عصر الانبثاق: تاریخ امت عربی (جلد اول)
عصر الانبثاق: تاريخ الأمة العربية (الجزء الأول)
ژانرها
والحق أن الحالة السياسية في الحجاز قبل عصر النبي كانت حالة بسيطة غير معقدة، ليس لها ما للدول من مشكلات سياسية أو قضايا دولية، هي حالة قريبة الشبه بالنظام الجمهوري الشوري الذي يعتمد على النظام القبلي، ويحكم البلاد حكما يديره شيوخ قريش ووجوه القبائل الكبرى في الحجاز، وأن هذه القبائل وقريشا كانت تتوارث الحكم، ولعل أبرز هؤلاء الشيوخ في الجاهلية هو: قصي وعبد مناف وهاشم وعبد المطلب وأبو سفيان في مكة، وعبد الله بن أبي في المدينة. (1-3) الحالة الاقتصادية
الحجاز بلد فقير، وصفه إبراهيم - عليه السلام - بقوله:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (سورة إبراهيم: آية 37)، على أن فيه بقاعا خصبة هي يثرب ورياضها، والطائف وضواحيها، ففي هذه البقاع سهول خضرة وبساتين مثمرة وجنات وارفة ونخيل وأثمار وزرع، كما أن فيه مدنا ساحلية اتصلت بالعالم الخارجي، فكثرت تجاراتها، وربت خيراتها. كما أن مواسم الحجاز وأسواقه جعلت منه بقعة تجارية يقصدها العرب أجمعون؛ ليشهدوا منافع لهم، وقد كانت لقريش رحلتان تجاريتان إحداهما: في الصيف إلى الشام، وثانيتهما: في الشتاء إلى اليمن:
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، وقد رأينا سبب حملة أحباش اليمن؛ كانت حملة تجارية الأهداف، فقد رأى أبرهة وصحبه ما لقريش من أثر في حياة الجزيرة العربية الاقتصادية، فأراد تحويل ذلك إلى اليمن وحصره فيه، ولكنه فشل وظلت لمكة خاصة والحجاز عامة سيطرته التجارية ومكانته المالية.
فقد كانت مكة مقر حركة تجارية واسعة تمتد إلى اليمن ومصر والحبشة وسواحل أفريقيا، كما تسير إلى الشام والعراق وفارس والمشرق البعيد، وكان تجار مكة يذهبون بالبضائع ويجيئون بالسلع، وقد كان بنو عبد مناف جميعا يهتمون بشئون التجارة والاقتصاد، والمورخون يذكرون أن هاشما كان يتوجه إلى الشام، وعبد شمس كان يقصد الحبشة، والمطلب كان يتاجر إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش الآخرون يختلفون مع بني عبد مناف إلى هذه البلاد ولا يتعرض لهم أحد بسوء،
29
وكل واحد منهم يأخذ من البلد الذي يقصد بلاده أمانا له ولقومه، فكان عملهم هذا أشبه بالمعاهدات التجارية بين أمراء مكة وتجارها وبين ملوك تلك الأقطار، وقد كانت هذه التجارات احتكارا للقريشيين؛ لمكانتهم ووجاهتهم عند العرب أجمعين، ولأن أراضي الجزيرة وعرة صعبة المسالك لا يتيسر ورودها على من ليس أهلها، فلذلك لم ينافسهم أهل تلك الديار من فرس وروم وأحباش فيها، وقد أثرت قريش بهذه التجارات إثراء عظيما، ومن أشهر من عرف بذلك: أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، وعبد الله بن جدعان، وخديجة بنت خويلد ... وغيرهم، وقد كان كثير من الناس يوفدون عنهم من يتاجر بأموالهم إذا هم لم يقدروا على ذلك، أو كن نساء، كما فعلت السيدة خديجة في إرسال النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة متاجرا بأموالها، وقد كانت قوافل القرشيين معروفة في البلاد التي تمر بها كما كانت محترمة المكانة مرهوبة الجانب؛ لمكانتهم الاجتماعية، وحمايتهم للكعبة التي يقصدها العرب أجمعون، وكانت لهذه القوافل محطات في كل من الأمكنة التي كانوا يقصدون في غزة هاشم وحوران ودمشق وبيت المقدس في الشمال، وصنعاء وعدن وعمان وحضرموت في الجنوب. أما البضائع التي كانوا يتاجرون بها فهي: التوابل والطيب والبخور والمنسوجات الحريرية والأسلحة والجلد، يأتون بها من موانئ عمان وأسواق الحبشة وأفريقيا وصنعاء إلى بلاد الشام التي كانوا يأخذون منها الحبوب من القمح والشعير وزيت الزيتون والأخشاب والفواكه والمصنوعات النحاسية والحديدية والزجاجية. كانوا يشترون من الموانئ اليمنية بضائع الهند والصين وغيرهما من أقطار أقصى المشرق، وأهمها: المنسوجات الحريرية، والمعادن النفيسة، والحجارة الكريمة، والتوابل، والعاج ، وقد استفادت قريش من هذه التجارات فوائد جليلة مادية ومعنوية؛ أما المادية: فجعلتهم ينعمون بحياة رخصة رخية، وأما المعنوية: فجعلتهم أصحاب ثقافة وأفق عقلي واسع، ولا غرو فإن مخالطتهم لأرباب تلك المتاجر من روم وفرس وأحباش وأنباط وهنود وصين وغيرهم من أرباب الحضارات القديمة والعلوم العريقة قد جعلتهم أوسع مدارك من غيرهم، وأعظم مفكورات، وأجل نظرات، كما جعلتهم على اطلاع واسع بكثير من آداب التجارة والسياسة وأنظمة العلاقات التجارية، كما عرفتهم بكثير من أحوال المكاييل والموازين، ودقائق علم الحساب التجاري.
ثم إن يهود الحجاز قد لعبوا دورا تجاريا هاما في الحياة الاقتصادية الحجازية؛ فكانت لهم مزارع وحصون وآطام وقصور وثروات، وكانت لهم متاجر ومصارف وحوانيت ومصانع، وكان منهم الصناع والصياغ والصياقلة والحدادون والنجارون وغيرهم من أرباب الحرف، ولا شك في أن هذا كله قد رفع من مستوى الحجاز الاقتصادي، وجعل أهله يتمتعون بحياة رخصة وحركة اقتصادية نشيطة، وقد عرف العرب في الحجاز كثيرا من ضروب المتاجرة؛ من الصيرفة والربا والنسيء والتطفيف في البيع والحيل التجارية، ولا شك في أن العرب قد أخذوا كثيرا من هذه الأمور عن اليهود المقيمين بين ظهرانيهم أو من تجار الشام والعراق واليمن ومصر حينما كانوا يرحلون إليها متاجرين، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الأمور، وإلى تحريم الإسلام إياها، وتهديد من يتعاطاها من المسلمين.
صفحه نامشخص