عصر انبعاث: تاریخ امت عربی (جلد هشتم)
عصر الانبعاث: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
ژانرها
بالنظر إلى ما بين الشام والعراق من الصلات والروابط اللغوية والتاريخية والاقتصادية والجنسية والطبيعية، مما يجعل أحد القطرين لا يستغني عن الآخر، فالمؤتمر يطلب استقلال العراق استقلالا تاما، على أن يكون بين القطرين الشقيقين اتجاه سياسي اقتصادي.
وقد أعلنت هذه المقررات في الثامن من آذار سنة 1920م، الموافق ليوم 17 جمادى الثانية سنة 1338ه، وبويع الملك فيصل على عرش سورية، ورفع العلم الجديد، وهو علم الثورة السورية ذو الألوان الثلاثة، يجمع بينها مثلث أحمر، وأضيفت إليه نجمة، واتخذ السوريون هذا اليوم عيدا قوميا. وما إن بلغت هذه الأخبار مسامع الفرنسيين حتى جن جنون الجنرال غورو، فأمر قواته بالسير إلى بيروت لاحتلال رياق وبعلبك وشتورة، ثم جهز جيشا قويا وبعث بإنذار شفهي إلى الملك فيصل يوم 11 تموز سنة 1920م طالبه فيه بقبول الانتداب الفرنسي على سورية بلا قيد ولا شرط، وإيقاف التجنيد الإجباري ، وقبول العملة الورقية التي أصدرها جيش الاحتلال الفرنسي في لبنان، والسماح للجيش الفرنسي القادم من قليقية باحتلال حلب. ولم ينتظر جواب الملك على إنذاره، بل أمر جنده بالزحف على دمشق، وبعث إلى الملك فيصل إنذارا مكتوبا يوم 14 تموز، فجمع الملك أعضاء وزارته فرآهم منقسمين إلى قسمين: قسم يرى قبول الإنذار، وقسم يرى وجوب إهماله. وبعد مذاكرات طويلة قر رأيهم على قبول الإنذار؛ لأن مقاومتهم تكون ضربا من العبث لعدم تكافؤ الجانبين، ولكن غورو لم يكتف بقبول الإنذار، بل أصر على تنفيذ مطاليبه، ثم أمهل الحكومة السورية إلى منتصف ليلة 20 تموز سنة 1920م، وإلا زحف الجيش على دمشق، فقبلت الحكومة هذا الإنذار، وسرحت جيشها، وأعطى الملك فيصل في الساعة السادسة من بعد ظهر يوم 20 تموز كتابا مطولا يشتمل على طريقة تنفيذ الإنذار، وسلم هذا الكتاب إلى ضابط الارتباط الفرنسي «كوس»، فأبرق هذا إلى الجنرال غورو بقبول الحكومة للإنذار، ولكن البرقية لم تصل إلى غورو؛ لأن موظف البرق رفض استلامها بحجة انقطاع الخطوط، فزحفت جيوشه إلى دمشق صباح يوم 20 تموز، واضطرت الحكومة السورية إلى الدفاع عن العاصمة، فلم تستطع أن تجمع أكثر من بضع مئات من الجند النظامي وألفين من المتطوعين، مع أن الجيش الفرنسي كان مؤلفا من لواءين من جنود السنغال، ولواء من الفرسان المراكشيين، وأربعة من أفواج من المشاة الجزائريين، وسبع بطاريات من المدفعية. وجرت بين الطرفين معركة في «عقبة الطين» غربي ميسلون يوم 24 تموز سنة 1920م، فاستشهد وزير الدفاع يوسف العظمة، وارتدت القوات السورية، ودخل الجيش الفرنسي، ثم زحف نحو حمص وحماه وحلب واستولى على البلاد السورية استيلاء تاما.
ثم طلب غورو من الملك فيصل أن يغادر البلاد، فتركها وهو آسف، وسرح الفرنسيون فلول الجيش السوري واستولوا على أسلحته وألغوا وزارتي الحربية والخارجية، وأقاموا في دمشق مندوبا عن المفوض السامي الفرنسي المقيم في بيروت ومستشارين في كل الوزارات والدوائر، فكانوا هم الحكام الحقيقيين، ثم قسموا دوائر الدولة إلى قسمين: قسم جعلوه تحت إشرافهم المباشر كالجمارك، ومراقبة الشركات الأجنبية، وأحوال المدارس والمعاهد الأجنبية، ومصالح الحدود والبادية، ودوائر الأمن العام، وشئون السياسة الخارجية، ودوائر الجوازات، والجيش، ودوائر البارود والمفرقعات، والمحاجر، والمخترعات. والقسم الثاني سلموه للسوريين وجعلوا في دوائره مستشارين يشرفون على تنظيمه، وهي: دوائر الداخلية، والمالية، والمعارف، والعدل، والأشغال العامة، والأوقاف، والاقتصاد الوطني، والصحة، والإسعاف، والبيطرة، والزراعة، والشرطة، والدرك، والبرق والبريد، والمصالح العقارية، وأملاك الدولة، والقضاء الشرعي.
وأقاموا في البلاد إلى جانب الجهاز الحكومي «جهاز المفوضية العليا ودوائرها»، جعلوا مركزه الرئيسي في بيروت، وأقاموا له فروعا في دمشق وحلب وسائر المحافظات والأقضية. وكانت دوائر هذا الجهاز هي دوائر الحكام الحقيقيين، وقد تبع هذه الدوائر عدد كبير من التراجمة، تسلطوا على الأهلين تسلط الجلادين القساة، وأذاقوهم الأمرين طوال فترة الانتداب الفرنسي البغيض.
وحين غادر الملك فيصل سورية عهد برئاسة الوزارة إلى علاء الدين الدروبي، على أن يختار هو وزراءه، ولما بلغ الملك حوران أبرق إليه الدروبي بوجوب مغادرته البلاد فورا، وإلا ضربت الطيارات مدن حوران، فاضطر جلالته إلى السفر إلى الأردن فالعراق.
أما الأردن فقد جعل إمارة تشتمل على بلاد عجلون والصلت وعمان ومعان، وعلى رأسها الأمير عبد الله بن الحسين، وقد دعيت: «إمارة الشرق العربي».
وأما فلسطين فجعلت بريطانية لها حكومة مختلفة يرأسها مندوب سام بريطاني: هو هربرت صموئيل، على أن يكون له الإشراف أيضا على إمارة المشرق العربي. وشكلت الحكومة البريطانية في فلسطين مجلسا أسمته مجلس الشورى، مؤلفا من عشرين عضوا؛ نصفهم من رجال دوائر الحكومة، ونصفهم من الأهلين، وهم أربعة من المسلمين وثلاثة من كل من النصارى واليهود، وعمل هذا المجلس استشاري بحت.
وأما العراق فقد وضع تحت الانتداب البريطاني بموجب مقررات مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو بنيسيان سنة 1920م، وأخذت قوى الاحتلال البريطاني تحكمه حكما مباشرا، فاضطرب أحراره وأعلنوا الثورة على بريطانية، وتزعم الحركة شبان «جمعية العهد» و«جمعية حرس الاستقلال»، والتهب العراق كله - وبخاصة القسم الجنوبي - وفتك بالجيش البريطاني في عدة معارك اضطرت بعدها بريطانية أن تنظر إلى الشعب العراقي نظرة تقدير. وقرر المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس بعد مشاورة حكومة ملكه في 20 حزيران سنة 1920م تأليف مجلس شورى، والاعتراف للعراق بالسيادة الوطنية وبكونه عضوا في جمعية الأمم، على أن تنوب عنه بريطانية ويكون الجيش البريطاني هو المسئول عن أمن العراق. فلم يرض أحرار العراق بهذا الحل الهزيل، وظلت البلاد مضطربة، إلى أن اعتلى عرشها الملك فيصل في 22 آب سنة 1922م، فبدأ شكل الحكم يتغير تغيرا ملموسا نحو السيادة القومية، وكانت حكومة العراق حكومة ملكية ديموقراطية برلمانية تتألف السلطة التشريعية فيها من مجلسين، هما: مجلس النواب، ومجلس الأعيان. وتضمنت المادة الأولى المعاهدة الموقعة بين ملك العراق وملك بريطانية، ما يضمن العمل على إنشاء حكومة مستقلة ذات سيادة تامة في العراق، وكان من أبرز هذه السيادة الاعتراف بمبدأ التمثيل الخارجي في حواضر العالم ولدى جمعية الأمم.
الفصل الخامس
الحالة العامة في مصر والسودان
صفحه نامشخص