رفع الرجل إليه وجهه ويده لا تكف عن الارتعاش. وهو وجه من الصعب التنبؤ عن صورته الأصلية؛ إذ اختفى أديمه تحت قناع من الأخاديد والتجاعيد، وبرز أنفه مقوسا، حادا، مجدورا، واحتارت في عينيه الناضبتين نظرة باهتة ممصوصة كأنما لم تعد تعنى برؤية العالم. وقال صابر: إني أسأل عن سعر الحجرة. - ريال في الليلة. - ولمن يقيم أكثر من أسبوعين؟ - الريال عملة لا قيمة لها اليوم. - قد أقيم شهرا أو أكثر تبعا لمشيئة الله.
فأمسك الرجل عن الكلام إعراضا عن المساومة، وهنا رأى صابر طربوشه الطويل الغامق لأول مرة، وتمتم: كما تشاء.
وراح يملي عليه الاسم والمكان الذي جاء منه، ولما سئل عن عمله أجاب: من الأعيان!
وقدم له بطاقته الشخصية. وجعل يسترق النظر إلى الفتاة طوال انشغال العجوز بالبطاقة.
والتقت عيناهما مرة، ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذي يتلهف عليه. وبسبب انفعاله وحده راح يقنع نفسه بأنها هي هي! ولفحه هواء البحر في الركن المظلم وهو نصف عار، وملأت أنفه رائحة القرنفل المنبعثة من الشعر المبعثر. وثمل بشعور تفاؤل عجيب، فقال إنه على نحو ذاك سيعثر على أبيه. والمؤكد بلا أدنى شك أن هذه الفتاة على استعداد لشيء ما. إنها تقف منه موقفا حياديا في الظاهر، ولكنها تخاطب ماضيه وأعماقه بألف لسان. ولا شك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللامبالية مدينة مسحورة. ولو كان الظرف غير الظرف لدعاها إلى الرقص، واحتواها بين ذراعيه، وقال لها بكل جرأة كيف يرضى بالعيش تحت هذا القبو من ترطب جسده بهواء البحر في عطفة القرشي! ورد العجوز إليه البطاقة قائلا: إذن فأنت من الإسكندرية؟
فهز رأسه بالإيجاب مبتسما، فغمغم الرجل بكلمات مبهمة، فقال بمكر راميا الفتاة بنظرة سريعة: أراهن على أنك تحب الإسكندرية.
وابتسم جانب فم العجوز وحده، وعلى خلاف توقعه أضربت الفتاة عن متابعته فشعر بخيبة، ثم خطر له أن يسأله: هل عرفت يوما سيد سيد الرحيمي؟
فضيق الرجل عينيه، ثم قال: غير مستبعد أني سمعت عنه.
تركز صابر في اهتمام أنساه كل شيء حتى الفتاة نفسها: متى وأين؟ - لا أذكر، لست متأكدا. - لكنه من كبار الوجهاء. - عرفت كثيرين منهم، ولكني لم أعد أذكر أحدا.
ومع أنه آثر ألا يزيد إلا أنه تمادى في التفاؤل، وقال إنه غير بعيد أن يهتدي إلى مكان أبيه اليوم أو غدا. والتقط في اللحظة المناسبة نظرة من عيني الفتاة قبل أن تستردهما. قرأ فيها شكا وما يشبه السخرية، وكأنها تتساءل عما دعا هذا الوجيه إلى النزول بفندقها المتواضع. ولم يضايقه ذلك وقال إن الحقيقة ستنجلي عندما تعرف مهمته، وسوف تعرف عاجلا أو آجلا. ترى هل تذكرته؟ وشعر بغرز الأظافر في ساعده عقب المطاردة البارعة التي بدأت من ساحل الصيادين بالأنفوشي واستقرت في الركن المظلم بعطفة القرشي، ولفح هواء البحر بدعابته القاسية نصفه العاري. ولكن أين كان أبوها في ذلك الوقت؟ ومتى انتقل بها إلى إدارة هذا الفندق؟ ونادت المرأة قائلة: عم محمد يا ساوي.
صفحه نامشخص