عصر انحطاط: تاریخ امت عربی (بخش هفتم)
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
ژانرها
ولم تقتصر مساعي بيبرس على هذا؛ بل إنه قوى صلاته بالعالم وعظماء ملوكه كملك إسبانيا، وملك نابولي، وسلاجقة آسيا الصغرى فحالفوه ضد التتار الطغاة الذين طبقت قساوتهم الآفاق.
ولما رتب بيبرس أموره الداخلية والخارجية عزم على قتال الصليبيين الذين لا يزالون يتحكمون في بعض بقاع فلسطين؛ فهاجم مدينة قيصرية، وهدم أسوارها المنيعة، واشترك هو بالمعارك، وهدم الأسوار، وتحمس الجنود المصريون، وأعملوا سيوفهم في بقايا الصليبيين فأثاروا في قلوبهم الرعب، ثم توجهوا إلى دمشق ففتحت لهم أبوابها، ولم يجدوا فيها عدوا؛ لأن هولاكو كان قد مات؛ فتشتت شمل جنوده المغول، ثم رجعوا إلى القاهرة فاستقبلهم أهلها أجل استقبال، ولم يستقر بيبرس في القاهرة حتى وجه حملة قوية إلى أرمينية ففتح بلادها وهدم عاصمتها «سيس» واستولى على غنائم كثيرة، وفي سنة 666ه استأنف حروبه مع بقايا الصليبيين؛ فاستولى على يافا وأنطاكية وصافيتا ومرقب، ثم جهز أسطولا قويا لفتح جزيرة قبرص التي كان الصليبيون يستعملونها قاعدة لهم ولتموينهم، ولكنه لم يوفق في حملته فقد تحطم الأسطول بعواصف شديدة لاقته في طريقه، ولم يفل هذا من عزمه في القضاء على الصليبيين في سورية وما جاورها، فقد جمع جيوشه واتجه من جديد نحو قلاع الصليبيين في سورية؛ فحطمها حصنا حصنا، وبعد أن تم له الاستيلاء على كافة قلاعهم في الساحل السوري، وفي سنة 670ه سار لمحاربة الباطنيين الملاحدة في شمال سورية والعراق؛ فقضى عليهم، ثم توجه لقتال التتار الذين حاولوا غزو سورية من جديد، والتقى الجيشان عند مدينة البيرة، وانكسر التتار، ثم توجه إلى أرمينية ففتحها من جديد بعد أن نقض الأرمن عهدهم.
وفي سنة 674ه قام بحملة على بلاد النوبة الذين شرعوا في مهاجمة جنوب مصر فأدبهم، وتعهدوا له بدفع الجزية مع عدد من الفيلة والزراف والتحف، وفي سنة 675ه وافته الأخبار بأن التتار أغاروا على آسية الصغرى وشمالي الشام، فتوجه إلى حلب والتقى بجمعهم، وكان له النصر، ولحق بسلطانهم الفار أباقا خان عند الأبلستين، وكانت معركة هلك فيها من الطرفين عدد كبير وانكسر التتار، وفي سنة 676ه سار نحو أنطاكية لزيارة جنده المرابطين في الثغور، وبينا هو في رحلته هذه إذ شعر بالحمى، فقصد دمشق، وأدركه الأجل وهو في طريقه إليها، فكتم الأمراء خبره إلى أن وصلوا إلى دمشق فدفنوه في الثامن عشر من المحرم سنة 676ه تحت قبة المدرسة الظاهرية الكبرى، وبموته انطوت صفحة خالدة فيها كثير من أنباء البطولة والصلاح وحب الخير وحماية الإسلام والعروبة ونشر الفضل والعلم، وقد امتد نفوذه من جنوبي بلاد مصر إلى أقاصي الفراتين، ومن تخوم آسية إلى سيف البحر الأحمر، وقد شاد في عواصم هذا الملك كثيرا من القصور والمساجد والمدارس والبيمارستانات والخوانق والربط والخانات التي ما يزال أكثرها مزدهيا بجماله العمراني وحسن ريازته، ومن أجمل هذه الآثار دار الكتب الظاهرية التي تضم رفاته في دمشق.
ولما توفي الظاهر بيبرس اتفق الأمراء جميعا على مبايعة ابنه الأمير محمد بركة خان في سنة 676ه/1277م وتلقب بالملك السعيد في حفلة جد فخمة، وكان الملك السعيد فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة، وكان فيه كثير من نزق الشباب وطيشه، ولكنه ورث عن أبيه شيئا من الشدة والحزم، وما أن اعتلى أريكة الملك حتى أقصى الأمراء والمماليك الذين كانوا مقربين في عهد أبيه، وقرب إليه طائفة من المماليك الشباب الأغرار؛ فتباعدت عنه رجالات الحل والعقد والحكمة والكياسة، وتألم زعماء البلاد من هذا التصرف الأخرق، وعزموا على التخلص منه، ولكن فتنة وقعت في دمشق جعلتهم يغضون النظر عن الملك السعيد وتصرفاته، فقد وردت أخبار من بلاد الشام بأن الأمير سنجر الأشقر صاحب دمشق قد أعلن عصيانه على مصر وسمى نفسه سلطانا وتلقب بالملك الكامل كما أسلفنا، واضطر الملك السعيد أن يسير إليه، وبينا كان يحاصره في دمشق وجد أحد أمرائه أن الجند أخذوا يتسللون هربا فأعلمه بذلك، وعلم أن جنده سيخذلونه فرجع إلى القاهرة، ولكن جنده منعوه من دخولها، فلجأ إلى قلعة الجبل، ولكن الجند حاصروه، فاضطر أن يسلم نفسه، وكادوا أن يقتلوه لولا أن الخليفة الحاكم بأمر الله منعهم من ذلك، فخلعوه في ربيع الأول سنة 678ه/1279م ونفوه إلى قلعة الكرك، ولم يطل عمره بعد ذلك إلا فترة قصيرة، ثم ولوا أخاه الأمير بدر الدين سلامس، ولم يكن له من العمر إلا سبع سنوات وأشهرا، وأقاموا الأمير سيف الدين قلاوون الألفي أكبر الأمراء «أتابكا» عليه، فلم يلبث قلاوون أن خلع سلامس، ونادى بنفسه سلطانا في أواخر سنة 678ه وتلقب بالملك المنصور، ولم يلبث قليلا حتى داهمت جيوش المغول بلاد الشام، وأخذت تفتك بالأهلين وتحرق المدن، وقد لقيت الديار الحلبية وحلب نفسها من فظائعها ما يضيق القلم عن ذكره، ولما بلغت أخبارهم دمشق هاج أهلها، وسار قلاوون على رأس جيش إلى الشام فالتقى الجيشان، وتشتت شمل المغول وقتل أميرهم منكو تمر، ومما هو جدير بالذكر في هذه الفترة أن فلول الصليبيين الذين كانوا في بعض ثغور الشام انتهزوا فرصة هجوم التتار فأغاروا على البلاد، وفتكوا ببعض المدن والقرى، فلما انتهى السلطان قلاوون من تشتيت المغول زحف على أولئك الصليبيين فأخضعهم، وعقد معه البرنس بومنت ملك طرابلس هدنة أعلن فيها خضوعه، ثم رجع السلطان إلى مصر، وأخذ ينظم أمور البلاد الداخلية، وعهد بولاية عهده إلى ابنه علي الصالح، ولكن عليا قضى في سنة 687ه، فحزن عليه أبوه أشد الحزن، وآلى على نفسه أن يخرج في حملة قوية ضد الصليبيين يفرج بها عن كرهه، فزحف على رأس جيش كبير إلى طرابلس الشام، وكانت تحت نفوذ الصليبيين منذ أكثر من قرن ونصف قرن فافتتحها، وذبح من الصليبيين مذبحة عظيمة ثم رجع إلى مصر، ولكن حرقته على ابنه ما زالت مسيطرة عليه إلى أن أدركه أجله في سنة 685ه/1290م فحزن الناس لموته، ودفن في البيمارستان العظيم الذي شاده في القاهرة، وكان قلاوون ملكا عادلا شجاعا مقداما، وطد الأمن في البلاد الشامية والمصرية والحجازية، وأذاق الصليبيين والمغول مر العذاب، وله آثار عمرانية جليلة أهمها: البيمارستان القلاووني، والمدرستان في القاهرة، وكثير من الخانات والربط والجوامع، كما أنه كان مغرما بالاستكثار من المماليك حتى قيل إنه كان يملك اثني عشر ألف مملوك جركسي ومغولي، وقد أسكن نحوا من أربعة آلاف واحد منهم في بروج القلعة، وقد عرفوا بالمماليك البرجية تمييزا لهم عن المماليك البحرية، وقد لعبوا بعد وفاته دورا هاما في تاريخ مصر والشام.
ولما مات قلاوون تولى الملك بعده ابنه السلطان صلاح الدين خليل 689ه/1290م وتلقب بالملك الأشرف، وكان سلطانا حازما جهز في سنة 690ه . حملة بقيادته على الصليبيين في عكا التي كانت الحصن الحصين الوحيد الذي بقي بيد الصليبيين، فدكه وشرد جموعهم على الرغم من نجدة أهالي جزيرة قبرص لهم،
2
وعلى أثر سقوط عكا خاف الصليبيون من المسلمين على أنفسهم؛ فتركوا سائر قلاعهم وحصونهم في بيروت وصيدا وصور، وفر قسم كبير منهم من البلاد، وعاد السلطان إلى القاهرة ظافرا وبين يديه آلاف من الأسري الصليبيين، وبسيفه البتار قضى عليهم قضاء مبرما، ولم ترتفع لهم عقيرة بعدئذ.
ثم وجه السلطان خليل همته إلى قتال المغول؛ ففي سنة 692ه اتجه نحو حلب ومنها إلى آسية الصغرى حيث أعمل السيف فيهم وفيمن معهم من الأرمن، وفتح بلاد أرزن الروم، وذاع صيته في البلاد الشمالية والشرقية كلها وهابه الناس، ثم رجع إلى القاهرة، ولم يلبث طويلا حتى فاجأه أحد المماليك بضربة خنجر أردته قتيلا في سنة 693ه/1293م ونادى هذا القاتل - وكان اسمه بيدار - بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك القاهر، فلم يلبث إلا يوما واحدا حتى قتله أحد مماليك السلطان خليل، وبايعوا أخاه محمد بن قلاوون ملكا ولقبوه بالملك الناصر، وكان هذا فتى لم يتجاوز التاسعة من سنيه، فأقاموا الأمير زين الدين كتبغا قيما عليه و«أتابكا»، وكان من مماليك أبيه، ولكنه لم يلبث أن خلع الناصر ونفاه إلى الكرك، ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك العادل في سنة 694ه/1294م، وفي عهده أصابت الديار المصرية مصائب عظام من طاعون وقحط وبؤس، وهلك من أهلها خلق كثير لسوء إدارته، وكانت ثالثة الأثافي في عهده حادثة العويراتية وهم قبيلة من المغول فرت من بلادها لاجئة إلى الديار الشامية، فلما بلغ خبرها إلى كتبغا استقدم أكابرها إلى مصر؛ لأنهم من جنسه، وكانوا نحوا من ثلاثمائة رجل، فأنعم على رئيسهم طرغاي برتبة عالية وعليهم، ومكنهم من وظائف الدولة فعاثوا فيها فسادا حتى قال محمد بن دينار الشاعر يصف حالة البلاد بسببهم: ربنا اكشف العذاب عنا فإنا
قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانسلقنا
صفحه نامشخص