عصر انحطاط: تاریخ امت عربی (بخش هفتم)
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
ژانرها
لما أحس السلطان المملوكي «قانصوه الغوري» صاحب الشام ومصر بضعف نوابه في الشام عن لقاء السلطان سليم العثماني جمع جموعه، وسار من مصر إلى حلب، ونزل في مرج دابق، وأخذ يستعد للقاء الجيش التركي العثماني، ثم ترددت الرسل بين السلطانين، وأوعز سليم إلى رسله أن يتظاهروا بطلب السلامة والصلح، فانخدع قانصوه، وبينما كانت جموعه مطمئنة إذا هم بالجيش العثماني يحدق بهم ويفتك فتكته القوية، وقد أعان سليما على التغلب على «قانصوه» خيانة بعض أمراء «قانصوه» وانضمامهم إلى سليم مثل الأمير خاير بك صاحب حلب، وجان بردي الغزالي صاحب دمشق، وقد استطاع سليم أن يقضي على الجيش المصري في مرج دابق، ثم دخل إلى حلب.
واضطربت المدن السورية لذلك أشد الاضطراب، وهرب المماليك، ووثب أهل دمشق بعضهم على بعض، وتسلط الغوغاء والسوقة على الأشراف والأعيان، واضطربت المدن فترة من الزمن إلى أن تم للعثمانيين أمر السيطرة على البلاد كلها، ودخل سليم حماه وحمص ودمشق في مستهل رمضان سنة 922ه وظل في الشام حتى شهر ذي القعدة، ثم سار نحو القاهرة ففتحها كما سنفصله، وبعد أن بقي في القاهرة نحو سنة رجع إلى الشام في رجب سنة 923ه فولى جان بردي الغزالي على دمشق، وأبقى النظام الذي كانت عليه البلاد أيام المماليك، ثم رجع إلى بلاده حيث هلك في شوال سنة 926ه فتولى بعده ابنه سليمان القانوني، ويظهر أن جان بردي أحس باضطراب الأحوال في الدولة العثمانية بعد موت سليم، فعزم على الانفصال، وقد أعانه على ذلك أمراء لبنان وبدو الشام، فتسلطن وسمى نفسه الملك الأشرف، وخطب له على منابر دمشق، وضربت العملة باسمه، وكتب إلى خاير بك في حلب أن يفعل مثله ويعلن انفصاله فلم يقبل، ثم جاءت الجيوش العثمانية ففتكت به وأخضعت أهل دمشق، قال محمد بن جمعة المقار يصف هذه الفتنة: «وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شبان الصالحية - إحدى محلات دمشق - نحو الخمسين، ومن كل حارة نحو المائة، وكذا من القرى، وقيل إن عدة القتلى سبعة آلاف وسبعين، وغط العسكر على الصالحية وجميع الحارات والقرى التي على مسيرة يوم وليلة، فكسروا الأبواب وحواصلها، وعروا النساء فضلا عن الرجال، وأخذوا بعض نساء وجواري وعبيد وصبيان، وعدوا هذه الكائنة على دمشق ككائنة التمرلنك بل كيوم القيامة.»
1
وبعد هذه الحملة العنيفة رأى العثمانيون وجوب تغيير سياستهم في بلاد الشام فولوا رجلا حازما عاقلا هو أياس باشا في دمشق، كما ولوا فرحات بك على طرابلس، وقره موسى على غزة، وأمروهم بحسن السيرة والأخذ بالقوة.
وفي سنة 930ه تولى دمشق خرم باشا وكان جبارا ظالما، وقد صرف همته إلى قتال الدروز في بلاد الشوف، وأحرق ثلاثة وأربعين قرية من قراهم، كما بعث أربعة أحمال من رءوسهم؛ لتعليقها على قلعة دمشق، ورجع من هناك ومعه مجلدات من كتبهم،
2
ثم أخذ الولاة العثمانيون يسيئون السيرة، فتسرع الحكومة العثمانية في نقلهم، حتى لم يبق وال أكثر من سنة، وربما بقي شهرا أو شهرين، فكان هم الواحد منهم سلب الناس، وتفريق كلمتهم، والقضاء على الدروز والموارنة، وإيقاع الفتن بين سكان البلاد، وتمنى الناس رجوع عهد المماليك على ما كان عليه من الفساد لما صاروا يلاقونه من ظلم الولاة العثمانيين وعسفهم، واستلابهم أموال الناس بالباطل، وأخذهم الرشى، وخصوصا حين مات السلطان سليمان القانوني وتولى سليم الثاني، وفي أواخر عهده سنة 980ه وزع القشلق - أي العساكر المشتية على بلاد الشام - ونهب عسكر الدولة بلاد لبنان وما إليها ، وسلبوا سائمتها، وأسرفوا في الظلم حتى كادت الناس تسأل الموت لنفوسها، وأقفرت في لبنان قرى كثيرة، وقتل من الموارنة في تلك المعمعة نحو ثلاثين ألفا،
3
وفي سنة 991ه تولى السلطنة مراد الثالث وعهد بسورية إلى حسن باشا، فكان أول أعماله أن وجه جيشا كبيرا إلى لبنان لحرب موارنته والفتك بهم، وفي سنة 993ه وقعت حادثة سرقة الخزنة السلطانية المصرية في عكا أثناء الذهاب بها إلى الأستانة، فسار حاكم طرابلس جعفر باشا إلى هاتيك الديار، وأعلن الحرب عليها، وأحرق بلاد عكا جميعها، وشتت شمل أمرائها ووجوهها كبني معن وبني عساف وبني سيف، كما فتك بالدروز، وقد لاقى أهل الشام في هذا القرن من الولاة العثمانيين أشد أنواع العسف.
فلما دخل القرن العاشر ازدادت نكباتهم، وكثر تعاقب الولاة عليهم، وكل واحد منهم يسرق وينهب ثم يترك البلاد أو يخلع عنها، وقد بلغ عدد ولاة دمشق خلال هذا القرن واحدا وثمانين واليا، كما بلغ ولاة حلب تسعة وأربعين، وازداد الاضطراب في البلاد حتى أصبحت رتبة الولاية تباع وتشرى كالسلع، وأصبح الوالي جابيا لا غير، والوالي الأفضل عند السلطان العثماني والصدر الأعظم العثماني - أي رئيس الوزراء - هو الذي يزيد في جمع الأموال عن سابقه، يكثر تقديم الهدايا والتقاديم، وقد ازداد البلاء على الأهلين حينما اشتدت حملة العساكر العثمانية المعروفة باسم «الانكشارية» الذين انساحوا في البلاد يفسدونها، ويظهر أن الأعيان والأهالي المساكين الذين ضاقوا ذرعا بالعساكر العثمانية أخذوا يفكرون في التخلص منهم، فنظموا أمورهم، وعزموا على الإفلات من ربقة الأتراك، وكان أول هؤلاء هو أمير بني معن فخر الدين الثاني، فإنه رأى ما تلاقيه بلاده من ظلم الأتراك؛ فشرع في إعداد حملة للتخلص منهم، وقد أحس الولاة العثمانيون بذلك فراقبوا أعماله وحركاته، وأخذوا يضيقون عليه خوفا من امتداد سلطته ونفوذه من جبل لبنان إلى سائر أصقاع الشام، إلى أن كانت سنة 1020ه فطلبت الدولة العثمانية إلى والي دمشق أحمد حافظ باشا أن يتوجه للقضاء على الأمير المعني، كما طلبت إلى ولاة ديار بكر حلب وطرابلس أن يؤازروا والي دمشق، فتوجه الجميع لقتاله في جيش يبلغ ثلاثين ألفا، واستطاع الأمير المعني أن يصمد أمامهم نحوا من تسعة أشهر، ثم رأي أن يترك البلاد مؤقتا ويذهب إلى إيطاليا، فأقام فيها نحوا من خمس سنوات تعرف خلالها إلى النهضة الأوروبية الحديثة، ثم عاد إلى بلاده، وقد أحضر معه بعض المهندسين الحربيين وكثيرا من أهل الصناعات الحربية، وشرع يعد العدة للقضاء على نفوذ الولاة العثمانيين الذين اشتدت مخاوفهم منه بعد أن خضعت له كافة قبائل الدروز والنصيرية والموارنة في الساحل والداخل، وامتد سلطانه من أنطاكية إلى بلاد صفد وبعلبك،
صفحه نامشخص