أما وليم فكان محبوبا جدا من أبيه، وبعد ولادته بسنتين مات أبو روبرت، وخلفه أخوه الأكبر، أي رتشرد الثالث الذي لم يمض عليه سنتان صرفهما بالحروب معه حتى لحق بأبيه، وخلا الجو له فتولى دست الإمارة في القلعة، وأصبح حاكما على كل مقاطعات نورماندي ومدنها.
وكان وليم إذ ذاك ابن أربع سنين، وقد لاحت على وجهه تباشير النشاط، وبرقت أسرته بأنوار الجمال، وأخذ يزداد إقداما وبراعة، ولم يحتقره أبوه أو ينكره كما كان المنتظر والمظنون، بل كان يفتخر جدا بأن يجلس ويشاهد حركات ألعابه الغريبة، ويقر جهارا بأنه أبوه وهو ابنه، وبالحقيقة أن وليم كان محبوبا عند جميع من كانوا في القلعة، ولما صار ابن خمس أو ست سنوات أولع شديدا بلعب العسكرية، فكان ينظم الأولاد رفقاءه جيشا صغيرا ويسحبهم حول القلعة بغاية الترتيب والتهذيب، وذلك أكسبه الجراءة والبسالة، ونفخ فيه روح العزم والنشاط، وربى فيه منظر الوقار والرزانة، بحيث بات مالكا زمام أمور عشرته ومتسلطا عليهم، فكان في يده الحل والعقد في كل ألعابهم ومشاجراتهم ومحاوراتهم وسائر شئونهم، ومجمل القول أنه نال ميزة رقته بكل سهولة إلى الدرجة التي كانت تطلبها ظروف أبيه، أعني كونه ابن حاكم نورماندي كما صار يدعى حينئذ. وبعد مضي بضع سنين عقد روبرت النية على زيارة الأرض المقدسة، ولم يبعثه على ذلك الإخلاص في الدين والتعمق في التقوى، بل حب الشهرة والحصول على البركة والعظمة اللتين ينالهما كل ملك أو أمير يزور أو يحج إلى تلك الأماكن، ولا ريب أنها كانت على روبرت سفرة طويلة مخطرة جدا. ولربما نشأ الاعتقاد بنوال البركة والعظمة بالسفر إلى الأرض المقدسة من النظر إلى ما يكابده المسافر من الأتعاب والمخاطر برا وبحرا، ولا سيما في تلك الأيام.
وكان من عادة الملوك والأمراء أنهم قبل خروجهم للسفر يقيمون معتمدا من قبلهم يكلون إليه رئاسة الأحكام وتدبير شئون المملكة في غيابهم، ويشيرون إلى من يخلفونهم في الملك إذا لم يرجعوا سالمين.
وعليه فلم يعزم روبرت على السفر حتى تشاغلت أفكار الناس وتضاربت في أمر الخلافة ومن ستعهد إليه؛ لأن روبرت لم يكن بعد قد تزوج (شرعيا) وبالنتيجة لم يكن له ابن يخلفه، وقد كان له أخوان وعم وبعض أقارب، وجميع أولئك تنازعوا طلب الخلافة، وانبرى كل منهم يستميل إليه الضباط والقواد وكبار المأمورين، ويمهد لنفسه طريق الاستيلاء على منصب الإمارة بينما كان روبرت نفسه يسعى سرا في تسمية وليم الصغير ولي عهده، على أنه لم يفه بكلمة في هذا الشأن، بل بذل جهده في تعظيم أهمية ابنه في عيون الجميع، وتشهيره في سائر الأمور.
وكان وليم يتدرج في مدارج نباهة الشأن، ويترقى في مراقي النبالة والبسالة والحزم والإقدام؛ من جمال في المنظر، ووقار في المعشر؛ حتى أصبح معزوزا محبوبا من كل الأمراء والضباط وسائر الأشراف الذين كانوا يجتمعون به كثيرا في قصر أبيه، وبعض الأحيان كان يزورهم إلى قلاعهم وحصونهم في موكب والده.
أخيرا عقد الدوك روبرت مجلس شورى من كل الأسياد والأمراء وجميع كبار بلاده وأشرافها؛ للبحث في أمر سفره إلى البلاد المقدسة، فأتوا من كل أنحاء نورماندي وكل منهم محفوف بمظاهر التجلة والتكريم، ومصحوب بفرقة من الرجالة والفرسان مدججين بآلات الكفاح والجلاد، وغارقين بالحديد والفولاذ، ولما التأم المحفل أعلن لهم روبرت قصده وعزمه على السفر، فقام واحد من الحضور - يلقب غاي كونت برغندي - وخاطبه بما يأتي: «إني حزين لأسمع أن الدوك ابن عمي ينحو هذا المنحى؛ لأني أوجس خوفا على سلامة البلاد في غيابه حين تصبح كل أحوال الحكومة ونظاماتها والأمراء والأسياد والضباط والعساكر بدون رأس».
فأجابه روبرت: «كلا، ليس الأمر كذلك؛ لأني عازم أن أخلف لكم حاكما عوضا عني» قال هذا وأشار نحو الغلام الجميل وليم الذي كان بجانبه وقال: «عندي هذا الغلام الصغير الذي - وإن يكن الآن قاصرا - لي ثقة به أنه سينمو بنعمة الله شيئا فشيئا، وأترجى منه رجلا شجاعا حكيما، فأسلمكم إياه مذ الآن وأبيح له حق الاستيلاء على دوكية نورماندي وريثا لي بمعرفتي وإرادتي، وهو ذا قد أقمت الآن دوك برتاني ليحكم على نورماندي باسمي إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فباسم وليم ابني حتى يدرك ويبلغ سن الرشاد» فأسقط جميع الحضور حيرة واندهاشا من جراء هذا التعيين والانتخاب، وأصبحوا على بكرة أبيهم ينازعون العجب العجاب، أما ألان دوك برتاني أحد المتنازعين الخلافة فطفح قلبه سرورا من حصوله على شرف هذه الوكالة التي دعي إليها على حين غفلة؛ لأنه كان يفضل في تلك الظروف الحكم باسم غيره على الحكم باسمه نظرا لما كان يتهدده من المخاطر والمشاق، لو فرضنا أنه استطاع أن يغتصب لنفسه الحكومة المطلقة.
وأما المنازعون الآخرون «أي: طالبو الملك لأنفسهم» فلم يعودوا يستطيعون أن يفوهوا ببنت شفة، وأما باقي الحضور فسرهم أن سمعوا خبر تمليك وليم غاية السرور، وإذ ذاك رأى الدوك روبرت أنه تهيأ له إتمام ما كان يرغبه، فعمد إلى وليم وأقامه على ذراعيه وقبله وأداره صوب الجمهور، فحدق وليم نظره فيهم، وشخص إلى عددهم الحربية بعين النشاط والزكن، وعندئذ خروا جميعهم أمامه بيانا لطاعتهم له حسب عادة تلك الأيام، وقطعوا عهدا على أنهم يعملون على الخضوع له بالأمانة والإخلاص، وقد رأى روبرت أنه ليس من الحكمة أن يترك ابنه تحت مناظرة المنافسين والمناظرين في نورماندي، وعليه أخذه معه إلى باريس وهو ذاهب في طريقه إلى أورشليم، واستودعه بلاط هنري ملك فرنسا الذي عقد جلسة خصوصية للنظر في أمر قبوله، فجلس في بهرة المحفل محفوفا بالوزراء والأمراء وسائر كبار دولته، ولما جاء الوقت المعين دخل الدوك روبرت لابسا حلة السفر وقابضا على يد ابنه وليم، وهو محاط بحاشيته وخواصه الذين أزمعوا أن يرافقوه في سفره، وسار إلى حيث سلطانه الملك هنري جالس، وخر عند قدميه علامة الخضوع والانقياد، وأمر ابنه وليم أن يفعل كذلك، فاستقبل الملك هنري وليم بمزيد الاحتفاء والإكرام بأن أخذه إليه واحتضنه، ووعد أن يسكنه قصره ويبذل غاية جهده في الاعتناء به مدة غياب أبيه.
فأعجب جلساء الملك بجمال وليم، وحسن طلعته، ونباهة شأنه، وما لاح على ساطع محياه من لوائح الحذق والنبل وتباشير العظمة والوقار مع أنه لم يكن حينئذ سوى ابن تسع سنوات.
الفصل الثالث
صفحه نامشخص