مضى بعد ذلك عام، وأقيمت لجنة امتحان كفاءة المعلمات في مدرستي، وتلك اللجنة لا شأن لناظرة المدرسة بها لأنها لجنة تقيمها وزارة المعارف لامتحان المعلمات النهائي، ولا يجوز لناظرات مدارس المعلمات أن يتدخلن فيها أو يدنون منها؛ ولهذا لم يكن يهمني من شأنها شيء، وكان رئيس اللجنة إذا زارني في مكتبي اعتبرته ضيفا يجب إكرامه، وقد عين رئيسا لها حضرة صاحب العزة أحمد بك العوامري، وعزته مهذب أديب حلو الحديث، فكان يشرفني من آن لآخر في مكتبي فأرحب به كأكرم ضيف دخل ذلك المكتب.
وأسرة العوامري بك من الإسكندرية، وفجأة نكبت الأسرة الكريمة، وتوفي والد العوامري بك، واضطر الرجل أن يرسل إلى الوزارة تلغرافا يطلب منها تعيين غيره رئيسا لتلك اللجنة ليقوم بالعمل مقامه، ولم يكن لدى اللجنة إلا عمل يوم واحد، فاضطرت الوزارة أن تعين ذلك الشيخ رئيسا لتلك اللجنة بدلا من العوامري بك، وبلغني هذا التعيين، فلم أعبأ به ولم أهتم له؛ لأن شأن تلك اللجنة لا يعنيني، وكنت في مكتبي، وإذا بذلك الشيخ يدخل علي في شيء من التردد والاستحياء، فقمت له ورحبت به؛ لأني أعتبره ضيفا، ودهش هو لذلك التغيير في مقابلتي، وجلس صامتا، ثم قال بصوت خافت كأنه يحدث نفسه: «والله عدية يسين سرها باتع.» قلت: وكيف ظهر لك هذا السر؟ قال: في مقابلتك لي؛ لأني لما عينت في تلك اللجنة خشيت أن تقابليني بمقابلتك السابقة، فبت طول الليل أقرأ عدية يسين رجاء أن يهديك الله لي. فضحكت وقلت: لا شأن للعدية فيما ترى من تغيري، فالفرق بعيد بين الموقفين؛ لأنك في موقفك الأول كنت تنفذ إهانة أرادت الوزارة أن توجهها إلي، أما اليوم فأنت رئيس لجنة لا علاقة لي بها، فإذا دخلت مكتبي، فأنت ضيف يجب علي إكرامك والترحيب بمقدمك، وهكذا فعلت، أما عدية يسين فلا شأن لها على ما أعلم في تصرفي هذا. فسر الرجل، وبقي طيلة يومه يتردد على مكتبي في تناول القهوة.
ضابطة فرنسية
منع ذلك المفتش الإنجليزي السالف الذكر من دخول مدرستي كما مر بنا؛ فكان يتردد علي كضيف ويقول لي إنه يحب مدرستي حبا جما، وإنه يود من صميم فؤاده أن يزورها، وكان يرجو بذلك أن أظهر ميلي إلى زيارته لمدرستي، أما أنا فكنت أجيبه على عكس ما يريد فأقول له: وما الذي يعجبك في مدرستي، وليس فيها على رأيي شيء يغري، فبناؤها قديم، وناظرتها كما تعلم أنت لا تسر الأذن ولا العين. فكان يقول لي إنه يرى مدرستي على عكس ما أصفها أنا. وزارني يوما مع حضرة صاحب العزة المرحوم كيلاني بك مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية في ذلك الوقت، وبقيا يتحدثان في مكتبي مدة، فقال المفتش الإنجليزي أثناء حديثه مع المرحوم كيلاني بك: لقد غاظني ذلك الناظر، وكدت أضربه عندما عاينت العنكبوت يعشش في بعض غرف مدرسته، وأنت تعلم يا كيلاني بك أني أنا المفتش الإخصائي للعنكبوت. فضحكت أنا، وقلت: لماذا تضربه ما دمت أنت المفتش الإخصائي للعنكبوت، والرجل حريص على وجوده عنده ليجد لك عملا، فإن العنكبوت إذا زال من جميع المدارس وأنت الإخصائي في التفتيش عليه أصبح لا معنى لوجودك في الوزارة، فأنت إذن مدين لأمثال هؤلاء النظار الذين يحتفظون لك بعملك المحبوب، وهو التفتيش على العنكبوت، وكان عليك متى عرفت ما أقوله أن تشكر الرجل لا أن تضربه. فضحك المفتش الإنجليزي، وقال: سامحك الله؛ لأنك دائما مازحة طروبة.
وما زال يتودد إلي بمثل تلك الزيارات حتى لا أشكو إلى المستشار مرة أخرى، وحتى يتمكن من زيارة مدرستي، وفي النهاية تم له ما أراد، وسمح له المستشار بزيارة مدرستي، وفي أول زيارة زارها للمدرسة بعد ذلك الغياب أخذ يطريني، ويلهج بمدحي، ويمدح كل ما يراه، وبعد أن زار المدرسة وأعجب بها دخلنا درسا في التربية العملية.
وكان درس انتقاد عام، وألقت الطالبة درسها، وقد جلس المعلمون، وأنا في وسطهم، وهو على يساري، فوضع ساقا على ساق، وكنت في ذلك الدرس دائما أجلس جلسة أدبية حتى أكون مثالا حسنا لطالباتي، ولكن ذلك المفتش جلس إلى جانبي، وقد وضع ساقا على ساق، فحاكيته في جلستي على كره مني لذلك، وأردت بذلك أن ألفته إلى ما يجب عليه في آداب الجلوس.
وفجأة اعتدل في جلسته، ورفع ساقه من على الآخر، وجلس في أدب واحتشام، وعدت أنا إلى جلستي المعتادة، فلما انتهى الدرس سألت التلميذات كعادتي واحدة بعد أخرى عن رأيهم في الدرس، ثم انتقلت إلى سؤال المعلمين، وكان المعلمون قد اعتادوا أن يجيبوا على أسئلتي وهم جلوس، فلما سألت أحدهم أمام المفتش، وقف للإجابة فامتعضت، وقلت له: لقد اعتدت يا فلان أن تجيب على الأسئلة وأنت جالس، فما الذي حدا بك إلى الوقوف وتغيير ما اعتدناه، مع أني أريد دائما أن تكون دروسنا في حضور المفتشين، أو في غير حضورهم، على حالتها العادية لا تغيير فيها؟ قال: لقد رأيت ذلك أبلغ في تأدية ما أريد من المعاني. قلت: حسنا، فعليكم إذن أن تتبعوه من الآن.
وبعد أن انتهيت من سؤال المعلمين سألت المفتش، وأدهشني أن وقف وأجاب، ولكن لم يقف ليجيب على سؤالي فحسب، بل وقف ليطريني ويطري مدرستي أمام الطالبات، ويقول إن هذا الدرس أفضل درس رآه في حياته من دروس النقد العام في التربية العملية، وهكذا اصطلحت مع أحد خصومي الألداء، ولكن الحقد لم يفارق قلب الرجل، وكان يسعى إلى مناوأتي جهد استطاعته.
وخيل إليه أنه لو عين بمدرستي ضابطة أجنبية لاختلفت معي، وأظهرت للوزارة معايبي، وكان في ذلك ما يمكن الوزارة من الإساءة إلي، ويظهر أنه لم يتيسر له الحصول على ضابطة إنجليزية فعين لي ضابطة فرنسية.
وكانت سيدة فرنسية طيبة القلب حسنة الأخلاق، ولكنها تجهل كل شيء بالمدارس، فكنت أحسن معاملتها، وكنت أقوم أنا بالضبط بدلا عنها؛ لأنها لا تعرف عن أمور الضبط شيئا، وفرضت أن الوزارة لم تعين ضابطة، وأني كعادتي أتفقد كل أمور المدرسة من نظافة وتعليم وخلافه، وكانت السيدة تشعر بذلك، وتشكرني عليه، وبعد أن قضت بالمدرسة ثلاثة شهور زارنا صديقي المفتش الإنجليزي المعروف، وكان أول همه أن يختلي بها، وأن يسألها عن أحوالها، فقالت: إنها ناظرة نشيطة طيبة القلب تقوم بعملي وعملها؛ لأني لا أعرف في ذلك العمل شيئا، وما كاد يسمع منها ذلك حتى انصرف عنها، وقد خاب أمله فيما دبره.
صفحه نامشخص