عصر انحطاط: تاریخ امت عربی (بخش هفتم)
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
ژانرها
ومما هو جدير بالذكر أن كثرة هؤلاء الأمراء من الأيوبيين ثم من المماليك كانت تميل إلى نشر الرخاء بين طبقات الشعب، وإلى تعميم أسباب الحضارة فازدهرت مصر والشام في عهدهم، وارتقتا من الوجهة الاجتماعية رقيا ملحوظا، والسبب في ذلك - على ما نرى - هو أن هؤلاء الأمراء من أيوبيين ومماليك كانوا يحبون أن يجاروا الخلفاء الفاطميين والعباسيين الذين ورثوا أرضهم وملكهم، ومن المعلوم أن مصر بلغت في عهد الفاطميين درجة شامخة في الحضارة والرقي الاجتماعي، فقد كان للفاطميين في القاهرة دور وقصور ومدارس ومعاهد ومكاتب وخانات وحمامات وأسواق وإسطبلات، حشوها بالكثير من مظاهر الرقي والترف من أقداح البلور الصافي، والصحوف الفضية والذهبية والبلورية الفاخرة، والأواني الخزفية والخشبية، والأقمشة البارعة من حريرية وقطنية وكتانية وصوفية، ومن عدد الخيل والحرب ... وما إلى ذلك من ضروب الحضارة والرقي، ومن الطبيعي جدا أن يكون الأيوبيون ثم المماليك قد توارثوا هذه الحضارة عن أسلافهم من أملاك هذه الديار، وأن يتمتعوا بها في حياتهم الاجتماعية، كما أنهم كانوا قدوة للخاصة والعامة في ديارهم، يقلدونهم في أعمالهم، ويتخذون طريقتهم قدوة لهم، ويظهر أن الترف قد بلغ حدا بعيدا في أيام المماليك؛ لأن مصر والشام كانتا أرضا غنية تجتمع فيهما أسواق العالم من الشرق والغرب، وتتوافد إليهما التجار من كافة أصقاع الدنيا؛ ولهذا نجد الناس قد تفننوا في البذخ والترف والشراء، فقد رووا أن المماليك قد رصعوا عصائب شعور نسائهم وثيابهن وخفافهن بالجواهر واللآلئ، كما رصعوا آنية شرابهم وطعامهم بالذهب والحجارة الكريمة، واتخذوا من مجالس شرابهم ولهوهم آنية وتماثيل ودمى من الذهب المرصع بالحجارة الكريمة واللؤلؤ، ولبسوا الثياب المزخرفة، وتمنطقوا بالشال الهندي، وتسربلوا بالحرير، وافترشوا الدمقس والخز والديباج والمخمل، واستعملوا آلات الشطرنج والنرد المصنوعة من الذهب والفضة والآبنوس والعاج والعود، ووجد في خزائن بعضهم من أصناف الثياب والحلي والرياش والأثاث ما يقدر بملايين الدنانير.
وقد استتبع هذا الأمر أن فشت بينهم كثرة من الأمراض الاجتماعية التي تنتج عن الترف الزائد كشرب المكسرات، وتدخين الحشيش، وفعل الموبقات، والتفنن في المنكرات، حتى اضطر الملك بيبرس سنة 665ه في القاهرة، حين عزم على القيام بإحدى غزواته الحربية، أن ينظم داخليته، ويصدر مراسيم بإبطال تدخين الحشيش وإبطال ضمانه، ويأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المنكرات، ومنع الحانات والخواطي في المحلات العمومية بمصر والشام جميعا حتى قال بعض الشعراء:
ليس لإبليس عندنا أرب
غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معا
حرمتا ماءه ومرعاه
ويظهر أن الملك قد عرف بأن بعض الرعية لم يأتمر بأمره، وظل يعاقر الخمور، ويعمل ما اعتاده من الفواحش، فأمر بمنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء، وأمر بنهب الخانات التي كانت معدة لذلك وسلب أهلها جميع ما كان لهم ونفى بعضهم، وحبس النساء حتى تزوجن، وكتب بجميع ذلك توقيعا سلطانيا قرئ على المنابر في الجوامع.
4
والحق أن الأخلاق قد اضطربت في أواخر القرن السابع اضطرابا ظاهرا، وانتشرت المسكرات والموبقات انتشارا مخيفا، حتى اضطر الملك بيبرس إلى الوقوف من أصحابها هذا الموقف الخشن، وفي عهده أيضا أمر عماله في كافة المقاطعات بتنظيم نظام الحسبة، والتشديد على أهل الغش، والضرب على أيدي الدجاجلة، كما أمر عماله أن يكثروا عدد موظفي الحسبة في البلاد؛ ليراقبوا أحوال الناس والباعة، وليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويراقبوا الموازين والمكاييل بعد أن فشا التطفيف، ولينظروا في أمر الأسعار ويتشددوا في مراقبتها، وفي تحديد الأرباح بالإنصاف والعدل بين المشتري والبائع، ويجدر بنا أن نلاحظ هاهنا أن رجال الأخلاق وأهل الوعظ والإرشاد لما شاهدوا الحالة الاجتماعية المنحطة التي صار إليها الناس، وخصوصا في الأحوال المعاشية، أخذوا يكتبون الكتب والرسائل - وهي بمثابة الصحافة في أيامنا - لدعوة الناس إلى سبيل الخير والإقلاع عن جادة الشر، ومن هذه الرسائل والكتب كتب الحسبة ورسائل الإصلاح الاجتماعي العديدة، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من المؤلفين كتبوا في هذه الفتن عن هذه الأمور أمثال: عبد الرحمن بن نصر الشيرزي (؟-589) صاحب كتاب «نهاية الرتبة في طلب الحسبة»، وهو من أمتع الكتب التي ألفت في الاحتساب، تعرض فيه مؤلفه إلى كثير من مسائل المحتالين، وأنواع غشهم، وطريقة احتيالهم على الناس في دكاكينهم من حلوانيين، وطباخين، وسمانين، وعطارين، وبزازين، وقطانين، وصباغين، وبياطرة، وصيادلة، وأطباء، وكحالين، و... وقد أحصى في كتابه كثيرا من أخبار الحيل، وطرائقها، وأنواع الغش الغريبة التي كان الباعة في القرن السادس يعمدون إليها؛ ليوهموا الناس ويغشوهم.
5
صفحه نامشخص