لن تذوق النوم حتى تحقق معها بنفسك. امرأة جهنمية لكن ما أغباها إذا حسبت أنها يمكن أن تعبث بك! ألم تقتنع بأنك قادر على القتل إذا أردته! ولكن كيف تعرف عنوانها؟ وعاد العجوز يقول: زوجها القديم لم يدبر الجريمة وإلا لما أطلق سراحه بتلك السهولة، أما الجريمة الأخرى ... - إنه ابن خالتها وليس من الشاذ أن يزور خالته. - الحق أنني شككت في الأمر من قديم، كانت أمها تقيم في الفجالة غير بعيدة من هنا، وكان المرحوم يصطحب زوجته إلى بيتها كلما اشتاقت إلى رؤيتها، وإذا بالأم تقرر أن تنتقل إلى شارع الساحل رقم 20 بالزيتون! لماذا؟ لم أجد لذلك تعليلا إلا أن تتخذه الزوجة عذرا للإقامة أياما عند أمها كل شهر، ورغم معارضة المرحوم بادئ الأمر فقد انطلت عليه الحيلة فسلم بالواقع.
آه .. لم يتخيل أن يظفر بطلبته بذلك اليسر، ودون بذل أي مجهود من ناحيته، لكن الجنون كان يعصف به عصفا. أجل كان الجنون يعصف به عصفا.
16
لولا يقينه من أن عينا من عيون الأمن تراقبه بطريقة ما لاندفع من فوره إلى الزيتون. لا بد إذن من التريث حتى يجد حيلة جهنمية. ولما نزل صباحا من حجرته رأى ظهر الساوي وهو منحن فوق مكتبه، فخيل إليه لحظة أنه يرى عم خليل أبو النجا. ودهمته الحقيقة الغريبة - وكأنها تدهمه لأول مرة - وهي أنه أزهق روحا. وتساءل ترى هل يمكن أن يتذكره عم خليل الآن بطريقة ما؟ وتمهل قليلا وهو يصبح على العجوز، ولكنه رد تحيته بعجلة، وعاد إلى دفتر الحساب وكأنه نسي تماما حديث الأمس كله. نسي الأسرار الرهيبة التي كان سيمضي حياته كلها وهو يجهلها. وتناول فطوره في الاستراحة برأس ثقيل من أثر المنوم. كريمة .. لن أسمح لقوة في الأرض بأن تجعل مني أبله، ستجدينني قريبا فوق رأسك ضربة قاضية. افعلي ما تشائين، خوني أو تزوجي، فإن حبل المشنقة في يدي. لا تتوهمي أن حياتي أغلى من كبريائي. أما حديث المال والحرب فلا ينقطع في الاستراحة كإنشاد الشحاذ في الخارج. ودعته إلهام إلى التليفون. لشد ما يحنق عليها كلما سمع صوتها من أعماق دوامته. - ألا تقابلني اليوم ولو بعض دقائق؟ - لا أستطيع. - اذكر سببا مقنعا. - لا أستطيع. - حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيك؟
تساءل بذهول: أبي؟ - نعم. - ولكن كيف؟ - فلنتقابل اليوم.
حتى أبوه لا يمكن أن يستحوذ على انتباهه في هذه اللحظة النارية الدامية. - لا أستطيع. - لكنه أبوك الذي جئت للبحث عنه! - ربما فيما بعد. - هل أجيء إليك؟
فقال بضيق لم يخل من حدة: كلا!
أي جديد جد عن الرحيمي؟ وماذا يهمه الآن؟ الزيتون هي كل شيء. وربما لم يكن الأمر كله إلا حيلة لاستدراجه إلى اللقاء. الزيتون الآن هي كل شيء. وهام على وجهه معذبا وهو يفكر بلا انقطاع. وشرب كثيرا من النبيذ الرديء، ثم تخبط في الشوارع مواصلا التفكير حتى آمن بأنه سينتصر على المخبر المجهول الذي يتعقبه. ها هو يصعد إلى حجرته لينام ولكنه لن ينام. المخبر هو الذي سينام. وعقب أذان الفجر بقليل غادر الحجرة في حذر شديد، ثم نزل على مهل إلى مدخل الفندق. رأى على ضوء المصباح السهاري خادما نائما وراء الباب المغلق فشعر بخيبة وغيظ. ولم يفكر في إيقاظ الخادم ليفتح له؛ إذ لم يستبعد أن يكون هو المخبر. تراجع حائرا وأنفاسه تتردد في الصمت العميق. وطرأت فكرة لم يدرسها من قبل؛ فبعثت حيويته من جديد، فرقي في السلم حتى السطح بلا توقف ولا تردد. وعندما وقع بصره على الشقة المغلقة تحت ضوء النجوم سرت في أطرافه رعدة حتى أغمض عينيه من التأثر. واندفع نحو السور الفاصل بين سطح الفندق وسطح العمارة الملاصقة فعبره كالمرة الأولى. آه .. إنه يرتجف ولكن ما أحوجه إلى قوة أعصابه. ومضى إلى باب السطح، ثم نزل في ظلام دامس حتى مدخل العمارة المضاء بمصباح سهاري. رأى حجرة البواب مغلقة، والباب الخارجي مغلقا كذلك والمفتاح في القفل. كل شيء معد كأنما بتدبير سابق. دلف من الباب وأدار المفتاح، ولكنه لم يطاوعه! لماذا؟ وشده بحذر فأخذ ينفتح فأدرك أنه كان مفتوحا، ولماذا أيضا؟ أراد أن يخرج ولكن اعترضه شبح رجل سد الفتحة سدا وهو يسأل بصوت جاف: من؟
بسرعة جذبه إلى الداخل مجازفا بحياته. وفي اللحظة التالية طعنه بركبته في بطنه فتقوس وهو يئن، فهوى على رأسه بقبضته فسقط على وجهه. مرق إلى الخارج يخترق البرد والفجر والخلاء. عبر الطريق إلى بواكي الجانب الآخر، ثم اتجه نحو الميدان. ولم يكد يخطو بضع خطوات حتى اصطدم بشبح فكاد يسقطه على ظهره. وقد تأوه قائلا: آه .. أنا رجل ضرير ...
قال متعجلا: لا مؤاخذة، الظلام شديد تحت البواكي! - ربنا ينور بصيرتك، دعوة مستجابة بإذن الله من سائل مسكين.
صفحه نامشخص