راه اخوان صفا: ورودی به عرفان اسلامی
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
ژانرها
والناجون من أسر الطبيعة المرشحون للرتبة الملائكية هم أهل الباطن الذين وفقوا لفهم معاني الكتب الإلهية وأسرار موضوعات الشريعة. أما أهل الظاهر فلعلهم ينجون بشفاعة أهل الباطن: «واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة، وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة ... وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعملين في دنياهم ، وفي معرفة أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم وآخرتهم. فمن وفق لفهم معاني الكتب الإلهية، وأرشد إلى معرفة أسرار موضوعات الشريعة، واجتهد في العمل بالسنة الحسنة والسير بسيرته العادلة، فإن تلك النفوس هي التي إذا فارقت الجسد ارتفعت إلى رتبة الملائكة التي هي جنات لها، وهي ثماني مراتب، وفازت ونجت من الهيولى ذي ثلاث الشعب التي هي الطول والعرض والعمق ... ومن لم يرشد لفهم تلك المعاني ولا معرفة تلك الأسرار، ولكن وفق للعمل بسنته العادلة وأحكامه الظاهرة، فإن تلك النفوس عند مفارقتها الجسد تبقى محفوظة على صورة الإنسانية التي هي الصراط المستقيم إلى أن يتفق لها الجواز على الصراط المستقيم»
23 (47: 4، 138).
وأيضا: «فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر وضع الناموس الإلهي ... فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية، فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين في جوار الملائكة المقربين مخلدا أبد الآبدين، فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس بحفظ أحكامه والقيام بحدوده، لعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وهاوية عالم الأجسام، بالكون والفساد ذوي الآلام» (8: 1، 295).
إن ثنائية الظاهر والباطن في الدين تجعل من تأويل النص الديني ضرورة لا غنى عنها؛ لأن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور، وقد جاءوا بكلام محتمل للمعاني؛ لتفهم كل طبقة من الناس منه على قدر مبلغها من العلوم: «واعلم أن الحق هو غاية ليست وراءها نهاية، ولكن دونها أمور متشابهة مشكلة. واعلم أن الألفاظ محتملة للمعاني، والأوهام تذهب في طلبها كل مذهب. فينبغي لك إذا سمعت لفظة محتملة للمعاني ألا تحكم عليها حكما دون أن تتبين بعقلك كل المعاني التي تحتملها تلك اللفظة، لعلك تفهم الغرض الأقصى الذي هو الصواب، وتبلغ الغاية القصوى التي هي الحق.
واعلم أن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور جدا في أحكام النواميس، لا يتصور لك في أول وهلة، ولكن بعد النظر الشافي والبحث الشديد» (46: 4، 78).
ففي النص الديني إشارات ورموز مثل: «سبب بدء كون العالم بعد أن لم يكن، ووقوع النفس وغرورها وخلق آدم الأول وسبب عصيانه، وحديث الملائكة وسجودهم لآدم، وقصة إبليس والجان واستكباره عن السجود، وشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، وسبب أخذ الميثاق إلى ذرية آدم، وأخبار القيامة والنفخ في الصور والبعث والنشور والحساب، وفصل القضاء، والجواز على الصراط، وزيارة الرب تبارك وتعالى، وما شاكل هذا من الأخبار المذكورة في كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم، وما حقائق معانيها؛ لأن في الناس أقواما عقلاء مميزين متفلسفين، إذا فكروا في هذه الأشياء وقاسوها بعقولهم لا تتصور لهم معانيها الحقيقية، وإذا حملوها على ما يدل عليه ظاهر ألفاظ التنزيل لا تقبله عقولهم، فيقعون عند ذلك في الشكوك والحيرة، وإذا طالت تلك الحيرة بهم أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك باللسان مخافة السيف.
وفي الناس أقوام دونهم في العلم والتمييز يؤمنون ويعلمون أنها الحق، وأقوام آخرون يأخذونها تقليدا ولا يتفكرون فيها. وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل نفرت نفوسهم منها واشمأزوا عن ذكرها، وينسبون المتكلم أو السائل عنها إلى الكفر والزندقة والتكلف لما لا ينبغي ... وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل تطلعت همم نفوسهم إلى أجوبتها ورغبت في معرفة معانيها، فإذا سمعوا الجواب عنها قبلتها بلا حجة ولا برهان، ولكن على التقليد. أولئك قوم نفوسهم سليمة بعد لم تتعوج بالآراء الفاسدة ولم تستغرق بعد في نوم الجهالة، فيحتاج المذكر إلى أن يسلك بهم طريقة التعليم إلى التدريج ... وفي الناس طائفة من أهل العلم قد نظروا في بعض العلوم وأقروا بعض كتب الحكماء ... قد تكلموا في مثل هذه المسائل وأجابوا عنها بجوابات مختلفة، ولم يتفقوا على شيء واحد ولا صح لهم فيها رأي واحد، بل وقعت بينهم في ذلك منازعات ومناقضات. كل ذلك لأنهم لم يكن لهم أصل واحد صحيح ولا قياس واحد مستو يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل ... ... ونحن لا نرخص لأحد بالنظر في مثل هذه الأشياء ولا السؤال عنها إلا بعد تهذيب نفسه بمثل ما قلناه ووصفناه ... فمن أجل هذا وجب على الحكماء، إذا أردوا فتح باب الحكمة للمتعلمين
24
وكشف الأسرار للمريدين، أن يروضوهم أولا، ويهذبوا نفوسهم بالتأديب، كيما تصفو نفوسهم وتطهر أخلاقهم؛ لأن الحكمة كالعروس تريد لها مجلسا خاليا فإنها من كنوز الآخرة، وإن الحكم إذا لم يفعل ما هو واجب في الحكمة من رياضة المتعلمين قبل أن يكشف لهم أسرار الحكمة، فيكون مثله في ذلك كمثل حاجب ملك أذن لقوم بله بالدخول على الملك من غير تأديب ولا ترتيب» (43: 4، 9-13).
وللإخوان من التأويل موقف اعتزالي يقوم على تحكيم العقل في فهم النص الديني ورد المتشابه منه إلى المحكم. فالمؤولون هم أهل العقل الراسخون في العلم، والإخوان يقرءون الآية 7 من سورة آل عمران على الشكل الآتي: ... وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ...
صفحه نامشخص