تاریخ امت قبطی
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
ژانرها
فريثما تلي هذا الخطاب على مسامع الحضور، لهجت ألسن الجميع بالدعاء له، والثناء عليه؛ نظرا لحسن رعايته، وكمال عنايته التي شملت جميع أبناء طائفته، ثم طفقوا يتداولون مليا في هذا الصدد. وأخيرا قر رأيهم على انتخاب جمعية رسمية مركبة من اثني عشر شخصا للنظر في خصوصيات الأيتام، وإدارة الأوقاف، ونظر وفصل قضايا الطائفة المختص نظرها بالبطريكخانة، وأن يتعين من قبل هذه الجمعية ثلاث قومسيونات، كل قومسيون منها يكون من أربعة أعضاء: أحدها للأوقاف والثاني للمدارس والمطبعة والكنائس، والثالث للإخوة الفقراء. فوافقهم غبطة المطران على ذلك، ثم شرعوا في انتخاب هؤلاء الأعضاء والنواب، فانتخبوا اثني عشر عضوا ومثلهم نوابا، وعرضوا صورة نتيجة الانتخاب على غبطته فذيلها بالشرح المحرر بخط سيادته، والمختوم بختم نيافته تصديقا لها واعتمادا عليها.
ولما تم هذا الانتخاب على أفضل حال وأكمل منوال، استصوب حضرات المنتخبون أن يكون انتخابهم هذا بصفة رسمية، تضمن لهم مزاولة أعمالهم ومباشرة أشغالهم على غاية ما يرام من تمام الانتظام والإحكام، فتداولوا مع نيافة المطران بهذا الخصوص، وأخيرا أجمع رأيهم جميعا على عرض ذلك الانتخاب الذي تم بحضور هذه الجمعية العمومية على الأعتاب الكريمة الخديوية - أي الخديوي إسماعيل باشا - والتماس صدور الأمر السامي بالتصديق عليه، وقد حصل ذلك فعلا وورد الأمر الكريم لمحافظة مصر بتاريخ 18 الحجة سنة 1290 هجرية مؤيدا ذلك وهذا نصه:
وكيل بطريكخانة الأقباط قدم لدينا إنهاء رقيم 15 الحجة سنة 1290، وعلمنا منه أنه لمناسبة أن مصالح الطائفة القبطية المختصة بمدارسها وأوقافها ومطبعتها وكنائسها آخذة في التقدم والعمارية، قد تراءى له أنه إذا تشكل مجلس من أبناء الطائفة للاتحاد معه في نظر وإدارة خصوصياتها المعتاد نظرها في البطريكخانة؛ يكون ذلك داعيا لزيادة ترقية تلك الأمور ونجاحها، فلهذا صار انتخاب اثني عشر عضوا لذلك المجلس واثني عشر نائبا لهم بمعرفة من لزم من الطائفة، وتم الانتخاب بمحضر عمل بالبطريكخانة، ويلتمس صدور أمرنا للمحافظة بمعرفة المجلس المحكي عنه واختصاصه بروية الأمور المثني عنها، وحيث إن ما حصل من انتخاب أولئك الأعضاء والنواب لتشكيل ذلك المجلس بالكيفية التي توضحت، قد استحسن لدينا وفورنا بمساعدتنا إجابة التماس وكيل البطريكخانة - مقدم الطلب - المومأ إليه، فبذلك لزم إصدار أمرنا هذا إليكم للمعلومية بما ذكر، وهذا كما اقتضت إرادتنا.
فلما صدر هذا الأمر السامي الكريم تلقاه حضرات أعضاء المجلس بما يليق بمقامه الخطير من الاعتبار والوقار، وأحلوه من قلوبهم محلا رفيعا، ثم طفقوا يزاولون أشغالهم ويباشرون أعمالهم بما عهد فيهم من الغيرة والنشاط، ولا سيما لعلمهم بأن هذا المجلس قد صار وقتئذ معتبرا لدى الحكومة السنية الخديوية، ومطابقا لمشرب عموم الطائفة القبطية، وأنهم أصبحوا الآن مسئولين عن أداء هذه الخدمة الشريفة المنيفة أمام الله ومطالبين بها لدى أبناء الأمة التي انتخبتهم؛ ليكونوا نوابا عنها يذبون عن حقوقها ومصالحها؛ وبهذه المثابة كان هذا أول مجلس تشكل بطريقة منتظمة وكيفية محكمة للأمة القبطية.
وما زالت قرارات هذا المجلس مرعية الجانب، وإجراءاته الإصلاحية نافذة المفعول تحت رئاسة حضرة المطران الموقر، إلى أن انتخب سيدنا الحالي للبطريركية بناء على طلب حضرات أعضاء المجلس المومأ إليه بالاتحاد مع حضرات الآباء الرؤساء، الذين كانوا موجودين وقتئذ بالبطريكخانة بصفتهم نوابا عن عموم أفراد الأمة القبطية.
وعندما قدمت عريضتهم هذه إلى جانب المعية السنية؛ طلبوا - أعني أعضاء المجلس - «للمثول بين يدي الخديوي الأعظم إسماعيل باشا» بسراي عابدين العامرة، وبعد الاستفهامات اللازمة والاستعلامات الضرورية، صدر الأمر السامي والنطق الكريم بالتأمين على رسم غبطته بصفة بطريرك للشعب القبطي، ورئيسا للمجلس الملي.
ولما تولى غبطته تخلى المطران أنبا مرقص من مسند وكالة البطريكخانة، وأصبحت اختصاصاته قاصرة على مباشرة شئون وظيفته بالبحيرة والإسكندرية. فانتدب جنابه للترؤس على المجلس بدلا عنه؛ فقبل ذلك بملء الانشراح والارتياح، ومن ثم صار يحضر جلساته بذاته ويترأس عليها، ومن ضمن الأعمال الخليقة بالذكر الحقيقة بالشكر التي قام بها المجلس الموقر حينئذ: إنشاء المدرسة الإكليريكية الشهيرة في شهر يناير سنة 1875 مسيحية، الموافقة سنة 1591 قبطية، ولكنها - لسوء الحظ - لم تدم لأسباب سنوردها في حينها.
هذا، ولقد رأى رجال المجلس حفظهم الله أن الوظيفة الروحية الشريفة المنيفة أرفع شأنا وأسمى مقاما من أن يتفرغ صاحبها للنظر في الشئون العالمية والمصالح الدنيوية؛ بناء على أن الدين والعقل والنقل والاختبار يقضي بذلك، فقرروا في إحدى جلساتهم أن يناط بتلك الأعمال وهاتيك الأشغال بعض أفراد الطائفة القبطية، الذين يجري انتدابهم للنظر في أمر الأموال والأوقاف، وخلافها من الأمور التي هي من هذا القبيل، ورفعوا صورة هذا الاقتراح إلى غبطة البطريرك لأخذ رأيه، فصدق عليها بخطه وختمه، ووافقهم على تنفيذها وأجراها، وهكذا ما زال المجلس المذكور ناهجا منهج الاعتدال وسائرا على محور السداد والكمال، ينشر القرارات ويباشر الإصلاحات وينظم المدارس ويصلح الكنائس ويفتقد الفقراء، إلى غير ما ذكر من المآثر الحسناء والمناقب الغراء، وهو مع ذلك يوالي اجتماعاته، ويعقد جلساته بدون توان ولا انقطاع، ولم يكن هناك اختلاف ولا نزاع؛ إذ كانت الآراء تقدم والملحوظات تبدى، والحكم فيها يكون طبقا لسنة الأغلبية والإجماع.
ولكن لما كان شأن القلوب التقلب، وعادة الأفكار التغير والتضارب، طرأت بعض اختلافات جزئية بين غبطة البطريرك، وبعض حضرات أرباب المجلس، وذلك بعد تولي غبطته مسند الرئاسة ببضعة أشهر؛ يعني في أواخر سنة 1591. أما هذه الاختلافات فكانت دائرة وقاصرة على بعض مناقشات شخصية محضة ليس إلا، لا دخل لها في أشغال المجلس، وتلك أمور لا يخلو الحال من وجودها، ولا يبعد على الظروف أن تأتي بمثلها، فنشأ عن ذلك عدم انعقاد جلسات المجلس، وانحلال المدرسة الإكليريكية التي ألمعنا عنها.
أما أرباب المجلس فاقتضت حكمتهم وأبت شهامتهم ونخوتهم إلا أن ينحسم هذا الخلاف وتعود المياه إلى مجاريها، فبعدما تداولوا مليا في الطرق الموصلة إلى ذلك، عقدوا أخيرا المجلس في يوم 10 أبيب سنة 1591، وباتحاد آراء الجميع وإجماعهم أصدروا قرارا مؤداه عدم التصريح لأحد من أعضاء المجلس أو رئيسه «البطريرك» أن يجري بانفراده عملا متعلقا بالمجلس، ووجوب إعادة المدرسة الإكليريكية، وتسليم النقدية للخواجا عوض سعد الله. وقد صادق على ذلك غبطته بخطه، وبهذه المثابة تمكنوا من نزع أسباب النزاع، وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه، فعم العموم حينئذ الفرح والمرح، وانقشعت غياهب الكدر والترح؛ إذ أعطي القوس باريها، وأسكن الدار بانيها، ولما صفت سماء القلوب من سحائب الهموم، وتنقت من شوائب النفور وغيوم الغموم، وضربت الطمأنينة والسكينة أطنابها في جميع الأفئدة المتباعدة المتنافرة؛ فصيرتها متقاربة ومتحابة متضافرة، عاد حينئذ الإصلاح يوالي السير الهوينى، وأمل الكل تمام الخير والنجاح ودوام الصلح والفلاح، ثم كتب غبطة البطريرك إلى جناب الأب الفاضل والأغومانوس الكامل فيلثاوس يستنهض همته، ويستفز غيرته لإعادة المدرسة الإكليريكية وبث روح التعليم فيها كما كانت في المدة الماضية.
صفحه نامشخص