أليس للرجال بعد هذا أيها القارئ أن يكرهوني، أو يصفوني بالجنون، وهل يلامون إذا فعلوا ذلك؟!
انتهت الليلة على خير ما يرام، أو على أسوئه، وفي الصباح استقللت أول قطار يترك قصر الباسل إلى الفيوم، وظللت صديقة للمرحومة؛ لأني كنت أحبها كثيرا، ولكني لم أدخل منزلها بعد هذا لا لأني كنت أشك في طهارة زوجها، ولكن لأني لم أكن أريد أن يكون اسمي بأية حال موضعا للشبهة.
وتصادف أن دخلت منزل المرحوم أحمد باشا الباسل لأزور زوجته، فرأتني المرحومة هناك، وقالت: إن عبد الستار بك مع الرجال، وأريد أن أدعوه لمقابلتك. قلت: ولكني يا سيدتي لا أريد مقابلته. قالت: اسمعي يا نبوية! إني أنا أريد أن أراه، ولعلي اتخذتك حجة. فضحكت وقلت: لا أدري لم تريدين ذلك، وليس في وجهه ما يعجب. وكانت شقيقة الباسل موجودة، وقد نفذت المرحومة غرضها قبل أن تقوله لي، وإذا به قد حضر، وبادرته شقيقته بقولها: إنها تقول عنك إنك دميم. قلت: لا بأس، وهذا لا يعيبه يكفي أنه نبيل كريم. وحييت الجميع، وخرجت في الحال بالرغم من إلحاح المرحومة باحثة البادية في استبقائي.
أعود إلى حيرتي قبل الوظيفة، فأقول إني كنت في أشد الحيرة حقا، كنت أفكر كثيرا في كيف أتخلص من طرفي النزاع، وكان لي صديقة فقالت لي إنها تعرف منجما ماهرا يخبرني عن المستقبل، ولم أكن أعتقد في المنجمين إلا أني وجدت من التسلية أن أذهب إليه، ولو على سبيل تمضية الوقت والخروج من الحيرة، ولو دقائق، ويظهر أن صديقتي تلك كانت سمسارة لذلك المنجم، فأخبرته عن حالتي قبل ذهابي إليه، فلما ذهبت رأيت شابا يظهر عليه أنه تلميذ صغير، وقد التفت حوله عدد عظيم من السيدات، وقيل لي إنه إنما يبحث مستقبلهن بالدور على حسب مجيئهن، وكنت بالطبع الأخيرة وجلست، وإذا به ينتهي من سيدتين، فيما لا يقل عن ثلث ساعة، وعلى هذا حسبت انتهاءه من جميع من كن قبلي فرأيت أنه لا يقل عن ست ساعات فقمت واقفة، وقلت بصوت مسموع: لقد جئت لأسري عن نفسي لا أن أتضايق، وبقائي هنا ست ساعات أنتظر ذلك الشاب الصغير ليروي لي مستقبلا هو أجهل الناس به مضيعة لوقتي، فإلى اللقاء.
وسمع الشيخ الصغير ذلك فقال: سأقدم النظر في مستقبلك على جميع الحاضرات فادني مني. واضطرتني صديقتي إلى الدنو منه لأكشف عن مستقبلي، وإذا به يقول: إنك في وظيفة حكومية، وتريدين الخروج منها إلى عمل آخر، وستخسرين كثيرا في ذلك العمل. ودهشت كيف عرف هذه الحقيقة، وكادت عقيدتي أن تتزعزع، واسترسل هو في كلامه، وكأنه أراد أن ينتقم مني، فقال لي: إنك ستمرضين وستفقدين بصرك. وكأنه كان ينافس الدكتور فيشر في ذلك، وكان يريد أن ينبئني بما يسوءني من جميع الوجوه، وأخيرا قال لي: إنك ستتزوجين من رجل يأخذ جميع مالك. وهنا تنبهت إلى كذبه، وقد كنت مصممة على أن لا أتزوج، فكيف إذن يتغير ذلك التصميم إلى الزواج لا من رجل ثري أطمع أنا في ماله، بل من رجل يأخذ هو مالي، وهذا بالطبع يستحيل علي ما دمت في عقلي، وهنا قلت له : أرجو أن تكشف لي عن أمر واحد، هل سأبقى صحيحة العقل أم أجن في يوم من الأيام؟ قال: لا، سيظل عقلك سليما. قلت: أنت إذن كاذب كل الكذب؛ لأنه من غير المعقول أن أحتفظ بعقلي الذي يرشدني الآن، وأتزوج برجل يأخذ مالي، إنك يا هذا كاذب. وقمت وتركت المكان.
قبلت استقالتي بعد ذلك.
وابتدأت عملي في المدرسة المحمدية بالفيوم، وكنت مسرورة بذلك العمل الجديد، فغيرت فيها تقريبا كل شيء، ويوم استلامها حضر معي المدير نفسه فدخل معي الفصول، وأخذ يقول لي هذا هو فصل السنة الأولى، وهذا هو فصل السنة الثانية، وغير ذلك؛ لأنه كان مهتما بالمدرسة أشد الاهتمام، ويعلم عنها كل شيء، وزارني بعد ذلك بثلاثة أيام، فاقترح أن أضع يافطة باسم كل فصل على بابه، ولم أكن أنا أهتم بمثل تلك الصغائر؛ لأن المدرسة لم تكن من الاتساع وتشابه النواحي، بحيث يخطئ الإنسان غرفاتها، بل كانت مدرسة صغيرة، لا يدخلها بالطبع إلا المعلمون الذين يعرفون مكان كل فصل، أما الزائرون فكانوا يذهبون معي إن شاءوا زيارتها فأدلهم على كل فصل؛ ولهذا تهاونت فلم أنفذ أمر المدير، وبعد أسبوع جاءني، وطلب زيارة الفصول، فلما وصلنا إلى باب الفصل الأول، وكان السنة الأولى، أخذ ينظر إلى أعلى الباب ليقرأ اليافطة التي وضعت، فلما لم يجدها قال لي: ما هذا الفصل؟ قلت له: السنة الأولى. ثم ذهبنا إلى السنة الثانية، وأراد أن يفعل نفس ما فعله في السنة الأولى، فقلت له: لا تنظر إلى أعلى! فإني لم أضع يفطا، أما السؤال الثاني وهو ما هذا الفصل فأنت تعلم أنه السنة الثانية، وأنت الذي عرفتني تلك الفصول منذ أسبوعين، وأظن أنك لم تنس بعد، فضحك، ولم يقل شيئا.
قوة الشباب وغروره
وهكذا كنت في مدرسة الفيوم أعمل بجد ونشاط، ولا أخشى رئيسا؛ لأني اشترطت عليه قبل تعييني أن لا يتدخل في شئوني؛ أي في شئون المدرسة التي يرأسها هو، وقد عمل الرجل بما تعهد لي به، وكان المدير كما قدمت الحاكم المطلق الذي يخشاه جميع الأعيان والموظفين.
وحدث أنه بينما كان يتحدث في أحد مجالسه مع مفتش صحة المديرية أن قال له في سياق الحديث إنه يود أن تعرف ناظرة المدرسة المحمدية أني أنشأت في المدينة منتزها تعزف فيه موسيقى البلدية عصر كل يوم، فلعلها تتريض هي وتلميذاتها فيه.
صفحه نامشخص