راه اخوان صفا: ورودی به عرفان اسلامی
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
ژانرها
ويورد المؤرخ الإسماعيلي نور الدين أحمد المتوفى سنة 885ه في بلدة مصياف السورية، في كتابه «فصول وأخبار»: «بعد أن اشتد الضغط على الإمام السابع محمد بن إسماعيل ... لأن الرشيد يريد القبض عليه ... خرج مستترا إلى مدينة تدمر في بلاد الشام، حيث عاش فيها إلى أن أدركته الوفاة، بعد أن نص على إمامة ولده عبد الله، الذي عاش في مدينة سلمية قرب حمص. وبعد وفاته تسلم الإمامة حسب النص الشرعي ولده أحمد، وهو مؤلف رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء.»
وفي الحقيقة فإن هذه الشواهد وأمثالها مما يعتمد عليها أصحاب نظرية إسماعيلية إخوان الصفاء، لا تتمتع بمصداقية تاريخة؛ لأنها متأخرة قرونا عديدة عن عصر إخوان الصفاء في القرن الرابع الهجري. أما المصادر الأقرب إلى عصرهم فإنها تجمع على أن مؤلفي الرسائل هم جماعة من الحكماء، بينهم زيد بن رفاعة، وأبو سليمان المقدسي، وأبو حسن الزنجاني، وأبو أحمد النهرجوري، والعوقي.
وأما الرأي الذي يورده عارف تامر عن المستشرق كازانوفا بأن آراء الإسماعيلية توجد كلها في رسائل إخوان الصفاء، فإن التشابه بين العقيدتين لا يعزى إلى إسماعيلية إخوان الصفاء، بل إلى التأثير الذي مارسه فكر الرسائل في الفكر الإسماعيلي إبان عصر نهضته، وهو تأثير خفي لم يعلن عنه رواد النهضة الإسماعيلية. ولو أن الرسائل كانت فعلا من تأليف الإمام أحمد بن عبد الله، لكان لها مكان الصدارة في الأدبيات الإسماعيلية في ذلك العصر، ولاعترف بفضلها عليهم أولئك المفكرون الذين وضعوا أسس العقيدة الفلسفية الإسماعيلية. يضاف إلى ذلك أننا إذا سلمنا جدلا بأن آراء الإسماعيلية توجد كلها في رسائل إخوان الصفاء، فإن آراء إخوان الصفاء لا توجد كلها في مؤلفات الإسماعيليين، وهناك اختلاف بين بين الفريقين بخصوص بعض الأفكار الاعتقادية الرئيسة، كما هو الحال في نظرية الفيض التي تشكل عماد كوزمولوجيا الإخوان، والتي يرفضها كل المفكرين الإسماعيليين، ويستبدلونها بنظرية الإبداع. وهذه نقطة لن نتوقف عندها طويلا حتى لا ننحرف عن المنهج الذي وضعناه لهذا الكتاب.
مما لا شك فيه أن الإخوان قد نشئوا في بيئة شيعية، وأنهم بشروا بعقيدتهم أول ما بشروا بين الشيعة. ولكن تشيعهم كان تشيعا فضفاضا انطلقوا منه لبناء عقيدة إنسانية شمولية تسمو على الحرفية الأيديولوجية وعلى تعصب المذاهب التي صبت عقائدها في صيغ جامدة متحجرة ... ولكي أشرح ما أعنيه بالتشيع الفضفاض يمكن أن أقارن استقلال إخوان الصفاء عن الخط الشيعي الرئيس باستقلال الشيعة الزيدية، مع الفارق الواسع بين الاتجاهين والجماعتين.
فقد شهدت السنوات الأولى من إمامة جعفر الصادق ظهور حركة انشقاقية قادها زيد بن علي، الأخ غير الشقيق للإمام الخامس محمد الباقر وعم جعفر الصادق، تميزت بالمواقف الصدامية الواضحة في مقابل ما دعاه زيد بالاستكانية التي ميزت مواقف الأئمة الشيعية، وروي عنه قوله إنه إذا ما رغب الإمام في اعتراف الناس به عليه أن يخرج وسيفه بيده. لم يعلق زيد أهمية كبرى على الإمامة الوراثية، ونظر باستخفاف إلى المفاهيم الأخروية المرتبطة بمهدية الإمام، وقال بجواز انتقال الإمامة إلى أي شخص من سلالة علي دون حصرها في نسب الحسين بن علي على ما تقول عامة الشيعة. وقد اعترف زيد بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان مظهرا تجاههم موقفا إيجابيا نابعا عن براجماتية سياسية أوضحها بقوله الشهير عن جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل. فعلى الرغم من أن عليا كان الأفضل لخلافة النبي، إلا أن البيعة التي أعطيت للخلفاء الثلاثة الأوائل المفضولين تبقى شرعية طالما أن المصلحة في ذلك الوقت تطلب ذلك. وفي هذا الموقف من الخلفاء الأوائل تتفق آراء الزيدية وآراء إخوان الصفاء الذين أشادوا في أكثر من موضع بأبي بكر وعمر وعثمان ودعوهم بالخلفاء الراشدين، وهو نعت لم تستخدمه الشيعة، وأينما ورد ذكر أحدهم أتبعوه بقولهم رضي الله عنه (9: 1، 323 و346). كما أظهر الإخوان الموقف نفسه من عائشة على الرغم من مواقفها المعادية لعلي (9: 1، 358).
على أننا إلى جانب ما أوردناه من نصوص، وغيرها مما لم نورده، والتي تبين الموقف السلبي للإخوان من مفهوم الإمامة، فإننا نجد أنفسنا أمام نصوص قليلة متفرقة تؤكد الإمامة، وتستخدم في التعامل معها مصطلحات إسماعيلية لا لبس فيها، ومعظمها يرد في الرسالة الأخيرة، وفي الرسالة الجامعة. نقرأ في الرسالة الأخيرة على سبيل المثال أن الأئمة: «هم خلفاء الله تعالى، التابعون لأمره، وبهم صلاح العالم. وربما كانوا ظاهرين بالعيان موجودين في المكان في دور الكشف، وبالضد من ذلك في دور الستر. غير أنهم في دور الستر لا يكونون مفقودي الوجه جملة من أعدائهم. فأما أولياؤهم فيعرفون مواضعهم، ومن أراد منهم قصدهم تمكن منه. ولو كان غير ذلك كان منه خلو الزمان من الإمام الذي هو حجة الله على خلقه، وهو تعالى لا يرفع حجته ولا يقطع الحبل الممدود بينه وبين عباده، فهم [أي الأئمة] أوتاد الأرض وهم الخلفاء بالحقيقة في الدورين جميعا، ففي دور الكشف يظهر ملكهم في الأجسام والأرواح، وفي دور الستر يجري أمرهم في الأنفس والعقول ...» (52: 4، 379).
كيف نوفق بين ما يظهر في هذا المقطع من إعطاء أهمية لفكرة الإمامة، وما ورد فيه من مصطلحات وأفكار إسماعيلية، وبين ما أوردناه قبل ذلك من شواهد تدل على عدم أخذ الإخوان بجدية فكرة الإمامة، بل وحتى صرفهم النظر عنها تماما؟ إن التفسير المنطقي الوحيد لهذا التناقض في موقف الإخوان من فكرة الإمامة، وهم الذين عودونا على الاتساق والبعد عن التناقض، هو أن بعض المتحمسين الإسماعيليين للرسائل في الفترات المتأخرة، قد قاموا بإقحام بعض المقاطع أو إعادة تحرير مقاطع أخرى من أجل التوكيد على الآراء التي كانت تظهر في ذلك الوقت عن إسماعيلية الرسائل وصلة الأئمة المتقدمين بتأليفها أو الإشراف على عملية تأليفها. مثل هذا التحريف يبدو ممكنا إذا علمنا أن الحلقات الإسماعيلية كانت وحدها هي المعنية بنسخ وتداول الرسائل بعد تفكك تنظيم الإخوان وتشتت شملهم.
بين الدين والفلسفة
يؤكد الإخوان في كل مكان من رسائلهم ضرورة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، لا يسقطون منها حرفا، وهم الأولى بها من غيرهم: «واعلم أيها الأخ أن جماعة إخوان الصفاء أحق الناس بالعبادة الشرعية ومراعاة أوقاتها وأداء فروضها ومعرفة تحليلها وتحريمها؛ لأنا أخص الناس بها وأولاهم بحملها وأقرب الناس إلى من جاءت على يديه وأولاهم به» (50: 4، 268).
ولكن الدين الإسلامي لا يختصر إلى أوامر ونواهي الشريعة، بل له جانب فلسفي يحث الإنسان على معرفة نفسه ومعرفة ربه حق المعرفة، والارتقاء من رتبة الحيوانية إلى الرتبة الملائكية على طول طريق الارتقاء الصاعد نحو ملكوت السماوات. وهنا يأتي دور الفلسفة التي تنير لنا هذا الجانب الآخر من الدين وتعيننا على فهمه. إن غرض الأنبياء والفلاسفة واحد، وهو طب النفوس وعونها على النجاة: «واعلم بأن غرض الأنبياء، عليهم السلام، وواضعي النواميس الإلهية [من الفلاسفة والحكماء] أجمع، غرض واحد وقصد واحد، وإن اختلفت شرائعهم وسنن مفترضاتهم، وأزمان عباداتهم، وأماكن بيوتاتهم، وقرابينهم وصلواتهم، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد ومقصد واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة، وإن اختلفت علاجاتهم ... وذلك أن غرض الأطباء كلهم هو اكتساب الصحة للمريض وحفظها على الأصحاء، ودفع الأمراض وإزالتها عن المرضى. فهكذا غرض الأنبياء، عليهم السلام، وغرض جميع واضعي النواميس الإلهية من الفلاسفة والحكماء. وذلك أنهم أطباء النفوس، وغرضهم هو نجاة النفوس الغريقة في بحر الهيولى، وإخراجها من هاوية عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة عالم الأفلاك وسعة السماوات، [ذلك] بتذكيرها ما قد نسيت من مبدئها ومعادها» (20: 2، 141).
صفحه نامشخص