وحول البيت رجال شداد غلاظ يتسمعون ويراقبون، فهم يعلمون أن موعد الولادة قد حان، فإن يكن أهل بيت الوليد يتكتمون في يوم مولده خبر الولادة، فإن مقدمات الولادة هيهات لها أن تتخفى في قرية كل نبأ فيها معلن، وكل همسة صيحة، وكل حركة خبرها ذائع شائع. فكيف لأم حامل أن تخفي حملها؟!
إنها قرية نائية عن الدنيا، وتكاد تبتعد عن الزمان، من قرى الصعيد القاصية من أرض مصر، أسماها الذين نزلوا بها في أول نشأتها بني عمران، وليس فيها من العمران شيء، جهلها التقدم الذي عرفه العالم، وظلت على حالها من يوم نشأتها منذ قبل الميلاد إلى يوم ميلاد الطفل الجديد، تكاد لإغراقها في الجمود إذا الأرض دارت بها لم تدر.
أما الطفل الذي يجيء اليوم فأبوه إبراهيم آدم، نال أبوه ثأر ابنه وهدان الذي قتلته أسرة حمدان لتثأر هي أيضا لقتيل لها اتهموا فيه وهدان، واضطر آدم أن يقتل سليم حمدان ليرفع رأسه في القرية، وما كاد يرفعه حتى قتلته أسرة وهدان، ولم يستطع إبراهيم أن يسكت عن ثأر أبيه فسارع إلى زعيم أسرة حمدان فقتله.
وقبل أن تقتل أسرة حمدان إبراهيم عاجلته السماء بموت رباني فوت على أسرة حمدان ثأرها، فأقسم رجال الأسرة أن يقتلوا وليد إبراهيم المنتظر إن كان رجلا، وهكذا تحلق رجال أسرة حمدان حول بيت إبراهيم ينتظرون الولادة بآذان مرهفة، وعيون طلعة تكاد تخترق الجدران اختراقا.
فكان لا بد لأسرة إبراهيم أن تعيش الأيام السابقة على الولادة منعزلة عن العالم تجهز لليوم الموعود سرا.
وكان لا بد للولادة نفسها أن تتم في هذا الصمت المطبق الذي تمت به. وقد كانت كل خشيتهم أن يعلن المولود الجديد ما تجاهد أمه في كتمانه، وما تبذله من ألم يفوق طاقة البشر في سبيل هذا الكتمان.
وولد الطفل، وقبل أن يطلق الصرخات التي يلقيها كل طفل في وجه الحياة، سارعت أخته عزيزة، ووضعت يدها على فمه، فحرمته أن يعلن الحياة بقدومه.
تمت الولادة في صمت كما أراد لها بيت إبراهيم آدم، ولكنهم كانوا يعرفون أن ما يسترونه اليوم، وما قد يخفونه يومين آخرين أو ثلاثة لا بد أن ينكشف، ولكنهم كانوا قد أعدوا للأمر عدته. •••
في الموهن الأخير من الليل خرجت عزيزة تحمل أخاها، وهي تضع يدا لها على فمه، وتلفه باليد الأخرى بخمارها الذي يغطي رأسها، ويغطي أخاها في آن معا.
وركبت عزيزة مركبا صغيرا أعدته منذ أيام، وأخفته في الأحراش الكثيفة التي تحيط بترعة الرادين. وجرت المركب في الماء مجرى وانيا هامسا، كأنه وشوشة أمواج لشاطئ؛ فقد كانت عزيزة تلمس الماء بمجدافيها لمسا هينا لا يعلو لها صوت، حتى إذا بلغت مشارف قرية التمرة أرسلت مركبها، وتلفتت حواليها في حذر وخشية، ونزلت إلى الشاطئ. وفي الخص الذي أقامته في الصباح وجدت الحمار حيث تركته، فركبته وهي تحتضن أخاها في حدب حريصة دائما ألا يصدر عنه بكاء يفضح هربها به.
صفحه نامشخص