يجب أن نربط أنفسنا بهذه الدنيا، بل بهذا الكون كله، فلا نعيش حياتنا محصورين محدودين في البيت أو المتجر، بل يجب أن نخرج من وقت لآخر كي نزور هذه الدنيا، فنعرف مياهها وجبالها وريفها، يجب أن نرصد بعض ليالينا كي نتحدث إلى القمر والنجوم، وكي نحس خلوة الصحراء في الظلام، ودبيب الصبح على رمالها، ونتسمع إلى صمتها، ونحاول أن نحس إحساسها بروح ديني.
والناس في أيامنا مشغولون بالاقتناء العقاري ينفقون عليه جهودهم ويفنون أعمارهم، ولكن كلا منا يستطيع، إذا كان فهيما حكيما، أن يقتني هذه الدنيا كلها، بل كل هذا الكون اقتناء نفسيا لا يكلفه سوى التأمل والتعرف، ويجب أن نتعمق الفكرة في هندستها، وعطرها، وألوانها، وأن نتأمل الغرب في مكره، وهو يدس دسيسة للخطف والنهب، وأن نقعد الساعات على الشاطئ كي ننقل إلى أنفسنا إحساس هذا الماء الجاري أمامنا.
إننا، وهذه الطبيعة التي تحطونا، وحده لا تنقسم، فيجب أن نتعرف إليها ونتغلغل في تفاصيلها، ونستمتع بجمالها ونقتنيها اقتناء لا ينزع من نفوسنا، هو اقتناء التأمل والدرس.
الفصل الخامس والعشرون
الطبيعة مبعث النشاط
مات منذ سنوات أديب إنجليزي يدعى «ديفز» ولكن مع أن ديفز هذا كان أديبا وله مؤلفات في الشعر والنثر فإنه لم يكن محترفا للأدب؛ لأن حرفته الأصلية كانت التشرد.
وكلمة «التشرد» تحمل كثيرا من المعاني، ولكن ديفز كان متشردا من حيث إنه آثر التجوال في الريف على الإقامة، فكان يتنقل من بقعة إلى أخرى؛ كي يستمتع بمناظر الطبيعة سواء أكانت زرعا نضرا أم ماء يجري أم جبلا يشمخ أم غابة تحفل بالأشجار والطيور.
وألف ديفز كتابا عن حياته المتشردة هذه، وكتب برنارد شو مقدمته، فكان مما قاله في المقدمة: إنه يغبط ديفز على هذه الحياة التي عاشها وهو متشرد، وإنه آسف على أنه هو نفسه لم يتخذ هذا الأسلوب في حياته، ولم يستمتع بهذه الدنيا الحافلة بمباهج الطبيعة التي استمتع بها ديفز.
وظني أن برنارد شو كان مبالغا في إعجابه، ولو أنه كانت قد أتيحت له هذه الحياة لما رضيها؛ ذلك لأن إحساسه الاجتماعي عميق، وهو لذلك لا يستطيع أن يتخلص من المسئوليات التي يجد نفسه مضطرا إلى تحملها، ولا يمكنه أن يترك مكتبه ويؤثر عليه التجوال في الريف إلا بضعة أيام فقط يعود بعدها وهو مجدد متحمس للكتابة والتأليف.
وهذه هي العبرة التي يجب أن نستخلصها من حياة ديفز، وهي أن ننطلق من وقت لآخر إلى الريف وأن نجدد اتصالنا بالأرض، وأن نتشمم الربيع حين يستأنف النبات والحيوان حياتهما، وحين تنادي الأجيال القادمة من الحشرات والطيور وسائر الحيوان، فينبعث الحب ويتذبذب الهواء بأنغام الغرام، ويجب أن يكون لكل منا إحساس الأرض، نشتاق إلى رؤية الحرث حين تفوح منه نكهة الخصوبة، كما نشتاق إلى نضرة الزرع، وليس من الضروري أن نكون متشردين مثل ديفز؛ كي نستمتع بالطبيعة، ولكن حسبنا أن نتخلص من وقت لآخر من حبسة المدن؛ كي ننطلق في مرح وطرب بين الحقول نتعرف إلى العشب والشجر والطير والحيوان.
صفحه نامشخص