تصوف: انقلاب روحانی در اسلام
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
ژانرها
منذ زمن بعيد وأنا أعمل في ميدان الفلسفة الإسلامية قارئا أو كاتبا أو محاضرا، أسجل ما عن لي من ملاحظات على التيارات الفكرية والروحية التي اضطرب بها ذلك الخضم العظيم، وأرقب الجهود المتنوعة التي بذلها كبار المفكرين والروحانيين الإسلاميين في سبيل التوفيق بين دينهم والعناصر الثقافية المتعددة التي تسربت إليه.
وقد صحبت خلال هذه الحقبة الطويلة أنواعا مختلفة من المفكرين الإسلاميين كما صحبت الصوفية المتفلسفين منهم وغير المتفلسفين: وعرفت منهم من له أصالة وابتكار وتجديد، ومن جمد على التقليد لا يتعداه، كما عرفت منهم المخلص الصادق، والدخيل الزائف، وظهر لي ذلك الميدان الواسع في صورة معرض عام تعرض فيه الآراء والنظريات والاتجاهات بشتى أنواعها.
ولكني لم أر جزءا من أجزاء هذا الميدان الفلسفي الروحي أكثر خصبا وإشراقا، ولا أعمق تأثيرا في توجيه الحياة الروحية في الإسلام؛ من التصوف الذي يلتقي فيه هذا الدين مع غيره من الديانات العالمية الكبرى.
وليس لباحث في دين من الأديان أن يقول الكلمة الفاصلة فيه معتمدا على أصوله ونصوصه الأولى وحدها، بل لا بد له - وهو يرسم الصورة الشاملة لهذا الدين - من أن يجمع في صورته هذه بين الأصول والنصوص وبين التفسيرات والتأويلات التي وضعها عليها كبار رجال هذا الدين الذين قضوا حياتهم في ظله وأسهموا في توجيهه وتطوره، وكانوا مراكز فعل وانفعال في البيئات المختلفة التي انتشر فيها؛ ولهذا اختلفت الصور وتعددت للدين الواحد، تبعا لاختلاف وتعدد المرايا التي تنعكس عليها جهود هؤلاء المفسرين والمئولين، وقد خضع الإسلام في تاريخه الطويل لما خضعت له الأديان العالمية الكبرى من ضروب الدرس والفهم والتفسير والتأويل، وظهرت فيه - بفضل ذلك - اتجاهات ونظريات في العقائد والعبادات والمعاملات بنيت عليها مذاهب في الفلسفة والفقه، ومدارس في الكلام والتصوف، وبين هذه المذاهب والمدارس ما بينها من التعارض والتناقض أحيانا. فالفلاسفة لهم تصورهم الخاص للعالم وللدين والألوهية، والصلة بين الله والعالم، وللفقهاء نظرتهم الخاصة إلى العبادات والمعاملات، والصلة بين العبد وربه، وبين الناس بعضهم مع بعض.
وللمتكلمين فهمم الخاص لأمهات العقائد الإيمانية وطرق الدفاع عنها، وللصوفية موقفهم الخاص من هذه المسائل جميعا، ولا تختلف كل واحدة من هذه الطوائف عن غيرها من الطوائف الأخرى وحسب، بل يختلف أفراد كل طائفة فيما بينهم: فإن الفلاسفة ليسوا سواء، والمتكلمون والصوفية ليسوا بمثابة واحدة، وإن كانت هنالك خصائص عامة في المنزع والمنهج يتفق فيها أفراد كل طائفة.
ولكن الجميع ينتمون إلى الإسلام ويتكلمون باسمه ويصورون الإسلام لغيرهم كما تصوروه هم أنفسهم، وهم في كل هذا مجتهدون، إن أخطئوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران، ومن حقهم علينا أن ندين لهم بالفضل والشكر وأن نحاول أن نتفهم آراءهم وندرك مراميهم ونضعهم في سجل التراث الفكري الإسلامي أولا، والتراث الفكري العالمي بعد ذلك، وألا نسارع فنتهم هذا بالكفر وذلك بالزندقة وثالثا بالابتداع لا لسبب سوى أنه قال بمقالة خالف فيها «الأشعري» إذا كان متكلما أو قال بما قال به «ابن سينا» إذا كان فيلسوفا، فإن الرمي بالكفر والإلحاد والزندقة - إلا في حالة من تقطع الأدلة بثبوت كفره أو إلحاده أو زندقته - سلاح العاجز الجاهل الذي يسيء إلى دينه وإلى المسلمين أكثر مما يحسن إليه وإليهم.
والحقيقة أنه ليس في فهم مسائل الدين وتأويلها ما يصح أن نسميه صادقا أو كاذبا، ما دام قائما على أساس من الكتاب والسنة، وما دام المتأول لا يخرج بالنص عن المعاني التي جرى بها العرف في اللسان العربي. بل أقصى ما يجب أن توصف به تأويلات المتأولين هو أنها حرفية ضيقة، أو متحررة واسعة، أو أنها أكثر عمقا في الروحانية أو أنسب لموضوعها وهكذا، وإلا فأي الفهمين صواب وأيهما خطأ في تفسير قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم
وقوله:
الرحمن على العرش استوى : فهم «اليد» بمعنى اليد، والاستواء بمعنى الجلوس، والعرش بمعنى سرير الملك، أم فهم اليد بمعنى القدرة أو النعمة، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والعرش بمعنى الملك؟ وأي الرأيين خطأ وأيهما صواب في مسألة خلق القرآن وقدمه، أهو القول بأنه مخلوق لأنه مؤلف من ألفاظ وحروف، أم القول بأنه قديم لأنه كلام الله وكلام الله صفة قديمة؟ وأي التعريفين صواب وأيهما خطأ: «الصلاة أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم» كما يقول الفقهاء، أو «الصلاة مناجاة قلبية بين العبد والرب» كما يقول الصوفية؟ وأي النظرين صادق وأيهما كاذب: النظر إلى الله باعتباره معبودا، أم النظر إليه باعتباره محبوبا أولا ومعبودا ثانيا؛ لأن العبادة فرع المحبة؟
صفحه نامشخص