والأصول والتفسير والحديث والنحو والطب والكيمياء والأخلاق، وغيرها من ألوان العلوم والمعارف. وقد استغرق بعضها خمسة مجلدات، ووقع الكثير منها في مجلدين، وأكثر هذه المؤلفات لا يزال محفوظا وموزعا على دور الكتب في أرجاء العالم.
ولقد أحصى المستشرق «بروكلمان» أكثر من ستين كتابا مخطوطا متناثرة في دور العلم العالمية، ويذكر لنا علي مبارك باشا بأن الكتب التي رآها للشعراني أكثر من سبعين كتابا.
وبلغ الشعراني في عصره مكانة علمية حسبنا في الدلالة عليها أن أحد شانئيه كتب سؤالا عن فقرات وردت في كتاب «العهود المحمدية» للشعراني، وقدمه إلى شيخ الإسلام الفتوحي الحنبلي، فامتنع الشيخ الفتوحي عن التعليق عليه قائلا: «إن الشعراني قد أحاط من العلم بما لم نحط به، وقد قرأ من الكتب ما لا يعرف له اسما، وأنه لو ادعى تأليفها ما وجد في مصر منازعا.» تلك لمحة عن مكانة الشعراني الذي قال له شيخه الأكبر علي الخواص: «تم أمرك، وعلا شأنك، وروي قلبك.»
وكان من تمام الأمر للشعراني أو من تمام المقابلة في حياته أن مكانته العلمية مشت جنبا إلى جنب مع مكانته الدنيوية.
فقد أصبحت زاويته تسهم بنفوذها في توجيهات الحكم في مصر، بل وفي الإمبراطورية التركية بأسرها.
وبلغ من اعتزاز الشعراني بمكانته الدينية أن يأتي إليه الوزير الأعظم علي باشا قبيل سفره إلى تركيا ليقول له: «نحن مقربون للخليفة، فهل لك من حاجة ترفعها إليه؟» فيهتف الشعراني غاضبا: «ألك حاجة عند الله؟ إننا مقربون إلى حضرته.»
ونرى حاكما من حكام مصر هو الأمير حسن بك صنجق يتتلمذ على الشعراني، ثم يقبل على حبه، ويقبل على درسه، حتى يلازمه في زاويته ليلا ونهارا تاركا الإمارة والحكم.
ولكن الشعراني لا يرضى عن تلك الصحبة؛ لأن فيها استخفافا بمصالح الرعية وهي أمانة في عنق الأمير، وواجبه الأول أن يتخصص لها، ويتفرغ لشئونها.
ولكن حب الأمير لشيخه الشعراني كان أكبر من حبه للإمارة وجاهها، والحكم وسلطانه ونفوذه، فعز عليه وكبر لديه أن يفارق الشعراني ومجالسه وما فيها من أنس وعلم وتقوى، فاعتزم أمرا عجبا سره الأكبر يلتمس لدى التصوف والمحبة في الله.
وفي اليوم التالي تجلى هذا الأمر، فمع الشمس فرق الأمير أمواله، وأعتق عبيده، وأوقف أملاكه على وجوه الخير، واستبقى من هذا الثراء العريض رخام بيت من بيوتاته، وكان تحفة نادرة، وقليلا من المال، أما الرخام الفخم النادر والمال القليل فقد اعتزم الأمير أن يبني بهما ضريحا ومزارا لشيخه الشعراني وفاء وحبا.
وأقبل الأمير على أستاذه فقيرا متجردا ليسلك على يديه طريق الهدى واليقين بلا عائق من حكم، ولا مانع من إمارة.
وبكى الشعراني، فها هو رجل يترك من الدنيا شيئا لم يتركه الشعراني، ويزهد زهدا يتضاءل حياله كل زهد، ثم طلب من تلميذه أن يتريث قليلا في بناء الضريح، حتى إذا أحس الشعراني بأن ساعة صعود روحه إلى باريها وهاديها قد دنت، طلب من الأمير أن يقيم الضريح الذي اعتزم إقامته.
ولما شيد الضريح وارتفعت منارته وانتهى البناءون من آخر قطعة فيه، في نفس اللحظة انعقد لسان الشعراني، وجمدت أطرافه؛ فقد استوفى أنفاسه.
وكانت وفاته في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة للهجرة، وكانت آخر كلماته: أنا ذاهب إلى ربي الرحيم الكريم.
رسالة التصوف
الشعراني والروح الصوفي
تكلمنا عن حياة الشعراني وما اتصل بها من أحداث تاريخية، ونحاول الآن أن ندرس ما تركه للفكر الإسلامي من علوم ومعارف، وما تركه للروحانية الإسلامية من جولات صوفية ومعارف لدنية، وما كان لهذا وذاك من أثر في توجيهات الحياة الإسلامية العقلية والعلمية.
والشعراني لسان صدق من ألسنة التصوف التي أبدعت آياته الكبرى، ومنارة من مناراته العظمى التي قامت على مفترق الطرق الروحية والعقلية، ترشد السائرين إلى الله، وتهدي الحائرين المتعبين إلى شواطئ السلام واليقين.
وله بعد ذلك في التصوف رسالة ما أحسب أن أحدا - باستثناء الغزالي - حمل أعلامها، أو جاهد في سبيلها مثلما حمل الشعراني وجاهد.
وتلك الرسالة هي تنقية التصوف من الدخيل والدخلاء، وتجليته نهجا إيمانيا تعبديا خالصا لله، هدفه الطاعة الكاملة، والعبودية الصادقة، والمحبة الروحية بأنوارها وآدابها السامية، لا يعرف الجدل ولا الحوار، ولا يقر الشطح والسبح الفلسفي.
وربط المعارف الصوفية اللدنية بالعلوم الإسلامية الظاهرية، والخروج بالأمة الإسلامية من الجدليات والخلافات، إلى روح الدين وجوهره، إلى اليقين الثابت، والعمل الصالح، والوحدة القلبية والفكرية، وإقامة أسس الحياة على الرحمة والمحبة لا على الشقاق والجدل البغيض.
والشعراني ككل المتصوفة مفتاح شخصيته في تصوفه وروحانيته، فالشخوص الصوفية قد يتراءون أشباحا باهتة الظلال للعين المادية، وقد يتراءون في عدسات الباحثين المنطقيين في أردية السذاجة والبساطة حينا، وفي أردية الغموض والإبهام أحيانا.
ومرد هذا ارتفاعهم الروحي الهائل عما ألف الناس واعتادوا من ألوان وأخلاق، وعما ألف الناس واعتادوا من معارف نظرية وعقلية؛ ولهذا تخطئهم العين المجردة كما تخطئهم العدسات المادية.
إننا في حاجة إلى عدسات روحية خاصة حينما نتعرض لتلك الأرواح كما نحتاج إلى مكبرات خاصة حينما نتطلع إلى نجوم السماء.
فقوة المتصوف العظمى إنما تكمن في روحه، فكلما اقتربنا من دائرته الروحية تجلت لنا آياته، وتجلت لنا شخصيته، وتجلت لنا عملاقيته الروحية والعلمية؛ لأنهم شخوص كونتهم العقيدة، وصاغتهم الروحانية؛ ولهذا نقترب من فهمهم ونقترب منهم كلما اقتربنا من التصوف ومن فهم التصوف.
وإذن فلا بد لدارس شخصية الشعراني من أن يتحدث عن التصوف؛ فالحديث عن الروح الصوفي هو المدخل لدراسة كل متصوف إسلامي.
ودارس التصوف الإسلامي يرى نفسه بادئ بدء وسط أمواج صخابة، وبحار زاخرات، بل وسط دوامة مفرغة الحلقات لا يجد لعبابها شاطئ، ولا من نوئها عاصم.
فقد امتلأ موكب التصوف بالدخلاء من كل نحلة ولون، كما دست على المعارف الصوفية عقائد تكاد تتمثل فيها عقائد الكوكب الأرضي كافة.
وطريق البحث بعد ذلك ليس معبدا، بل ليس آمنا؛ فالباحث يجد أمامه مزاجا عجبا من الأخبار المتشابكة المتضاربة التي امتزج فيها الحصى بالجواهر، وامتزجا أحيانا حتى يحتاج الدارس إلى معمل فكري للصهر والتمييز.
وما يجده الباحث من حر الجواهر إنما يجده متناثرا لا يكون وحدة فكرية، ولا يقيم مبحثا علميا متناسقا، فهو بحاجة إلى صبر مدده من عند الله؛ حتى يستطيع أن يؤلف بين هذه الأجزاء، ويرد كل جوهر إلى عقده، حتى يستقيم البحث، وحتى يتجلى جمال اللؤلؤ المكنون.
وكثيرا ما يجد الباحث نفسه أمام ألوان فلسفية مادية، وألوان من التأملات الجامحة، وألوان من الشطحات المضللة أدخلت على التصوف وهي ليست من روحه، ولا من عقيدته، وأعسر من هذا وأشد قسوة أن هذه الألوان قد دسها المغرضون والمزيفون في كتب الأئمة والقادة من رجال التصوف، ومشى هذا التزييف على التاريخ حتى أصبح جزءا منه.
وكتب المناقب التي عنيت بالتصوف ورجاله كثيرة ومتنوعة، ولكن كثرتها لا تهدي السبيل، ولا تنير الطريق؛ إذ إنها طوائف من الأخبار تسودها المبالغة حينا، والاضطراب أحيانا، ويجري فيها الدس والتزييف تارة، والإيهام والغموض تارة أخرى.
وتأتي بعد ذلك دراسات المستشرقين الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في تشويه التصوف وتغيير وجهه؛ لأنهم اتجهوا بدراساتهم إلى ألوان من التصوف لا تعتبر من صميمه، ولا تعبر عن شخصيته، اتجهوا إلى السبحات الفلسفية والشطحات القلبية، وهو لون دخيل على التصوف لحق به في إحدى مراحله المتأخرة، حينما انتقل من القلوب إلى العقول، ومن التعبد إلى التأمل ، حينما انصرف بعض المنتسبين إلى التصوف إلى نظريات في الوجود، ونظريات في المعرفة لا يعترف بها الإسلام، ولا ترضى عنها الألحان الصوفية المؤمنة.
ثم جاءت في أعقابهم كتب المؤرخين المعاصرين من رجالنا، فإذا بهم يجرون في أعقاب أساتذتهم من رجال الاستشراق، وإذا بهم يقعون - كما وقع أساتذتهم - في أحابيل خصوم التصوف القدامى الذين دسوا عليه وزيفوا ألحانه، وإذا بهم أيضا يعنون بالشكليات، ويغرمون بالشاذ من الآراء، ويولعون بإبراز الكلمات المهزوزة، كما أولع الأوروبيون بها من قبل، الكلمات المهزوزة التي استنبطوا منها تارة فكرة الحلول والاتحاد، وتارة نظرية وحدة الوجود، وإذا بهم يتحدثون أيضا كما تحدث شيوخهم عن الصلات بين التصوف الإسلامي والوثنية الهندية، والتصوف المحمدي والروحانية المسيحية.
ودارت أقلامهم في هذا المجال، وتشعبت بهم السبل حتى أسلمتهم إلى نظريات وصور قد تنتسب إلى كل نحلة عرفها العقل الإنساني ما عدا النهج الرباني الإسلامي.
وأغفلوا تماما جوهر الإسلام وروحه، وهما أبعد ما يكونان عن هذه الألوان والصور، ولم ينظروا إلى منابته المحمدية، وعقيدته القرآنية، وأخلاقه المثالية، وتعبداته السامية، وتراثه في المعرفة، وهو أصدق صور الإيمان المحمدي، وأعلى ذرى الهدى القرآني.
فهي إذن محاولة جريئة وشاقة تلك التي نحاولها؛ إذ نحاول تنقية التصوف مما دس عليه وألحق به، وتمزيق الحجب التي توارت خلفها أنواره، واختفى في طياتها بريقه وسناؤه، حتى نجلوه ربانيا إسلاميا خالصا كما عرفه الأولون الذين عاشوا في محاريبه ومعابده وأنواره ومعارجه.
ولقد شهد التاريخ محاولات سابقة في سبيل هذه الرسالة العليا؛ فلقد قام حجة الإسلام الغزالي في القرن الخامس الهجري بحركته الإصلاحية الكبرى في سبيل تجديد التصوف، وتنقيته من الألوان الفلسفية التي دسها عليه خصوم الإسلام من أصحاب المذاهب الباطنية، ومن الدجل الشعبي الذي أدخله عليه جهلة العوام وبعض طوائف المتحررين من الأخلاق، كما قام بهذه الرسالة العظمى بقوة ونجاح القطب الشعراني في القرن العاشر الهجري.
ونحن اليوم في حاجة ملحة إلى تصفية جديدة، وتنقية جديدة، وحركة تجديدية أخرى، نحن في حاجة إلى جهود متوافرة لدراسة التصوف وتنقيته من الشوائب، ومما زور التاريخ، ومما أدخل الرواة، ومما دس عليه، ونسب إليه، وحف بروحه، وتعلق بأرديته، حتى نرده إلى فطرته الأولى، فنرده إلى القلوب إيمانا، وإلى الأخلاق طهارة، وإلى المثالية عنوانا ورمزا، بل إلى الإنسانية بأسرها سلاما وسعادة وأمنا.
وإني لكبير الأمل في أن تكون الدراسات التي نقدمها هنا، بداية موفقة لتلك الحركة المباركة، أو على الأقل منظارا يرشد إلى طريقها، ويهدي إلى سبلها.
التصوف الإسلامي والمعارف العالمية
والتصوف الإسلامي هو أعلى قمة حامت حولها المحاولات العالمية للكمال الروحي، والمعارف اللدنية، حامت حولها الجهود العالمية، ولا أقول بلغتها؛ لأن سبل الكمال الروحي قد تعددت بتعدد الفلسفات، وتعدد الوسائل والغايات؛ فقد حاول قوم أن يقبسوا من نور هذا الكمال بالتصفية والتخلية؛ كرجال الفلسفة الإشراقية، وحاول قوم أن ينالوه بالنسك والطهارة؛ كزهاد اليوجا الهندية، وحاول آخرون أن يبلغوه بالاستغراق والتأمل؛ كأصحاب المذاهب النظرية والفلسفية.
وعدة هؤلاء وهؤلاء لبلوغ هذا الكمال جهد بشري، وسبل ابتدعوها، ومذاهب اعتنقوها وعاشوا لها، وهي وإن وصلت بهم إلى ألوان من هذا الكمال إلا أنها ألوان مستعارة لا أصيلة؛ لأنها منحرفة الغاية وإن استقامت الوسيلة.
وقد ترقى أرواح هؤلاء وهؤلاء حتى تأتي بما يشبه الإلهام، وبما يشبه الخوارق والكرامات، إلا أنها قد تضل وتشقى؛ لأنها اقتبست هداها من داخلها، ولم تقتبس هداها من خالقها وموجدها.
أما التصوف الإسلامي فقد تتشابه وسائله في الزهد والنسك، والتصفية والتخلية، والتأمل والطهارة، مع هؤلاء ومع هؤلاء، ولكنه تشابه عرضي، وتقارب شكلي؛ لأن التصوف الإسلامي ليس مذهبا من مذاهب الفلسفة، وليس نحلة من نحل الزاهدين والمتأملين، وليس هدفه من تلك الوسائل ما تهدف الفلسفة من كمال عقلي وطاقة نظرية، وما ينشده الزهاد والنساك من إطلاق لقوى الروح حتى تأتي بالعجائب والغرائب.
وإنما التصوف الإسلامي هو كمال في العبادة، وكمال في الطاعة، وكمال في العبودية، هو محبة لله، وعمل على رضاه، وأمل في نجواه، هو أنشودة يشترك فيها القلب والروح والحس والجوارح، أنشودة تسبح بحمد الله لا تفتر ولا تهدأ؛ لأن لحنها دائم الحياة في القلب، دائم الحياة في الروح، دائم الحياة في الإدراك والحس.
أنشودة تحيل الكون بأسره إلى آية ربانية، يلمسها القلب كما تراها العين، وتسمعها الأذن كما تدركها الروح، فإذا بكل شيء محراب، وإذا بكل شيء مصلى، وإذا بالصوفي لا يبرح المحراب ولا يفارق المصلى أينما توجه بوجهه وسبح بفكره. إنه دائما مع الله؛ فهو متأدب بأدب من أحس يقينا في كل لمحة بصر بأن الله معه يسمع ويرى.
وما يأتي بعد ذلك من علم وفيض، وما يأتي بعد ذلك من خارقة أو كرامة، وما يأتي بعد ذلك من كمال روحي أو إشراق نفسي فهو نافلة؛ لأنه وسيلة لا غاية، وسلم لا هدف.
فالمعارف الصوفية إذن ثمرة الكمال في العبادة، ومنحة الفيض في الطاعة، وأنوار القلب في محبته ونجواه. إنها حلى الطريق لا أساسه وروحه.
وإذن فلا سبيل إلى إقامة صلة من الصلات بين التصوف الإسلامي وبين أي لون من ألوان الروحانية العالمية.
ولا سبيل إلى المقارنة بين المعارف الصوفية الإسلامية وبين المعارف الفلسفية والنظرية والعقلية التي جرت على وجه الأرض مع أعنة التاريخ الإنساني.
فتلك المذاهب الفلسفية والعقلية قد استمدت معارفها من التفوق العقلي تارة، ومن الصفاء الروحي تارة أخرى. أما التصوف الإسلامي فمعارفه نبعها عقيدته الإسلامية، ومددها فيض رباني داخل نطاق تلك العقيدة القرآنية، وبأسرار عبادتها، وبذلك تحددت رسالة التصوف وعرفت ضوابطها، بينما أعنة المعارف الروحانية الأخرى، لا تقبض عليها يد نتحاكم إليها، ولم ترسم لها شريعة نرجع لها، ولم تنبت معارفها في حقل إيماني سماوي يمنعها من النزوات والاندفاعات.
التصوف الإسلامي آية سرها في الهدي القرآني والروحانية المحمدية، وإني لأحسبه أحيانا آية كونية؛ لأنه ضرورة لازمة لهذا الوجود، وغاية من غاياته، وحجتنا قوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
والتصوف هو أكمل صور العبادات في خير أمة أخرجت للناس؛ لأنه تطوع دائم للعبادة، تطوع بعد الفرائض والنوافل؛ ولهذا لم يكن شرعة عامة، بل كان ميزة خاصة لمن أخذ الكتاب بقوة، واصطفاه الله، وأتاه عزما ، وعلمه من لدنه علما.
وإذن فلن نغالي إذا قلنا إن قمة المعارف اللدنية التي بلغتها الأجنحة الصوفية الإسلامية لم تبلغها، بل لم تدن منها أجنحة أخرى؛ لأنها قمة المحبة الربانية، وهي قمة لا تصل إليها إلا الأجنحة المحمدية المؤمنة العابدة.
الطريق الرباني والمعارف الإلهية
الكشف الباطني والفيض الرباني هما عنوان التصوف الإسلامي، وهما المحور الذي تدور حوله المعارف الصوفية، كما تدور حوله الخصومات بينهم وبين رجال الفكر من أصحاب المذاهب النظرية والعقلية، وبينهم وبين رجال العلم الظاهري من الفقهاء الذين قدسوا القواعد التي ابتكروها للمعرفة، وتنادوا بأنها دون سواها الحكمة وفصل الخطاب.
وأنا أجرؤ فأقول: إنه لا الكشف الباطني ولا الفيض الرباني هدفا من أهداف المتصوفة الإسلاميين، ولا غرضا من أغراض العباد الربانيين.
إنما هدفهم الأول عبادة الله عبادة خالصة له دون سواه، عبادة تقربهم منه وتدنيهم من رضاه، وقد تفننوا في هذه العبادة وجعلوها شرعة ومنهاجا، وكونوا من فلسفتها آدابا وأخلاقا، وسبحوا في بحارها سبحا طويلا، فكانت قوتهم، وكانت حياتهم، ومن تلك العبادة كان ذوقهم وكان لحنهم.
والمتصوفة حقا هم العاملون لا المتكلمون، هم الذين تطوعوا لله فوق الفرائض والنوافل، وترقوا في هذا التطوع حتى تكونت لديهم حساسية إيمانية، أو طاقة تعبدية، تكاد تدخل في نطاق المعجزة، حتى إنهم ليراقبوا الله مع أنفاسهم، فكل نفس يخرج من صدورهم فهو لذكر الله، أو استغفار، أو تضرع، أو نجوى.
وتلك العبادة الدائمة الخالصة أدنتهم من الله وقربتهم، فأحبهم وأحبوه، وأنس بهم وأنسوا به، ورضي عنهم ورضوا عنه، فغمرتهم أنوار المحبة، وفاضت حياتهم بالنور والسعادة والأنس والقرب، فتكونت لهم فلسفة في المحبة جعلوها شرعة ونهجا، وأنشودة ولحنا، ومن تلك المحبة كان ذوقهم وكان لونهم، ومنها تفرعت مقاماتهم وأحوالهم، وعليها كان تحليقهم وكانت معارجهم.
ثم أفاض الله عليهم المعارف اللدنية جزاء وفاقا، ومنحهم الكشف الباطني هبة وعطاء، ورزقهم فوق هذا رزقا أضمروه، فكان السر الذي ضنوا به حينا، ورمزوا إليه أحيانا، وسر هذا السر يلتمس عند الأثر المشهور: «عبدي، أطعني تكن ربانيا تقل للشيء: كن فيكون .»
ذلك فصل الخطاب في التصوف؛ فالكشف الباطني والعلم اللدني والخوارق والكرامات لم تكن هدفا ولا غرضا ولا أملا لدى المتصوفة، وإنما كانت هبة ومنحة وعطاء ربانيا.
والكشف الباطني والعلم الرباني، رغم ما دار حوله من جدل وحوار، ورغم ما أثير بسببه من ملاحاة وخصومات، ورد به القرآن الكريم، ووردت به الأحاديث الصحيحة.
قال تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله ،
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ،
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ،
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ،
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
وقصة موسى والخضر معروفة ومعروضة في القرآن الكريم عرضا مبينا تجلت فيه مكانة العلم اللدني والمعرفة الباطنية التي أوتيها الخضر من لدن ربه.
ووردت هذه القصة في كتب الأحاديث الصحاح بصورة مجلوة ناطقة بأن العلم لله وحده، ثم هو للإنسان عارية، يمنحه الله لمن يشاء - نبيا كان أو وليا.
عن أبي بن كعب، عن النبي - صلوات الله وسلامه عليه - قال: قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب، وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل، فإذا فقدته فهو ثم. فانطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رأسيهما فناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربا، وكان لموسى وفتاه عجبا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبحا قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا؛ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا - ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به - فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت! قال موسى: ذلك ما كنا نبغي. فارتدا على آثارهما قصصا، فلما انتهيا إلى الصخرة إذا برجل مسجى بثوب - أو قال مسجى بثوبه - فسلم موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى؛ إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه.
ثم روى الحديث بقية القصة كما وردت في القرآن الكريم. وختام الحديث قوله صلوات الله وسلامه عليه: «لوددنا لو صبر موسى حتى يعرض علينا من أمرهما.»
1
الخضر على علم من علم الله علمه إياه لا يعلمه موسى، وموسى على علم علمه له الله لا يعلمه الخضر؛ فالعلم إذن علم الله، يهب منه ما يشاء لمن يشاء، والعلم صفة من صفات الله يفيض منه على عباده بنسب حكمتها عند فاطر السموات والأرضين، وسرها عند من أوحى إلى النحل، وأنطق النمل، وألهم الطير تسبيحه، يقول تعالى:
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا .
ويقول الغزالي في الرسالة اللدنية مفصلا بين العلمين الباطني والظاهري، ومدللا على شرف العلم اللدني وسيادته: «وبيان هذا يوجد في قصة آدم - عليه السلام - والملائكة، فإنهم تعلموا طول عمرهم، وحصلوا بفنون الطرق كثيرا من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات، وأعرف الموجودات، وآدم - عليه السلام - ما كان عالما؛ لأنه ما تعلم وما رأى معلما، فتفاخرت الملائكة عليه فقالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم - عليه السلام - إلى باب خالقه، وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه جميع الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين؟ فصغر حالهم عند آدم، وقل علمهم، وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز! قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فقال تعالى:
يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فأنبأهم آدم - عليه السلام - عدة مكنونات العلم ومستندات الأمر، فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبي اللدني أكمل من العلوم المكتسبة.»
وإذن فالعلم اللدني مقرر في أصول الشريعة الإسلامية، مبين اللحن في القرآن والسنة المحمدية، ولكن ومن عجب أن المتصوفة قد هوجموا هجوما عنيفا قاسيا بسببه من العقليين والفقهاء، وخاصة فقهاء الحنابلة، الذين كان إمامهم الجليل أحمد بن حنبل من رءوس التصوف وأعلامه بأخلاقه وتعبداته ولون حياته، وهو القائل: «ليس العلم بكثرة التلقين والرواية، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من أحبه وأطاعه.»
وأعجب من هذا العجب أنهم يهاجمون هذا العلم الصوفي في موقف النقد للمتصوفة، ثم يقررونه في مواقف أخرى إذا راق لهم الأمر، فابن تيمية - وهو رأس تلك الطائفة الناقدة المجرحة - يشرح في رسالته معنى الوحي ثم يعقب قائلا: «والإلهام بالمعنى السالف للمؤمنين جميعا بيقين.» ثم يتحدث عن الفيض الرباني فيقول: «وهو لمن أطاع الله واتقاه.» ويستشهد على ذلك بالآيات والأحاديث مهللا ومكبرا لحديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري عن رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه: «... ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها.» ثم يقول: وهذا الحديث غاية الغايات في الإلهام والفيض.
ويقول ابن القيم - تلميذ ابن تيمية الأكبر - في كتابه «الوابل الصيب»: «الذكر شجرة، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد.»
وإذن فحتى خصوم المتصوفة قد سلموا بالكشف والفيض والإلهام، والمذاهب الروحية العالمية جميعها تؤمن بأن الصفاء الروحي والزهد والإعراض عن مفاتن الدنيا ومباهجها طريق للمعرفة، وطريق أيضا للخوارق والهيمنة على عناصر الطبيعة.
يقول الأستاذ العقاد في كتابه عن غاندي، شارحا لصلاة غاندي وأثرها في تكوينه، ومقامها من زعامته: «وصلاة غاندي هي أعظم شيء في بنيان عقيدته، فنحن لهذا نقترب من فهمه كلما اقتربنا من فهم صلاته؛ لأن الصلاة عنده لا تنبت عن طلب أو استغاثة أو ابتهال، ولكنها تنبعث إلى حس فوق الحس، وفوق التفكير، وفوق الطلب والابتهال، وهي عنده أعلى مراتب الوعي الذي يتاح للكائن الموجود؛ لأن الروح الإلهي - في اعتقاده - سار في جميع الموجودات ، ولا يزال الإنسان محصورا في أوهاق الجسد أو في أوهاق المادة على العموم، ما دام معتمدا على الحواس، أو على العواطف، أو على التفكير في إدراك ما حوله، ولكنه يرتقي إلى مرتبة من الوعي أعلى من مراتب التفكير عندما يدرك الروح خالصا منزها من هذه الأوهاق.»
ثم يقول نقلا عن غاندي: «إن من يختبر سحر الصلاة قد يستغني عن الطعام أياما ولا يستغني عن الصلاة لحظة واحدة؛ لأن الصلاة هي من صميم قلب الحياة الإنسانية».
وإذن فسيطرة الإنسان على جسده، وقمعه لشهواته، وتحليه بالفضائل، والتجاؤه إلى الله يتيح له فوق الإلهام وفوق المعرفة قوة خارقة يسيطر بها على الطبيعة، ويرتقي إلى حالة تقهر المادة وتصنع الخوارق.
يقول الإمام الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» مدللا على صحة الإلهام وأثره في الأرواح: «لو لم ير الإنسان المغناطيس وجذبه للحديد وقيل له ذلك لاستنكره وقال: لا يتصور عقلا جذب الحديد إلا بخيط يشد عليه ويجذب به، فإنه المشاهد في الجذب، حتى إذا شاهده تعجب منه، وعلم أن علمه قاصر عن عجائب القدرة.»
ثم يقول: «وفي خزائن القدرة عجائب وغرائب ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما يشاهده.»
وجاء في كتاب «الفلسفة القرآنية» للعقاد تعليقا على كلمة الغزالي: «وما يقال عن جذب المغناطيس يقال عن جذب الكواكب أو تجاذبها على هذه الأبعاد الشاسعة في السماء، فإن انتقال التأثير من الجاذب إلى المجذوب حقيقة لا ريب فيها، ولكنها لا تفسر إلا بالفروض والتخمينات، وتقدير الوسائل التي لا يثبتها العيان ولا يقع بها البرهان.
والعجيب أن أدعياء العلم والعقل يشاهدون هذا وأمثاله، ويسمعون تعليله الذي يختلف فرضا بعد فرض، وتخمينا بعد تخمين، فيسكتون ويسلمون أنه معقول ومفهوم، ولكنهم يستكثرون تأثير الروح في الأرواح، وتأثير العقل في العقول؛ لأنهم يريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف تؤثر، وكيف تتأثر، ولا يقبلون هنا ما يقبلونه في عالم الحس والعيان.»
ثم يقول: «وأقرب الكائنات إلى الله هو الكائن الذي يعي ذاته، ويعي موجده - أي الإنسان - ويستمد منه قبسا من القدرة الإلهية.»
أجل لا حيلة لنا في هؤلاء الناس الذين يؤمنون بعجائب الظواهر الطبيعية التي تبنى على الفروض والتخمينات، ولا يريدون أن يؤمنوا بمثيلاتها في عالم الروح، بل يريدون متعنتين أن يلمسوا بأيديهم قدرة الله الخارقة، ويريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف يلهم الله من أحب من عباده، وكيف يعلمهم من لدنه علما. لا حيلة لنا في هؤلاء وأمثالهم من المتفلسفين على جهالة، إلا أن نقول لهم كلمة شكسبير على لسان هملت: «إن السماء والأرض - يا هو راشيو - تحويان من الأسرار ما لا تحلم به فلسفتك.»
هل تتعارض المعارف الصوفية مع القرآن والسنة؟
روى أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي «أن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سئل: هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.»
وكلمة الإمام علي - كرم الله وجهه - مفتاح من مفاتيح التصوف، أو مفتاح من المفاتيح التي تؤدي بنا إلى فهم حقيقة الروح الصوفي.
لأن عماد التصوف وقوامه في المعرفة هو الفهم في الدين، والبصر بالتأويل، فهما يعطيه الله لمن ارتضى من عباده، واستنباطا يهدي إليه الله من أحب واصطفى.
وهذا الفهم وذلك الاستنباط من منح الله لعباده، فلسنا إذن في حاجة إلى أن نقول إن شرطهما هو موافقتهما للكتاب والسنة؛ فتلك بديهة من بديهات العقول.
فكما أن العبادات في التصوف قوامها تطوع لما بعد الفرائض والنوافل، كذلك علم الباطن هو معان واستنباطات وفهم في القرآن فوق ما يعطيه العلم الظاهر.
فليس هناك مثلا فهما باطنيا يزيد أو ينقص من الفرائض، ولا فهما باطنيا يعطل شيئا من الشرائع، وإنما هو فهم في المعنويات، وفهم في الكمالات التعبدية والتحليات الأخلاقية.
يقول الشعراني في الطبقات الكبرى: «ثم اعلم أخي أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا من علة العلل وحظوظ النفس، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو، فمن جعل علم التصوف علما مستقلا؛ فقد صدق، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علما مستقلا صدق، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق.»
ثم يقول: «ولكنه لا يشرف على ذوق أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ الغاية، ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة، على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات وآداب ومكروهات.»
وتلك الكلمة للشعراني من الآيات التي توضح موقف التصوف من الشريعة الإسلامية، ومن الآيات المبينات للنهج الصوفي الصادق.
فليس من رسالة التصوف البحث في فرائض الأحكام الشرعية، ولا البحث في الصفات الربانية، ولا الجدال والحوار في المعارف الفلسفية والمذاهب العقلية.
وإنما التصوف تطوع دائم للعبادة. وهذا التطوع التعبدي جعل أربابه يستنبطون ألوانا من الأدب يجملون بها أنفسهم وهم قيام بهذه العبودية، وألوانا من الواجبات في الذكر والخلوة والسلوك، وألحانا من المعرفة ترقرقت لهم من مراقبتهم لأنفاسهم، وتفتيشهم لقلوبهم، وتجلت لهم في مواجيد الأنس والمحبة، كما أنهم فرضوا على أنفسهم زهدا خاصا جعل لهم حساسية مشرقة، وذوقا ملهما في طرائق العبودية؛ لأنهم ينشدون الكمال في تلك العبودية؛ ولأنهم آمنوا بأنها هدف الحياة وغاياتها العليا، أو كما يقول الحسن البصري: «إن في زماننا رجال ينظرون إلى مسائل كأنها شعرة، ولقد أدركنا رجالا كانوا يعتبرونها من الكبائر.» وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: «إظهار المحبرة من الرياء.» وهو معنى في التواضع لا يعرفه إلا الأصفياء، ويقول رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس.» رواه الترمذي.
ذلك محور التصوف الصادق، وتلك دائرته، وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة وأحكامها، كذلك يحفظ المتصوفة للشريعة آدابها وروحها، وكما أبيح للفقهاء الاجتهاد في استنباط الأدلة واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يرد فيه نص، وترك أمره للاجتهاد والاستنباط؛ فكذلك للعارفين أن يستنبطوا مما ألهموا وعرفوا وذاقوا أحكاما في الأمور التي لم ينص عليها، ولهم أيضا أن يستنبطوا آدابا وأذواقا ونهجا للمريدين والعابدين.
فللتصوف علومه واجتهاداته التي ينفرد بها، ولتلك العلوم أثرها ومكانتها ومقامها بداخل حدود التشريع الإسلامي الظاهري.
ويقول الشعراني: «فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة، وكيف تخرج والشريعة وصلتهم إلى الله - عز وجل - في كل لحظة.»
ثم يقول: «ولكن أصل استغراب من لا إلمام له بأهل الله أن علم التصوف من عين الشريعة، كونه لم يتبحر في علم الشريعة؛ ولذلك قال الجنيد: «علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، دال على من توهم خروجه عنها في ذلك الزمان أو غيره. وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله - عز وجل - إلا من تبحر في علوم الشريعة، وعلم منطوقها ومفهومها، وخاصها وعامها، وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس. وبالجملة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم».»
صدق الشعراني؛ فإنه لا ينكر التصوف إلا من جهله علما وذوقا، ولا ينكر طريق التصوف إلا عويلم ليست له ضلاعة في العلم، ولا مكانة في المعرفة. أما العلماء حقا من رجال الفقه والاجتهاد والفتيا، فقد سلموا للتصوف علما وذوقا، سلموا له لا بصدقه فحسب، بل سلموا بالتفوق والزعامة، سلموا له بأنه أفق لا تصعد إليه أجنحتهم؛ لأن لأجنحته تفوقا غلابا سره في تعبدها، كما أن سر علومه في إلهامها.
يقول القشيري في رسالته مدللا على مكانة التصوف والمتصوفة: «لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا له، وتبركوا به، ولولا مزية وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس .»
ويسوق الشعراني الأدلة على كلمة القشيري فيقول: «لقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي، حين طلب منه الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن ينسى صلاة لا يدري أي صلاة هي، فقال شيبان: هذا رجل غفل عن الله - عز وجل - فجزاؤه أن يؤدب.»
وكان أحمد بن حنبل يرسل إلى أبي حمزة البغدادي دقائق المسائل ويقول: «أفتني في هذا يا صوفي؟ وكان يقول لابنه ناصحا وموجها: «عليك بملازمة المتصوفة؛ فإنهم بلغوا مقاما في الإخلاص لم نبلغه.»
ويقول محيي الدين، شيخ المتصوفة الأكبر، في الفتوحات: «إن طريق الوصول إلى علم القوم الإيمان والتقوى»
ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ، والرزق نوعان: روحاني وجسماني، وقال تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله
أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائل من العلوم الإلهية.»
ثم يقول: «فعليك يا أخي بالتصديق والتسليم لهذه الطائفة، ولا تتوهم فيما يفسرون به الكتاب والسنة أن ذلك إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن لظاهر الآية والحديث مفهوما بحسب الناس وتفاوتهم بالفهم، فمن المعلوم ما جلب له الآية أو الحديث، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام أخرى باطنية تفهم عند الآية أو الحديث لمن فتح الله عليه.»
ثم يقول: «ولا يصدنك عن تلقي هذه المعاني الغريبة من هذه الطائفة الشريفة قول ذي جدل ومعارضة: إن هذا إحالة لكلام الله تعالى وكلام رسوله؛ فإنه ليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية الشريفة والحديث إلا هذا الذي قلناه، وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها، مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله تعالى في نفوسهم ما يفهمهم بفضله، ويفتحه على قلوبهم برحمته ومنته، ومعنى الفتح في كلام هؤلاء القوم حيث أطلقوا كشف حجاب النفس أو القلب أو الروح لما جاء به رسول الله من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة؛ إذ الولي قط لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسنة، الذي لم يكن يعرف لأحد من قبله؛ ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق ، ويقول: هذا قول لم يقله أحد، على وجه الذم لهذا القول.»
فالمتصوفة إذن يقولون في صراحة وجلاء: إنهم لا يحيلون الظاهر عن ظاهره، بل يقرون الظواهر على ظواهرها، ولا يقولون إن ما ألهموه أو استنبطوه من الآية أو الحديث هو معنى الآية أو الحديث، ولا معنى لهما إلا هو، وإنما يقولون هذا ما نرى، أو هذا فتح الله به علينا، ولك أن ترضاه ولك أن ترفضه، ولك أن تؤمن به ولك أن تدعه.
ويقول حجة الإسلام وحجة التصوف الإمام الغزالي: «واعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعى فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له؛ العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على توفيقاته إيرادا وإصدارا، وإقداما وإحجاما؛ إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟ فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات، ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وإن المحققين قالوا: لو رأيت إنسانا يطير في الهواء، ويمشي على الماء وهو يتعاطى أمرا يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان، وهو الحق.»
ثم يقول: «إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وأخلاقهم أزكى الأخلاق؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة.
وماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها وأول شروطها تطهير القلب عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟»
أجل، ماذا يقول القائلون في طريقة أول شروطها تطهير القلب عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب استغراقا كاملا في ذكر الله، وآخرها الفناء في الله حبا وعبادة؟ لقد أضفى التصوف على الوجود صورة جميلة مشرقة، وألبس الإنسان صورة نورانية طاهرة، وجعل للحياة هدفا وغاية قدسية عالية، وأي الغايات أقدس وأعلى من التسبيح والنجوى، وفناء النفس في محاريب الأنس والتقوى.
يقول سهل التستري: «أصول طريقنا سبعة: التمسك بالكتاب، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق.»
ويقول أبو الحسن الشاذلي: «إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة؛ فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة.» مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة، ويقول أبو سعيد الخراز: «كل باطن خلافه الظاهر فهو باطل.»
هذا هو العلم الباطني في التصوف، وتلك شرائطه وحدوده، فبأي آية من آياته يكذب المدهنون؟ وبأي صورة من صوره يجحد المنكرون؟
ويقول الشعراني متعجبا من خصوم التصوف وأعدائه: «ما بلغنا قط عن أحد من القوم نهى أحدا عن الصلاة والزكاة والحج والصوم أبدا، ولا تعرض لمعارضة شيء من الشرائع، وكيف يترك الولي ما كان سببا لوصوله إلى حضرة ربه؟ إنما يحث الناس على الإكثار من أسباب الوصول، فما بقي وجه الإنكار إلا على مواجيدهم وأفهامهم، وتلك أمور لا تعارض شيئا من صريح السنة، والأمر في ذلك سهل، فمن شاء فليصدقهم ويقتدي بهم كمقلدي المذاهب، ومن شاء فليسكت ولا ينكر؛ لأنهم مجتهدون في الطريق، والمجتهد لا يقدح إنكاره على مجتهد آخر.»
ذلك فصل الخطاب في حقيقة العلم اللدني، وتلك رسالته لدى المتصوفة، إنهم قوم مجتهدون كأئمة المذاهب الفقهية، فإن أئمة المذاهب قد اجتهدوا في أحكام الفروع واختلفوا، ولم يقدح اختلافهم في عقيدتهم، ولم يقدح اختلافهم في اجتهادهم.
فكذلك المتصوفة قوم اجتهدوا في أمراض القلب وأدويتها، وآداب العبودية وواجباتها، وخفايا النفس وإلهاماتها، ورقائق المحبة وأسرارها.
قوم أخذوا عقيدتهم بقوة وعزم، فتطوعوا لله تطوع أولي القوة والعزم، وأخلصوا التوجه إلى الله إخلاصا جعلهم يتحرون الكمال، فهم أهله ورجاله، واجتهدوا في فلسفة الكمال، فكونوا من اجتهادهم نهجا لهم وسبلا، وطريقا له قواعده كما له شرائطه.
وإن كان الرجل «الجنتلمان» بلغة العصر هو الرجل الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو الرجل الذي فرض على نفسه آدابا وقواعد في السلوك خاصة به يتميز بها ويعرف.
فكذلك الصوفي هو «الجنتلمان» في العبودية الربانية، الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو العابد الذي فرض على نفسه في العبودية آدابا ونهجا يتميز به ويعرف.
فإن كنا رضينا من رجال الدنيا آدابهم التي فرضوها على أنفسهم، ورضينا من رجال الفقه اجتهادهم في الأحكام الفرعية، واجتهادهم فيما لم ينص عليه، حتى إنهم حللوا وحرموا وقالوا هذا واجب وهذا مكروه، وهذا فرض وذاك سنة، ولم يقدح اختلافهم في أحكامهم، ولم يقدح اجتهاد فقيه على اجتهاد مخالفه.
فكيف إذن نعترض على قوم اجتهدوا في العزائم، واجتهدوا في التطوع، واجتهدوا في التعبد، واجتهدوا في نشدان الكمال، وهم فوق ذلك لم يلزموا غيرهم بما افترضوا على أنفسهم، بل صرحوا بأنهم أولي عزم، وليس الناس كلهم سواء، وما ينبغي أن يكونوا.
إن الفقهاء قد أرجعوا اجتهادهم إلى فهمهم في كتاب الله وسنة رسوله، واستنبطوا أحكامهم منهما، وكذلك المتصوفة يرجعون باجتهادهم واستنباطهم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إليهما، فهم والفقهاء إذن في صف اجتهادي واحد، إلا أنهم أكمل؛ لأن السبل لم تتفرق بهم عن الغاية كما تفرقت برجال الفقه، بل كان سبيلهم واضحا محددا محررا؛ لأنهم ألقوا بعزائمهم في نشدان الكمال في محاريب العبودية والطاعة، واتجهوا إلى الله سبحانه بقلوبهم وأرواحهم وأحاسيسهم وعقولهم، فلم تتفرق بهم سبل، ولم تجمح بهم نزوة.
ومن عجب أن بعض الفقهاء يرمون التصوف بالجموح والتطرف، وابتكار ألوان في المعرفة مغرفة في الخيال، مغرقة في الشذوذ، مع أن الشذوذ والتطرف إن كان في ثمة طائفة من الطائفتين فهو في الفقهاء، الذين شغلوا أنفسهم وشغلوا العالم الإسلامي معهم عن نور كتابهم المقدس بجدليات وتفرعات لا هدف لها إلا الجدل وحب الغلبة.
قد افترضوا مسائل لا تقع، بل لا يتصور وقوعها! بل يستحيل في العقل وجودها، وعاشوا في محاريبها مجادلين مختلفين.
جاء في شرح مسلم: ومما زاد الفقه صعوبة ما اتسع فيه أهل المذاهب من التفريعات والفروع، حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادة فقالوا: «لو وطأ الخنثى نفسه فولد، هل يرث ولده بالأبوة أو الأمومة أو بهما؟ ولو توالد له ولد من بطنه وآخر من ظهره، لم يتوارثا؛ لأنهما لم يجتمعا في بطن ولا ظهر.»
ويقول السنوسي معلقا على هذا الجموح الفقهي: «ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب، وتعلم أمراض القلب وأدويتها، وإتقان عقائده، والتفقه على معنى القرآن والحديث، لكان أزكى لعلمه وأضوأ لقلبه.»
وإن كان القلم قد جرى بنا إلى نقد الفقهاء، فإنما ساقنا إلى ذلك المقارنة التي اقتضاها السياق، ولنبرهن على أن الجموح إن وجد في بعض أدعياء التصوف الذين جعلوا التعبد فلسفة، فقد وجد مثله في بعض من انتسب إلى الفقه، وإن كان الصادقون من الفريقين هم صفوة الأمة الإسلامية.
ونعود فنقول: إن الكشف الباطني في التصوف قائم على الكتاب والسنة، مقيد بهما، وإن هدفه وغايته إبقاء الجذوة التعبدية الإيمانية مشرقة وضاءة في القلوب الإسلامية، وبذلك تحددت رسالة التصوف، ووضحت أهدافه.
وإذن فليس الكشف الباطني والعلم اللدني شطحا ولا إبهاما ولا طلاسما ولا كلمات مهزوزة مجنحة، ولا فلسفات جامحة، كما زور المزورون في تاريخ التصوف، أو كما جمجم الأدعياء الدخلاء الذين مشوا في موكب التصوف وارتدوا بأرديته وهم ليس منه.
إن عماد الدين اللدني وضابطه وحاكمه لدى المتصوفة هو كتاب الله وهدي رسوله، فكل من انحرف بقوله أو بعمله فقد برئ منه التصوف، بل هو أصلا ليس من أهله.
ومن شاء أن يعرف الصوفي الصادق من غيره؛ فليحاكمه إلى هذا المبدأ الذي هتف به سادته الكمل وأئمته القادة، وحينئذ يتميز الخبيث من الطيب، ويبين الزائف من الصادق.
هذا هو الميزان الذي عناه الشعراني بقوله: «إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب.» أو كما يقول محيي الدين: «من رمى من يده ميزان الشرع لحظة واحدة هلك.»
ولقد كان شيخ الإسلام العز بن عبد السلام إذا سمع حديث أبي الحسن الشاذلي صاح: «هلموا إلى هذا الكلام القريب العهد من الله.»
وذهب أبو العباس بن سريج، إمام الفقهاء، إلى حلقة الجنيد ليناقشه ويجادله، فاستمع إليه صامتا ثم خرج إلى أصحابه قائلا: «لا أدري ما يقول، ولكن لكلامه صولة ليست بصولة مبطل.»
أجل إن للتصوف صولة هي صولة الحق، وإن على الكلم الصوفي لطلاوة هي طلاوة الألحان القريبة العهد من الله؛ لأنها من إلهامه، ومن ينابيع رضاه.
التصوف المفترى عليه
فإذا انتهينا من توضيح العلم الباطني الصوفي، وأنه فهم يعطى لذوي البصائر في كتاب الله وسنة رسوله، وأنه مقيد بالكتاب والسنة لا ينحرف ولا يميل عنهما، وأن رسالة المتصوفة أنهم فوق تعبدهم مجتهدون في أمراض القلب وأدويتها، وآداب العبودية وواجباتها، وخفايا النفس وإلهاماتها، ورقائق المحبة وأسرارها، وأن اجتهادهم في هذه المثاليات كاجتهاد الفقهاء في الفروع والسنن والواجبات التي لم يرد فيها نص صريح قاطع، وكما حفظ أئمة الفقه حدود الشريعة الإسلامية بإقامة أحكامها ووضع دستورها، كذلك حفظ المتصوفة للشريعة آدابها وروحانيتها، وطهارتها الخلقية، وكمالاتها النفسية.
إذ انتهينا من هذه الخطوة التمهيدية في سبيل تجلية التصوف وتنقيته مما دس عليه، وأدخل على محرابه، كان لا بد لنا قبل الحديث عن كبرى المسائل التي ألصقت به ونسبت إليه رغم طهارته، وبراءته منها، أن نتحدث قليلا عن الافتراء والدس، بل عن المؤامرات التي دبرت لتشويه التاريخ الإسلامي كافة، والعقائد التعبدية منه خاصة، وتاريخ الإسلام كعقيدة وفكرة، وتاريخ الإسلام كنظام عالمي، كل هذا لم يكتب إلى يومنا كتابة عادلة منصفة، كتابة تجلوه بخصائصه وفضائله الكبرى.
لقد شوه المؤرخون، بل شوه المتآمرون التاريخ الإسلامي عن عمد، بما دسوا عليه وبما نسبوا إلى كبار شخصياته من عقائد وكلمات وأفعال، كبار شخصياته سواء منهم أئمة الفكر، أو رجال الفقه، أو قادة الحرب، أو رجال التصوف، بل إن الخلفاء الراشدين أنفسهم لم يسلم تاريخهم من التزييف والدس، بل لقد دس في تفسير القرآن ودس في أحاديث الرسول ما يبرأ منه القرآن وما يبرأ منه الرسول ، ولولا أن الله - جلت قدرته وتعالت حكمته - حفظ كتابه الكريم؛ لما تورع المفترون عن الدس والتزييف.
إن العالم الإسلامي اليوم - وهو على أبواب وثبة من وثباته التاريخية - يجب أن يتنبه لهذا، يجب أن يتوافر العلماء والكتاب والباحثون على التاريخ الإسلامي ليعرضوه عرضا جديدا كريما، وليكتبوه من جديد على ضوء العلم والمعرفة والروح الإسلامي النقي الملهم.
يقول الإمام ابن الجوزي في المنتظم: «ولما جاء النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وقهر الأملاك وقمع الإلحاد، اجتمع جماعة من الثنوية والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين فأعملوا رأيهم، وقالوا: ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا وخرقوا على أممهم، وأعظم الكل بلية علينا محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه نبغ بين العرب العظام وخدعهم بناموسه، فنصروه وبذلوا أموالهم وأنفسهم وأخذوا ممالكنا. وقد طالت مدتهم، والآن فقد تشاغل أتباعه، ومنهم مقبل على كسب المال، ومنهم على تشييد البنيان، ومنهم على الملاهي، وقد ضعفت أبصارهم، ونحن نطمع في إبطال دينهم، إلا أننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس إلا الدس في آرائهم والانتماء إلى فرقهم؛ لنستعين بهم على إبطال دينهم.»
ذلك ما يقوله الإمام ابن الجوزي كاشفا به عن لون من ألوان التزييف المتعمد في التاريخ الإسلامي، وكاشفا به عن لون عجيب من ألوان الهدم والتضليل في صفوف المسلمين.
فإن هؤلاء المتآمرين من الملاحدة وأصحاب المذاهب الفلسفية المنقرضة قد جعلوا مؤامرتهم الكبرى ذات شعبتين؛ الأولى: مهمتها الدس والافتراء بتزييف الآراء، وصوغ العقائد الباطلة ونسبتها إلى رجال الفكر والعقائد؛ للبلبلة والإفساد.
والشعبة الثانية: تندس بين صفوف الفرق والمذاهب الإسلامية لتوقع بينها، وتضخم من خلافاتها، ولتزيف عليها مبادئها وعقائدها.
ولون آخر أعجب من هذا تكفل به رجال مسلمون، أغرموا بأن يلبسوا آراءهم القوة والمكانة، فنسبوها إلى الأئمة والقادة، يقول ابن الفراء في طبقاته، نقلا عن أبي بكر المرزوي ومسدد وحرب: إنهم قد رووا الكثير من المسائل ونسبوها إلى أحمد بن حنبل. وبعد أن يفيض في ذكر هذه المسائل يقول: «رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء: جعفر الصادق وأحمد بن حنبل؛ أما جعفر فقد نسبت إليه أقوال كثيرة دونت في فقه الشيعة الإمامية على أنها له وهو بريء منها، وأما أحمد فقد نسب إليه بعض الحنابلة آراء في العقائد لم يقل بها، وإن هذا بلا شك يثير الريب في نسبة الفقه الحنبلي إلى أحمد.»
وابن الفراء عالم وفقيه ومؤرخ حجة، ومع هذا فهو يتشكك إلى درجة الريب في نسبة الفقه الحنبلي إلى أحمد بن حنبل.
وإنه لشيء عجيب ومذهل حقا أن يزيف على الأمة الإسلامية مذهبا من مذاهبها الكبرى، وأن يقوم بهذا التزييف أصدقاء الإمام نفسه وأتباعه.
وجاء في رسالة الإسلام
1 «أن خصوم الإسلام من الأمم المختلفة لما انهزموا حربيا وتحطمت دولهم، انتهزت بقاياهم الخصومات السياسية الإسلامية، فظهروا في صور شتى وألوان مختلفة، مرة في السياسية بإثارة الأحقاد، وبث الفتن والمكائد، وإذكاء نيران العصبية، ومرة بإفساد العلم والفكر عن طريق الوضع والافتراء، والتأويل الفاسد، وإثارة الشبه، والخوض فيما نهى الله ورسوله عنه.
كما غذيت هذه الخلافات وهذه السياسات بكثير من الروايات الملفقة، والأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتراة، وامتلأت كتب التفسير والحديث والمغازي والمناقب بما لا يحصى من الأكاذيب،
2
فأصبح بجوار كل آية من كتاب الله رواية من الروايات تلوي بها عن مقاصدها، وبجوار كل حديث نبوي عشرات الأحاديث الكاذبة تزاحمه وتواثبه، وفي تاريخ كل عظيم أو مفكر أو عابد شائبات تنال منه.»
ولو ذهبنا نتقصى ألوان التزييف في التاريخ الإسلامي لما وسعتنا هذه العجالة التي خصصناها للتصوف والمتصوفة.
التصوف والمتصوفة اللذان كان نصيبهما من الدس والافتراء أعظم وأخطر من سواهما؛ لأن المزيفين أدركوا أن التصوف هو روح الإسلام، وأن المتصوفة هم قوته الروحية الضخمة، وشعلته الوضاءة المشرقة، فأرادوا أن يطفئوا هذا النور، وأن يلغوا في هذا البيان المبين.
يقول السهروردي في عوارف المعارف: «ثم إن إيثاري لهدي هؤلاء القوم، ومحبتي لهم علما بشرف حالهم وصحة طريقتهم المبنية على الكتاب والسنة، حدا بي أن أؤلف أبوابا في الحقائق والآداب، معربة عن وجه الصواب فيما اعتقدوه، شعر بشهادة صريح العلم لهم فيما اعتمدوه؛ حيث كثر المتشبهون، واختلفت أحوالهم، وتستر بزيهم المتسترون، وفسدت أعمالهم، وسبق إلى قلب من لا يعرف أصول علمهم سوء الظن، وكاد لا يسلم من وقيعة فيهم وطعن.»
ويقول محيي الدين في الفتوحات: «مما يفتح باب قلة الاعتقاد في أولياء الله وقوع زلة ممن تزيا بزيهم، وانتسب إلى مثل طريقهم، والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عن الله - عز وجل - قال تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
أجل، أكبر القواطع عن الله - عز وجل - أن يلتبس أمر الزائف من الصحيح في التصوف على الناس، فيرمي المتعجل التصوف قاطبة بالإفك والبهتان.
لقد دس على التصوف المزيفون من رجال التاريخ، ودس على التصوف أهل إلحاد وخصوم الإسلام، وشوه التصوف رجال مغرضون تزيوا بزيه وانتسبوا إليه، فشوهوا وجهه بأفعالهم، وشوهوا سيرته بأقوالهم وهو منهم براء، وهو لهم خصم واضح الحجة.»
يقول الشعراني: «والإنكار على هذه الطائفة لم يزل في كل عصر بسبب الدس والافتراء، ولعلو ذوق مقامهم على غالب العقول، ولكنهم لكمالهم لا يتغيرون كما لا يتغير الجبل من نفخة ناموسة.»
ويقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي: «لقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق، خصوصا أهل الجدل والافتراء.»
ولقد خصص الشعراني بحثا طويلا جليلا في مقدمة اليواقيت والجواهر تناول فيه الافتراء على المتصوفة، كما تناول فيه الخصومات التي قامت حولهم وأحاطت بهم.
يقول الشعراني في هذه الدراسة: «إنه ما من نبي أو ولي إلا وابتلي بالخصومات كما ابتلي بالحسدة والدساسين.»
ثم يضرب المثل بالأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - الذين ابتلوا بالخصومات والافتراءات، ونسبت إليهم صفات هم منها الطهرة الأبرياء.
ثم كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - «كسعد بن أبي وقاص»، الذي اتهمه أهل الكوفة بأنه لا يحسن الوضوء ولا الصلاة، وعبد الله بن الزبير اتهم بالرياء في صومه وعباداته.
ثم التابعون والأئمة؛ حيث ضرب أحمد بن حنبل حتى تمزق جسده وتلف، ونسبوا إليه الكفر تارة، والجهل تارة أخرى، وأبو حنيفة الذي جعله خصومه من المرجئة حينا، ومن المبتدعين أحيانا، والذي اضطهده الخلفاء وعذبوه وجلدوه بالسياط ورموه بالكبائر، واستخفى مالك خمسا وعشرين سنة لا يخرج لجمعة أو جماعة؛ خوفا من خصومه الذين ملئوا الدنيا حوله صياحا واتهاما، وعانى الشافعي ما عانى في مصر والعراق مما أفسح له التاريخ مكانا وبيانا.
ثم يقول: «وما من صوفي إلا وأحاطت به عصبة السوء والإفك تجريحا وتشهيرا ودسا وافتراء، فقد نفوا البسطامي سبع مرات من بلده بتهمة الكفر والزندقة، وأحلوا دم ذي النون المصري، وشهدوا على الجنيد بالكفر والإلحاد، ودسوا على الغزالي في الإحياء عدة مسائل تنبه لها القاضي عياض، وأرشد إليها وأمر بإحراقها، ودسوا على محيي الدين في الفتوحات ليوقعوا فيها من أراد الله إضلاله من جهلة المتصوفة، فإن الشيخ محيي الدين من أكابر الأولياء والراسخين، فربما قال لهم إبليس: إن ما في كتبه ليس مدسوسا عليه «وإنما ذلك كان اعتقاده، ويكفيكم في الدين اتباع هذا الرجل الجليل، فعظمه في أعينهم حتى لا يتوقفوا في اعتقاد ما يجدونه في كتبه من المدسوس».»
ثم يقول: «ولقد تنبه لما في كتب محيي من الدس والافتراء الفيروزبادي وصاحب نفح الطيب، ثم يقول أيضا: إنه عندما أخذ في تأليف مختصر للفتوحات رأى فيها أشياء كثيرة لا تتفق مع ما عليه أهل السنة والجماعة، فحذفها وتوقف فيها، ولم يزل كذلك حتى قدم عليه الشيخ شمس الدين محمد، فذاكره في ذلك، فأخرج له نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه «بقونية»، فلم ير فيها شيئا مما توقف عليه وحذفه.»
ثم يقول: «فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت من النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع ذلك أيضا في كتاب الفصوص وغيره من كتب محيي الدين.»
ولا عجب فيما يرويه لنا الشعراني، فكتب التفسير تموج بالإسرائيليات الكاذبة التي تنسب إلى ابن عباس مثلا وهو منها البريء المطهر.
وكتب الأحاديث تزخر بأمواج من الأحاديث الموضوعة، والتي نسبها المزيفون إلى أفضل خلق الله وأصدقهم!
بل إن الحديث عن التزييف في الأدب العربي لا يزال قريب العهد بآذاننا، حتى إن إماما من أئمة الأدب المعاصرين قد تشكك في الشعر الجاهلي كافة.
يقول الشعراني: سمعت سيدي عليا الخواص يقول: «ولو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم، لكان رسل الله - صلوات الله وسلامه عليهم - أولى بذلك، وقد خاصمهم الناس، فريقا يقتلون، وفريقا يأسرون.»
والشعراني نفسه الذي خصص جهده الأكبر لتنقية التصوف من الدس والدخيل، قد دس عليه حيا وميتا، وافتري عليه حيا وميتا!
يقول الشعراني: «ومما من الله به علي انشراح صدري لاتباع السنة المحمدية فعلا واعتقادا، وانقباض خاطري ضد ذلك من حين كنت صغيرا، حتى إني - بحمد الله - أتوقف في بعض الأوقات عن العمل ببعض ما استحسنه بعض العلماء؛ حتى يظهر وجه موافقته للكتاب والسنة.»
ثم يقول: «فكذب والله وافترى من أشاع عني من الحسدة أنني أشطح في أفعالي وأقوالي وعقائدي عن ظاهر الكتاب والسنة، مع أن أحدا من هؤلاء الحسدة لم يجتمع بي قط، ولا يثبت عنده ذلك ببينة عادلة، إنما بعض الحسدة زين له الشيطان ذلك لما عجز أن يجد مطعنا في أفعالي الظاهرة، فافترى علي ببعض الكلمات ودار بها.»
ولم يكتفوا مع الشعراني بهذا، بل زيفوا مقدمة لكتابه «كشف الغمة» ونشروها مع الكتاب في حياته، واستعاروا نسخة من كتابه «البحر المورود» ودسوا فيها كفريات عابثة، وأرسلوها إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، وأثاروا فتنة في الأزهر عليه، ولبث التزييف قائما ثلاث سنوات حتى تمكن الشعراني من إثبات كذب خصومه وتضليلهم.
أما ما زيف على الشعراني بعد وفاته فشيء ضخم عجيب سيأتي بيانه في موضعه من هذا الكتاب.
هذا التزييف وذاك الدس كانا الدعامة الكبرى للهجوم على التصوف والمتصوفة، وهذا الدس وذلك التزييف هما سر ما نسب إلى التصوف ظلما وزورا من عقائد تمثلت فيها أساطير الملل والنحل كافة.
وفي طليعة هذا الموكب الزائف الشائن، نرى فكرة وحدة الوجود الوثنية وما يتبعها من اتحاد وحلول وفناء الجزء في الكل كما يدعون.
كما نشاهد في هذا الموكب الشطحات الفلسفية المضللة التي خلعوا عليها أثوابا براقة خادعة، كدعوى الحقيقة المحمدية التي جعلوها قبة الوجود وأصله وسره،
3
وما أطلقوا عليه كلمة الجذب وجعلوها مرادفة للتحلل من الشريعة قولا وعملا، وما ابتدعوا عن ذل وعجز وأسموه ورعا وزهدا، وما تخيلوا من مذاهب باطنية منحرفة عن كتاب الله وسنة رسوله، وتنادوا بأنها الحق، وأنها السر، وأنها الشيء المضمر المراد المؤول.
وكل هذا وذاك يبرأ منه التصوف، ويبرأ منه المتصوفة، بل هم أشد الناس إنكارا له وحربا عليه؛ لأنهم أقوى الناس إيمانا، وأبصر الناس بهدي كتابهم، وسنة رسولهم.
إنهم العابدون المحبون الذين جعلوا الكون محرابا لله، فعاشوا طوال لحظاتهم في صلاة، عاشوا طوال حياتهم بأدب المصلي الذي لا تغفل جارحة من جوارحه عن المناجاة، بأدب المصلي المتطهر المعلق القلب بربه، المقبل بوجهه على خالقه، فكل صغيرة مهما دقت في ميزانهم كبيرة، بل كل رخصة لديهم ضعفا؛ لأنهم أولو عزم، وأصحاب العزمات هم المتطوعون أبدا للكمال، وكمالهم في إيمانهم كما هو في آدابهم، كما هو في إعلاء كلمة دينهم ورسالة نبيهم.
التصوف بريء من وحدة الوجود
وحدة الوجود وفكرة الاتحاد والحلول فكرة إلحادية قديمة، عريقة في العبادات الهندية والديانات البوذية، وخلاصتها التي تقربها إلى العقول أن أصحابها انقسموا إلى فريقين: فريق يرى الله - سبحانه وتعالى عما يصفون - روحا، ويرى العالم جسما لذلك الروح، وأن الإنسان إذا سما وتطهر ارتفع فالتصق بالروح - التي هي الله - ففني فيها، فذاق السعادة الكبرى، وظفر بالخلود الدائم.
والفريق الثاني يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله، والله هو كل شيء، يتجلى تجليا حقيقيا في كل شيء في الكون بذاته، فلا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد الصور تعددا حقيقيا واقعيا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددا في حقيقة الإنسان، أو تعدد صور الإنسان الواحد في المرايا المجاورة لا تحتم تعدده.
تلك هي فكرتهم في وحدة الوجود، وهي سفسطة لا يقبلها منطق ولا عقل ولا شرع، سفسطة تذهب بالشرائع كافة، والأديان جميعها، وتنال من الجلال والكمال الواجب لله - سبحانه وتعالى - وتبطل الجزاء والعقاب والجنة والنار، والحياة الأخروية، كما تبطل الحدود بين الخالق والمخلوق، فتجعل الخلق والخالق شيئا واحدا.
وهذا الإفك الأكبر، وهذا اللغو الإلحادي الفاجر هو الذي قذف به خصوم التصوف المتصوفة، وهم من هم إيمانا وكمالا وأدبا وخلقا، ووحدانية وتقديسا لفاطر السموات والأرض.
قذف خصوم التصوف المتصوفة بهذا الإفك، متخذين من حبهم لربهم تكئة ومقعدا لهذا الاتهام، وركض بهذا الإفك في محراب التصوف رجال الاستشراق الذين لبسوا ثوب العلم بالإسلام في ثوب الدفاع عنه.
ثم تفلسف المستشرقون وتفلسف المتعالمون من الجهلاء بالتصوف والإسلام، فقالوا: إن للتصوف علاقات وثيقة ببوذا ووثنية الهند، وإن وحدة الوجود وفكرة الحلول عند المتصوفة أقباس من الصوفية البوذية، ولمحات من فلسفة المدرسة الإشراقية.
ونسوا أو تناسوا «أن التصوف الإسلامي قام على كتاب الله وسنة رسوله وهديه، وأن الصوفي المسلم يقرأ في كتاب ربه:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فيقرأ خلاصة العلم الذي يتعلمه طلاب اللاهوت في سائر الملل والنحل، ويطوي تحت هذا البلاغ المبين كل فلسفة تتشدق ببحث الذات والصفات والخلق والخالق.»
يقول الشعراني في اليواقيت: «ولعمري إن عباد الأوثان لم يتجرءوا أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.» فكيف يظن بأولياء الله تعالى أن يدعوا الاتحاد بالحق سبحانه؟ هذا محال في حقهم رضي الله عنهم.
ويقول الإمام محيي الدين بن عربي في عقيدته الوسطى: «اعلم أن الله سبحانه واحد بإجماع، وقيام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد بشيء.»
ويقول في باب الأسرار من الفتوحات: «لا يجوز للعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا للعارف من هذا حاشاه.»
ويقول أيضا في لوائح الأنوار: «من كمال العرفان شهود عبد ورب، وكل عارف نفى شهود العبد في وقت ما فليس بعارف ، وإنما هو في ذلك الوقت صاحب حال، وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده.»
ويقول في الفتوحات: «لا حلول ولا اتحاد، فإن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول، ومن دينه معلول.»
ويقول في باب الأسرار: «أنت أنت، وهو هو، فإياك أن تقول كما قال العاشق: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، فهل قدر هذا أن يرد العين واحدة، لا والله، والجهل لا يتعقل حقا.»
وقال أيضا: «إياك أن تقول: أنا هو، وتغالط؛ فإنك لو كنت هو لأحطت به كما أحاط تعالى بنفسه.»
ثم يقول: «لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، والملك عن ملكيته ويتحد بخالقه تعالى؛ لصح انقلاب الحقائق، وخرج الإله عن كونه إلها، وصار الحق خلقا، والخلق حقا، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجبا، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبدا.»
ويقول الجنيد شيخ الطريقة في الرد على الفجرة الفسقة أصحاب وحدة الوجود: «إن هذا كلام من يقول بالإباحة. والسرقة والزنا عندنا أهون حالا ممن يقول بهذه المقالة.»
وسئل العارف الرباني الإمام سهل بن عبد الله التستري عن ذات الله - عز وجل - فقال: «ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهرا في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.»
ويقول أيضا مخاطبا الغرور البشري والوجود الإنساني: «يا مسكين، كان الله ولم تكن، ويكون الله ولا تكون، فلما كونك اليوم صرت تقول: أنا وأنا، كن الآن كما كنت قبل تكوينك، واعرف فاقة نفسك وحقارتها، ونزلها منزلتها من الذلة والاحتقار.»
ويقول الشعراني في المنن: «وبعضهم رأى أن كل شيء في الوجود هو الله، وأن عين هذا الوجود الحادث هو عين الله، من الجماد والنبات والعقارب والحيات، والجان والإنسان، والملك والشيطان، ويجعلون الخالق هو عين المخلوق من خسيس ونفيس، ومرجوم وملعون حتى إبليس. وهذا كلام لا يرضاه أهل الجنون، ولا من كان في حبه مجنون. والذي أقوله: إن إبليس لو ظهر ونسب إليه هذا المعتقد لتبرأ منه واستحى من الله تعالى، وإن كان هو الذي يلقي إلى نفوسهم ذلك.
وقد حكيت لسيدي علي الخواص بعض صفات هؤلاء الذين يقولون هذا القول فقال: هؤلاء زنادقة، وهم أنجس الطوائف؛ لأنهم لا يرون حسابا ولا عقابا، ولا جنة ولا نارا، ولا حلالا ولا حراما ولا آخرة، ولا لهم دين يرجعون إليه ولا معتقد يجتمعون عليه، وهم أخس من أن يذكروا؛ لأنهم خالفوا المعقولات والمنقولات والمعاني وسائر الأديان التي جاءت بها الرسل عن الله تعالى، ولا يعلم أحدا من طوائف الكفار اعتقد اعتقاد هؤلاء، فإن طائفة من النصارى قالت المسيح ابن الله، وكفرهم القوم الآخرون، وطائفة من اليهود قالت العزير ابن الله، وكفرهم القوم الآخرون، فلم يجعلوا الوجود عين الله تعالى.»
مقام الفناء وأخطاء الحلوليين
تلك هي كلمة التصوف في وحدة الوجود، ولعمري إنها لأقوى الكلمات الإسلامية دفعا لتلك النظرية الوثنية وهدما لها، وهي أعلى الكلمات الإسلامية استنكارا لهول ما تنطوي عليه من كفريات وإباحيات ملعونة مرجومة، حتى إن الشعراني ليقول: «إن إبليس نفسه - وهو ملهم الخبائث - لا يجرؤ على تلك القولة الملعونة، التي ارتكب أربابها أمرا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتخر الجبال هدا.»
1
ولسائل أن يسأل: فكيف إذن نسبت إلى التصوف أو إلى بعض المتصوفة؟ ومن أي باب أدخلها المغرضون ووثب بها الواثبون؟ ومن أي باب أيضا تسللت طوائف الإفك التي رمت التصوف أو بعض المتصوفة بالحلول والاتحاد؟
لقد تسلل المزيفون والمغرضون إلى المحراب الصوفي بذلك الإفك الأكبر ليطفئوا نوره، ويحطموا نبراسه متخذين - ومن عجب - آيته الكبرى؛ وهي المحبة أو مقام الفناء تكئة لأكاذيبهم الآثمة.
فالتصوف قوامه الذكر والعبادة، والتأمل والطاعة، وثمرته التجلي والمحبة، وما يلهم التجلي وما تعلم المحبة، وبين بدايته ونهايته أحوال ومقامات ومعارج ونفحات، سرها الترقي الدائم في صفاء القلب، وإلهامات الروح ، وإشراقات الحس.
وأول مقامات المتصوف المقبل على ربه، بل أول مقامات المؤمن العابد هو أن يعبد الله كأنه يراه، فإذا عبده تلك العبادة وتحقق بجلالها، فهل تظن أنه يرى سواه جل جلاله؟
يقول الشعراني: «ومن يقول لا موجود إلا الله، فذلك من مقام المريد المبتدئ؛ لأنه من شدة تعشقه في الطريق، وترحل قلبه عن محبة غير الله تعالى يصير قلبه محجوبا عن شهود الأكوان، كما يقع لصاحب المصيبة إذا مات له ولد، أو تلف له مال، فإنه من شدة المصيبة يصير يدخل الدار ويخرج ولا يرى صاحبه الجالس على بابه، فإذا سئل: هل رأيت فلانا؟ قال: لا، فإذا قيل له: لقد كان أمامك، قال: والله من شدة الهم ما رأيته.»
ثم يقول: «وليس مراد المبتدئ في الطريق أن ينفي وجود العالم كله كما يظن من لا علم له بأحوال أهل الطريق، بل مراده أن الله تعالى قد أخذ حبه بمجامع قلبه حتى حجبه عن شهود خلقه.
وإذا كان النساء اللاتي خرجن على يوسف - عليه السلام - ذهلن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بألم القطع، فكيف بذهول من تعلق قلبه بحب ربه وشاهد من آياته الكبرى؟!
وقد روى القشيري عن الشبلي أنه كان يزور في بداية أمره شيخه الحصري كل يوم جمعة، فقال له شيخه يوما: يا أبا بكر، إن خطر في بالك غير الله تعالى من الجمعة إلى الجمعة فلا تعد تأتينا؛ فإنه لا يجيء منك شيء.»
ذلك هو أدب الطريق الصوفي الذي يلقنه الشيوخ للمبتدئين؛ أن ينفوا الوجود عن قلوبهم، بل عن خواطرهم؛ لتمتلئ كل جوارحهم بذكر الله، وحب الله، وجلال الله.
تلك معنويات عليا يتذوقها المؤمنون العابدون، ولا شأن لها بما أراد المضللون الذين توهموا في هذا القول المنير وحدة الوجود، أو الاتحاد والحلول.
لم ينف المتصوفة بهذا القول الإيماني العظيم وجود الكون، ولم يتصوروا بل لم يجل بخواطرهم أن معنى ذلك وحدة أو حلول. إنهم قوم حجبتهم المحبة عما سوى الله فلم يروا في الكون سواه ، مسألة حسية وجدانية، ليس معناها أن الكون قد زال أو فني، وإنما معناها أن القلب المحب قد استغرقه جلال محبة الأعظم فلم ير إلا إياه.
يقول الشعراني: «أجمع أهل الحق على أن حقائق الأشياء ثابتة، فكيف يصح نفيها؟ إنما العبد يحجب عنها بما دهمه من الأمور العظيمة، قيل للشبلي: ما التوبة؟ قال: ألا تشهد في الدارين سواه؛ أي لا تشهد في الدارين خالقا أو ربا أو رازقا أو مؤثرا ومدبرا سواه، وإن شهدت ليس لأحد وساطة أو أثر في عمل ما؛ فلا تلتفت إلى ذلك.
وليس معنى هذا أن لا نشهد غير الله أصلا من جميع الأكوان؛ فإن ذلك لا يصح للمقربين، وذلك معنى قوله صلوات الله وسلامه عليه: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ... ... ...»
أي كالباطل من حيث إن كل شيء قائم بالله تعالى لا بنفسه، فإن شاء الله أبقاه، وإن شاء أذهبه في لمح البصر أو هو أقرب.»
ذلك فناء المبتدئين أو مقام المريدين أو حجاب السالكين في أول الطريق، يحجبون بحب الله عما سواه، أما الكمل السادة فقد ارتفعوا فوق تلك المعاني ولم يقفوا مع العقبات، بل رأوا الله - جل جلاله - ورءوا الكون أيضا، وذلك - كما يقول محيي الدين - أكمل ألوان العبادات.
يقول السراج الطوسي في اللمع: «غلطت جماعة من البغداديين في قولهم: إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق. وقد أضافوا أنفسهم بجهلهم إلى معنى يؤدي بهم إلى الحلول، أو إلى مقالة النصارى في المسيح - عليه السلام.»
فإن وجد في كلام الكمل من المتصوفة معنى الفناء في الله - جل شأنه - فالمعنى الصحيح المقصود من ذلك أن الإرادة للعبد، وهي من عند الله عطية، ومعنى خروج العبد من أوصافه والدخول في أوصاف الحق خروجه من إرادته ودخوله في إرادة الحق، وذلك منزل من منازل أهل التوحيد.
وأما الذين غلطوا في المعنى فإنما غلطوا بدقيقة خفيت عليهم حتى ظنوا أن أوصاف الحق هي الحق. وهذا كله كفر؛ لأن الله تعالى لا يحل في القلوب، ولكن يحل في القلوب الإيمان به، والتوحيد له، والتعظيم لذكره.
ثم يقول في اللمع أيضا متحدثا عن الفناء: «هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله.»
ويقول الهجوري واصفا الفناء: «بأنه فناء إرادة العبد في إرادة الله، لا فناء وجود العبد في وجود الله.»
ذلك هو الفيصل بين المتصوفة وخصومهم؛ فالفناء الصوفي هو فناء معنوي، لا فناء مادي كما توهم المتوهمون.
يقول القشيري في باب الفناء: «ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عينا ولا رسما ولا طللا يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق.»
ثم يقول: «وفناؤه عن نفسه وعن الخلق بزوال إحساسه بنفسه وبهم، فإذا فني عن الأفعال والأخلاق والأحوال، فلا يجوز أن يكون ما فني عنه من ذلك موجودا، وإذا قيل فني عن نفسه وعن الخلق، فنفسه موجودة والخلق موجودون، ولكنه لا علم له بهم ولا به. وقد نرى الرجل يدخل على ذي سلطان فيذهل عن نفسه وعن أهل مجلسه هيبة، حتى إذا سئل بعد خروجه من عنده عن أهل مجلسه لم يمكنه الإخبار بشيء.»
وهو فناء إجلال وحب إذن، لا فناء عين، فناء القلب المستغرق في أنوار الجلال الإلهي عما سواه.
ويروي الشعراني في الطبقات عن الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي وهو يشرح حال المراقبة: «والمراقبة لعبد راقب الحق بالحق، وتابع المصطفى
صلى الله عليه وسلم
في أفعاله وأخلاقه وآدابه. والله - عز وجل - قد خص أحبابه وخاصته بأن لا يكلهم في شيء من أحوالهم إلى نفوسهم ولا إلى غيره، فهم يراقبون الله تعالى ويسألونه أن يرعاهم.
والمراقبة تقتضي حال القرب، والله - عز وجل - قرب القلوب إليه بما هو قريب منها، فهو يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه، فانظر بماذا يقرب من قلبك.
وحال القرب يقتضي حال المحبة، وهي تتولد من نظر القلب إلى الله - عز وجل - وجلاله وعظمته، وعلمه وقدرته؛ فطوبى لمن شرب كأسا من محبته، وذاق نعيما من مناجاته، فامتلأ قلبه حبا، فطار بالله طربا، وهام به اشتياقا، ليس له سكن ولا مألوف سواه، فهو محب خرج من رؤية المحبة إلى المحبوب بفناء علم المحبة، من حيث كان له المحبوب في الغيب ولم يكن هو بالمحبة، فإذا خرج المحب إلى هذه النسبة كان محبا بلا علة.
والمحبة تقتضي الذكر، فلا يزال المحب يذكر ربه ويدخل الخلل في ذكره لنفسه حتى يصير الغالب عليه ذكر ربه، وصار كالغافل عن نفسه، ثم يغفل عن ذهوله عن نفسه، وينسى باستيلاء ذكر ربه عليه جميع الأحاسيس، فيقال: فني عن نفسه، ويقال: فني بربه. وهو هنا يكون مختطفا عن نفسه، ممحوا عن جملته، فانيا عن كله.»
سئل أبو يزيد عن عمره فقال: أربع سنوات، ويجيب البسطامي شارحا تلك الكلمة بقوله: «حجبت عن الله سبعين سنة، ولم أره إلا في السنوات الأربع الأخيرة، وعليه فالسبعون الأولى ليست من عمري.»
وهذا الشعور الكامل بالتجلي الإلهي والإحساس الصادق بالحب الرباني يزداد حتى يبلغ الحد الأعلى، فيذهب عن المحب وعيه، بل تكاد تذهب عنه بشريته، ليغدو جوهرا أو كالجوهر، وهي الحالة التي يعبرون عنها بالذوق والشرب والغيبة، ويجمع ذلك كله كلمة: الوجد.
ويعد المتصوفة الفناء في حالة الوجد نهاية سفرهم إلى ربهم، فيصبح الصوفي هنا في قمة فوق العالم؛ لأنه استغنى عنه.
وهذه هي حال البقاء، والإنسان فيها إنسان كامل. وهذا موقف لا مجال للقول فيه، أو كما يقول الغزالي: «يصل الإنسان إلى حالة يضيق نطاق النطق عن وصفها.»
مقام الفناء وابن تيمية
ومن عجيب أن مقام الفناء الذي اتهم فيه المتصوفة بوحدة الوجود تارة، والاتحاد والحلول تارة أخرى، مقام من صميم التوحيد الإسلامي، بل هو المقام الذي ترتكز عليه العبادات الربانية كافة، حتى إن ابن تيمية - وهو خصم التصوف الأكبر - ليخصص لشرحه في كتبه مكانا لم يخصصه لغيره من مواقف الفكر الإيماني.
يقول الإمام ابن تيمية في كتابه «العبودية»
1
متحدثا عن مقام الفناء؛ الفناء في المحبة الإلهية: «الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب من غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد أن لا أريد؛ أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية، وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه. وهذا معنى قولهم في قوله تعالى:
إلا من أتى الله بقلب سليم ، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد. وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره.»
ثم يتحدث ابن تيمية عن المقام الثاني في مقامات الفناء فيقول: «وأما النوع الثاني فهو الفناء عن شهود السوى، وهو يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولا يشعرون كما قيل في قوله تعالى:
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ، قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى.
وهكذا كثيرا ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور؛ إما حب وإما خوف وإما رجاء، يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا مما قد أحبه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن: وهي المخلوقات المبعدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل؛ وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى يضطرب في تميزه، فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر أن رجلا ألقى نفسه في اليم، فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت ، فما أوقعك خلفي ؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك إني.»
أليست تلك المقامات من حالات الفناء هي المقامات التي يرمى فيها المتصوفة بوحدة الوجود؟
يقول ابن تيمية خصم التصوف الأكبر: «فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد.»
وهل قال المتصوفة أكبر من هذا القول؟! ومن عجب أن ابن تيمية يهاجم التصوف والمتصوفة لأنهم يقولون: إنهم في نشوتهم الكبرى لا يرون إلا الله، ويذهلون عما سواه؛ أي نفس ما يقول ابن تيمية.
إنهم ليرون الله في كل شيء، ومع ذلك يوقنون بأنه سبحانه فوق كل شيء. وهذا أكمل درجات التوحيد.
ويقول ابن تيمية أيضا في مجموعة رسائله:
2
وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل. وهذا تشابه وتماثل لا اتحاد العين بالعين، إذا كان قد استغرق في محبوبه حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
غبت بك عني
فظننت أنك أني
فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ.
ويقول ابن تيمية أيضا في الرسائل: «روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي بقوله تعالى: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.» فقوله: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.» فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين.»
ويذكر أيضا ابن تيمية حديثا رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي، يقول الله تعالى: «عبدي، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي، جعت فلم تطعمني، فيقول: رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي.»
ولم أجد ردا على خصوم المتصوفة الذين هاجموهم في مقام الفناء، وتسللوا منه إلى اتهامهم بوحدة الوجود، وفكرة الاتحاد والحلول، أبلغ من هذا التفصيل الرائع لمقامات الفناء الذي كتبه ابن تيمية خصم التصوف الأكبر، والذي رمى المتصوفة بوحدة الوجود، وقذفهم بالاتحاد والحلول متخذا برهانه من كلامهم في الفناء والمحبة.
ولم أجد شاهدا أكبر دلالة مما استشهد به هو من القرآن الكريم
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ؛ أي فارغا مما سوى موسى.
وقلب المتصوفة لشدة حبهم لربهم أصبح فارغا مما سوى الله - جل جلاله - وربنا سبحانه أكبر وأعظم من أن يشبه بعبد من عباده، أو برسول من رسله.
وليقل بعد ذلك المغرضون ما شاءوا ...
جهاد الشعراني
السبحات الفلسفية والتصوف
لقد حمل الشعراني أعباء رسالة علمية إصلاحية ما أظن أن صوفيا سواه، بل لا أعتقد أن عالما من المفكرين الإسلاميين حمل مثلها، أو قام بشبيه لها.
تلك الرسالة هي التوفيق بين شتيت الآراء والمذاهب والأفكار الإسلامية، والتقريب بينها، بتنقيتها من التطرف، وإبعاد الدخلاء والزائفين عن ساحاتها، وباتخاذه دائما موقفا وسطا محددا كالصراط المستقيم.
عمل الشعراني على التوفيق بين الفقه والتصوف، أو بين الشريعة والحقيقة، كما يقال في الاصطلاح، وخصص لذلك الجانب الأكبر من دراساته وكتبه.
كما جاهد للتوفيق بين التصوف، وبين رجال الكلام والتوحيد، وأصحاب النظر العقلي من الفلاسفة والمتكلمين، يقول الشعراني في كتابه الميزان: «وحاولت المطابقة بين عقائد أهل الكشف وعقائد أهل الفكر حسب طاقتي، ولم يسبقني إلى ذلك أحد.»
وبذلك اتفق الشعراني مع الغزالي في ناحية، واختلف معه في الناحية الأخرى، فقد سعى الغزالي جاهدا من قبله للتوفيق بين الفقه والتصوف، ولكنه في الناحية الأخرى حارب الفلسفة بعنف وقسوة، لم يهادنها ولم يقبل معها تفاهما، ولم يرض لها حجة.
وبهذا الموقف الذي اتخذه الشعراني شعارا له؛ اضطر مكرها للمحاربة والصراع في كافة الميادين الفكرية والساحات العلمية.
فقد حارب الشعراني وحورب من أدعياء التصوف، من المجاذيب والبهاليل والدراويش، وكانوا أصحاب الجاه والسطوة في عهده.
كما حارب وحورب من الفقهاء المتزمتين الذين جمدوا على آراء وكتب أغرمت بالافتراض، وأولعت بالجدل والحوار، وملئت بكل غريب وشاذ، وحارب وحورب من رجال الكلام الذين ملئوا الدنيا صياحا وهتافا بأنهم وحدهم سدنة الإيمان وحجابه، وأن الإيمان الحقيقي الذي يقبله الله هو ما ابتكرته أقلامهم، وما اشترطوا له من قيود وسدود وحدود.
كما حارب الشعراني أيضا المتفلسفين من رجال التصوف، ونازلهم منازلة قاسية، حتى إننا لنراه أحيانا يهاجم محيي الدين، وهو المحب الأكبر والتلميذ الأمين لمحيي الدين، ويهاجم الغزالي مع إجلاله العظيم لحجة الإسلام، ويهاجم جمهرة من سادة المتصوفين القدامى مع احترامه لهم وتقديره. ولكن الشعراني يهدف لغاية أكبر من الحب والإجلال والتقدير للسابقين من المتصوفة، كان يهدف إلى حماية العقول العامية وأشباه العامية في عهده من صولة الآراء الصوفية، وهي صولة لا يعرفها إلا من ذاق وعرف، وهي صولة أكبر من أن تطيقها العقول الضعيفة، أو تحتملها القلوب الجامدة.
وعصر الشعراني كان لا يطيق تلك الصولة القوية للآراء الصوفية العليا، فعمل الشعراني للصالح العام، ولم يلق بالا إلى عواطف الحب والاحترام، فقام بهجومه الكبير القوي على كلمات التصوف المجنحة، وعباراته الرحيبة الأفق التي تحمل أكثر من معنى، وتؤدي إلى أكثر من غاية.
يقول الشعراني: وبالجملة فلا تحل قراءة كتب التوحيد الخاص وكتب العارفين إلا لعالم كامل، أو من سلك طريق القوم، وأما من لم يكن واحدا من هذين الرجلين فلا ينبغي له مطالعة شيء من ذلك؛ خوفا عليه من إدخال الشبه التي لا يكاد الفطن أن يخرج منها، فضلا عن غير الفطن.
ثم يقول: «ولكن من شأن النفس كثرة الفضول، ومحبة الخوض فيما لا يعنيها، وقد وضع بعض العلماء من السلف كتابا جمع فيه كثيرا من الكلمات التي ينطق بها العوام مما يؤدي إلى الكفر، وحذر فيه من النظر في جملة من الكتب، وقد حبب إلي أن أذكر لك طرفا من ذلك لتتجنب النطق به والنظر فيه، فأقول وبالله التوفيق: ومما يقع فيه كثير من الناس قولهم: يا من يرانا ولا نراه. وقولهم: يا ساكن هذه القبة الخضراء. وقولهم: سبحان من كان العلا مكانه. ونحو ذلك مما لا يجوز التلفظ به؛ لما يورث من الإبهام عند العوام، وأن لله تعالى مكانا خاصا، وإن قال هذا القائل: أردت بقولي «ولا نراه» عدم رؤيتنا له في الدنيا. قلنا له: قد أطلقت القول، والإطلاق في محل التفصيل خطأ. وقد أجمع أهل السنة على منع كل إطلاق لم ترد به الشريعة، سواء كان في حق الله تعالى، أو في حق أنبيائه، أو في حق دينه، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري يقول: «ما أطلق الشرع في حقه تعالى أو في حق أنبيائه أطلقناه، وما منع منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع نظرنا فيه، فإن أوهم ما يمتنع في حقه تعالى منعناه، وإن لم يوهم شيئا من ذلك رددناه إلى البراءة الأصلية، ولم نحكم فيه بمنع أو إباحة.» فقد اتفق الإمامان على منع كل إطلاق يوهم محظورا في حق الله تعالى، وتبعهما العلماء على ذلك قاطبة، وكذلك منع من يقول: ... يا دليل الحائرين، يا دليل من ليس له دليل، ونحو ذلك، وكله لم يرد به شيء.
وقد أجمع أهل الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات؛ كحديث ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، وقد بلغ بأحد الضالين أن يقول - وكان على المنبر فنزل درجا منه - وقال للناس: «ينزل ربكم عن كرسيه إلى سماء الدنيا كنزولي عن منبري هذا.» وهذا جهل ليس فوقه جهل.
ومما يمنع شرعا إطلاق بعضهم على الله تعالى: الخمار، والساقي، وراهب الدير، وصاحب الدير، وليلى، ولبنى، وسعدى، وأسماء، ودعد، وهند، والكنز الأكبر ونحو ذلك، وكذلك لا يجوز إجماعا إرادة ذاته تعالى بقول بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
وقول بعضهم:
تمازجت الحقائق بالمعاني
فصرنا واحدا روحا ومعنى
فكل هذا وأمثاله لا يجوز عند أهل السنة والجماعة، وقد سألت سيدي عليا الخواص عن التغزلات التي في كلام القوم: هل مرادهم بها الله تعالى؟ فقال: لا، إنما مرادهم بها الخلق، ولكن يفهم الفاهم منها في حق الحق ما يبعثه عند سماعها إلى الحضور مع الحق.
قال: لأن أولياء الله تعالى أعرف الخلق بالله تعالى بعد الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويجلون الحق تعالى عن أن يجعلوه محلا لتغزيلاتهم؛ فلذلك ضربوا الأمثال بالمحبين والمحبوبين من قيس ولبنى ونحو ذلك.
وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: ما في الوجود إلا الله، وقولهم: إن الله في قلوب العارفين. وإنما الصواب أن يقال: ما في الوجود في الأزل إلا الله، ومعرفة الله في قلوب العارفين، وإليه الإشارة بحديث: «وسعني قلب عبدي المؤمن.» أي وسع معرفتي من غير إحاطة بي، وكذلك مما ينبغي اجتنابه قولهم: هذا زمان سوء؛ لأن الزمان هو الدهر، والدهر هو الله، وكذلك قول بعض الخطباء: سبحان من لم يزل معبودا؛ لأنه عبد عند من لم يعلم كونه معبودا بالقوة؛ أي أهلا لأن يعبد؛ لأنه يوهم قدم العالم، وذلك كفر.
ومما يجب اجتنابه قولهم: يا قديم الزمان؛ لأن الرب لا يتقيد بالزمان؛ فهو كلام باطل، وكذلك قول بعضهم: كل ما يفعله الله خير؛ لإيهامه نفي وجود الشر في العالم، وأن كل ما يكسبه العبد من المعاصي خير، وكذلك قول: فلان يطلع على الغيب؛ لأنه يوهم باطلا، وإنما الأدب أن يقال: فلان له فراسة صادقة، أو كشف، أو اطلاع فقط؛ لئلا يزاحم الرسل في مقام العلم والقطع، فإنه ليس للأولياء إلا الظن الصادق فقط، الذي هو في اصطلاحهم عبارة عن الاعتقاد الصحيح الجازم المطابق للواقع فقط، وهذا الظن هو الذي يسمونه إلهاما وفتحا وكشفا.
وكذلك مما يجتنب قوله قول بعضهم: باعك الله، وأقالك الله، إذا اشتغل في البيع أو الإقالة؛ لأنه يوهم مذهب أهل الاتحاد، وذلك كفر.
قال الإمام العلامة عمر بن محمد الأشبيلي في كتابه المسمى «لحن العوام»: وليحذر من العمل بمواضع من كتاب «الإحياء» للغزالي، ومن كتاب «النفخ والتسوية» له، وغير ذلك من كتب القوم؛ فإنها إما مدسوسة عليه أو وضعها في أوائل أمره، ثم رجع عنها كما ذكر في كتابه «المنقذ من الضلال».
وكذلك يحذر من مواضع في كتاب «القوت » لأبي طالب المكي نحو قوله: الله تعالى قوت العالم، ومن مواضع في تفسير «مكي»، ومن مواضع كثيرة في كلام ابن ميسرة الحنبلي.»
ويعدد الشعراني كتبا كثيرة ثم يقول: «وليحذر أيضا من مطالعة كتب الشيخ محيي الدين بن عربي - رضي الله عنه - لعلو مراقيها، ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ، لا سيما «الفصوص» و«الفتوحات المكية»؛ فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه، عن الشيخ بدر الدين بن جماعة، أنه كان يقول: «جميع ما في كتب الشيخ محيي الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء مدسوس عليه، وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب القاموس».»
1
ويوالي الشعراني حملته الكبرى فيقول: «وليحذر أيضا من مطالعة كتب عبد الحق بن سبعين مما يوهم الحلول والاتحاد والتشبيه وأقوال الملحدين، ومنع بعضهم من سماع كلام سيدي عمر بن الفارض في التائية، والجمهور على جواز ذلك مع التأويل.»
ويختم الشعراني تلك الدراسة المؤمنة الصادقة التي يهدف بها إلى حماية العوام وأشباه العوام من صولة التصوف والمتصوفة بقوله: «فهذه عدة نصائح وتحذيرات قد سقتها إليك، فزنها بميزان الشرع، وعليك بمطالعة كتب الشريعة من حديث وتفسير وفقه، والاقتداء بأئمة الدين من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ومقلديهم من الفقهاء والمتكلمين، وإياك والاجتماع بهؤلاء الجماعة الذين تظاهروا بطريقة القوم.»
والشعراني وهو يهاجم التفلسف في التصوف، ويرفع الستار عن الدخيل والمدسوس على المتصوفة، لا ينسى أبدا رسالته كصوفي، ولا ينسى أن يكشف الستار عن حقائق العلم الصوفي الصادق الذي صدر عن وجد وحب، أو عن ذوق رفيع، واصطلاح صوفي يدق على من لم يتذوق ألحان القوم ومقاصدهم.
ولهذا فهو يعقب على حملته بدفاع حار عن أقطاب التصوف، وعن كلمات لهم أو اصطلاحات أولها الناس فخرجوا بالتأويل عن مقاصدهم وأهدافهم.
ومن هذا القبيل كلمة حجة الإسلام الغزالي المشهورة: ليس في الإمكان أبدع مما كان، والتي اتخذها ابن تيمية وسيلة لتجريح الغزالي والتهكم به، بدعوى أن في هذا القول ما يشبه الحجر على قدرة الله في الإبداع المستمر.
يقول الشعراني: كلمة الغزالي كلمة مؤمنة صادقة وإن جهلها خصومه؛ لأن جميع الممكنات أبرزها الله على صورة ما كانت في علمه تعالى القديم، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة، وفي القرآن الكريم
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
ودافع أيضا عن شيخه الأكبر محيي الدين بن عربي، وأوضح ما يريده من قوله في الفتوحات وغيرها: حدثني قلبي عن ربي، أو حدثني ربي عن قلبي، أو حدثني ربي عن نفسه تعالى بارتفاع الوسائط.
يقول الشعراني: ليس مراده أن الله تعالى كلمه كما كلم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإنما مراده أن الله تعالى يلهمه على لسان ملك الإلهام بتعريف ببعض أحوال، فهو من باب قوله
صلى الله عليه وسلم : «إن يكن في أمتي محدثون فعمر.»
ثم يقول الشعراني: ومما نقل عن القوم قولهم: اللوح المحفوظ هو قلب العارف، ليس مرادهم نفي اللوح المحفوظ، وإنما مرادهم أن قلب العارف إذا انجلى ارتسم فيه كل ما كتب في اللوح المحفوظ نظير المرآة إذا قابلها لوح مكتوب.
وقولهم أيضا: «دخلنا حضرة الله وخرجنا عن حضرة الله، ليس مرادهم بحضرة الله - عز وجل - مكانا خاصا معينا، فإن ذلك ربما يفهم منه التحيز للحق - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وإنما مرادهم بالحضرة حيث أطلقوها شهود أحدهم أنه بين يدي الله - عز وجل - فما دام يشهد أنه بين يدي ربه - عز وجل - فهو في حضرته، فإذا حجب خرج عن حضرته تعالى.» وللشعراني في هذا الباب إسهاب وتفصيل لم يسبق إليه.
وبذلك أنصف الشعراني التصوف الصادق بدفاعه الصادق، كما أنصف الحقيقة بهجومه على كل من شطح أو تفلسف فأوهم كلمه ما يخدش الإيمان، أو يتنافى مع حقائق الإحسان.
وكان الشعراني في الموقفين كعهده أبدا على الجادة الواضحة والصراط المستقيم والطريقة الوسطى.
بين الشعراني وأدعياء التصوف
فساد التصوف في عصره
خضعت مصر لحكم المماليك حقبة طويلة كانت فيها على غير فطرتها ونهجها التاريخي، فمصر منذ فجر التاريخ أمة مفكرة مؤمنة عابدة، فهي أول أمة اهتدت إلى التوحيد وعبدت الله - جل جلاله - على نوره، وهي أول أمة شيدت للعبادة وللروحانية أضخم وأجل ما عرفت الإنسانية من معابد وهياكل مقدسة.
وإلى مصر لجأت وعاشت وازدهرت اليهودية والمسيحية والإسلامية، وفي مصر عاش موسى وعيسى ويوسف وغيرهم من الأنبياء الذين قص الله سبحانه قصصهم في القرآن، وغيرهم ممن لم يقصص.
فالتاريخ الروحي لمصر تاريخ حافل، بل هو التاريخ الغالب، بل هو سرها التاريخي الذي أمدها دائما بالحيوية والقوة، وإذا فقدت مصر هذا السر يوما فقد فقدت روحها، أو بالتالي فقدت حياتها العزيزة الكريمة.
ثم هبط أرض مصر العنصر القوقازي، هبط أفراده أذلاء أرقاء، وما هي إلا دورة من دورات التاريخ حتى أصبح المماليك سادة مصر وحكامها، وأصبح عرش مصر نهبا لكل واثب بسيف، وصائل برمح، وضارب بسهم.
وأسس المماليك في مصر قوة حربية من أعظم القوى التي عرفها العالم الإسلامي، بل من أعظم القوى في تاريخ العسكرية العالمية.
ولكن المشاعل العلمية والمصابيح الإيمانية التي كانت تضيء لمصر، وتضيء من مصر للعالم، أخذ نورها يخبو في عهد المماليك، بل أخذ نورها يفنى ويتبدد وتخنقه الظلمات، فما كان من المماليك يوما من الأيام رجال فكر أو علم، وما كان لهم طاقة على العلم والفكر، وما كانت تصوراتهم عن الدين إلا تصورات جاهلة حمقاء، انحصرت في دائرة واحدة هي دائرة التعصب الحاد الأحمق للإسلام دون فهم له، أو استنارة بآدابه ونهجه.
وامتد حكم المماليك وطالت أيامه، فأخذت القبضة الفولاذية تضعف، وأخذ التناحر على الحكم بينهم يشتد ويعنف، وغدت مصر مرتعا لأقسى أنواع النهب والسلب، وأشد أنواع الظلم والاستبداد، فلم يعد هناك حصانة لمال أو عرض أو حياة، بل كل شيء للأقوى، ولا شيء أبدا للضعيف العاجز.
وانعزلت مصر عن العالم، وأقيم بينها وبين الحضارات العالمية سدود وقيود، وبعدت مصر عن ينابيع الهدى الإيماني الإسلامي، فقامت دولة الخرافة والأسطورة، وساد العصر الذي يسمى بحق عصر الدراويش، أو دولة الأولياء الكاذبين، وهو العصر الذي لا تزال بقاياه تشاهد في بعض مواكب رجال الطرق الصوفية التي تذرع ريف مصر بطبولها الساذجة، وأعلامها الممزقة، وأهدافها الأسطورية البدائية.
العصر الذي لا تزال بقاياه تشاهد في تلك المهازل التي تحف بأضرحة الأولياء في القاهرة وعواصم المدن، المهازل التي يسمى أصحابها بالدراويش والمجاذيب، وضاربي الرمل، وكاشفي الغيب، وصانعي المعجزات!
ومن عجب أن الدين الإسلامي - وهو الذي ابتعث البدو الأميين من صحاريهم ليكونوا هداة عالميين في ساحات العلم والحضارة، وما إلى العلم والحضارة، وقوادا فاتحين في ميادين الحرب والجهاد، وما إلى الحرب والجهاد - قد تحول في مصر في أواخر عهد المماليك، أو حوله أصحابه إلى مجموعة ضخمة هائلة من البدع والخرافات والأساطير الذليلة، إلى مجموعة ضخمة هائلة من الغموض والإبهام، والتحلل من الأخلاق، والتمرد على الآداب، والشعوذة السمجة الوقحة.
وتستر الدجالون والمشعوذون والمتحللون وراء التصوف يتخذونه شعارا ودثارا وحماية لهم، وباسم هذا التصوف الزائف ارتكبت أشنع الجرائم ضد الدين، ونهبت الأموال، وهتكت الأعراض، وهدمت الفرائض، وأهدرت الآداب.
وبعد أن كانت علة التصوف في عصور الارتفاع العلمي هي السبحات الفلسفية التي دست عليه، وتسربت إلى مجراه من الفلسفات العالمية المحيطة به، أصبحت علة التصوف هي تلك العامية المتحللة من الأخلاق، المتهالكة على الشهوات، المهدرة لكل المقدسات.
حتى رأينا من يخطب على المنابر عاريا، ويخطب في الناس قائلا: «السلطان ودمياط وباب اللوق وبين الصورين وجامع طولون والحمد لله رب العالمين.» فيحصل للناس بسط عظيم فيما يرويه رجال التاريخ.
1
ومن يقرأ ما يزعم أنه قرآن كريم مترنما على طريقة قراءة القرآن: «وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا، وما لنا من ناصرين.»
2
ثم يعقب على ذلك قائلا: «اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان.»
ويعقب الشعراني على ترجمته قائلا: «ولم أسمع أحدا ينكر عليه شيئا من حاله، بل يعدون رؤيته عيدا عندهم.»
وجاء الشعراني كما يجيء المطر للأرض المجدبة التي يريد الله أن يبعثها ويحييها لينفع بها عباده.
جاء الشعراني في اللحظة الحاسمة التي يهبها الله - جل جلاله - لخلقه لتكون فاصلا بين عهدين، وفيصلا بين فكرتين، وبداية لصفحة جديدة، وحياة جديدة .
جاء الشعراني فرأى أمة تسبح في الظلمات، ورأى دولة الدراويش، دولة الإقطاع الروحي تمرح في الشهوات، وشاهد مدعي الولاية الكاذبين، ومتزعمي الطرق الصوفية المضللين، وليس فيهم أو بينهم مصباح واحد يرسل شعاعا من نوره ليهدي الحيارى إلى الله.
فأوقف قلمه ولسانه وعقله وحياته على الجهاد الأكبر لتطهير المحراب الصوفي من الدجل والشعوذة، وتحويل التيار الأعظم المندفع إلى الهاوية إلى الجادة المستقيمة الواضحة.
ولم تكن الرسالة هينة، ولم تكن الغاية مأمونة السبل؛ فالطريق شاق مهلك تقوم فيه الأشواك، وتعمره الأهوال، وتغمره الزلازل والمتاعب.
والشعراني لم يكن في مناعة من حياته، بل كانت تنوشه أقلام الفقهاء وألسنتهم؛ فقد جاء مزلزلا لمكانتهم، محطما لصولتهم، وتخدشه أنياب رجال الكلام وأظفارهم، فهو معهم في معركة لم يهدأ أوارها بعد، ويرمقه رجال الحكم والولاة بعين الحذر والغضب، فهو دائما ينازعهم الأمر، منتصرا للضعفاء ومن في حكم الضعفاء من أصحاب الحاجات وما أكثرهم.
والصيحات تأخذه من كل جانب، ولمحترفي التصوف دولة، ولزعمائهم صولة ومكانة شعبية لا تسامى ولا تضارع.
ولكن الشعراني رغم سياسته التي سنعرض لها بعد، ورغم ليونة قلمه في جداله مع الفقهاء، وحواره مع رجال التوحيد والكلام، لم تزلزله الأهوال التي تحف به، بل تقدم إلى المعركة الكبرى عنيفا قاسيا على غير عادته؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه ينازل فئة هي أخطر على الإسلام ومقدساته من كل خصم وعدو، تقدم ليحطم الهيكل المدنس على عباده، وليقوض الصرح الظالم على اللائذين به، والملتجئين إليه.
ثم ليبني على الأنقاض صرح الإيمان الصادق، وهيكل التصوف الذي هو قمة الإيمان، وخلاصة الدين، ونوره الوضاء المبين.
وفي سبيل هذه الغاية المقدسة ألف الشعراني كتابه العظيم «المنن»، لا ليتحدث عن نفسه، ولا ليباهي بأخلاقه وأعماله ومقاماته، كما ظن بعض المستشرقين والسائرين تحت ألويتهم من كتابنا المحدثين، ولكن ليضع أمام أدعياء التصوف، وليضع أمام الأمة الإسلامية التي خدعت في هؤلاء الأدعياء المثل العليا للأخلاق المحمدية، والمثل العليا للآداب الربانية، فقد كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - خلقه القرآن، كما تقول السيدة عائشة - رضوان الله عليها - وكل متصوف صادق هو على سنن نبيه العظيم، وعلى هدي رسوله الكريم
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .
و«المنن» من الناحية الموضعية أعظم كتاب أخلاقي في تاريخ العربية، بل لعله أعظم كتاب للمثاليات الإيمانية الصوفية في تاريخ التعبد الإسلامي.
فلقد رسم الشعراني في كتابه الفذ الخطوط العليا العريضة للآداب الإسلامية من وجدانية ونفسية وعملية، كما رسم الخطوط العريضة الواضحة لما يقابلها من سيئات منحدرة هابطة إلى أسفل، وما يحف بها من شهوات، وما يلوذ بها من أحقاد النفس، ووساوس القلب، وما يعترك في الطبع الإنساني من غل وحسد وشهوات.
فالمنن إذن من الناحية الفنية فيصلا مبينا بين التصوف الصادق الذي يرتكز على الخلق المحمدي، وبين أدعياء التصوف الهابطين بأخلاقهم وأعمالهم إلى ما ينكره الإسلام، ويبرأ منه الإيمان، ولا يرضى عنه الخلق الكريم.
ولا يضير الشعراني أنه عمد في بعض فصول هذا الكتاب إلى ما يشبه الأسلوب العامي، أو الوعظ القصصي؛ فلقد هدف الشعراني منذ خط السطر الأول في هذا الكتاب إلى مخاطبة الجماهير العامة في عصره، وهي الجماهير التي ضللها أدعياء التصوف، وعبث بها الإقطاعيون الروحانيون.
والجماهير العامة في كل الأمم، وفي عصر الشعراني خاصة، لا يصلح لها سوى هذا الأسلوب السهل الرقراق، وسوى هذا اللون من الإرشاد والتوجيه المبين الواضح القريب من القلوب والأرواح.
بل لعل هذا اللون من البيان الذي يشبه الدردشة الكلامية هو الأسلوب الحكيم الذي لا أسلوب سواه يصلح للغاية التي هدف إليها الشعراني، ورسم خطوطها، وحدد أهدافها.
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «فهذه جملة من النعم والأخلاق التي تفضل الحق تعالى بها علي أوائل دخولي في محبة طريق القوم - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كان الباعث لي على تأليفها ورقمها في هذه الطروس أمورا؛ أحدها: ليقتدي بي إخواني فيها، وكنت آمرهم بالتخلق بها فلا يسمعون، فقال لي يوما جماعة منهم: هذه الأخلاق التي تأمرنا بها لا نجد أحدا تخلق بها من أهل عصرنا حتى تقتدي به فيها ، فاستخرت الله تعالى وأظهرت لهم تخلقي بها، فاتبعوني عليها وما بقي لكم حجة في ترك التخلق بها، فلولا ذلك لربما كان الكتمان لها أولى.»
علم الشعراني أن الأخلاق العالية لا بد أن يكون لها رمز تتمثل فيه؛ لتشاهدها الأعين حية متحركة قائمة بين الناس، وعلم أن أصحابه وأهل عصره لا يمكن أن يتحملوا تلك الثورة الإيمانية التي يبشر بها، ويحمل أعلامها، فرمز لهذه الأخلاق بنفسه. هذه الأخلاق التي قال معاصروه عنها إنهم لم يروا أحدا متخلقا بها.
وليس معنى هذا أن الشعراني كان بعيدا عن هذه الأخلاق، أو كان مدعيا في نسبتها إلى نفسه، ولكننا قصدنا أنه صاغها على نفسه؛ ليكون وقعها في معاصريه أكمل وأتم.
وفي سبيل هذه الغاية العليا أيضا ألف الشعراني كتابه الفريد البديع «لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية».
والعهود المحمدية التي عناها الشعراني هي خلاصة الدين الرباني، أو صفوة الأخلاق المحمدية، وكل أخلاقه - صلوات الله وسلامه عليه - صفوة.
ولقد وضع الشعراني هذا الكتاب ليظهر الفرق الشاسع بين أخلاق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو المثل الأعلى لكل مسلم، وهو الإمام الأكبر لكل صوفي، وبين أخلاق الشيوخ المتصدرين لقيادة مواكب التصوف الزائف حتى يحصص الحق، وينبلج الصبح المنير، ويتبين كل من ينشد الهدى، هل هؤلاء الشيوخ المتصدرون لقيادة التصوف أدعياء جهلة أم مؤمنون بررة؟
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «هذا كتاب نفيس لم يسبقني أحد إلى وضع مثاله، ولا أظن أحدا نسج على منواله، ضمنته جميع العهود التي بلغتني عن رسول الله من فعل المأمورات وترك المنهيات.
وكان الباعث لي على تأليفه ما رأيته من كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم، ولم أر أحدا منهم يفتش على ما نقص من أمور دينه إلا قليلا، فأخذتني الغيرة الإيمانية عليهم وعلى دينهم، فوضعت لهم هذا الكتاب المنبه لكل إنسان على ما نقص من أمور دينه، فمن أراد من الإخوان أن يعرف ما ذهب من دينه؛ فلينظر في أي عهد ذكرته له في هذا الكتاب، ويتأمل نفسه ، يعرف يقينا ما أخل به من أحكام دينه؛ فيأخذ في التدارك أو الندم والاستغفار.
ثم اعلم يا أخي أن طريق العمل بالكتاب والسنة قد توعرت في هذا الزمان، وعز سالكها، لأمور عرضت في الطريق يطول شرحها، حتى صار الإنسان يرى الأخلاق المحمدية فلا يقدر على الوصول إلى التخلق بشيء منها؛ فلذلك كنت أقول في غالب عهود الكتاب. وهذا العهد يحتاج من يعمل به إلى شيخ يسلك به الطريق، ويزيل من طريقه الموانع.»
وفي سبيل الغاية التي رسمها الشعراني، وهي الثورة على أدعياء التصوف، ورسم المثل العليا للتصوف الصادق القائم على الكتاب والسنة، ألف كتابه الصوفي الرائع «الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية»، خصصه لتوضيح المناهج الصوفية النقية، والصلات التي تربط الشيخ بالمريد والمريد بالشيخ، والآداب الواجبة على كل منهما، كما شرح فيه معاني الإلهام الصوفي، ودقائق ورقائق الطريق الرباني، وما فيه من أنوار، وما تتطلبه تلك الأنوار من آداب وأخلاق؛ لأن النور ثمرة الخلق، والإلهام ثمرة العبادة الصادقة والطاعة المؤمنة.
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «وقد سألني بعض الفقراء «الصوفية» من الإخوان - نفع الله بهم - أن أملي جملة من آداب العبودية، آداب الفقراء عموما وخصوصا، وما يدخل على كل طائفة من الدسائس في مقاصدهم؛ لأن الشيطان لهم بالمرصاد، ولا ينجو منه إلا القليل من عباد الله.»
ولم نذكر هذه الكتب الثلاثة على سبيل الحصر، وإنما ذكرناها على سبيل الرمز والمثال، فالحقيقة أن كل كتب الشعراني التي أربت على المائة لم تخل من هذا التوجيه، ولم تخل من هذا اللون من التوضيح والإرشاد.
هذا هو جانب البناء في صراع الشعراني مع أدعياء التصوف. أما الجانب الآخر فهو الصراع العنيف المر، والمعركة القاسية التي خاض الشعراني غمارها في وجه العاصفة، ويا لها من عاصفة!
فقد روت لنا كتب المناقب أن مصر حفلت في عصر الشعراني بطوائف من الدراويش يخطئهم العدد، واكتظت الشوارع والطرق بمواكبهم، والبيوت بولائمهم، والزوايا والمساجد باجتماعاتهم، وانتشر الشيوخ والأتباع في الريف والحضر، وتغلغلوا في المدن والقرى، وامتد سلطانهم إلى كافة طوائف الشعب، وأضحى المتصوفة فوق القانون، وفوق العرف، وفوق الدين، واقتسموا بينهم مناطق مصر، فاستولى كل ولي على مساحة من الأرض يتصرف في أهلها، ويستغل مواردها.
وكان على الشعب أن يكفلهم ويقوم بحاجتهم، وينظم لهم الموالد والولائم، وقد كان من أظهر مميزات التصوف في هذا العصر تحوله من ظاهرة وجدانية فردية إلى ظاهرة اجتماعية، تتمثل في حياة أتباعه في رحاب الزوايا والتكايا، حيث يعيشون مع زوجاتهم من فيض الأوقاف الضخمة التي تحبس عليهم، والأرزاق التي تجري من أجلهم، وكانت هذه العطايا من الكثرة بحيث أحالت زهدهم رخاء، وتقشفهم ترفا، وكان المتصوف إذا خرج إلى الشارع، أو سار في الأسواق تهافت عليه الناس، وتكاثر حوله عديدهم، وسدوا طريقه، وانهالوا على يديه وقدميه تقبيلا ولثما؛ تقربا إلى الله وزلفى ...
3
ويروي لنا الشعراني من أخلاق هذه الطائفة القوية السائدة عجبا أي عجب، لا نكاد نتصوره في عهدنا مع أنه كان اللون الغالب السائد في عصر الشعراني في دولة المجاذيب والدراويش.
كان الجهل الفاضح، والتحلل الشائن من الدين، بل التمرد على الدين هو طابع الشيخ والمريد في هذا العصر.
يروي لنا الشعراني في معرض الحديث عن جهالة مشايخ الأحمدية والبرهامية في عصره، أنه سأل واحدا منهم عن قواعد الإيمان فقال: لا أدري، فسأله عن فرائض الوضوء، فقال: لا أدري! فسأله عن شروط الصلاة، فقال: لا أدري!
ويقول الشعراني معلقا على هذا: «مع أنه شيخ كبير في زاوية يأخذ العهد ويتصدر الوعظ.»
4
ويحدثنا الشعراني عن شيخ كبير من هؤلاء الشيوخ جاء لزيارة الشعراني، فسأله الشعراني عن بعض مسائل في الدين، فصرح مفاخرا بأنه لم يقرأ في العلم شيئا؛ لأنه يحتقر العلم، ولا يعرف عن شروط الصلاة والوضوء كثيرا ولا قليلا؛ لأنه فوق العبادات.
5
ويروي لنا المناوي في طبقاته الكبرى أن زعامة التصوف قد آلت بعد الفتح العثماني إلى رجلين يمثلان المعسكرين: معسكر التصوف العلمي الرباني، ومعسكر الأدعياء الجهلة، هما: الشعراني، ومحمد كريم الخلوتي.
ثم يقص علينا المناوي قصة اللقاء بين الرجلين الزعيمين.
قال المناوي: «سأل الشعراني الخلوتي عن مسألة في الوضوء، فأعلن هذا جهله بها رغم زعامته، ورغم ما أصاب من شهرة بين الناس والأمراء، فقال له الشعراني: إنك لا تصير صوفيا بغير علم، فقال الخلوتي: علمني، فشرع الشعراني في تعليمه، ثم زاره مرة ثانية ليواصل تعليمه، فأغلق هذا باب زاويته في وجهه، فعاد مرة ثالثة عسى أن يتمكن من تعليمه، فأساء الخلوتي استقباله وأغلق الباب في وجهه، وقال لمريديه ساخرا: إن الشيخ الشعراني طلب أن يجعلني فقيها وأنا صوفي، قال الشعراني: ففهمت من كلامه أنه اعتقد أني دعوته إلى أمر فيه نقص. وقد أخذ الخلوتي ومريدوه يهزءون بالشعراني ويقولون: إنه يريد أن يجعلنا فقهاء مثله.»
6
ويصف لنا الأستاذ «إدوار لين»، الذي زار مصر بعد انقضاء العصر العثماني بنيف وعشرين عاما، في كتابه القيم عن مصر خلال هذا العهد، زعماء التصوف في هذا العصر وصفا عجبا، يقول: «ومعظم الأولياء المعروفين في مصر مجانين أو مخابيل أو دجالون، يسير بعضهم في الشوارع عاريا كامل العري، فيلقى من الناس كل الاحترام والتوقير، حتى إن النساء لا يتجنبن الاتصال بهم، بل يؤذن لهؤلاء الجبناء أحيانا بأن يكونوا معهن على قارعة الطريق أحرارا كاملي الحرية، ولا يعتبر هذا في عرف الطبقة الدنيا من الشعب معرة ولا منقصة، بل هم يؤولون ما يشاهدون، وما أعجب تأويلهم!»
7
هذا موقف الشيوخ والزعماء. أما موقف المريدين والأتباع فيكفي أن نقول: إن أحدهم احتاج إلى المال في تزويج ابنة له، فمضى إلى أحد التجار ملتمسا قرضا في نظير رهينة من شعر أخذه من رأس شيخه، فقال له التاجر ساخرا متهكما: لو أعطيتني إردبا من شعر شيخك ما أخذته بدانق.
ولم يحزن المريد لحرمانه من المال، بل كان حزنه الأكبر لسخرية الناس من شعر شيخه المقدس الذي لا يقدر بمال!
رأى الشعراني ذلك البلاء المحيط بالأمة الإسلامية في مصر، فسدد قلمه وأرسل لسانه في ثورة ملتهبة وحملة صادقة تجتث أصول هذا البلاء، وتحطم صرح هذا البهتان.
وأخذ الشعراني ينقض دعاوى تلك الطوائف متعقبا لخطاها، مترصدا لحركاتها، مدللا بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على مروقهم من الدين، وبراءتهم من الإيمان.
وأفتى الشعراني فيما أفتى بأن الأحمدية والرفاعية والبسطامية والأدهمية والمسلمية والدسوقية في عهده خارجون على شريعة الله؛ لأن أفعالهم يكذبها طريق شيوخهم السابقين، كما يكذبها الكتاب والسنة، وهما أصل الإسلام وبرهانه المبين.
وتعقب الشعراني شيوخ عهده شيخا فشيخا، مظهرا جهلهم بل كفرهم وسوء أدبهم، وأنهم أضل من الأنعام، وأن طريق التصوف - وهو الطهارة الكاملة والزهد الشامل - قد أصبح على أيديهم طريقا إلى الشحاذة والتسول، وهان حتى في أعين الطغام كما يقول.
ثم وضع الشعراني رسالته «ردع الفقراء عن دعوى الولاية الكبرى»، فكانت السهم الأكبر، هاجم بها مدعي الولاية زورا وبهتانا، ومحترفي التصوف كذبا ونفاقا، قائلا: إنهم يقنعون بلبس الزي، فإن سألت شيخا منهم عن قواعد الإيمان قال: لا أدري، أو فرائض الوضوء قال: لا أدري، ولا يعترف الإسلام بإسلام من يجهل قواعد دينه، فضلا عن أن يكون شيخا أو مرشدا.
وألف الشعراني كتبه الكبرى: تنبيه المغترين، والمنن الكبرى، والعهود المحمدية، والأنوار القدسية، وقواعد الصوفية؛ ليجلو الأخلاق الصوفية المثالية التي عرفها التصوف الصادق، وليظهر الفرق البعيد بينه وبين مواكب المتصوفين المرتزقة الزائفين، الذين لعنوا أينما ثقفوا، وباءوا بغضب من الله وبراءة من الرسول.
موقف الشعراني من المتصوفة العاطلين
وقد جر هذا اللون من التصوف الكاذب على الحياة الاجتماعية في مصر نكبات نالت من اقتصادياتها وعزائم بنيها، وأثرت في مكانتها الدولية.
فلقد كانت البطالة والتعطل من المبادئ العامة المحترمة المعترف بها في بيئات متصوفة هذا العصر.
فكل من تزيا بزي المتصوفة ترك العمل وانقطع إلى الزاوية أو التكية الخاصة بشيخه، ورأى أن من حقه على الناس أن يطعموه، وأن يقوموا بمعاشه، بل وبمعاش أسرته أيضا.
وقبلت الجماهير المصرية من هؤلاء الدراويش هذا الوضع، بل اعتبروا تقديم الطعام والملبس، وما إلى الطعام والملبس، إليهم واجبا يحتمه الدين عليهم.
وللكسب والعمل في الإسلام مكانة لا يضارعها إلا الجهاد في سبيل الله. مر على النبي - صلوات الله وسلامه عليه - رجل ، فرأى أصحاب الرسول من جلده ونشاطه في الكسب والارتزاق ما جعلهم يتحدثون فيه قالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال صلوات الله عليه: «إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين كبيرين فهو في سبيل الله.»
وعاد بعض صحابة رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - من سفر، فأخذوا يحدثون الرسول عن رجل كان معهم كثير العبادة، كثير الصلاة، كثير الصوم، متفرغا أبدا لتقواه، فقال لهم النبي: من كان يقوم به في معيشته؟ قالوا: أخوه، قال: أخوه أعبد منه.
ذلك هو منطق الإسلام، ولكن أدعياء التصوف أبدلوه ونقضوه كما أبدلوا ونقضوا كل عرى الإسلام.
وأدرك الشعراني خطورة هذا الأمر على الفكرة الإسلامية، وعلى الناحية الاقتصادية في الأمة الإسلامية، فخصص جانبا كبيرا من حملته على أدعياء التصوف لتلك النقطة الخطيرة.
دعا الشعراني إلى الجمع بين العبادة والعمل باعتبارهما دعامة الحياة، وساق الأدلة التاريخية على حرص كبار الصالحين من أهل التصوف على تجنب العيش على صدقات المحسنين.
وفضل الشعراني الصناع على العباد؛ لأن هؤلاء يساهمون في نفع الناس بينما العبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وكان يقول: ما أجمل أن يجعل الخياط مثلا إبرته سبحته، وأن يجعل النجار منشاره سبحته! ذلك هو التسبيح النافع المقبول.
بل لقد آثر الشعراني في دعوته حياة البدن على حياة الروح؛ لأن هذه قد تفرعت عن حياة الجسم، وهي تتأثر بما يعتريه من وجوه العسر واليسر؛ حتى ليفضي الضنك إلى تشتت الفكر وبلبلة الخاطر؛ ولذلك كان أبو حنيفة يقول: لا تستشر من ليس في بيته دقيق.
ويصرح الشعراني بأن ترك الكسب بالعمل المشروع والتماس الرزق عند المحسنين كدأب متصوفة عصره جهل بمقام التوكل الصحيح.
1
ومن الجهالة - كما يقول الشعراني - ذم الدنيا إطلاقا، وآفة الدنيا النساء والمال والجاه والولد، ولكن الكامل لا يهرب من هذه الآفات، بل يستوعب حبها جميعا؛ لأن دنيا العارف في يده وليست في قلبه.
ومن هنا كان النكاح - كما يقول الشعراني - عبادة، بل النكاح عنده أعظم النوافل التي تدني الإنسان من ربه، وتهيئه لتلقي العلم اللدني.
والزهد عند الكمل - كما يقول الشعراني - لا يكون عن خلو اليد من متاع الدنيا، وإنما يكون بخلو القلب مع امتلاء اليد، وكمال المقام في زهد القلب لا يتحقق بغير الزهد فيما يملك الإنسان التصرف فيه من غير مانع. أما الزهد مع خلو اليد، فربما كان مصدره الإملاق؛ ولهذا قيل شرط الداعي إلى الله ألا يكون كامل التجرد من دنياه.
وهذا بالإضافة إلى أن مثل هذا الإملاق يحوج صاحبه إلى سؤال الناس بالحال أو بالمقال، وبهذا يهون في نفوسهم أمره، ويضعف عندهم تأثير تعاليمه، وعلى الضد من ذلك إن كان صاحب مال يفيض عن حياته، فينفق منه على مريديه وغيرهم من المحتاجين.
2
وتلك رحابة أفق من الشعراني في فهم الدنيا، وتصور رسالة العابد الزاهد فيها قلما نجد لها مثيلا في تفكير رجال الدين.
ذلك موقف الشعراني من أدعياء التصوف، وليس معنى هذا أن هؤلاء الأدعياء وهم قوة ضخمة فعالة في المجتمع المصري قد استكانوا لحملة الشعراني، وألقوا السلاح أمامها بغير حرب ولا قتال.
لقد هاجموا الشعراني بكل سلاح، واعتدوا عليه، وتربصوا به الدوائر، وملئوا الدنيا هتافا وصياحا بالتشهير به، والحملة عليه، بل أرصدوا له من يقتله غيلة وغدرا.
وقد أشار المناوي والشبلي إلى التعاون الذي قام سرا بين هؤلاء المتصوفة وبين الفقهاء ضد الشعراني، في مؤامرة الأزهر الكبرى، التي اتهم فيها الشعراني بالكفر، كما سيأتي بيانه عند الحديث عن صراعه مع الفقهاء.
ولقد تحطمت حملات أدعياء التصوف على الشعراني؛ لأنها صادفت لدى الشعراني قوة إيمانية لا تغالب، وقوة علمية لا تصاول، وقوة نفسية لا تسمو إليها الأحداث، حتى ليهتف الشعراني واثقا بنفسه: «اللهم افضحنا ولا تسترنا حتى يتميز الخبيث من الطيب.» وهي كلمة لا يجرؤ على قولها إلا رجل أي رجل.
رجل يعلم ما هو عمله، وما هي مكانته. وإنه عمل لا تلحق به الشوائب، وإنها مكانة لا تدنو منها الشبهات.
بينما أدت حملة الشعراني إلى القضاء على نفوذ هؤلاء الشيوخ الجهلة الأدعياء، كما أثمرت حركة صوفية صالحة صادقة عالمة مبصرة.
حركة تصفها كتب التاريخ والمناقب بأنها عادت بالتصوف إلى عصوره الأولى، إيمانا وزهدا، ومعرفة وعلما ونورا يرشد المسلمين إلى أنبل ما في الحياة من أخلاقيات ومثاليات.
وحسب الشعراني هذه الرسالة وحدها، فبمثلها يخلد العلماء المجاهدون مع أنها كانت جزءا من حياته، ولم تكن كل رسالته.
الشعراني وفقهاء الأزهر
الصراع بين الفقه والتصوف
الفقه والتصوف صورتان من صور النشاط العلمي في التفكير الإسلامي، ووجهان من أوجه التشريع والأخلاق في المجال الروحي للرسالة المحمدية، ومع هذا فالخصومة بينهما تقليدية تاريخية منذ عرف الناس التصوف والفقه.
ولقد كان الفقيه في صدر الإسلام هو النموذج الكامل للرجل الكامل في الإسلام، كان الفقيه هو العابد الزاهد المجاهد، المجاهر بكلمة الحق، القائم على الجادة يرشد الناس بعلمه وعمله، ويأخذهم بأيديهم إلى ما يرضي الله، وإلى ما شرع الله، وإلى ما فيه خير الأمة الإسلامية، والمجموعة البشرية كافة، وبذلك كان الفقيه والصوفي شيئا واحدا، وكان التصوف والفقه اسمين لعلم مشترك.
كان الفقيه هكذا يوم كان الفقه هو روح الإسلام وجوهر الرسالة المحمدية، يوم كان الفقه تشريعا وخلقا، وعلما وعملا، يوم كان الفقه لا يعرف الحيل الشرعية ولا التفريعات الافتراضية الشاذة، ولا ألاعيب الألفاظ التي تقتنص الرخص، وتستهدف الغلبة في ميادين الجدل والحوار.
ثم أخذ الفقه الذي نعرفه اليوم يتكون شيئا فشيئا، بل أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن أخلاقياته ومثالياته وصفائه الأول، وأخذت ملامحه تتبدل وتتغير وتتلون بألوان الثقافات التي تسربت إليه، وتقنعت به، وتسترت وراء تشريعاته.
فغدا الفقه علما أكثر منه عملا، وأصبح كتابا للعقول أكثر منه مادة وتوجيها للقلوب، بل أصبح وسيلة للحياة، وسلما لمناصبها وزخرفها.
وبذلك خلع الفقيه أردية العباد ليرتدي أزياء رجال القانون، وترك محاريب التقوى ليحتل مناصب الدنيا، وأعرض عن الأخلاقيات والمثاليات ليسبح مع السابحين، وليثب مع الواثبين إلى لمع الجاه ومتاع الحياة، وما تزخر به الدنيا من مفاتن ومباهج.
ومن هنا انفصل الفقه عن التصوف، أو انفصل المتصوفة عن الفقهاء، واختلفا طريقا ونهجا، وغاية وهدفا.
يقول ابن خلدون في مقدمته متحدثا عن نشأة التصوف وعن سمات أصحابه: «وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، ولما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على الله باسم الصوفية.»
اختص المتصوفة - بشهادة الكاتب الكبير ابن خلدون - بالأخلاق الإسلامية التي كان عليها الصحابة - رضوان الله عليهم - وبالإقبال على الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يتنافس فيه الناس، بل فيما يتقاتل عليه القطيع العام من البشرية.
واختص المتصوفة أيضا بأنهم ربطوا بين العلم والعمل؛ فالفقيه عندهم هو العالم العابد، هو الذي ينبع إيمانه من قلبه لا من عقله، هو الذي يطابق عمله علمه؛ لأن العقيدة هي العمل، ولأن التعبد شرط العلم الديني.
كما امتاز المتصوفة بابتعادهم عن الجدليات اللفظية، والتفريعات الافتراضية التي تباعد بين المسلم وجوهر دينه، والتي تشغل العقل الإسلامي عن واجبه الأول، وهدفه الأسمى، واعتبروها سفسطة دخيلة على الإسلام، بعيدة عن روحه الفطرية السليمة، أولى منها ثم أولى الاشتغال بما يطهر القلب، ويزكي الجوارح، ويلهم الروح طاعة الله والعمل على رضاه.
وعلى ضوء هذه العقيدة آمن المتصوفة بأن رجال الفقه المتأخرين أو أكثرهم انحرفوا عن مناهجه الإسلامية، ولم يقوموا بجوانبه التعبدية والأخلاقية، فغدوا رجال قانون وتشريع لا رجال عقيدة ودين.
عن عمران القصير قال: سألت الحسن البصري عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيها بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه - عز وجل.
وكان أبو طالب المكي يقول: «علماء الدنيا - أي الفقهاء - قعدوا على طريق الآخرة، فلا هم نفذوا ولا تركوا العباد يسلكون إلى الله - عز وجل. وكان يشبههم بالقبور ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى.»
1
وكان الغزالي وهو الفقيه الأصولي الكبير يقول: «صارت كلمة الفقه إلى تفريقات الطلاق، وصور الإيمان والعتق المفروضة ووجوه السلم، وغير ذلك مما لا يحصل به إنذار ولا تخويف، مما كان التجرد له والإكثار منه وحفظ المقالات المتعلقة به يقسي القلب وينزع الخشية منه، صارت إلى هذا بعد أن كانت عنوانا على معرفة دقائق النفس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة مع امتلاء القلب بخوف الله ورجائه.»
وكان أبو العباس يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه من علم، ولم يشاركونا فيما نحن فيه من عبادة وأخلاق.
ورجال الفقه من ناحيتهم نظروا فرءوا أن التصوف كلمة عامة غير محددة بالحدود التي تتحد بها العلوم، وأن المحراب الصوفي قد امتلأ بطوائف شتى من بينها الدخيل والأصيل.
كما شاهدوا بأعين فزعة جزعة المتصوفة وهم يكونون لأنفسهم علوما ومعارف من إلهامات الروح ومعارج القلوب، وأنهم قد ابتدعوا فنونا في المحبة الإلهية وما تحتوي عليه هذه المحبة من وجد وشوق، وجذب وفناء، وسر وأسرار، ومبتكرين أيضا ألوانا أخلاقية في الذكر والخلوة والمناجاة، ومثاليات تطوف حول عبادات أوجبوها على أنفسهم فوق الفرائض والنوافل، مقيمين من ذلك كله دستورا ضخما يدور حول أمراض القلب وأدويتها، وخفايا النفوس ووساوسها، ومجالات الروح وإلهاماتها.
وكل هذا بدا في نظر الفقهاء - أو في نظر أكثرهم - ابتداعا في الدين، وانحرافا عن الحياة المثلى، وتمردا على ما اصطلحت عليه العقول في بناء الحياة الدنيا، وأخطر من هذا المظهر الدنيوي بينهما؛ فقد آمن رجال الفقه بأنهم وحدهم سادة الجماهير، وأنهم وحدهم سدنة الدين، وحراس نبعه المقدس، وليس لغيرهم أن يرتدي ثوب الدين وقداسة هذا الثوب، وليس لغيرهم أن يقول في الدين برأي، أو يلقي في مشكلاته بدليل أو حجة.
ومع إيمان الفقهاء بهذا فقد انتزع المتصوفة الجماهير من قبضة الفقهاء وتزعموها دونهم، واحتفظوا بهذه الزعامة على التاريخ رغم ما بذل في سبيل هدمها وزلزلتها.
وكان هذا وحده كفيلا بأن يذكي نار الخصومة، وأن يلهب الحقد في قلوب الفقهاء فيعلنوها حربا قاسية على التصوف والمتصوفة، حربا استغلت فيها كافة الأسلحة من التكفير؛ كما حدث في محنة التصوف الكبرى التي تعرف في التاريخ «بمحنة غلام الخليل»، حيث قدم للموت أبو علي الدقاق وأبو الحسين النوري وغيرهما من أئمة التصوف باسم الكفر والزندقة.
إلى الدس الرخيص لدى الأمراء والملوك بدعوى حماية العرش، وتدبير المؤامرات؛ كما حدث في مأساة الحلاج ونكبة السهروردي.
إلى القتل الغيلة في جنح الظلام؛ كما حدث للمناوي، تلميذ الشعراني الأكبر وصاحب «الكواكب الدرية في طبقات الصوفية».
ورغم تلك الخصومة الحادة التي حملها جمهرة الفقهاء للتصوف والمتصوفة، كان أئمة الفقه جميعا من المتصوفة خلقا وعملا وحبا بلا استثناء، مما يحملنا على الاعتقاد بأن أساس الخصومة دنيويا لا دينيا.
كان أبو حنيفة فقيها صوفيا، وكان الشافعي يرسل دقائق المسائل الفقهية إلى أبي حمزة الصوفي ويقول: علمنا يا صوفي، وكان يقول: استفدت من الصوفية طول صحبتي لهم سنين قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: إن لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشر.
وكان أحمد بن حنبل يتنسك تنسكا صوفيا، ويأمر ابنه بملازمة الصوفية؛ ليصفو له دينه، وقد سئل: من الناس؟ فقال: العلماء، ومن الملوك؟ فقال: الصوفية، ومن السفلة؟ فقال: الذين يعيشون بدينهم.
وكذلك كان مالك والليث بن سعد وسفيان الثوري، حتى إن المتصوفة قد أرخوا لهؤلاء جميعا في طبقاتهم باعتبارهم من أئمة التصوف ورجاله الأول.
وكذلك كان كبار المتصوفة فقهاء علماء أرخ لهم الفقهاء في طبقاتهم، على اعتبارهم من السادة الفقهاء رجال التشريع؛ كالجنيد، والحسن البصري، ومحيي الدين بن عربي، والغزالي، والشعراني.
فالحقيقة التي تعلو على خصومات التاريخ أن التصوف والفقه توءمان متلاصقان، لا يعيش أحدهما بغير الآخر، ووجهان لفكرة واحدة هي الإسلام، الذي لا تكمل معانيه تشريعا وخلقا وروحا وجسدا إلا باتحادهما، حتى ليقول أحمد بن حنبل: من تصوف ولم يتفقه فقد تفسق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق.
ويقول الأستاذ آدم متز في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»: «رغم خصومة المتصوفة والفقهاء نجد بين العلماء؛ كالشافعية مثلا، كثيرا من الصوفية، وهذه حقيقة واقعة. ولقد كانت علوم الصوفية الدينية أهم العلوم وأكثرها نجاحا؛ فقد كانت هي الحركة العلمية التي ضمت أعظم القوى الدينية في ذلك العهد.»
ثم يقول: «والحركة الصوفية في القرنين الثالث والرابع أوجدت في الإسلام ثلاثة مبادئ أثرت فيه تأثيرا كبيرا؛ وهي: ثقة وطيدة كاملة بالله تعالى، والاعتقاد بالأولياء، وإجلال النبي محمد
صلى الله عليه وسلم . ولا تزال هذه المبادئ الثلاثة أهم العوامل وأقواها تأثيرا في الحياة الإسلامية، ولعل هذا التفوق الذي ظفرت به المبادئ الصوفية هو سر خصومة العلماء للمتصوفة.»
ويقول الشعراني في المنن: «واعلم يا أخي أن غالب الإنكار الذي يقع بين الفقهاء والمتصوفة إنما هو من القاصر من كل منهما، وإلا فالكامل من الفقهاء يسلم للعارفين، والعارفون يسلمون للفقهاء؛ لأن الشريعة جاءت على مرتبتين، تخفيف وتشديد، ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للأعمال، فمن قوي منهم خوطب بالتشديد، ومن ضعف خوطب بالتخفيف والأخذ بالرخص؛ فكما أن موسى - عليه السلام - كان على هدى من الله، فكذلك الخضر - عليه السلام - ولهذا سلم موسى للخضر آخر الأمر لما علم أن للشريعة مرتبتين: مرتبة خاصة بعامة الناس، ومرتبة خاصة بالعارفين، ولا اختلاف في الجوهر بينهما.»
فقهاء عصر الشعراني
سر الخصومة إذن بين الفقه والتصوف - كما يقول المستشرق آدم متز - هو التنافس على النجاح بين الجماهير، أو كما يقول الشعراني: «إن الجهل هو الذي يحرك الخصومة.»
والجهل والصراع على الدنيا كانا طابع الفقهاء أو أكثرهم في عصر الشعراني؛ ولهذا واجه الشعراني أكبر المعارك التي عرفها التاريخ بين الفقهاء والمتصوفة.
جاء الشعراني والأزهر في عصر من عصور جموده وانحداره؛ فقد خبت تلك الشعلة المتقدة التي ظلت تضيء في الأزهر قرونا متعاقبة، وانطفأت المصابيح التي كان الأزهر يفخر بها ويباهي، والتي كان السمع والبصر للعالم الإسلامي.
جاء الشعراني والأزهر يعيش داخل كتب الشروح والحواشي التي ألفت في عصور الجمود الفكري والبلادة الذهنية، ويقتات على موائد هذا الماضي من غير أن يكون له تفكير أو رأي، أو ما يشبه التفكير والرأي.
كان العصر الذي يظل الأزهر هو عصر الشروح والحواشي التي لا تنتهي إلى غاية، ولا تهدف إلى فكرة محددة، فكان العلماء يتناولون المتن الذي وضع من قبل، فيضيفون له الشروح والتعليقات، ثم يأتي بعدهم من يتولى شروحهم بالشرح والتعليق وهكذا، حتى يخرج الكتاب عن موضوعه، بل كثيرا ما تحولت الشروح والحواشي إلى موضوعات لا تمت إلى الأصل بسبب، بل لا تمت إلى العلم بنسب.
ولهذا ساد الأزهر ركود علمي لم يعرفه من قبل، وتحول الأزهر إلى مدرسة للفلسفة والجدل حول تفريعات وافتراضات فقهية أبعد ما تكون عن جوهر الفقه وروحه.
وبذلك قضى الفقهاء على الروح الإسلامي الذي قام في الأزهر لإعلاء كلمته، واكتفوا بالشرح والإعراب، ودراسة أوجه القراءات القرآنية، وحيل الفقهاء الشرعية.
وجاء الشعراني - وهو ليس منهم - يقرع أسماعهم بالقارعة الكبرى، ويهاجمهم في جمودهم المقدس، ويزلزل مآذن الأزهر فوق رءوسهم، ويؤلب الجماهير عليهم، ويدفعها إلى نقدهم، والخروج من سلطانهم، ناعيا عليهم ابتعادهم عن الأخلاق الدينية، فضلا عن العلم، وتخليهم عن فضائل النفس وطهارة القلب، مذكرا إياهم بالآية القرآنية:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا .
ثم يقارن الشعراني بين طريقتهم في العلم وبين طريقة التصوف، وبين موقفهم من القرآن الكريم وموقف المتصوفة، فيقول: «فالمتصوفة علموا أن المراد من العلم وتلاوة القرآن الاتعاظ والزجر والتخويف، وأنهم يسألون عن كل مسألة علموها ولم يعملوا بها.
ولذلك كان أهل الله غائبين عما يقصده غالب القراء بقراءتهم؛ لما هم فيه من الخشوع عند التلاوة، فلم يبق متسع لسواه، فلم يشغلوا أنفسهم بالقراءات والاختلاف فيها؛ لأن فيها يضيع العمر، والاتعاظ يحصل برواية أبي عمرو مثلا، ولم يقدر أحد من السلف أن يقرأ بجميع هذه الروايات.
فرقة تمد، وفرقة تفخم، وفرقة ترقق، وغير ذلك من وجوه الأداء الذي برع فيه رجال الأزهر.
بل كانوا علماء لله، وبالله عاملين صائمين قائمين زاهدين خائفين ، فلم يكونوا مقتصرين على حفظ المسائل فقط، بل كانوا عاملين بها.
لم يصرفوا حياتهم في علم القراءات ووجوهها، وإنما اتجهوا بقلوبهم إلى ما في القرآن من مواعظ وتهديدات وتخويفات وآيات بينات.»
ويضرب الشعراني لذلك مثلا فيقول: «كالذي أرسل إليه السلطان كتابا يأمره وينهاه بأمور كثيرة، فأخذه وقبله وصار يدرس ألفاظه ليلا ونهارا بالمد والإمالة والتفخيم والترقيق، ثم أرسل إليه السلطان ينظر ما فعل في الأوامر والنواهي، فوجده لم يفعل شيئا منها وهو على هذه الحالة، فهل هذا مراد السلطان؟ وهل هذا فعل من له قلب أو عقل؟»
1
ثم يقول الشعراني متهكما بهم لأنهم يدرسون ولا يعملون: «وهل يقول للملكين في القبر وللزبانية على جهنم: دعوه لأنه كان يحفظ أبواب المعاملات، أو يحفظ أبواب الفقه والنحو والأصول على ظهر قلبه، أو يقرأ بالمد والإمالة والتفخيم والترقيق؟ كلا والله، لا يكرم بشيء من ذلك، إنما يكرم بالتقوى والعمل الصالح ومعرفة الله - عز وجل - وكف الأذى عن جميع الأنام، ومن شك في ذلك فسيراه يقينا.»
2
ولقد خصص الشعراني الفصول الطوال في كتبه للحملة على الفقهاء الجامدين، بل خصص كتبا كاملة لهذا الغرض، مركزا حملته الكبرى على الجانب الأخلاقي الإيماني الذي فقد في الأزهر.
يقول المستشرق «فولرز» في «دائرة معارف الدين والأخلاق»: «إن الشعراني في كتابه «البحر المورود» كان جريئا في مهاجمة الفقهاء، والتنديد بطمعهم وزهوهم، والتشهير بجشعهم وتهافتهم على الوظائف.»
ويقول نيكلسون: «إن الشعراني كان لسعة علمه بالدين يحارب الفقهاء بسلاحهم؛ ولذلك نجح في حملته التي تركت أكبر الآثار.»
وحملة الشعراني على الفقهاء من رجال الأزهر الذين لم يتخلقوا بالآداب الإسلامية، ولم يقوموا بواجبات العلم الديني، ولم يتفقهوا حقا روح الفقه الإسلامي تشغل جانبا كبيرا في جهاده في سبيل بناء الفكر الإسلامي من جديد.
وهي حملة نشأت عنها أحداث كبرى أثرت إلى أبعد مدى في حاضر الأزهر في أيامه وما تطور إليه بعد ذلك.
فقد انقسم الأزهر إلى فريقين: الفريق الأول يناصر الشعراني ويؤيده، ويدعو بدعوته، ويطالب الأزهر بتحقيق رسالته . أما الفريق الثاني فقد أعلنها خصومة مرة حادة أحاطت بالشعراني ولاحقته حيا وميتا.
بل لقد كانت حملته سببا في تلك الشائعات الكاذبة التي أحاطت بالشعراني ولم تفارقه إلى يومنا.
بل أخطر من هذا كانت السبب المباشر لمؤامرة طالما أصابت رجال التصوف، وهي مؤامرة تشويه كتب الشعراني بالدس والتزييف فيها.
ولا عجب في هذا فقد زيفوا كتبا على الشعراني في حياته، وزيفوا مقدمة لبعض كتبه بين سمعه وبصره مما سنعرض له بالتبيان والتفصيل.
ثورة الأزهر على الشعراني
نظر الفقهاء إلى الشعراني نظرتهم إلى زنديق مارق؛ فقد تجرأ على قداستهم، واستطال على مكانتهم، وتهكم بعلومهم ومعارفهم.
وأخطر من هذا أنه انتزع زعامة الجماهير من أيديهم، وظفر وحده دونهم بالكلمة النافذة والمكانة العالية لدى الأمراء والملوك في مصر وإستانبول معا.
وإذن فالحرب بينهم وبينه من جانبهم، معركة على الحياة، بل معركة على البقاء، ومعارك البقاء لا تعرف اللين ولا الهوادة، بل هي الحرب الشاملة بكل ما فيها من قسوة، وبكل ما تملك من أسلحة كريمة وغير كريمة.
والفقهاء دائما في حروبهم مع المتصوفة ومع غير المتصوفة ممن يدخلون في دائرة المنافسة، يستعملون سلاحا رهيبا امتحن على التاريخ فأثبت كفاءته، وأثبت أنه السلاح الحاسم القتال.
وهذا السلاح، هو سلاح التكفير والمروق من الدين. والدين لديهم مرن مرونة عجيبة، مرونة تسمح بأن يقدموا الدليل على كفر من أبغضوا، ويقدمون نفس الدليل على إيمان من أحبوا، والسر كل السر في التأويل اللولبي المطاط، والتلاعب البارع بالألفاظ والمقدسات.
وأعجزهم مع الشعراني حتى هذا الدليل المطواع؛ فالشعراني - كما قدمنا - كان صوفيا على الجادة الوسطى، والنهج المحدد كالصراط، لا يسبح السبح الفلسفي، ولا يرسل الكلم المجنح، ولا يعرف اللفظ الذي يحمل الوجهين، ولا يطلق قلمه في مقامات الفناء، واستغراقات المحبة، وسبحات الوجد.
وإذن فيلجئوا إلى الدس في كتبه، وليعمدوا إلى الافتراء ونسبة ما لم يقل إليه.
ومهدوا لمعركتهم بالتحالف مع أدعياء التصوف من جهلة الأميين المارقين؛ لأنهم وإن كانوا خطرا على الدين والأخلاق، فلا خطر منهم على العلماء والفقهاء .
وثارت الفتنة الكبرى ، وأعلنت الحرب في الأزهر على الشعراني؛ فزيفوا مقدمة كتابه «كشف الغمة» وضمنوها كفريات سخيفة لا تصدر من عاقل أو مؤمن.
ودسوا في كتابه «البحر المورود» - وهو الكتاب الذي هاجمهم فيه - تعاليم تخالف ظاهر الكتاب والسنة، بل دسوا عليه وجوها من العبث لا تتفق مع وقاره وصلاحه، وضروبا من الأعمال الماجنة الساذجة لا تليق بعلمه ومكانته، وأرسلوا هذه الكتب المزيفة إلى الحجاز وتركيا لمكانة الشعراني فيهما، بعد أن أذاعوها في مصر والأزهر.
ثم لجئوا إلى السلاح الآخر الذي يتقنه الفقهاء، والذي برعوا فيه مع التاريخ، وهو تحريض الولاة والحكام على المتصوفة، فحرضوا سلطان مصر وخليفة تركيا على الشعراني بدعوى خطورته على الأمن والنظام والدولة والسلطان والخليفة.
يقول الشعراني:
1 «ومما من الله به علي صبري على الحسدة والأعداء لما دسوا علي في كتبي كلاما يخالف ظاهر الشريعة، وصاروا يستفتون علي زورا وبهتانا، ومكاتبتهم في لباب السلطان ونحو ذلك.
واعلم يا أخي أن أول ابتلاء وقع لي في مصر من نحو هذا النوع، أنني لما حججت سنة سبع وأربعين وتسعمائة، زور علي جماعة مسألة فيها خرق لإجماع الأئمة الأربعة، وهي أنني أفتيت بعض الناس بتقديم الصلاة عن وقتها إذا كان وراء العبد حاجة، قالوا: وشاع ذلك في الحج، وأرسل بعض الأعداء مكاتبات بذلك إلى مصر، فلما وصلت إلى مصر حصل في مصر رج عظيم، حتى وصل ذلك إلى إقليم الغربية والشرقية والصعيد وأكابر الدولة بمصر، فحصل لأصحابي غاية الضرر، فما رجعت إلى مصر إلا وأجد غالب الناس ينظر إلي شذرا، فقلت: ما بال الناس؟ فأخبروني بالمكاتبات التي جاءتهم من مكة.»
ثم يقول الشعراني: «ثم إني لما صنفت كتاب «البحر المورود» في المواثيق والعهود، وتسارع الناس إلى كتابته، غار من ذلك الحسدة، فاحتالوا على بعض أصحابي واستعاروا منه نسخة، وكتبوا لهم منها بعض كراريس ودسوا فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، وحكايات سخريات عن حجي وابن الراوندي، وسبكوا ذلك في غضون الكتاب في مواضع كثيرة، ثم أخذوا تلك الكراريس وأرسلوها سوق الكتبيين في يوم السوق - وهو مجمع طلبة العلم - فنظروا في تلك الكراريس، ورأوا اسمي عليها، فاشتراها من لا يخشى الله، ثم داروا بها على علماء الجامع الأزهر، فوقع بذلك فتنة كبيرة، ومكث الناس يلوثون بي في المساجد والأسواق وبيوت الأمراء نحو سنة.»
ثم يقول الشعراني: «إن عليا باشا الوزير نقم على بعض المباشرين وعزم على قتله ونفيه، فطلع بعض العلماء يشفع فيه، فلم يقبل، فأتوا إلي فطلعت للباشا فأكرمني وقبل شفاعتي، وقال لي: لا تكلف خاطرك قط إلى طلوع القلعة، وأرسل لنا ورقة فقط، فبلغ ذلك الحسدة، فاجتمعوا وزيفوا علي مسائل في العلم كاذبة، وأضافوا إليه أمورا منفرة لعلي باشا، ثم رفعوها إليه، فلما قرأها قال: أما المسائل المتعلقة بالشريعة فذلك راجع إلى العلماء، وأما غير ذلك فلا أقبله فيه أبدا، وإنما رجعت في أمره إلى قلبي. فأرسلوا إليه قصة ثانية وثالثة فمزقها، وشاع في مصر أن الباشا يحب فلانا، فقال الحسدة: قد صار أهل مصر مع الشعراني وكذلك الوزير، فاكتبوا فيه قصة ترسل لباب السلطان.»
فكتبوا فيه قصة خلاصتها أن شخصا في مصر ادعى الاجتهاد المطلق، وكثرت أتباعه، ويخاف على المملكة منه، والمسئول من صدقات مولانا السلطان نفيه من مصر.
ورشوا بعض الوزراء ليحملها إلى باب السلطان، فحملها إليه، وقيض الله لي الشيخ عبد اللطيف أمين الدين، فنفى عني كل هذا وقال: إن القصة كلها زور على الرجل الصالح.
محاولة قتل الشعراني
فشلت مؤامرة الفقهاء لدى الوالي ولدى الخليفة، كما فشلت حملة الإفك والدس والتشهير داخل الأزهر وخارجه؛ فقد انتصر للشعراني في الأزهر طائفة من أئمة العلم وأولي المكانة في الدين، في طليعتهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وشيوخ المذاهب الأربعة في الأزهر: الفتوح الحنبلي، وناصر الدين اللقاني، وشهاب الدين أحمد، وشهاب الدين الرملي.
كما استطاع الشعراني أن يظهر للجماهير براءته مما دس عليه ونسب إليه بتقديمه لأصول كتبه، فازدادت مكانته لديهم، وازدادوا له حبا.
فماذا بقي لخصومه بعد هذا؟ لقد لجئوا إلى السلاح الثالث والأخير؛ سلاح الغيلة والقتل ، فرصدوا له في الطرقات من يفتك به، ودسوا له السم كما دسوا بعد ذلك لتلميذه الأكبر «المناوي»، وذهب المناوي شهيد تدبيرهم، ونجى الله الشعراني مما دبروا وقدروا.
وأخيرا تحطمت أسلحة خصومه جميعها، ولم يتحطم الحقد في قلوبهم، فأتوا أمرا إدا عجبا يدل على المرارة القاتلة التي يحملونها للشعراني؛ لقد أشاعوا نبأ موته كذبا ليذهبوا غيظ قلوبهم.
يقول الشعراني: «ومما وقع لي أن بعض الأقران في الأزهر غلب عليه الحسد حتى أشاع عني في الجامع الأزهر وغيره أني مت، وقال: أخبرني جماعة ثقات أن فلانا مات فجأة، وأرسل بذلك كتبا إلى دمياط والمحلة والإسكندرية.»
2
وذهب خصوم الشعراني، وبقي الشعراني حيا خالدا في كتبه وآثاره التي ترشد الناس إلى دينهم، وتعلمهم مكارم الأخلاق، وترفع بهم إلى محاريب التقوى والإيمان.
الشعراني وعلماء الكلام والتوحيد
إن الحقائق لم تدع في قلوب العارفين للتأويل بابا.
الجنيد
جاء في كتاب أعلام الموقعين: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المسلمين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن - بحمد الله - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء فيها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم.»
ذلك هو نهج صحابة رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - الذين تأدبوا بأدب رسول الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه.
لا يعرفون جدلا ولا حوارا في أسماء الله - جل جلاله - وصفاته، ولا يقرون بحثا فلسفيا في القضاء والقدر، ولا يرضون عن نزاع يقوم حول نسبة الأفعال إلى الله، أو نسبتها إلى عباده؛ فإن كل هذه المسائل من علم الله الذي لا تدركه العقول، وعلم الله الذي اختص به، لا مجال للعقل البشري فيه، ولا ينبغي التطلع إلى أسراره وخوافيه، فإذا حاول العقل البشري أن يتخطى حدوده ضل وفسق عن أمر ربه، وألقى بنفسه إلى تيه لا هدى فيه ولا نور ولا دليل مبين.
وهذا هو ما حدث لكل الفرق الإسلامية التي حاولت أن تجادل في علم الله، وأن تتطاول إلى القدس المغيب، لتدرك أسرار القضاء والقدر، أو لتهتدي إلى حقائق الذات والصفات، وأفعال العباد ومقام العبد منها، وأثر الله - جل جلاله - فيها.
ضلت هذه الفرق ولم تهتد؛ لأنها حاولت أن تنال الأعلى بالأدنى، وأن تلمس السر الإلهي بمداركها البشرية.
وضل مع هذه الفرق المنطقيون ورجال الكلام وعلماء التوحيد؛ لأنهم افترضوا للإيمان وابتكروا للمعرفة صورا وألوانا لا يقوم الإيمان إلا بها، ولا تكمل المعرفة إلا بحدودها، وهي صور وألوان ابتدعوها وافترضوها، لا يقرها القرآن، ولا تعرفها السنة، بل ولم يعرفها صحابة رسول الله، ولم تجل بعقولهم، وإنما تسربت إلى الفكر الإسلامي من الفلسفة اليونانية الوثنية الملحدة.
يقول الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم: «إن المأمون لما هادن صاحب جزيرة قبرص كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان - وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد - فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا بطريق واحد، فإنه قال: جهزها إليهم؛ فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها.»
ويقول ابن الجوزي في «تلبيس إبليس»:
1 «وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى قولهم: إن الله - عز وجل - يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها. وقال جهم: علم الله وقدرته وحياته محدثة. وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين: المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة، وإن الباري - سبحانه وتعالى - لا يقدر على جعل الذات ذاتا، ولا العرض عرضا، ولا الجوهر جوهرا، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود.»
وقال النظام: «إن الله - عز وجل - لا يقدر على شيء من الشر، وإن إبليس يقدر على الخير والشر.»
ويقول أبو الفرج معقبا على تلك السفسطة الجدلية الفارغة: «أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة.»
وكان أبو الوفا بن عقيل يقول: «أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض؛ فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت.»
لقد دفع رجال الكلام وعلماء المنطق والمتأثرون بهم من المعتزلة وغيرهم بالأمة الإسلامية إلى شكوك ومجادلات وضروب من البحث العقيم باعدت بينهم وبين الإيمان، وباعدت بينهم وبين روح الإسلام، وباعدت بينهم وبين العبادة لله والعمل الصالح للحياة.
ووقف المتصوفة وحدهم على الجادة الكبرى، والطريقة المثلى، يؤمنون بالقدر كما جاء به القرآن، وكما علمهم الرسول، ويؤمنون بأسماء الله - جل جلاله - وصفاته المقدسة، كما أسماها، وكما وصفها القرآن، وكما نطقت بها السنة، من غير تأويل ولا تعليل ولا تعطيل ولا تمثيل؛ لأن الإيمان يجب أن يكون بما أنزل الله من الألفاظ والمعاني، لا بما أوله العقل، وابتدعه التصور، وتخيله المنطق.
ويقول محيي الدين: «ومن العجب أن الله تعالى يخبر بشيء عن نفسه في كتابه المحكم، فيأتي الإنسان بعقله القاصر فيقول: إن عقلي يرد ذلك، وفكري لا يحتمل ذلك، وإنما يجب التأويل، وليس عاقبة هذا التأويل إلا أن يصوغوا من خيالهم وتفكيرهم خالقا غير ما في كتاب الله.»
2
ويقول الإمام الغزالي: «إن من أشد الناس غلوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتهم، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم التي حرروها فهو كافر.
لقد ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين.»
3
ويقول الحلاج: «من لا يعرف شعرة من بدنه كيف تنبت سوداء أم بيضاء، كيف يعرف مكون الأشياء؟ ومن لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول، والتصاريف والعلل، والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة من لم يزل.»
ويقول الشعراني: «ومما من الله به علي حفظي عن الخوض في معاني آيات الصفات وأخبارها من منذ وعيت على نفسي، وقل من سلم من مثل ذلك. وهذا من أكبر الذنوب التي يقع فيها العلماء ولا يشعرون.
ترى أحدهم يخوض في الكلام على الذات، وينسى ما كلف به من الزهد والورع، وجهاد النهار، وقيام الليل، والخوف من الله تعالى ونحو ذلك، حتى كان الإسلام لديهم محض كلام من غير عمل.»
وكان يقول: «جميع المعبرين والمؤولين والمتكلمين في علم التوحيد لم يبلغوا عشر معشار معرفة إدراك كنه حرف واحد من حروف الهجاء.»
ويقول الشعراني: «ومما من الله به علي إيماني بأن أفعال العباد خلق الله تعالى في حال إضافتها إلى العباد معا في آن واحد، وهو من أصعب الأمور؛ لأنه إيمان بطريقتين متناقضتين، فأشهد بعين بصيرتي في مثل قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، أن الرمي لله تعالى في حال كونه للعبد لا على التعاقب. ويحتاج صاحب هذا المشهد إلى عينين ينظر بهما إلى النسبتين حتى يخرج عن الحيرة؛ فإن صاحب العين الواحدة لا يقدر على الخروج من الحيرة في هذه المسألة أبدا.
وقد حبب إلي أن أوضح لك هذه المسألة بما لا تجده في كتاب من كتب المتكلمين، فأقول وبالله التوفيق: «اعلم يا أخي أن العقل يقصر عن فهم مسألة خلق الأفعال من غير إشكال، ولا يخرجك عن الإشكال فيها إلا التسليم المطلق بما قال الحق، أو أن تترقى في المواد الكونية وأنت صاعد، حتى تنظر إلى الحق تعالى بقلبك وهو يخلق المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مادة، فإنك تجد الحق تعالى فاعلا وحده لا شريك له، ثم تنزل في الفروع إلى أسفل مع مشاهدة سريان القدرة الإلهية في كل من أضيف إليه فعل من الخلق، فتجده لا يقدر على فعل إلا بإمداد القدرة الإلهية له.
ومن هنا انفتح باب الإشكال لعدم تخليص الفعل حينئذ في الشهود البصري لله وحده، أو للخلق وحدهم، ووقع الخطأ، فمن أضاف الأفعال كلها إلى الله تعالى حسنها وقبيحها، قال له لسان الغيرة الإلهية:
قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، فإن نسبة الأفعال إلى الخلق نسبة إضافة وإسناد، لا نسبة خلق وإيجاد، ومن أضاف الأمور الحسنة كلها إلى الله تعالى، وأضاف القبيحة كلها إلى الأكوان، قال له لسان الجود الإلهي أيضا:
قل كل من عند الله
لا تكذيبا له، بل ثناء جميلا، كما نضيف نحن ما قبح من الأفعال مما لا يوافق الأغراض ولا يلائم الطبع إلينا، مع علمنا بأن الكل من عند الله، ولكن لما تعلق به لسان الذم فدينا ما ينسب إلى الحق من ذلك بنفوسنا أدبا مع الله تعالى، كما أننا نضيف ما كان من خير وحسن إلى الله تعالى، ونرفع نفوسنا من الطريق حتى يكون الحق تعالى هو المحمود وحده أدبا معه تعالى.
فالذي يجب اعتقاده أن الله تعالى خالق أفعال العباد، وأنها مكتسبة لهم، وأن حجة الله تعالى قائمة عليهم، وأنه لا يسأل عما يفعل، ولا يطلب الوصول إلى الغاية في ذلك، فلسنا مكلفين بها مع صعوبة مراقيها».»
أجل لسنا مكلفين بالخوض في كل ما يتعلق بذات الله وقضاء الله وقدره؛ فإن هذه المسائل هي سر الحياة الأكبر، وسر الحياة لا يعلمه إلا الله، فليس لنا من الأمر إلا التسليم والإيمان بما أمر الله، وبما ورد في كتاب الله.
عن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه ثم قال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا.» «وسأل رجل علي بن أبي طالب عن القدر فقال: طريق دقيق لا تمش فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق لا تخض فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سر خفي لله لا تفشيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: إن الله تعالى خلقك كما يشاء أو كما شئت؟ فقال: كما شاء، قال: إن الله تعالى يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما شاء؟ قال: كما شاء، قال: ألك مشيئة مع الله، أو فوق مشيئة الله، أو دون مشيئة الله؟ أما إن قلت مع مشيئته ادعيت الشركة معه، وإن قلت دون مشيئته استغنيت عن مشيئته، وإن قلت فوق مشيئته كانت مشيئتك غالبة على مشيئته.»
وبذلك أحال علي - رضوان الله عليه - سائله إلى مجالي القدرة الإلهية ومشاهدها، فكانت تلك الإحالة أبلغ الأجوبة وأعظمها لمن ينشد الإيمان واليقين.
وبدون تلك الإحالة لا يفهم القدر، وبدون تلك الإحالة يتحول القضاء والقدر إلى جدل لفظي لا ينبت الإيمان ولا يعرف اليقين، وإنما يدفع إلى الشكوك الأوهام، وإلى ما هو أبعد من الشكوك والأوهام.
الجن والأرواح والعوالم غير المنظورة
يقول غاندي: «إن العقل شيء عظيم حقا، ولكنه يصبح غولا كريها إذا ادعى لنفسه أنه قادر على كل شيء، محيط بكل شيء، وإن نسبة هذه القدرة إليه نمط رديء من الوثنية، فالعقل عند هؤلاء العقليين وثن يعبد، كما يعبد الوثني حجرا أو نصبا، ويعتقد فيه أنه إله.»
وهذا خطأ الحضارة الغربية الأكبر؛ فقد آمنت بالعقل، وجحدت ما سواه، وعاشت تحت ظلال وثنية عقلية هي أخطر ألوان الوثنيات، وأشدها إذلالا وإهدارا للقيم الإنسانية العليا.
والعقل الذي عبدته الحضارة الغربية شيء عظيم حقا في عالم الحس والمشاهدة؛ لأنهما مجالا العقل وموضع تجاربه وآياته. أما ما وراء ذلك فلا شأن للعقل وما ينبغي له.
ولهذا كانت الحضارة الغربية شيء هائل عظيم رهيب في الماديات، وفي كل ما يخضع للحس والمشاهدة، ويقوم على البحث والتجربة، بينما تأخرت وتعثرت تعثرا مضحكا في المعنويات والأخلاقيات والعبادات، وفي كافة ما يتصل بعوالم الروح والإلهام والوحي والإيمان؛ لأنها عوالم فوق الحس والمشاهدة.
والإنسان لو اقتصرت حياته على الحس والمشاهدة فحسب، لما كان أكثر من حيوان كبير؛ لأن الحس والمشاهدة هما مرتبة الحيوان الذي لا يصدق إلا ما شاهده بعينه، ولا يعرف إلا ما وقع عليه حسه.
أما الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، فقد وهب مع النفخة الإلهية خصائص روحية عليا هي سره الأكبر، وهي حياته المثلى، وبتلك الخصائص يدرك الإنسان أشياء فوق الحس والمشاهدة، وبتلك الخصائص ترتفع معارفه فوق معارف الحس والمشاهدة ارتفاعا يؤهله لتذوق المعارف الإلهية، وتسمو به إلى جلاء أسرار مكون الأكوان، والاطلاع على عجائب ما أبدعت القوة الإلهية من عوالم منظورة وغير منظورة.
والعلم المادي الذي تعبده أوروبا ومن يعيش في ظل حضارتها في أمريكا وآسيا قد ابتدأ نفسه يتنكر للعقل الذي ابتكره وابتدعه، قد ابتدأ يعترف بأن الكون مليء بأسرار وعلوم ليس في طاقة العقل أن يدركها؛ لأنها فوقه، فلا سبيل إليها إلا بوحي من الله، أو بإلهام من عالم الروح.
وقف العلامة «أنشتاين» عند درج صغير في أسفل مكتبه وقال: «إن نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي.»
ويقول العبقري «نيوتن»: «لسنا إلا كأطفال في جزيرة على شاطئ بحر العلم، نلتقط ما يقذفه البحر من القواقع على حين أن الجواهر النفيسة في قعر البحر.»
ويقول النابغة الفرنسي «بيو»: «إننا لا نشاهد إلا ما يظهر لنا من العلم في الخارج، وقد حجب عنا ما هو أعجب وأغرب، لعمرك قل لي من ذا استطاع أن يفهم سر طيران الذباب، وسر ألاعيب الفراش؟ نعلم شيئا عن تركيبها الجسماني وقابليته، ولكنا عاجزون عن رؤية الحكمة التي أمرت بها ونظمتها. إني أمام مشهد الوجود أعتبر نفسي جاهلا.»
ويقول «كامبل فلا مريون»: «ما هو الوسيط الذي يتوسط للقوى العقلية في إنتاج نتيجة مادية؟ كيف يوصل العصب البصري صور الأشياء إلى العقل؟ كيف يدرك هذا العقل؟ أين مستقره؟ ما هي الطبيعة؟ ما هي طبيعة العمل المخي؟ لن يستطيع أكبر رأس أن يجيب على أحقر أسئلتي.»
تلك أقوال جبابرة العقول في الحضارة الغربية تبرهن أن نهاية العقل البشري هي العجز عن إدراك أسرار الكون، وأن أكبر الجهل أن ننكر ما في الكون من آيات الله وعجائب الخلق بدعوى أنها أشياء فوق العقل والتصور.
لا بد للإنسان أن يرتد صاغرا ذليلا إلى عالم الإيمان والروح، أن يرتد مؤمنا بقوة فوق عقله، وبعوالم فوق ما يدرك بالحس، وما يعرف بالمشاهدة
فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون .
اضطررنا إلى هذه المقدمة لنبرهن على أن كل ما يتعلق بالعوالم غير المنظورة؛ كالجن والملائكة والأرواح يجب أن تخضع عقولنا حيالها إلى ما جاء به الوحي؛ لأننا بالعقل وحده نضل في فهم الروحانيات والغيبيات.
ولنبرهن أيضا على أن الذين هاجموا المتصوفة في أحاديثهم عن صلاتهم بالجن، وصلاتهم بأرواح الموتى من الصالحين، قد انحرفوا عن الحق؛ لأن الأديان السماوية في جانب المتصوفة لا في جانب هؤلاء الوثنيين العقليين.
والشعراني في طليعة المتصوفة الذين تحدثوا عن صلاتهم بالجن، وعن صلاتهم بأرواح الموتى من الصالحين، بل لعله أكثر المتصوفة حديثا عن عالم الجن وعالم الروح.
ولهذا كان نصيبه من حملة العقليين أكبر من غيره من رجال التصوف الروحانيين.
لقد رموا الشعراني بالكذب والدجل، وبالشعوذة، وبالشعبية العامية، وبالتخريف والتخيل الساذج، وما إلى ذلك من نعوت وألقاب يجيدها الذين ألهوا العقل وأنكروا ما فوق الحس والمشاهدة.
يقول المستشرق العقلي «شاخت» في حديثه عن الشعراني: «إننا مع اعترافنا بخصوبة إنتاجه، نرى ضرورة الاعتدال وعدم الإسراف عند تقدير عقليته؛ لأننا نراه يؤمن إيمانا عميقا بالقوى الخفية، وما أكثر مزاعمه بصدد ما وقع له مع الأرواح والملائكة والجن والكرامات والخوارق؛ فإن كتبه حافلة بهذه المزاعم.»
ويقول المستشرق «ماكدونالد» في الفصل الذي عقده عن اتصال الأولياء بالجن في الإسلام: «إن هذه الظاهرة إذا كانت مألوفة في العالم الإسلامي؛ فإنها لا تبدو أوضح مما نراها عليه عند الشعراني الذي كان على اتصال دائم بعالمها الخفي غير المنظور.»
ويجري الدكتور زكي مبارك مع المستشرقين في الفصل الذي كتبه عن الشعراني في كتابه «التصوف الإسلامي»، فيرمي الشعراني بالكذب الساذج، ويصف عقليته بالعامية؛ لأنه تحدث عن الجن وعن اتصاله بهم.
ويعقد الدكتور توفيق الطويل فصلا في كتابه عن الشعراني تحت عنوان «التفسير السيكولوجي لكذب الشعراني» جاء فيه: «إن ما يرويه الشعراني عن نفسه من اتصال بالأرواح وتعامل مع الجن قد يغري بالشك ويدفع إلى تكذيبه، كما كان الحال في موقف الدكتور زكي مبارك منه، ولكن تفهم الشعراني في ضوء المنطق العقلي وحده يبدو لنا ضلالا مبينا؛ لأن الرجل كان طوال حياته يعيش في جو ديني مشبع بالتصوف استمد منه غذاء عقله، وأشبع به جوع قلبه، ومن هنا كان لا بد من النظر إلى نزعات نفسه وتيارات فكره في ضوء هذا الجو النفسي.
وقد انتهت به حياته إلى إيمان عميق مفرط هيمن على منطق العقل في تفكيره، وتأدى الإسراف الممعن في هذا إلى ما يسميه علماء النفس بالمدركات الخاطئة والأوهام المجسمة، فتصور وجود أشباح مجسمة لم يكن لها وجود إلا في وهمه، وبهذا انقلبت الحقائق في نظره، أو اختلق الكثير منها اختلاقا، فبدت الأشياء التي لا تتضح في عينه أشباحا للجن أو الأرواح، أو كانت هذه من خلق تصوره؛ لأنها تساير نزعات قلبه ووساوس نفسه، وتلتئم مع الجو المعنوي الخفي الذي يستغرقه. ومن السهل على من يكون كذلك أن يتمثل الجن في خاطره، فتبدو صورها في ناظره، أو تتحول صور الأشياء أشباحا للجن والعفاريت.
فإن حدثنا عن وقائع مع سكان هذا العالم الخفي قلنا: إنه مخدوع وليس بخداع ولا كذاب، وبمثل هذا تفسر أحاديثه عن تعامله مع الجن وأرواح الموتى.»
1
والآن فلننظر ما سبب كل هذه الحملة على الشعراني. روى الشعراني في «المنن» أن مؤمني الجن كانوا يحضرون دروسه العلمية، وأنهم أحيانا كانوا يدخلون عليه ليلا في منزله فيصلون معه، ويسبحون معه على سبحته، وأن بعض شياطينهم عابثه يوما أثناء مقامه بمدرسة أم خوند، فكان يطفئ مصباحه ويزعج أولاده، فكمن له حتى إذا ظهر قبض على رجله، وأخذت رجل الجني ترق حتى أضحت كالشعرة في يده.
2
وأرسل إليه بعض الجن من المشتغلين بالعلم أسئلة في قرطاس يحمله أحدهم في فمه، وقد تشكل في صورة كلب أصفر اللون، وفي مقدمة الأسئلة «ما قول علماء الإنس في هذه الأسئلة المرقومة؛ لأنها أشكلت علينا وسألنا عنها مشايخنا من الجان فقالوا: إن هذا التحقيق لا يكون إلا عند علماء الإنس.» وقد أجاب عنها الشعراني في كتابه القيم «كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان».
هذه هي خلاصة حوادث الشعراني مع الجن، فلنعرضها على وجهة النظر الإسلامية لنرى هل تطابق أم تخالف.
والإسلام صريح في وجود الجن، وفي أنهم أمم أمثالنا منهم الصالح ومنهم الشقي، وأن طائفة من الجن استمعت إلى القرآن الكريم وآمنت به.
بقي بعد ذلك محور الصراع، وهو صلاتهم بالإنسان، وهل هي جائزة أم مستحيلة؟ وهل صاحبها كاذب أم صادق؟
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود بقول النبي
صلى الله عليه وسلم ، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: دعني؛ فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود، فقال: دعني؛ فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله تعالى حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله تعالى بها فخليت سبيله، فقال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية
الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وقال: لن يزال عليك حافظ من الله تعالى حتى تصبح، ولن يقربك شيطان، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذا شيطان.»
والحديث صريح صراحة لا لبس فيها ولا إبهام في أن الجني حادث أبا هريرة وجادله وناقشه، وعلمه أيضا آيات من القرآن تحفظ الإنسان من الجن.
والحديث صريح أيضا صراحة لا لبس فيها ولا غموض بأن أبا هريرة قبض على الجني ليرفعه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرسول ليسأل أبا هريرة قائلا: ماذا فعل أسيرك البارحة؟
وروى أحمد والترمذي من حديث عائشة، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة: أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرا طويلا، ثم ردته إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من العجائب، فقال الناس: حديث خرافة.
وفي السير أن الشيطان صاح في عسكر الصحابة يوم أحد: ألا إن محمدا قد مات، فترك جماعة من الصحابة القتال، فضحك عليهم.
بل إن الفقهاء قد وضعوا لصلات الجن بالإنسان قواعد فقهية وصلت إلى حد أن تناول الفقهاء أحكام الزواج المختلط بين الإنسان والجان.
جاء في حاشية ابن عابدين بكتاب النكاح «أن الحسن البصري أجاز التزوج بجنية دون العكس.»
وجاء في كتاب «أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب» أن الدجال أحد أبويه جني.
وفي القرآن الكريم بيان وإيضاح لوحي الشياطين للإنس، ووحي الإنس للشياطين
شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
وفي القرآن الكريم بيان وإيضاح لأعمال الوسوسة والصرع والمس التي تترتب على صلة الجن بالإنس.
وجاء في القرآن الكريم في قصة سليمان
ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور .
وهي آيات كريمة دلت لا على الصلة بين الإنس والجن فقط، بل على أن الجن قامت بأعمال مادية للإنسان، فصنعت له المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات.
الجن وتحضير الأرواح
وقد سئل الإمام محمد عبده عن تحضير الأرواح فقال: «لقد حضرت في أوروبا مؤتمرا يجمع أكابر هذا الفن، فحضرت أرواح كثيرين - وبعضهم ممن أعرفه قبل وفاته - ورأيت ذلك مطابقا لما علمته عن هؤلاء الناس، فسألتهم - وكلهم اتجهوا إلي ليسمعوا سؤالي - فقلت لهم: إن رأيي في هذا أنه عمل من أعمال الجن، وناقشتهم مناقشة جدية في هذا الموضوع إلى أن تحديتهم بإحضار روح المصطفى - عليه الصلاة والسلام - لأسأله عن الأحاديث الصحيحة الواردة عنه، ولأتبين بلاغته وفصاحته في منطقه إذا تكلم في ذلك الوقت، وكثير من المستشرقين الحاضرين يمكنهم الحكم على ذلك - وليقيني بأن النبي محفوظ من أن يتمثل الشيطان بصورته، ويؤدي ما يؤديه؛ علمت أني سأفوز عليهم - فلم يلبثوا أن عجزوا جميعا معتذرين بأن هذه روح عالية لا يمكن إحضارها. ومن ذلك يتبين جليا أن هذا عمل من أعمال الجن.»
وبهذا تتحد الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية مع منطق الواقع والمشاهد؛ فهل بعد هذا بيان لمن ينشد الحق؟
وهل خرج الشعراني في صلاته بالجن عن نطاق القرآن والأحاديث والواقع المشاهد؟
وهل عقلية الشعراني ساذجة متوهمة كما يقول الدكتور الطويل؟ وكاذبة خادعة كما يقول المستشرقون والدكتور مبارك؟ أم أن عقولهم هي الأجدر بهذا الوصف؟ وإن كانوا أطلقوه في باطل، ونطلقه نحن هنا في حق صراح.
الشعراني المفترى عليه حيا وميتا
يقول الشعراني: إنه ما كان عظيم قط في عصر من العصور إلا وكان يلازمه ملازمة الظل خصوم وحسدة يملئون الجو صياحا وجدلا، ويشعلون النار فوق رأسه حقدا وحسدا.
ويستشهد الشعراني على ذلك بما وقع للأنبياء كافة، ثم لكبار الصحابة وعظماء الرجال في مختلف الأمم والشعوب، ليبتلي الله عباده، وليتميز الخبيث من الطيب، ولتمتحن الأعواد الإنسانية الصلبة ومقدار قدرتها على البقاء والخلود.
وقد أصاب الشعراني ما أصاب أسلافه من مصابيح الإنسانية وأعلام الهدى والإيمان.
فقد ملأ خصومه الدنيا حوله حقدا وحسدا وافتراء وكذبا - كما أوضحنا في الفصول السابقة - حتى أذاعوا نبأ موته تشفيا وحقدا.
يقول الشعراني: «وكان حسادي يحرفون عني مسائل لم أقل بها قط، ثم يكتبون بها أسئلة ويستفتون عنها العلماء، فيفتون بحسب السؤال، ثم يدورون بخطوط العلماء على الناس، فيحصل لي من ذلك أجور لا تحصى من كثرة الوقوع في عرضي بغير حق.»
1
ولا تزال الأجور التي لا تحصى تلاحق الشعراني في الدار الآخرة، فالشعراني الذي افترى عليه خصومه في حياته لا يزال الافتراء يلاحقه ويتابعه وهو في مقامه عند ربه.
وإن كان خصومه في حياته دفعهم إلى الافتراء عليه الحقد والحسد، فإن خصومه اليوم يدفعهم إلى الافتراء إما التأثر بما قال أسلافهم القدامى، وإما الجهل بما قال الشعراني نفسه.
وهذا باب كبير يكاد يحتاج إلى كتاب خاص، ولكننا نجتزئ هنا بمثال واحد من أبشع ما نسب إلى الشعراني.
نسبوا إليه أنه قال في «المنن»: إنه بنى بزوجته في قبة البدوي، وأطلق الدكتور زكي مبارك لسانه وألفاظه الضخمة القاسية تعقيبا على هذه الحادثة البشعة الرعناء.
والدكتور زكي مبارك ومعه رجال الاستشراق قد أخطئوا في اتهامهم للشعراني في البديهيات، أخطئوا كما يخطئ التلميذ الصغير الساذج في فهم الكلام الواضح المبين، فيحرف الكلم عن مواضعه، ويخرج المعنى عن أهدافه ومقاصده.
يقول الشعراني: «ومما وقع لي مع سيدي أحمد البدوي أنه جاءني ودعاني أيام خروج الناس من مصر إلى مولده، فلما ذهبت إلى «طندتاء» صار كل من دخل القبة يبدأ بالسلام علي قبل زيارة الشيخ حتى استحييت منه - وكانت أم ولدي عبد الرحمن لها معي مدة سبعة شهور وهي بكر - فجاءني وقال لي: اختل بها في ركن قبتي وأزل بكارتها ففعلت، فطبخ لي طعاما وحلوى، فلما رجعت إلى مصر حصل ما أشار به في تلك الليلة.»
2
ذلك قول الشعراني، وهو أوضح من فلق الصباح، فالقصة كما هو واضح قصة منامية، جاءه السيد البدوي في الرؤيا، ودعاه لزيارة مقامه في طنطا، ثم طلب منه في منام تال أن يختلي بزوجته التي لم يدخل بها رغم مرور سبعة أشهر على زواجه بها في ركن قبته، ثم يقول الشعراني في لفظ عربي مبين: «فلما رجعت إلى مصر حصل ما أشار به السيد في تلك الليلة.» أي أن الشعراني دخل بزوجته في مصر عقب عودته إليها تنفيذا لما رأى في منامه.
وللمنامات عند المتصوفة مقام كبير، يحتذون في ذلك سنة رسول الله - صلوات الله عليه - فقد جاء في كتب الصحاح أن النبي كان إذا أصبح يقول لأصحابه: «من رأى منكم رؤيا؟» يعني أعبرها له.
والشعراني يقول في كتبه: إنه كان ينبه في المنام على الأمور التي تقع، كما كان ينبه على أحواله ومقاماته وذنوبه وأخطائه من باب التأديب والتعليم بالرمز والإشارة.
والشعراني بنى بزوجته - كما يقول - ومضى عليها معه سبعة أشهر وهي بكر لم يدخل بها، فنبه مناما على خطئه، ووجوب الدخول بها، وكان مرشده في الرؤيا هو السيد البدوي.
أو لعل الشعراني كان في حالة نفسية حالت بينه وبين الدخول بزوجته، فكان المنام الذي رأى سببا في إصلاح تلك الحالة النفسية أو العقدة النفسية.
وعلى أي معنى من هذه المعاني، فقد صرح الشعراني بأنه لما عاد إلى مصر حصل ما أشار به السيد في المنام؛ أي أنه دخل بزوجته في مصر لا في قبة البدوي.
وبذلك تنهار تلك الأقصوصة المسرحية التي نسجوها حول الشعراني، وما أكثر ما نسجوا حوله من أقاصيص وأساطير!
صلاته بالملوك والوزراء
يحدثنا الجبرتي وابن إياس والشعراني وعلي مبارك - وهم من مؤرخي مصر في العصر التركي - عن لون الحياة في المدن والقرى المصرية، وعن لون الحكم الذي فرضه الأتراك على مصر حديثا عجبا يخلع القلب، ويذهل العقل.
فلقد خضعت مصر خلال الحكم التركي لأقسى أنواع العذاب البربري الهمجي؛ إذ تولى أمورها حكام طغاة جبابرة، وزاد من بشاعة جبروتهم جهلهم الفاضح، واستهتارهم بكل المقدسات الإنسانية.
كانت مصر خلال هذا الحكم العسكري الدكتاتوري تعاني الظلم والفساد، ونشأ عن الظلم والفساد في البيئات الحاكمة انتشار الجهل والفقر والمرض في ربوع الأرض الطيبة والوادي ذي الزرع والخير العميم.
واختل الأمن وفقد الناس السلامة في كل شيء، فما بقي للمال أو الدين أو الحياة قيمة أو كرامة.
يقول الجبرتي: «وقد كان من عادة الفرق العسكرية التركية أن تشارك أصحاب الحرف في مكاسبهم، فيمضي الجندي منهم إلى التاجر، ويخلع سلاحه، ويعلقه في المحل، ويصبح شريكه في أرباحه.»
1
ثم يقول واصفا للفوضى العامة الشاملة: «وكان التاجر لا يكاد يستقر في متجره حتى يسمع الناس يتصايحون ويتسابقون في العدو، وسرعان ما يحسبها فتنة قد شبت نارها؛ فيبادر بإغلاق محله ويلوذ فرارا.»
ويقول صاحب «المناقب» متحدثا عن الفلاح والقرية المصرية: «وكان الفلاح في قريته معرضا لنوع آخر من الفزع والجزع: كان القضاة والكشاف يحطون عليه ويطالبونه بدفع الضرائب والأدوات، فإن عجز عن الدفع انتزعوا منه أرضه، وأذاقوه العذاب ألوانا وأشكالا بالمقارع والكسارات، وعصر الرأس، وإمرار الطونس على ظهره، وإدخال البوص بين الظفر واللحم، والتعليق، ووضع الخوذة المحماة بالنار على الرأس.»
2
ويقول ابن إياس واصفا للمباشرين الذين أذلوا الشعب المصري ونهبوا أمواله: «كان المباشرون كالملوك يتصرفون في أمور الدولة بما يشاءون وليس على يدهم يد.»
3
وكان أخطر ما عانى الشعب المصري فوق ذلك أن العلماء - كما يقول المؤرخون - مشوا في ركاب الطغاة من الحكام والولاة، وغدوا لهم بطانة وحاشية؛ فزادوهم ظلما وعدوانا، وأسبغوا على ظلمهم وعدوانهم ظلا كاذبا من الدين.
وبقي المتصوفة وحدهم يحملون مشاعل الجهاد، ويصرخون في وجه كل جبار: قف، من أنت؟
ورجال التصوف عرفوا دائما بانتفاضهم على الظلم والظالمين؛ لأنهم ارتفعوا بحياتهم فوق الرغبة والرهبة، وسموا بإيمانهم فوق ما يذل الناس من شهوات، وفوق ما يخيف الناس من جبروت.
أو كما يقول علي مبارك متحدثا عن موقف المتصوفة من جبروت الولاة الأتراك: ولكن هذا الجبروت كان ينحل أمام زعماء المتصوفة.
ولقد تركزت قوة التصوف خلال هذا العهد في زعيم التصوف الشعراني، وبذلك تمثلت في الشعراني مقاومة الشعب المصري وتمرده على الظلم والظالمين.
واستطاع الشعراني بإيمانه وشخصيته وجهاده أن يمثل سلطة الشعب ، وأن يرد العدوان عنه، وأن ينتزع له حقوقا من ظالميه.
سئل غاندي عن السر في أن الإنجليز لم يستطيعوا أن ينالوا منه، أو يخضعوه لسلطانهم مع ضعفه وقوتهم، فقال: «يرجع ذلك إلى سببين؛ الأول: أني لا أملك شيئا يستطيع الإنجليز أن يأخذوه مني، فحرصا عليه أخضع، والثاني: أني لا أطمع في شيء يستطيع الإنجليز أن يمنعوه عني، وطمعا فيه أخضع.»
وكذلك كان موقف الشعراني من جبابرة الأتراك، لا يمد عينه إلى ما لديهم من متاع وجاه، ولا يحرص على شيء في الحياة.
ويحدثنا الشعراني عن نفسه بأنه كان لا يقبل مالا أو هدية من حاكم، فإذا ألحوا عليه تقبل المال بيده، وطوح به على مرأى منهم ومشهد من الناس.
بل لقد رفض أن يلتمس له أحد الوزراء معونة الخليفة في تركيا، وكانت في ذلك الوقت شرفا أي شرف، وأملا أي أمل.
وكان الشعراني في تواضعه يتكبر على المتكبرين، ويتعالى على هؤلاء الجبارين؛ ليحفظ كرامة إيمانه، وكرامة شخصه، وكرامة وطنه.
قال له الوزير الأعظم، علي باشا، عندما عزم على الرحيل إلى تركيا: إننا مقربون إلى الخليفة؛ فهل لك حاجة عنده؟ فأجابه الشعراني في عزة المؤمن: ألك حاجة عند الله؟ إننا مقربون إلى حضرته.
وبتلك العزة الإيمانية يرى الشعراني أن الملوك في طاعته؛ لأنه في طاعة الله، وفي مصالح عباده، يقول الشعراني: «تشفعت عند السلطان الغوري، والسلطان طومان باي، وخاير بك، وغيرهم من باشوات مصر، فقبلوا شفاعتي، وذلك معدود من جملة طاعة الملوك لي.»
4
وبتلك العزة الإيمانية غدا الشعراني المحامي الأول عن الشعب المصري، أو كما يقول: «ومما من الله به علي كثرة قبول شفاعتي عند الأمراء، ولا أعلم الآن أحدا في مصر أكثر مني شفاعة عند الولاة، فربما يفنى الدست الورق في مراسلاتهم في حوائج الناس في أقل من شهر.»
وارتفعت مكانة الشعراني بدفاعه عن الشعب، وبإيمان الملوك والوزراء بأنه رجل فوق الإغراء، وفوق المادة، وفوق وظائفهم، وفوق ما يستعبدون به الناس، وقد امتحنوه سرا وجهرا، فأرسلوا له الأموال والخيرات، فردها عليهم، فأعادوها سرا ، فازداد اعتصاما وإصرارا.
وعرضوا عليه الوظائف والهبات من الخليفة، فأبى أن يأخذ مالا من حاكم، أو حتى أن يأكل من طعامه؛ لأن في ذلك ما يخدش عقيدته، وما يخدش رسالته.
وطارت شهرة للشعراني بأنه رجل كرامات وآيات، وأن من يعصي له أمرا ينكب في ماله، أو جاهه، أو حياته.
ويحدثنا صاحب «المناقب» عن إيمان جبابرة الترك من الولاة والوزراء بكرامات الشعراني وقوته فيقول: فقد ترتب على هذا الخوف أن الولاة كان إذا زارهم الشعراني أسرعوا إليه يقبلون يديه، ويتبركون به، ويجلسون على الأرض بين يديه، ويسارعون إلى قضاء أوامره وشفاعاته.
ويقول لنا صاحب «المناقب» أيضا: إن الأمراء كانوا يلتمسون منه أن يوصي بهم خيرا أينما اتجهوا في أرجاء الإمبراطورية التركية، حتى إنه كتب مرة يوصي العجم والروم بالأمير جاثم الحمزاوي، كما كان يولي القضاة والمحتسبين وكبار الموظفين، ويرجع إليه في كل أمور الدولة صغيرها وكبيرها.
بل إن علي مبارك ليحدثنا عن خوف الإمبراطورية التركية كلها من الشعراني، ومسارعتها إلى إرضائه اتقاء لغضبه.
ويكفي للدلالة على مكانة الشعراني ما يرويه لنا أيضا علي مبارك، من أن أحد الولاة تعرض لذرية الشعراني بعد وفاته، فتسامع السلطان في تركيا بأنباء هذا العدوان، مع أن أحدا من ذريته لم يرفع شكواه إليه، فأرسل السلطان بكف العدوان عنهم، وهدد من ركب رأسه في مناوأتهم باعتباره طريد القانون، وأنذر بإهدار دمه جزاء عناده.
حتى الموت لم يستطع أن يحجب نفوذ الشعراني؛ لأنه نفوذ قام على الإيمان والعقيدة، وكل ما يتصل بالإيمان والعقيدة خالد لا يفنى.
الزعيم الروحي والشعبي
في الشعراني تمثلت خصائص الزعيم الشعبي والمكافح على أكمل ما تكون هذه الخصائص من قوة نفسية متمردة على الظلم، وقوة بيانية تثير العواطف، وتلهب الحس، وفوق هذا وذاك الحاسة الشعبية الساحرة التي تشعر بأحاسيس الجماهير، وتتفاعل معها - حتى كأنها منها - وهي تقودها وتهيمن عليها.
وفي الشعراني تمثلت خصائص الزعيم الديني الملهم على أوضح ما تكون تلك الخصائص، من قوة إيمانية لا يرهبها الظلم، ولا ينال منها الإغراء، وقوة أخلاقية لا تلين للشهوات، ولا تميل مع الأهواء، وفوق هذا وذاك ذلك السحر الصوفي الأخاذ الذي يضفي على صاحبه هالات القداسة، وأضواء الحب والإجلال.
وقل بين رجال التاريخ من جمع بين هذين اللونين من ألوان الزعامة، فلا غرو إذا رأينا الشعراني يظفر بين معاصريه بالقيادة العامة التي لا تطاولها زعامات، ولا تدنو منها مقامات.
ولقد كان موقف الشعراني في وجه القوة التركية، ممثلا في الولاة والوزراء، البداية الحقيقية لبناء الشخصية المصرية المستقلة، التي توارت طويلا تحت حكم المماليك والأتراك، حتى وجدت في الشعراني فجرها وصاحبها، فتركزت حوله آمالها وأمانيها، وأخذت تتكون حوله شيئا فشيئا أولى المجموعات الشعبية المصرية بخصائصها ومميزاتها؛ لتأخذ دورها التاريخي الذي تجلى مشرقا غلابا خلال حملة نابليون على مصر وما تلاها من أحداث.
وحول الشعراني أيضا تركزت الآمال في نهضة دينية تعيد للدين شبابه الأول، وقداسته السابقة، وحرارته الإيمانية التي أضعفتها أحداث التاريخ، ونال منها جمود العلماء، وجهل الجماهير.
وكان من زكاة هذه الزعامة الشعبية أنه أعرض عن الوظائف الحكومية؛ لأنه ثائر، ولأنه زعيم قائد، والوظائف الحكومية دائما تنال من ثورة الزعيم كما تنال من مكانته.
وكان من علامات النجاح لهذه الزعامة الدينية أنه ابتعد بزاويته عن الأزهر، وبذلك أنقذها من الجمود الفكري والجدل اللفظي الذي خيم عليه في تلك العصور، كما حرر أتباعه وتلامذته من أساطير أدعياء التصوف ومباذلهم، ليرتفع بهم إلى جوهر الدين، وليعود بهم إلى صفائه الأول، وانطلاقه العلمي، وجهاده العملي، وغايته المقدسة التي تهدف إلى خير الإنسانية بتلقينها أسمى المبادئ الأخلاقية، وأنبل الفضائل الاجتماعية.
وجهاد الشعراني الديني في سبيل تحرير العقول الإسلامية من الجمود والأساطير لم يشغله يوما عن جهاده الشعبي في سبيل إنقاذ الجماهير من ظلم الولاة واستعباد الأمراء.
وبذلك ربط الشعراني بين الدين والدنيا، وأحيا الصلة التي لا تنفصم بين رسالة الإسلام التعبدية العلمية ورسالته السياسية الشعبية.
هاجم الفقهاء وأدعياء التصوف باسم الدين وباسم الجماهير الإسلامية، وكافح الولاة والأمراء باسم الدين أيضا، ولحساب الكتلة الشعبية؛ لأن هدف المجاهد الإسلامي والقائد الشعبي هدف موحد مشترك.
يقول الشعراني: «هاكم السادة العلماء، للواحد منهم عدة وظائف: هو واعظ في المسجد، وموظف في الحكومة، وطبيب للعائلة، ولا يقوم بإحدى هذه الوظائف على الوجه الذي يرضي الله، بل هي سبيل للمال الحلال أو الحرام. لقد عزمنا نحن المتصوفة على رفض الخدمة الحكومية لنتفرغ لخدمة الناس كافة.»
ولا ينسيه هذا النقد العنيف للعلماء الذين كان واجبهم الأول هو إرشاد الناس لا جمع المال من أوجهه الحلال والحرام، أن يوجه قلمه إلى نقد الظالمين من الحكام الذين أحالوا حياة الفلاح المصري إلى جحيم لا يطاق، يقول الشعراني: «كان الفلاح عند موته في أحلك الأيام السابقة يترك شيئا من الدراهم لأولاده، ولكنه الآن بفعل الظالمين من الولاة لا يستطيع إلى ذلك سبيلا. هو يبيع الحاصلات والبقرة والثور لتسديد ما عليه من الضرائب، وإذا لم يتمكن من تسديد ما عليه سجن مع زوجته وأولاده.»
ومن أجل تلك الصورة الصارخة لحياة الفلاح المصري المؤلمة، نذر الشعراني نفسه للجهاد في سبيل المظلومين كلية، أو كما يقول الشعراني: «لقد عزمنا نحن المتصوفة على رفض الخدمة الحكومية لنتفرغ لخدمة الناس كافة.»
ولقد ظل الشعراني إلى آخر نفس له في الحياة مجاهدا لا تلين له قناة، ولا تخفض له راية، ولا تزلزله أحداث، ولا ترهبه قوى. إنه مجاهد في سبيل الله فلا يخشى سواه، شعاره دائما كلمته الخالدة: «لو انفض الناس جميعا من حولي واهتزت شعرة مني؛ فقد كفرت بالله.»
الشعراني رجل المثالية الخلقية
وبعد، فإن كان الشعراني كزعيم شعبي وكمجاهد صوفي قد شاركه في الجهاد والزعامة كثيرون من رجال التاريخ، فإن الشعراني - كما أومن - ينفرد بخلق إنساني رحيم كريم مثالي، لا أظن أن غيره يبلغ مبلغه عمقا وإيمانا.
كان الشعراني بحق رجل الأخوة الإنسانية على أدق معاني تلك الأخوة؛ ولهذا كان يشارك بوجدانه، بل بكل أحاسيسه المظلومين والمحرومين؛ يشقى لشقائهم، ويتألم لألمهم. يقول الشعراني: «إني لأشعر بشعور المعذبين والمظلومين حتى لكأن كل عذاب أو ظلم وقع بأحد من الناس وقع بي .»
وكان الشعراني يرى أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا إذا شارك الناس كافة في أحزانهم وآلامهم؛ لأن الإنسانية وحدة متماسكة خيرها مشترك، وعذابها مشترك، يقول: «من ضحك، أو استمتع بزوجه، أو لبس ثوبا مبخرا، أو ذهب إلى مواضع المتنزهات أيام نزول البلاء على المسلمين فهو والبهائم سواء.»
وكان الشعراني رحيما بالناس، ورحيما بنوع خاص بالعصاة والمذنبين؛ لأنهم أشد الناس ضعفا، وأحوجهم إلى العطف والنصح والرحمة، يقول متحدثا عن مبادئه: «ثم ستري لعورات الناس وعيوبهم ورحمتي بالعصاة حال تلبسهم بالمعصية؛ فإنهم أشقى الناس حينئذ.»
ويقول: «ثم كثرة رفقي ورحمتي لمن شكا إلي كثرة محبته للمعاصي؛ لأنه مريض، ثم غيرتي على أذني أن تسمع زورا، وعيني أن تنظر محرما، ولساني أن يتكلم باطلا.»
وتمتد رحمة الشعراني إلى الحيوان الأعجم؛ لأنه ضعيف مسخر للإنسان «ثم كثرة شفقتي على دابتي وكراهتي أن أحمل سوطا.»
بل لقد كان الشعراني يرى أن العبادة لا تصلح إلا بصلاح القلب ونقاء الأخلاق، فكان لا يقوم إلى الصلاة إلا إذا فتش قلبه: هل فيه غل أو حقد أو حسد أو نميمة، أو شهوة صغيرة أو كبيرة؟ بل كان يستحي أن ينام وفي قلبه شيء من هذا؛ لأن النوم رحلة الروح إلى الملأ الأعلى.
ويستطرد قائلا: «ثم أخذي كل كلام وعظت به الناس في حق نفسي أولا، وفي حق الناس ثانيا، واستغفاري من ذلك ثالثا، ثم عفوي العام عن كل مسيء إلي، ثم كثرة اهتمامي بحمل هموم عدوي قبل اهتمامي بهموم صديقي.»
ويسمو الشعراني في أدب النفس، ويرتفع في معارج الأخلاق، فيقول: «ومما أنعم الله به علي عدم خروجي من بيتي إلا إذا علمت من نفسي القدرة - بإذن الله - على هذه الثلاث خصال: تحمل الأذى عن الناس، وتحمل الأذى منهم، وجلب الراحة لهم.»
فإذا كملت هذه الثلاث ارتفع الشعراني درجة بل درجات، فيضع (الطيلسان) على وجهه؛ ليكف بصره عن فضول الناس.
تلك الكلمات المضيئة؛ الكلمات الروحية الصافية التي تتلألأ بالنبل والشرف، هي بعض خلق الشعراني، وإنه لخلق يرفعه درجات ودرجات فوق علمه وزعامته ...
طه عبد الباقي سرور نعيم
20 ربيع الأول سنة 1372
8 / 12 / 1952
صفحه نامشخص