أو يقول آخر: توكل.
ثم يمضي خطاب إلى غرفة السلاح في بيته، فيفتحها ويدخل كل منهم إلى سلاحه الذي يعرفه، وهم جميعا يصرون ألا يستعملوا إلا السلاح الذي مردوا عليه. وقد كان بعضهم يقول في فخر: إن بينه وبين سلاحه لغة لا يفهمها إلا هو وسلاحه.
وكانوا ستة نفر لهم عند هجومهم طقوس غير مكتوبة، وإنما هي تكونت بطول الدربة، وبكثرة العمليات، فكان لكل منهم ملبسه الذي خصصه لليالي العمل، وكان كل منهم يستبشر بملبسه هذا، فكان لا يلبسه إلا في الليلة التي يعمل فيها، حتى لا تهلكه كثرة الاستعمال. وكانوا إذا ساروا إلى مهمتهم ذهبوا إليها أزواجا، وكان كل واحد منهم يعرف رفيق عمله. وكان خطاب يخبرهم في كل مرة بمكان تجمعهم، يقصدون إليه من طرق شتى، ومن منافذ متفرقة. •••
كان كدواني البرقوقي قد تاجر في البهائم في عامه هذا، وعادت عليه التجارة بربح يتجاوز العشرة آلاف جنيه، وقد عرف زين بهذا النبأ فاستقدمه إليه. - مرحبا يا كدواني.
ولم يكن كدواني ليغبى السبب الذي استدعاه زين من أجله، ولكنه شأن الدهاة من أبناء القرى يعرف كيف يخفي مشاعره، فهو يقول لزين وكأنه مطمئن: رحب الله بك يا حضرة العمدة. - لنا زمان لم نرك. - علم الله يا حضرة العمدة كم أنا مشوق إليك. - فماذا منعك يا أخي أن تزورنا؟ هل نسيت الطريق إلى بيتنا؟ - يا حضرة العمدة نحن نعتبر بيتك بيتا لنا جميعا، والإنسان لا يمكن أن ينسى الطريق إلى بيته. - فما الذي شغلك عنا يا ترى؟ - لم تفلح زرعة القطن، فاضطررت أن أرقعها، فكنت أقضي يومي كله في الغيط، وأعود إلى البيت بعد المغرب مهدودا لا أكاد أصيب من الطعام شيئا، وأوشك أن أسأل أهل بيتي أن يحملوني إلى الفراش. - كان الله في العون! - أطال الله عمرك يا حضرة العمدة! - إذن، فالذي سمعناه ليس صحيحا. - خيرا يا حضرة العمدة، وما الذي سمعت؟ - لا داعي لقوله ما دام الأمر كذلك.
وأدرك كدواني أن الحديث قد بلغ الغاية المقصودة منه ومن الاستدعاء أيضا فهو يقول: وما البأس أن تقول يا حضرة العمدة؟ والأمر كله كلام ابن عم حديث، وها نحن أولاء نسمر. - كنت سمعت أنك - فيما يقولون - تاجرت في البهائم.
ويبتسم كدواني، وكأنه لا يعير الحديث التفاتا. - آه ... أتقصد إلى هذا؟ لا وشرفك لا تجارة ولا يحزنون ... الأمر لا يزيد على كم رأس اشتريتها وأطعمتها بضعة أشهر وبعتها. وشاء الله أن يكرمني في قرشين اشتريت بها كم بهيمة أخرى لأتاجر فيها. - أحد عشر ألف جنيه لا يقال عنها قرشان. - أنت تعرف كم يبالغ الناس يا حضرة العمدة.
ويستعيد العمدة صوته الآمر المتسلط، بعد أن ظل طوال حديثه يعمل صوتا هادئا منسابا يكاد من يسمعه يظن أنه ينبعث عن نفس طيبة شفيفة لا أثر فيها لقهر أو عدوان.
يقول العمدة في نغمته الأصيلة التي يعرف أهل القرية معنى صدورها عنه: بل أنت تعرف يا كدواني أنك إذا شربت شربة ماء في بيتك، فأنا أعرف تماما كم قطرة ماء شربت. - ليس هذا بجديد علينا يا حضرة العمدة. - فمكسبك إذن أحد عشر ألف جنيه وخمسون جنيها أيضا، حتى تفهم أنني ما زلت أعرف كم قطرة شربت في بيتك. - وإذا فرضنا يا حضرة العمدة أن ما تقوله صحيح؟ - يكون عليك أن تدفع لي خمسة آلاف جنيه. - في أي شرع هذا؟ - شرع زين الرفاعي. - ولكنه ليس شرع الله يا حضرة العمدة. - ألست أنا الذي أحمي تجارتك؟ وأنا الذي أمنع عنك اللصوص أن يسرقوا بهائمك جميعا، وأمنع الخراب أن يحل بك؟
ويقول كدواني في نفسه: وهل هناك خراب أكثر من الذي تصنعه؟ ويصمت، ولكن خاطرا عجيبا يلح عليه، كيف يستطيع اللصوص أن يجعلوا إجرامهم شرعيا له منطقه، وكيف يلبسون الباطل أثواب الحق، فتطمئن نفوسهم أن ما يصنعونه بالناس عدل لا عدوان فيه، ولا افتئات، ولا تدمير فيه لإنسانية الإنسان.
صفحه نامشخص