ولما ازداد بعث البعوث إلى أوروبا ضعف نفوذ هذه المدرسة، ونشر المبعوثون آراء جديدة للتجديد في كل شيء حتى الأدب، وكان ذلك إبان الحرب. وكان أخوه «محمد تيمور» من المبعوثين، فقابل «محمود» آراء أخيه في شيء كبير من الإعجاب والحذر معا.
وقد عرف من أخيه رغبته في إقامة أدب مصري يستوحي مادته من صميم نفوسنا وبيئتنا.
وحدث أن مرض «محمود» وهو في العشرين من عمره بمرض «التيفوئيد» ولزمه ثلاثة شهور، فعطله عن إتمام دراسته العليا التي كان قد بدأها.
وقد كان هذا الحادث بداية طور جديد في حياته الأدبية؛ فنقله من دور التردد إلى اليقين، ومن دور الهوادة في التحصيل إلى دور الإغراق فيه، وقد شعر بازدياد ميله إلى الأدب بعد شفائه، فخصص له دراسة منظمة.
وكان يستهدي في ذلك الوقت في مطالعته بهدي شقيقه «محمد»، فأرشده إلى «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، ورواية «زينب» للدكتور هيكل، فرأى فيهما لونا جديدا من الأدب الواقعي يخالف اللون الرمزي والرومانتيكي الذي كان غارقا فيه.
وامتدح له أخوه «موباسان» الشاعر الأقصوصي الفرنسي فقرأ له وتأثر به كثيرا، واتسعت مطالعاته بعد ذلك في القصص الأوروبي. ثم انتقل إلى القصص الروسي فقرأ لتشيخوف وتورجنيف، فتأثر من هذه الناحية بعناصر الصدق والبساطة والإنسانية، وهي بارزة في الأدب الروسي وبها يتسم أدب تيمور وكتابته.
ولما وضعت الحرب أوزارها، وثارت في المصريين نزعة القومية اصطبغ الأدب باللون المحلي الصارخ، واتجه المصريون نحو الواقع؛ فأصبحنا عمليين بعد أن كان الكتاب شعراء خياليين. وقد شاع المسرح المحلي، وخاصة الهزلي منه، وانتشر الاقتباس، وبدأ الابتكار، وتضاءلت الترجمة. وألف «محمد تيمور» أقاصيصه «ما تراه العيون» نحا فيها نحو المذهب الواقعي، فأعجب بها محمود، وألف على غرارها قطعته الأولى القصصية «الشيخ جمعة»، وأتبعها بقطعة «يحفظ في البوسطة»، وسار متبعا المذهب الواقعي في كتابته متأثرا بالجو الجديد تاركا الشعر المنثور، ولم يكن يحفل بالأسلوب احتفاله بتصوير الواقع.
ولما توفي أخوه «محمد تيمور» أحس دافعا يدفع به إلى استكمال ما كانت تصبو إليه نفس شقيقه؛ فتقدم إلى ميدان التأليف وبدأ يكتب، فتجمع عنده حتى سنة 1925 مادة من القصص طبعها في كتاب تحت عنوان «الشيخ جمعة وقصص أخرى»، ثم أردفه بغيره.
ولما هدأت نزعة المصرية الحادة واستقرت الأمور في نصابها؛ بدأ ينظر إلى الأدب نظرة أوسع وأشمل؛ فسافر وقتئذ إلى أوروبا وقضى بها أكثر من عامين تفرغ فيهما للقراءة، واتصل بالأدب الأوروبي الحديث اتصالا مباشرا؛ فطالعته هناك مرئيات هزت نفسه ومشاعره وازدادت خبرته بالحياة ومعرفته لها، ودرس نظريات الأدب الرفيع فترك اللون المحلي واتجه نحو النفس البشرية يصور منازعها مطلقا روحه على سجيتها، غير متمذهب بمذهب، معتقدا أن المذاهب الأدبية ما هي إلا مقاييس منطقية وضعها النقاد، فلا يجب أن يتقيد بها الأدباء.
هذا موجز يصور الدور الأول من حياة المترجم له.
صفحه نامشخص