ثم مستدركا في حدة: كم شمت بي الأعداء في غيابك! - صابر .. تجنب الغضب؛ إنه الغضب الذي أدخلني السجن، فما كان أسهل علي أن أرضي الوغد الذي غدر بي. - في كل مكان أصادف من يستحق السحق. - دعهم يقولون ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك.
فكور قبضته قائلا: لولا هذه القبضة لعرضوا بي في كل مكان، إن أحدا لم يجرؤ على ذكرك بسوء أمامي حتى وأنت في السجن!
فنفخت الدخان في غضب، وقالت: أمك أشرف من أمهاتهم، إني أعني ما أقول، ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت تجارتي!
ابتسم صابر رغم الكآبة الشاملة، فعادت تقول: إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان .. المدير فلان .. الخواجا علان .. سيارات وملابس وسيجار .. كلمات حلوة .. روائح زكية .. لكنني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجردون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفد، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا أذكر اسم أحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك، فأمك أشرف من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني إنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي.
عاوده الابتسام، فتأوهت قائلة: أين أيام الضحك أين؟ أمك أحبتك بكل قواها، ولك أعددت هذا المسكن الجميل بعيدا عن جوي كله، وأرسلت مالي يجري تحت قدميك، فإذا جاءتك مني إساءة لا حيلة لي فيها فلا ذنب لي، وليس في الرجال من له نصف جمالك ورشاقتك، غير أنه يجب أن تتجنب الغضب وأن تتعظ بما جرى لي.
رنا إلى تعاستها بحزن، ثم تمتم: سيعود كل شيء إلى أصله . - أصله؟! أنا انتهيت، بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس!
ونظر إلى الأرض قائلا: لم يبق من ثمن البيت إلا القليل! - وما العمل؟ يجب أن تعيش كما عودتك. - لكني لم أعرفك يائسة أبدا. - إلا هذه المرة! - إذن علي أن أعمل أو أن أقتل!
أطفأت السيجارة ثم أغمضت عينيها إعياء أو طلبا للتركيز، فقال صابر: لا بد من مخرج! - نعم طالما فكرت في ذلك وأنا في السجن!
ولأول مرة في حياته تزعزعت ثقته في أمه. واستطردت المرأة: أجل فكرت طويلا، ثم أقنعت نفسي بأنه لا يصح أن أصر على الاحتفاظ بك ما دام ذلك في غير مصلحتك.
حدجها بنظرة متسائلة من عينيه السوداوين فتمتمت بنبرة اعتراف منهزمة: أنت لا تفهم شيئا ولك حق، الواقع أن الحكومة صادرتك ساعة صادرت أموالي، لم يعد لي الحق في امتلاكك أنت أيضا. أدركت ذلك يوم صدور الحكم.
صفحه نامشخص