ترتيب الفروق واختصارها
تأليف
أبي عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري (المتوفى سنة ٧٠٧ هـ)
رتب فيه واختصر فروق شهاب الدين القرافي في القواعد الفقهية
تحقيق
الأستاذ عمر ابن عباد
خريج دار الحديث الحسنية
[الجزء الأول]
صفحه نامشخص
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن كتاب الفروق في القواعد الفقهية لمؤلفه الإمام العلامة، الفقيه الأصولي الكبير، الجامع بين علوم النقل والعقل، أبي العباس، شهاب الدين أحمد بن ادريس القرافي الصنهاجى ﵀، كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، انتشر نفعه، وذاع صيته بين العلماء منذ تأليفه، وظل عمدة للفقهاء، ومرجعا لهم في كثير من الأحكام الفقهية، والفروع والمسائل الجزئية، المؤسسة على أصول الشريعة، أو قاعدة من قواعدها الكلية، بحيث لا يكاد كتاب من أمهاث الفقه يخلو من ذكره والإشارة إليه.
ومن ثم كان لهذا الكتاب أهميتُه الخاصة، ومكانته البارزة بين تلك الكتب والمؤلفات القيمة التي ألفها العلماء في هذا الموضوع على مختلف مذاهبهم الفقهية في تأصيله لملك القواعد على مذهب الامام مالك ﵀ وأصوله المعتمدة.
غير أن الإمام القرافي ﵀ لم يأخذ في كتابه هذا بالطريقة المعروفة والمعتادة عند الفقهاء في التصنيف على الأبواب، فلم ينهج فيه منهج الترتيب والتبويب، ولم يسلك فيه مسلك التصنيف الذي يضم مجموعة من القواعد والأحكام، ويُدْرِجها في باب، وإنما جمع الفروق بين القواعد الفقهية التي اشتمل عليها، وضمها بكيفية متتابعة تجعل القارئ والدارس ينتقل بين فرق وآخر، وقاعدة وأخرى، متتبعا للكتاب، وباحثا عن الفرق الذي يعنيه ويهمه في مسألة من السائل أو جزئية من الجزئيات، أو قاعدة من قواعدها الكلية.
وقد يسر الله لهذا الكتاب ولمؤلفه من يقوم في عصره بدراسة وافية له، فاستوعبه وحصله وتعمق فيه، فعمل على اختِصَارِهِ وترتيبه على أساس إرجاع كل مجموعة من القواعد فيه الى العلم الذي تنتمي إليه، والى الباب الذي يناسبها وتندرج فيه من الأبواب الفقهية، فكان ذلكم هو العالِمَ الجليل، والفقيه الكبير، والصوفي الورع الشهير تلميذ القرافي، أبو عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري المتوفى بمراكش عام سبع وسبعمائة هجرية (٧٠٧ هـ).
فقد عمد هذا الفقيه المتمكن من علوم النقل والعقل، إلى كتاب شيخه القرافي في الفروق، فاختصره ورتبه وبوبه، ونبه على ما ظهر له فيه، وألحق به ما يناسبه مما لم يذكره القرافي من المسائل والقواعد. فجاء كتاب الترتيب هذا كتابا مكتملا وافيا، وفي صياغة وصورة جديدة، جمعت بين ما اشتمل عليه الكتاب الأصلي من القواعد الكلية وتفريعاتها الجزنية، وبين تلك المزايا والفوائد المشار إليها، والتي ميزت كتاب ترتيب الفروق واختصارها، مما يساعد على الرجوع إليها والانتفاع بها في يسر وسهولة ووضوح وجلاءٍ.
1 / 3
وقد ظل هذا الكتاب الفقهي الهام تراثا مغمورا بين رفوف المكتبات العامة، مكنوزا بين خزائنها العلمية الوفيرة، حتى أراد الله إظهاره لحيز الوجود، واخراجه للانتفاع به من العلماء، فوقع اختيار وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية عليه ليكون ضمن كتب التراث الاسلامي، والدراساث العلمية القيمة التي تطبعها الوزارة سنويا، وتصدرها في شهر رمضان من كل عام، وعهدت إلى أحد الاساتذة العلماء المتخرجين من دار الحديث الحسنية هو الاستاذ ابن عباد عمر، لما عُرف عنه من اهتمام بالفقه وأصوله وقواعِدِهِ وغيرها من العلوم الاسلامية، فاستجاب للقيام بهذا العمل العلمى الهام، فأوْلَاهُ عناية واهتماما، وبذل مجهودًا حميدا في اقتحام الميدان، واستسهال الصعاب، وواصل العمل في تحقيق هذا الكتاب على ما هو عليه من كبر الحجم، وسعة الموضوع ودقة العبارة، وتنوع المضمون وتشعب المحتوى، مما جعله موسوعة من العلوم والمعارف المختلفة والابواب والفصول الفقهية المتعددة.
وانطلاقا من الرسالة الدينية والعلمية التي تضطلع بها وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية في مضمار إحياء التراث الاسلامي وطبعه ونشر أمهات كتبه الوفيرة المفيدة. واعتبارًا للاهمية والمكانة الكبيرة التي لكتاب الفروق للامام القرافي، ولاختصاره وترتيبه الذي الفه تلميذه الشيخ البقوري رحمهما الله.
فإن الوزارة يسعدها أن ئطبع هذا الكتاب الذي يحمل عنوان:
"ترتيب الفروق واختصارها"، وأن تصدر الجزء الاول منه في مطلع شهر رمضان المبارك لعام ١٤١٤ هـ، على أن تتبعه بالجزء الثاني المتمم للكتاب في غضون الشهور القليلة القادمة بحول الله، وذلك حتى يكون مكتملا، ومرجعا بين أيدي السادة العلماء المتمكنين، والأساتذة الباحثين، والطلبة الدارسين، المهتمين بدراسة الفقه الاسلامي والمتخصصين في أصوله وفروعه، وأدلته ومقاصد الشريعة الاسلامية الحكيمة.
وإن الوزارةَ لتسألُ الله العلي القدير أن يجعل طبع هذا الكتاب في سجل الأعمال الصالحة والحسنات الخالدة والمكارم الحميدة لمولانا أمير المؤمنين حامي حِمَى الوطن والدين، جلالة الحسن الثاني، وأن يكون من الثمار الطيبة لغرسه الطيب المبارك، المتمثل في مؤسسة دار الحديث الحسنية التي أسسها أعزه الله على تقوى من الله ورضوان، لتكون إشعاعا مستمرا للعلوم الاسلامية، ولتظل منارًا لِلْعرفان، وأن ينفع الله له العلماء والفقهاء وكافة الدارسين والباحثين وكافة المسلمين، ويجعلَ العمل فيه خالصا لوجهه الكريم، وأن يقر الله عين جلالة أمير المؤمنين بولي عهده الأمجد، صاحب السمو الملكي الأمير الجليل سيدي محمد، وصنوه الأسعد صاحب السمو الملكي الأمير المجيد مولاي رشيد، وأن يحفظه في كافة أسرته الملكية الشريفة، إنه سبحانه سميع مجيب.
وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية
الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري
1 / 4
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبى الله ورسوله الامين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن كتاب ترتيب الفروق واختصارها لمؤلفه الجليل، الفقيه الأصولي الكبير، الشيخ أبي عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري المتوفى بمراكش عام سبع وسبعمائة هجرية (٧٠٧ هـ)، يعتبر تراثا فقهيا هاما بين كتب تراث الفقه الاسلامي وقواعده الفقهية العامة على مذهب الامام مالك ﵀.
ذلك أن مؤلفه ﵀ اختصر فيه ورتب فيه كتاب الفروق بين القواعد الفقهية لشيخه الجليل، فريد دهره ووحيد عصره، الإمام المحقق أبي العباس، شهاب الدين احمد بن ادريس القرافي ﵀. ومكانة كتاب الفروق، وأهميته العلمية من المعرفة والشهرة بمكان، ولا تخفى على اصحاب الفضيلة العلماء مشرقا ومغربا، منذ تأليفه في القرن السادس الهجري، حيث ظلوا يرجعون إليه ويعتمدونه في كثير من الفروع والمسائل الجزئية، المؤسسة على القواعد الكليهَ الفقهية، ولا يكاد كتاب من الكتب الواسعة في الفقه وقواعده، وأصوله يخلو من ذكره والاشارة اليه، والاستشهاد بكلامه وقواعده.
وفد أوضع شهاب الدين القرافي نفسه هذه الاهمية والمكانة التى لكتابه الفروق في فقرات من ديباجته التى قدّم بها لكتابه هذا حيث قال فيها ﵀.
"أما بعد، فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلُوا اشتملت على أصول وفروع. وأصولها قسمان:
أحدهما المسمى: بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الاحكام الناشئة عن الالفاظ العربية خاصة، وما يَعرِض لتلك الالفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الامر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلَّا كون القياس حجة، وخبر الواحد، وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء فى أصول الفقه وإن اتفقت الاشارة اليه هنالك على سبيل الاجمال، فبقِي تفصيله لم يتحصَّل.
وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الاحاطة بها يعْظُمُ قدر الفقيه ويَشْرُف، ويظهر رونق الفقه ويُعرَف، وتنضِح مناهج الفتاوى وتُكْشَف، فيها تنافَسَ العلِماء، وتفاضلَ الفضلاء، وبرز القارح على الجَذَع، وحاز قصَبَ السبق من فيها بَرِع، ومَن جَعلَ يُخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تنافضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها وِاضطربت، وضافت نفسه لذلك وقنِطَت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التى لا تتناهى، وانتهى العُمُر ولم تقْضِ نفسُه مِنْ طلَبٍ مُنَاها. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها فى الكليات،
1 / 5
واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيدَ وتقارب، وحصل طَلبتَة في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما اشرق فيه من البيان، فبَيْن المَقاميْن شأوٌ بعيد، وبين المنزلتين تفاوُتٌ شديد.
وقد ألهمنى الله تعالى بفضله أن وضعث في أثناء كتاب الذخيرة من هذه القواعِدِ شيئا كثيرا مفرَّقًا في أبواب الفقه، كلّ فاعدة في بابها وحيث تبنى عليها فروعها، ثم أوجد الله تعالى في نفسي أن تلك القواعد لو اجتمعت في كتاب وزِيدَ في تلخيصها وبيانِها والكشفِ عن أسرارها وحِكمها لكان ذلك أظهر لبهجتها ورونقها، وتكيَّفَتْ نفس الواقفِ عليها بها مجتمعةً أكئر مما إذا رآها مَفَّرقة، وربَّما لم يقِف إلَا على اليسير منها هناك لعدم استيعابه لجميع ابواب الفقه، وأينما يقف على قاعدهَ ذهب عن خاطره ما قبلها، بخلاف اجتماعها وتظافرها، فوضعت هذا الكتاب للقواعد خاصة، وزِدت قواعد كثيرة ليست في الذخيرة، وزدت ما وقع منها في الذخبرة بسطا وايضاحا، فإني في الذخيرة رغِبت في كثرة النقل للفروع لأنه أخص بكتب الفروع، وكرِهت أن أجمعَ بين ذلك وكثرةِ البسط في المباحث والقواعد فيخرج الكتاب الى حد يعْسُرُ على الطلبة تحصيله. أما هنا فالعذر زائل، والمانع ذاهب، فاستوعب ما يفتع الله به إن شاء الله تعالى، وجعلتُ مبادئ المباحث في القواعد بذكر الفروق والسؤال عنها بين فرعين أو قاعدتين، فإن وقع السؤال عن الفرق بين الفرعين فبيانه بذكر فاعدة أو قاعدتين يحصل بهما الفرق، وهما المقصودتان، وذِكْر الفرق وسيلة لنحصيلهما، وان وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما، وَيكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولَى من تحقيقهما بغير ذلك، فإنَّ ضَمَّ القاعدة الي ما يُشاكلها في الظاهر ويضادها في الباطن أولى، لِأنَّ الضد يُظهر حُسْنَه الضدُّ وبضدها تتميز الأشياء، وتقدم فبل هذا كتاب لي سميته كتاب (الإحكام في الفرق بين الفتاوي والأحكام، وتَصَرُّفِ القاضي والإمام، ذكرت في هذا الفرق أربعين مسألة جامعة لأسرار هذه الفروق، وهو كتاب مستقِل يُستغنَى به عن الإعادة هنا. فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسن فِي بابه، وعوائدُ الفضلاء وضعُ كتب الفروق بين الفروع، وهذا في الفروق بَيْن القواعد وتلخيصها، فله من الشرف على تلك الكتُب شرف الاصول على الفروع، وسميته لذلك (أنوار البروق، في أنواء الفروق)، ولك أن تسمِيه كتابَ الانوار والانواء)، أو كتاب (الانوار والقواعد السّنِية في الاسرار الفقهية)، كل ذلك لَكَ، وجمعت فيه مِن القواعد خمسَمائة وثمانية وأربعين قاعدة، أوضحت كل قاعدة بما يناسبها من الفروع حتى يزداد انشراح القلب لغيرها".
ومن خلال هذه المقدمة التى أتى بها الإمام شهاب الدين القرافي عن كتابه الفروق ومكانته العلمية تتجلى كذلك نفس المكانة التى لكتاب اختصاره وترْتيبه من طرَف الشيخ أبي عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري، حيث اختصر فيه كتاب الفروق، ورتب قواعده وفق العلوم المختلفة وعلى الابواب الفقهية، وألحق به وأضاف اليه ما يناسبهُ من القواعد والمسائل والفروع المماثلة، ونبه فيه على ما لم يذكره شيخه القرافي، فجاء كتاب الترتيب هذا صورة وصياغة جديدة لكتاب الفروق، تيسر الاستفادة منه والانتفاع به، وتسهل الرجوع الى قواعده ومسائله، وتعين على ادراكه وفهمه، وعلى استيعابه وتحصيله.
وانطلاقا من هذه المكانة التى لكتاب ترتيب الفروق كتراث فقهي جليل، وانتاج مغربى اصيل. يكشف عن اهتمام علماء الغرب الاسلامي في الاندلس والمغرب بهذا العلم المتصل بأصول الفقه وقواعده الكلية، ويبرز مدى تمكنهم منه وتعمقهم فيه، واسهامهم بالتاليف بين تلك المؤلفات القيمة الخالدة التى الفها علماء اجلاء في هذا العلم، ودونها فقهاء أعلام على اختلاف مذاهبهم الفقهية، وتنوّع
1 / 6
توجهاتهم العلمية. امثال قواعد الاحكام في مصالح الانام لسلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام، والاشباه والنظائر لكل من الامامين، جلال الدين السيوطى، وابن نجيم الحنفى، وقواعد الفقهيه ابن رجب الحنبلي، واصول الفتيا في المذهب المالكي للفقيه محمد بن حارث الخشني الاندلسى، والقواعد للفقيه المغربي الضليع محمد المقري، والكليات للفقيه ابن غازى العثماني المكناسي، وشرح المنهج المنتخب على قواعد المذهب لمؤلفه الفقهيه الشيخ احمد المنجور، وغيرُهم من العلماء النين الفوا في القواعد الفقهية، وأصَّلُوها في مؤلفاتهم القيمة، سواء منهم علماء المشرق والمغرب، ﵏ أجمعين.
وادراكا من وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية لتلك الأهمية العليمة التى لكتاب ترتيب الفروق واختصارها بين تلك المؤلفات القيمة التي اشرت الى بعضها فقد ارتأت طبعه ضمن كتب التراث الاسلامي والدراسات الاسلامية التى تطبعها وتصْدرها في مطلع شهر رمضان من كل عام، لتيسير الاستفادة منه والانتفاع به من طرف السادة العلماء المتمكنين، والاساتذة المتخصصين، والدراسين الباحثين المهتمين بالفقه واصوله وقواعده، وعهدتْ إلي بمراجعته وتحقيقه، فتهيبت في اول الامر القيام بمثل هذا العمل العلمي الهام، لما أعرف عن الكتاب من أنه كتاب مترامي الاطراف، واسع الموضوع، عميق الأسلوب، متضمن لعلوم كثيرة، ومصنفات عديدة، ومشتمل على أسماء واعلام علمية وفيق، جعلت منه موسوعة فقهية كبيرة، يتطلب تحقيقها جهدًا كبيرا، وصبرا جميلا متواصلا.
غير أني بعد التفكر والتأمل، استحضرت الكلمة المعروفة بين العلماء، والقائلة: ما لا يُدرَك كله، لا يترَك كله او جله" فجَدَّدت الارادة، وشحنت العزيمة، وشرعت في عمل التحقيق والمراجعة، متوكلا على الله تعالى، ومعتمدًا عليه سبحانه، ومستعينا به جل علاه، وسائلا منه سبحانه العون والمدد، والتوفيق إلى السداد والصواب، واضعا نصب عينى أن يكون حسبي انني ساهمت في العطاء العلمي الفقهي بتحقيق هذا الكتاب المخطوط، واخراجه الى حيز الوجود، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، واليه انيب.
وقبل المشروع في العمل كان لابد من التعرف والاطلاع على ما هو موجود من نسخ هذا المخطوط بالخزائن المغربية العامة، والتأكد والتثبت من توثيق الكتاب، وصحة نسبته الى مؤلفه، وسلوك خطة ومنهج علمي في تحقيقه واخراجه سليما في نصه، ومضمونه، فأمكن، والحمد لله، الاطلاع على ذلك من الخزانات العامة والمكتبات الاتية:
١) - نسخة الخزانة العامة بالرباط، تحمل رقم ٢٦٢١ د
٢) - نسخة الخزانة الحسنية بالرباط تحمل رقم ١١٨٤٤
٣) - نسخة ثانية بالخزانة الحسنية تحمل رقم ١١٧٧٨
٤) - نسخة خزانة القرويين بفاس تحمل رقم ١٢٦٩.
٥) - نسخة من الخزانة الوطنية بتونس، رقم ٣٣٨٠.
٦) - نسخة ثانية من تونس رقم ٦٧٥٥.
أما نسخة الخزانة العامة بالرباط، فهي نسخة نامة مكتوبة بخط مغربي اندلسي واضح، تختلف كتابته من باب الجهاد، مما يفيد ويعطي أنها كتبت من طرف ناسخيْن، مسطرتها ٢٥، طولها ٢٨ × ٢٠ يبدو عليها اثر القدم عارية، عن اسم الناسخ، وتاريخ النسخ عليها طُرَرٌ في بعض الصفحات تدل على انها مقروءة ومصححة.
1 / 7
أما نسخة الخزانة الحسنية رقم ١١٨٤٤، فهي كذلك نسخة تامة، مكتوبة بخط مغربي اندلسي واضح، عارية عن ذكر اسم الناسخ وتاريخ النسخ طولها ٢٠ × ١٤ مسطرتها ٢١، وتبدو من حيث الخط والجدة انها متاخرة النسخ بالنسبة الى نسخة الخزانة العامة، وإلى النسخة الثانبة بالخزانة الحسنية رقم ١١٧٧٨، فهذه النسخة المكتوبة بخط مغربي يبدو عليها اثر القدم والقراءة من خلال الطرر الموجودة بهامشها، وهي مبتورة بعد الصفحات الاولى منها الى باب النكاح، عارية كذلك عن اسم الناسخ وتاريخ النسخ.
أما عن نسخة القرويين، فهي كذلك تامة مكتوبة بخط مغربي جميل، يبدو عليها أثر القدم، طولها ٢٠ × ١٥، مسطرتها ٢٨، مذكور فيها تاريخ النسخ بأرقام خاصة غير متعارفة عندنا.
أما نسخة الخزانة الوطنية بتونس رقم ٣٥٨٠، فهي نسخة تامة مكتوبة بخط شرقي، استخرجت من ميكرو فيلم بالخزانة العامة بالرباط، فجاءت صفحاتها دكناء تصْعب قراءتها وإلاستفادة منها بسهولة، وتعتبر اقدم هذه النسخ من حيث انها مذكور فيها اسم الناسخ، ومثبت فيها تاريخ النسخ بسنة ٨٧٨، اي القرن التاسع الهجرى على يد ناسخها محمد أبي الفتح بن محمد الحسني المدني بالقاهرة المحروسة. طولها ٢٠ × ١٥، مسطرتها ٢٨ غير انها مليئة بالاخطاء النسخية الاملائية والنحوية، اضافة الى ما هي عليه من صعوبة القرآة، كتب على صفحتها الأولى تصويب نسبة كتاب ترتيب الفروق هذا الى مؤلفه أبي عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري، من طرف الشيخ عمر حمدان، استدراكا على نسبته فى أول صفحة من النسخة التونسية الاخرى الى الفقيه محمد المقري.
وهذه النسخة الثانية من تونس رقم ٦٧٥٥، هي كذلك نسخة تامة، مكتوبة بخط شرقي مقروء طولها ٢٣ × ١٥، مسطرتها ٢٢، وهي تبدو قديمة ولكنها بعد النسخة الاولى، حيث انها مؤرخة النسخ بتاريخ صفر عام خمسين ومائة والف، على يد ناسخها محمد بن عبد القادر الفاسى ﵀، وهى تبْدو سليمة جدا من الاخطاء النسخية بالمقارنة مع سابقتها، وهي كذلك صعبة الفراءة لكون صفحاتها دكناء، حيث استخرجت من ميكرو فيلم وافاني به احد الاساتذة الافاضل من علماء تونس جزاه الله خيرا.
وبعد الاطلاع عليها كلِها امكن لي من خلال هذه النسخ والمفارنة بينها أن أعتمدَ في التحقيق والتصحيح على ثلاث نسخ منها: نسخة الخزانة العامة، ورمزت اليها بحرف العين هكذا ع. ونسخة الخزانة الحسنية المكتملة، ورمزت لها بحرف الحاء هكذا، ح، وذلك لما يبدو علي، الاولى من كونها قديمة الكتابة، سليمة او قليلة الاخطاء، مقروءة ومصححة من طرف بعض العلماء كما يظهر ذلك من خلال الطرر الموجودة بهامشها، فاعتبرتها الأصل، واتخذتها النسخة الاولى، وقابلتها على نسخة الخزانة الحسنية لوضوحها وسلامتها، وقلة اخطائها، واستعنت - كلَّمَا استوقفتنى كلمة او عبارة في الكتاب- بالرجوع الى النسخة التونسية ٦٧٥٥، لكونها اسلم وادق من الاخرى وان كانت اقدم منها. اما نسخة خزانة القرويين فلم يتَحْ لي أن احصل عليها في تحقيق هذا الجزء الاول والنصف الاول منه، على أمَلِ ان تكون بين يدي في تحقيق ومراجعة النصف الثاني منه بحول الله.
وكان لابد بعد هذا من التثبت من توثيق الكتاب والتاكد من صحة نِسبتهِ الى مؤلفه الشيخ البقوري، وكان اعتمادي ومرجعى في ذلك على امرين:
الامر الاول النُّسَخ المخطوطة للكتاب، والتي كلها تنسبه الى المؤلف المذكور،
1 / 8
الأمر الثانى: كتب التراجم التى ترجمت لهذا المصنف، وتنسب له هذا الكتاب بعبارة: "وله كلام على كتاب الشهاب القرافى في الاصول"، أو عبارة ولَهُ حاشية عليه، كما تنسب له كتاب إكمال الاكمال في الحديث على صحيح الامام مسلم، وهذا الكتاب نص عليه المؤلف نفسه، وذكره فى ثنايا كلامه على احدى القواعد الفقهية الواردة فيه.
وكما ورد فى حديث: الأمة لا تجتمع على ضلالة، فان اجتماع هذه النسخ الخطية وكتب التراجم كها على نسبة هذا الكتاب الى مؤلفه البقوري لهو مما يفيد اليقين ويبعث على الاطمئنان. والاشكالية التى تشغل البال، ولم يقع التاكد منها بعد، خاصة بعد الاتصال باصحاب الفضيلة العلماء ذوي البحث والاختصاص في التراث العلمي والتاريخ الاسلامي، هي نسب المؤلف البقوري بالياء المثناة او البقوري بالباء الموحدة، حيث نجد نفح الطيب للمقري بذكره بالياء، وينسب ذلك للمقري في كتابه الخطط، بينما الديباج لابن فرحون، وكل من ينقل عنه من الأعلام للفقيه القاضي محمد بن ابراهيم المراكشي، والاعلام لمؤلفه العلامة الزركلي يذكرونه بالباء الموحدة وينصون على ذلك، وكلهم يتفقون على ان يقورة بالياء او الباء والقاف المشددة بلد بالاندلس هي مولد صاحب هذا الكتاب، على أن البحث العلمي المتواصل سيصل بنا الى تحقيق هذه المسألة، وان كان يبدو أن الراجح هو ما ذكره ابن فرحون في الديباج، ونقله عنه المتأخرون من كونه البقوري بالباء الموحدة وتشديد القاف، وهو ما وقع الميل اليه والاطمئنان اليه، وجعله فى عنوان الكتاب، على امل ان يصادف الحق والصواب.
أما عن النهج الذي سلكته في التحقيق فيمكن اجماله في النقط الاتية:
١) الاكتفاء بالمقابلة على نسختين، والاستعانة بنسخة ثالثة كلما دعت الضرورة لذلك، نظرا لكون هذه النسخ متساوية في مضمون الكتاب ومحتواه، ولتعذر المقابلة على اكثر من ذلك من طرف شخص واحد، وبالنسبة لكتاب اكبر الحجم مثل هذا الكتاب.
٢) الحرص على تصحيح النص وسلامته من الاخطاء النسخية الاملائية والنحوية التي لا تخلو منها نسخة من هذه النسخ كلها على تفاوت بينها في ذلك.
٣) ربط كل قاعدة من قواعد هذا الكتاب بالفرق المقابل لها في الكتاب الاصلي الذي هو الفروق للإمام القرافي، والاشارة الى ذلك في الهامش، والى الجزء والصفحة التى يوجد فيهَا الفرق بالنسبة للطبعة الاولى لكتاب الفروق، التى صدرت عن مطبعة دار احياء الكتب العربية بتاريخ رجب الفرد سنة ١٣٤٤ هـ. على انه اذا تعددت الطباعة واختلفت نسخها، فان ذكر الفرق وحدَه يُقربُ الرجوع اليه بقطع النظر عن الصفحة التى يوجد فيها بالنسبة لهذه الطباعة او طبعة اخرى جديدة. بحيث يسهل الرجوع الى ذلك الفرق عند ارادة التوسع فيه او استيضاح ما يكون فد غمض على الدارس والباحث فى مطالعته ومراجعته لترتيب الفروق واختصارها، إذْ الإيجازْ والاختصار فد يبقى معه المعنى احيانا غامضا غير واضح يحتاج الى مزيد من التفصيل والبيان.
٤) ومراعاة لذلك، فقد كنت احيانا آتى بعبان من كتاب القرافي لتوضع عبارة او مسألة عند الشيخ البقوري، واذكر ذلك في الهامش.
٥) نظرا لما لحاشية عمدة المحققيين سراج الدين ابي القاسم قاسم بن عبد الله الانصارى المعروف بابن الشاط، والمسماة أدرار الشروق على أنوار الفروق من اهمية ومكانة، في تصويب
1 / 9
وتصحيح كثير مما ورد في كتاب الفروق للقرافي حتى قال أهل التحري والاحتياط. في شأن هذه الحاشية: "عليك بفروق القرافى، ولا تقبل منها إلا ما قبله ابن الشاط، وذكر بعض الافاضل الموثوق بهم أن قائل هذه العبارة هو الشيخ أحمد بابا النتبكتي صاحب نيل الابتهاج بتطْرِيزِ الديباج، وغيره من المؤلفات العلمية القيمة، نظرا لذلك فقد كنت في كثير من الأحيان التى بتعليقاته في الهامش، وأذكر تحقيقاته فيه، لما فيها من تدقيق وتصويب في المسألة وفائدة علمية جديدة، فجاء هذا الكتاب في تحقيقه جامعا بين ما عند البقوري في اختصاره، وما عند القرافي في أصل كتابه، وما عند ابن الشاط في تعقيبه وإفاداته الدقيقة.
٦) أحيانا قليلة كنت بكل تواضع أعقب على كلام ابن الشاط حين ما أراه يستنتج من كلام القرافي ما قد يكون بعيدا عن مراده وقصده من القاعدة او العبارة، وحينما أراه يقسو عليه في أسلوبه، فأحاول التصويب والتوفيق بين كلام هذين العالمين الجليلين اللذين لهما من التمكن والتضلع في العلوم النقلية والنقلية ما هو غني عن كل بيان.
٧) خرجت ما في الكتاب من الآيات القرآنية وذكرت السورة ورقم الآية في المصحف الكريم، كما خرَّجت كُلَّ مَا امكن لي تخريجُهُ من الاحاديث النبوية الواردة في الكتاب، إفادة للقارئ وتسهيلا عليه في البحث عن موضوع الآية او راوى الحديث ومُخرِجه.
٨) كنت أستطرد احيانا، فأصحح كلمة او عبارة، او أشرح مصطلحات علمية أو بلاغية او منطقية أو نحوية، وأستشهد لها بابيات من منظومة المنطق، او منظومة الفقيه ابن مالك، بقصد الاستشهاد لذلك التصويب والتصحيح، وتذكيرا لبعض الدارسين والباحثين بتلك القواعد والمصطلحات، وتيسيرا لهم على استحضارها واستيعابها، علما مني بأنها من المعلومات البديهية والضرورية لدى علمائنا الاجلاء، ولكنها مفيدة لبعض الدارسين.
٩) لم أتعرضْ لما في الكتاب من مؤلفات واعلام ترِدُ في ثناياه، فلم أتعرض للبحث عنها كلها، ولترجمتها كلها، نظرا لكونها موجودة في الكتب المتخصصة في تراجم العلماء وطبقاتهم على اختلاف مذاهبهم، وحتى لا يخرج الكتاب عن الحجم المطلوب والهدف المنشود.
ذكرت بعض التراجم القليلة حين يرد ذِكرهم بوصف أوْ اضابة كتاب كأن يقال: صاحب القبس، أو صاحب المقدمات، او صاحب الطراز مثلا، وهي تراجم قليلة بالمقارنة مع وفرة التراجم الاخرى الموجودة داخل الكتاب، والتى لم اتعرض لها اختصارا وايجازا.
هذا هو المنهج الذى نهجته وسلكته، والمجهُود الذىِ بذلته في تحقيق هذا الجر الاول وتصحيحه من كتاب ترتيب الفروق واختصارها.
وسيلاحظ القارئ أني لم اتعرض لدراسة عن هذا الكتاب ومؤلفه، تبرز بتفصيلٍ، الجوانبَ التى يتميز بها بالنسبة الى الاصل الذى هو كتاب الفروق، فقد رأيت أن ارجئها الى حين استكمال الكتاب كله بإتمام تحقيق النصف الثاني منه في الشهور القادمة بحول الله، لتتم الصورة الكاملة والنظرة العامة عن الكتاب، ويمكن استيعاب جوانب الاختصار والتعقيبات التي جاءت فيه، وتكون الدراسة بذلك وافية، وتصدر في جزء خاص بها ان شاء الله تعالى وبعونه وتوفيقه، خاصة اذا ما علمنا ان شخصية الشيخ البقورىِ مغمورة، وأن الكتب التى تعرضت لترجمته لم تتوسع فيها، وانّما تقتصر على
1 / 10
تناولها بايجاز لا يمكن من تكوين دراسة شاملة ومعمقة عنه، ولا يساعد مما يتطلب المزيد من البحث والوقت الكافي لذلك.
واذا كنت أقدمت على تحقيق هذا الكتاب بانجاز لجزء الاول منه، ومواضلة العمل في الجزء الثاني فإني لا أدعى أنه قد بلغت الكمال في هذا العمل العلمي الواسع، فحسبى كما ذكرت، أن اكون قد عملت على اخراجه من عالم المخطوط، ويسرته ليكون ضمن ما هو مطبوع، وآمل وارْجُو ان يرونه اصحاب الفضيلة العلماء والاساتذة الاجلاء المتخصصون في مجال تحقيق التراث ونشره بما يرونه من ثغرات او يبدو لهم من ملاحظات، حتى يمكن تداركها فى الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وأختم هذه المقدمة بالعبارة التى أتى بها الشيخ خليل بن اسحاق المالكي فى مقدمة مختصره الفقهي حيث قال ﵀:
والله المسؤول ان ينفع به كل من قرأه أو حصله او سعى في شيء منه، فَمَا والله يعصمنا من الزلل، ويوفقنا في القول والعمل، وأعتذر لذوي الالباب من التقصير الواقع في هذا العمل، فَمَا كان من نقص كملوه، ومن خطأ اصلحوه، فقلما يخلص مصنف من الهفوات او ينجو مؤلف من العثرات. وفي معنى ذلك: قلما ينجو محقق من الهفوات، أو يسلم باحث من الملاحظات. والاعمال بالنيات، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل ويدعو الى دار السلام، ويهدى من يشاء الى صراط مستقيم.
المحقق: ذ. عمر ابن عباد
1 / 11
ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى العلاء: ادريس بن عبد الرحمن ابن عبد الله الصنهاجي المصري: الإِمام العلامة، وحيدُ دهرِه، وفريدُ عصره - أحد الأعلام المشهورين، انتهت اليه رئاسة الفِقْه على مذهب مالك، رحمه الله تعالى، وَجَدَّ في طلب العلوم، فبلغ الغاية القصوى، فهو الإمام الحافظ، والبحر اللافظ، المفوه المنطيق، والآخذ بأنواع الترصيع والتطبيق دلت مصنفاته على غزارة فوائده، وأعربت عن حسن مقاصده، جمع فأوعى، وفاق أضرابه جنسا ونوعا.
كان اماما بارعا في الفقه، والأصول، والعلوم العقلية، وله معرفة بالتفسير، وتخرج به جمع من الفضلاء، وأخذ كثيرا من علومه عن الشيخ الامام العلامة الملقب بسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام الشافعي، وأخذ عن الإِمام العلامة شرف الدين: محمد بن عمران الشهير بالشريف الكوكي، وعن قاضي القضاة شمس الدين: أبى بكر محمد بن ابراهيم بن عبد الواحد المقدسى، سمع عليه مصنفه كتاب "وصول ثواب القرآن".
كان أحسن من ألقى الدروس، وحَلَّي من بديع كلامه نحور الطروس، ان عرضت حادثة فبحسن توضيحه تزول، وبعزيمته تحول، فلفقده لسان الحال يقول:
حلف الزمان لياتين بمثله ... حنِثَتْ يمينك يا زمانُ فكفر
سارت مصنفاته مسير الشمس! ورزق فيها الحظ السامي عن اللمس! مباحثه كالرياض المؤنقة! والحدائق المورقة! تتنزه فيها الأسماع دون الأبصار! ويجني الفكر ما بها
_________
(*) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. لابن فرحون المالكي جـ ١، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.
1 / 13
من أزهار وأثمار! كم حرر مناط الإِشكال؟ ! وفاق أضرابه النظراء والأشكال؟ ! وألف كتبا مفيدة انعقد على كمالها لسان الإِجماع! وتشنفت بسماعها الأسماع. منها: كتاب "الذخيرة" في الفقه، من أجَلِّ كتب المالكية. وكتاب "القواعد" الذي لم يُسْبق الى مثله ولا أتى أحد بعده بشبهه، وكتاب "شرح التهذيب"، وكتاب "شرح الجلاب" وكتاب "شرح محصول الإِمام فخر الدين الرازي" وكتاب "التعليقات على المنتخَب" وكتاب "التنقيح" في أصول الفقه، وهو مقدمة "الذخيرة" وشرحه كتاب مفيد، وكتاب "الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة" في الرد على أهل الكتاب، وكتاب "الأمنية في ادراك النية"، وكتاب "الاستغناء في أحكام الاستثناء"، وكتاب "الإِحكام، في الفرق بين الفتاوى والأحكام" اشتمل على فوائد غزيرة، وكتاب "اليواقيت في أحكام المواقيت"، وكتاب "شرح الاربعين" لفخر الدين الرازي في أصول الدين.
وكتاب "الانتقاد في الاعتقاد" وكتاب "المنجيات والموبقات": في الأدعية وما يجوز منها، وما يكره، وما يحرم. وكتاب "الإبصار في مدركات الأبصار" وكتاب "البيان في تعليق الأيمان" وكتاب "العموم ورفعه"، وكتاب "الاجوبة عن الأسئلة الواردة على خطب ابن نباتة" وكتاب "الاحتمالات المرجوة" وكتاب "البارز للكفاح في الميدان" وغير ذلك.
قال الشيخ شمس الدين ابن علان الشافعي: أخبرني خالي الحافظ شيخ الشافعية بالديار المصرية أن شهاب الدين القرافي حرر أحد عشر علما في ثمانية أشهر - أو قال: ثمانية علوم في أحد عشر شهرا.
وذكر عِن قاضى القضاة تقي الدين بن بكر - قال: أجمع الشافعية والمالكية على أنَّ أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القرافي بمصر القديمة، والشيخ ناصر الدين بن منير بالاسكندرية، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة المعزية، كلهم مالكية، خلا الشيخ تقي الدين، فإنه جمع بين المذهبين.
1 / 14
قال أبو عبيد الله بن رشيد. وذكر لي بعض تلامذته أن سبب شهرته بالقرافي أنه لما أراد أن يثبت اسمه في بيت الدرس كان حينئذ غائبا فلم يعرف اسمه، وكان إذا جاء للدرس يقبل من جهة القرافة، فكتب القرافي، فجرت عليه هذه النسبة.
وتوفي ﵀ بدير الطين في جمادى الآخرة عام أربعة وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة.
وكان القرافي ﵀ كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين:
وإذا جلست الى الرجال وأشرقت ... في جو باطنك العلوم الشرد
فاحذر مناظرة الحسود، فإنما ... تغتاظ أنت ويستفيد ويحرد
وكان كثيرا ما يتمثل بقول محيى الدين، المعروف بحافي رأسه:
عتبت على الدنيا، لتقديم جاهل ... وتأخير ذى علم فقالت خذ العذرا
بنو الجهل أبنائى، وكُلُّ فضيلة ... فأبناؤها أبناء ضرتيَ الأخْرَى
1 / 15
ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط (*)
هو قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط، الأنصاري نزيل "سبتة" يكنى "أبا القاسم" قال: والشاط اسم لجدى، وكان طوالا فجرى عليه هذا الاسم.
كان رحمه الله تعالى نسيج وحده في أصالة النظر، ونفوذ الفكر، وجودة القريحة، وسَديد الفهم الى حسن الشمائل، وعلو الهمة، والعكوف على العلم، وإلاقتصار على الآداب السنية، والتحلي بالوقار والسكينة.
أقرأ عمره بمدينة "سبتة" الأُصول والفرائض، مقدَّما، موصوفا بالإِمامة، وكان موفور الحظ من الفقه، حسن المشاركة في العربية، كاتبا مترسلا ريانا من الادب، له نظر في العقليات.
قرأ على الاستاذ أبى الحسين بن الربيع، وعلى الحافظ أبى يعقوب المحاسبى وغيرهم. وأجازه أبو القاسم بن البراء، وأبو محمد بن أبى الدنيا، وأبو العباس بن الغماز، وأبو جعفر الطباع، وأبو بكر بن فارس وغيرهم.
وأخذ عنه الجلة من أهل الاندلس كالاستاذ أبى زكريا بن هذيل، وشيخه أبي الحسن بن الجياب والقاضي أبى بكر بن شيرين وغيرهم.
وله تأليف، منها: "أنوار البروق، في تعقب مسائل القواعد والفروق" و"غنية الرائض في علم الفرائض" و"تحرير الجواب في توفير الثواب"، وفهرست حافلة. وكان مجلسه مؤلفا للصدور من الطلبة والنبلاء من العامة.
مولده في عام ثلائة وأربعين وستمائة بمدينة سبتة.
وتوفي بها عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة رحمة الله عليه.
_________
(*) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، للفقيه ابن فرحون المالكى. جـ ٢، دار التراث - القاهرة.
1 / 16
ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري (*)
هو محمد بن ابراهيم بن محمد الليثى نسبا، البقورى بلدا، المراكشي وفاة.
وبقور بباء موحدة مفتوحة، وقاف مشددة، وراء مهملة، بلد بالأندلس، سمع القاضى الشريف محمد الاندلسى، ووضع كتابا سماه (إكمل الإكمال) للقاضي عياض،
وله كلام على كتاب شهاب الدين القرافي في الاصول.
قدم الى مصر وأرسل معه بعض السلاطين بالغرب ختمة كبيرة بخط مغربي منسوب ليوقفها بمكة أو بالمدينة، ورجع الى مراكش فتوفي بها سنة سبع وسبعمائة. هـ.
ترجمه في (الديباج) وفي (النفح) قائلا: وقد زرت قبره مرارا، انتهى.
وقد ذكِر شئ من أحواله بترجمة أبى عبد الله الكَومي المراكشي، وفي ترجمة أبى العباس الشبلي، وذكر في (نور البصر) في ترجمة الامام المازرى، وقبره في قبة صغيرة ملاصقة لحائط قبة الشيخ الجزولي مؤلف (دلائل الخيرات) من جهة رأسه، وهو صاحب الروضة المذكورة قبل أن يدفن بها الجزولي ﵄.
_________
(*) كتاب الأعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، للفقيه العباس بن ابراهيم المراكشي جـ ٤ ط. الملكية - الرباط - ١٩٧٦.
1 / 17
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
ترتيب الفروق واختصارها (*)
تأليف أبي عبد الله محمد بن إبراهيم البقورى.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.
والصلاة والسلام على سيد الرسلين، ورضى الله عن آله وأصحابة أجمعين.
وبعد، فإني لما وقفت على الفروق التي لشيخنا الأجل، الإمام الأفضل، العالم العَلَمِ المشارك، شهاب الدين أبي العباس، أحمد بن الشيخ الأجل المرحوم أبي العُلَى، إدريس القرافي قدس الله روحه ونور ضريحه، وعلمت ما شهدت به من فضل مؤلفها وجلالة قدره، ظهر لي أنه - رحمه الله تعالى - ما منعه أن يرتبه (١) ترتيبا يسهل على الناظر فيه مطالعته، إلا أنه خرج من يده بإثر جمعه، فانتشرت منه نسخ على ما هو عليه، أعجزه ذلك وعاقة عن أن يغيره، فرأيت أن ألخصه، وأن أرتبه، وأن أنبه على ما يظهر خلال ذلك في كتابه، وأن ألحق به ما يناسبه، مما لم يذكره ﵀، فيكون هذا كالعون على فهم الفروق المذكورة وتحصيلها.
_________
(*) رتب واختصر فيه هذا المؤلف الجليل المتوفى بمراكش عام سبع وسبعمائة هجرية (٧٠٧ هـ) كتاب الفروق في القواعد الفقهية لشيخه الأجل، شهاب الدين احمد بن ادريس القرافي ﵀.
(١) الضمير بالتذكير يعود على قواعد الفروق بمعنى الكتاب، وكان مقتضى السياق والانسجام مع الكلمات والضمائر السابقة، أن ياق في هذه الجملة بضمير التانيث، ويقول: "يرتبها ترتيبا" وهذا التنويع في اعادة الضمير على ما قبله مستعمل في الاسلوب العربي حيث لا لبس في الكلام، ويعرف عند علماء البلاغة بالاستخدام وهو احد المحسنات المعنوية في علم البديع، حيث يكون للفظ معنيان: احدهما ظاهر، والاخر خفى، ويعاد عليه الضمير بالمعنى الثاني الخفي، كما في قول جرير في المطر:
إذا نزل السماء بارض قوم ... رعيناه وان كانوا غِصَابًا (أو غِضابا)
فلفظ السماء مؤنث، واعيد عليه الضمير بالمونث، على اعتبار ان المرادَ به المطر، وهو مؤنث، فالمعنى اذن جَلِي واضح.
1 / 19
والله سبحانه ينفع بذلك، ويجعله خالصا لوجهه بمنه وكرمه.
ولنذكر قبل الخوض في التلخيص المذكور ترتيب الكتاب جملة، بحيث يعين على إخراج مسائله لمن لم يكثر نظره فيه، فأقول:
1 / 20
الترجمة الأولى:
القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها مما في الكتاب.
وهي تشتمل على ثلَاثَ عشْرة قاعدة:
القاعدة الأولى: في تقرير أن الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة.
القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة.
القاعدة الثالثة: في اجتماع المصالح، وفي اجتماع الفاسد، وفي اجتماعهما.
القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن.
القاعدة الخامسة: فيما يُترَك من المصالح لسبب، وفيما يُفعَل من المفاسد لسبب.
القاعدة السادسة: في بيان أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل الفاسد يُنهَى عنها.
القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة.
القاعدة الثامنة: في أمْرِ الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد؟
القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله تعالى.
القاعدة العاشرة: في أن المصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قدمنا- معتبرة.
القاعدة الحادية عشرة: في بيان أن الفضيلة والرذيلة على حسب المصلحة والمفسدة.
القاعدة الثانية عشرة: في بيان أحكام قد تحرج عن ذلك.
القاعدة الثالثة عشرة: في بيان أن أحوال القلب في المعرفة أصل في أحواله من الخوف والرجاء، وغير ذلك من المقامات.
1 / 21
الترجمة الثانية:
القواعد النحوية وما يتعلق بها،
وفيها خمس عشرة قاعدة.
القاعدة الأولى: في الشرط.
القاعدة الثانية: في تقرير مقتضى إن، ولو الشرطيتين بحسب الزمان.
القاعدة الثالثة: في تقرير مقتضى اذا، والفرق بينهما وبين إن الشرطية.
القاعدة الرابعة: في تقرير حصر المبتدأ في الخبر.
القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه.
القاعدة السادسة: في تقرير معنى اللفظ المنقول.
القاعدة السابعة: في تقرير الاستثناء والفرق بينه وبين الشرط
القاعدة الثامنة: في الفرق بين توقف الحكم على سببه، وبين توقفه على شرطه.
القاعدة التاسعة: فيما به يفترق جزء السبب عن الشرط، وفيما به يشتركان.
القاعدة العاشرة: في بيان المانع.
القاعدة الحادية عشرة: في تقرير الإِشكال الوارد على من قال: عدم المانع شرط، وحَلِّ ذلك.
القاعدة الثانية عشرة: في الفرق بين توالي أجزاء المشروطات، وبين توالي المسببات مع الأسباب.
القاعدة الثالثة عشرة: في الفرق بين الترتيب بالأدوات اللفظية وبين الترتيب بالحقيقة الزمانية.
القاعدة الرابعة عشرة: في تقرير قبول الشرط، والتعلق على الرابط.
القاعدة الخامسة عشرة: في بيان أن التعليق على خمسة أقسام.
1 / 22
الترجمة الثالثة:
القواعد الأصولية:
الأمر والنهي وما يتعلق بهما.
وفيها ثمان وعشرون قاعدة:
القاعدة الأولى: لتقرير خطاب الوضع وخطاب التكليف.
القاعدة الثانية: نقرر فيها فرض العين وفرض الكفاية.
القاعدة الثالثة: في الفرق بين الأمر المطلق ومطلق الأمر.
القاعدة الرابعة: في الفرق بين خطاب غير المعَيَّن، والخطاب الغيرِ المعَيَّنِ.
القاعدة الخامسة: في بيان أن غير الواجب لا يجزئُ عن الواجب.
القاعدة السادسة: في تقرير أن أشياء جاءت في الشريعة يتوهم أنها ناقضة علينا القاعدة الخامسة المذكورة، وهي أن ما ليس بواجب لا يجزئ عن الواجب.
القاعدة السابعة: في الميز بين ما يثاب عليه من الواجبات، وبين ما لا يثاب عليه منها وإن وقع واجبا.
القاعدة الثامنة: تقرير ضعف ما ذكره الناس من تحديد الأداء والقضاء.
القاعدة التاسعة: في تقرير صحة القول بالأداء مع الإثم.
القاعدة العاشرة: في حقيقة الواجب الموسّع.
القاعدة الحادية عشرة: في تقرير الكلي الواجب فيه، وبه، وعليه.
القاعدة الثانية عشرة: في تقرير أنَّ النهى يدل على الفساد أم لا؟
القاعدة الثالثة عشرة: في تقرير أن النهى ينقسم الى خاص وعام.
القاعدة الرابعة عشرة: في تقرير الإذن العام من قبل الشارع والإذن الخاص من قبل المالك.
القاعدة الخامسة عشرة: في المندوب الذي يقدم على الواجب من الذي لا يقدم عليه.
1 / 23