عصر انبعاث: تاریخ امت عربی (جلد هشتم)
عصر الانبعاث: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
ژانرها
واستطاع السلطان عبد الحميد وبطانته أن يستمروا في الهيمنة على أجزاء المملكة فترة طويلة، كما استطاعوا أن يؤخروا بعث الوعي القومي - وبخاصة الوعي العربي - فترة ما، فتفسخت المملكة ودب الفساد إلى كافة أجزائها، وتداعى العقلاء من أهلها الأتراك وغير الأتراك للعمل على إنقاذها والقضاء على روح الجاسوسية، والاستخذاء والدسائس التي سيطرت عليها طوال العهد الحميدي. وكان في طليعة هؤلاء المتداعين ثلاثة من الشبان الأتراك، وهم: أنور، ونيازي، وطلعت؛ فأسسوا «جمعية الاتحاد والترقي»، وعملوا على تنفيذ الدستور في سنة 1908م، وسيطروا على العاصمة، فخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني، وولوا أخاه السلطان محمد رشاد الخامس، وأوجدوا برلمانا يمثل كافة بلاد الإمبراطورية، ويعمل على تنظيم كيان الإمبراطورية المتفكك، ولكن هذا كان شبه مستحيل؛ لأن الإمبراطورية كانت مؤلفة من عناصر متباينة في الأجناس والأديان والأفكار، ولأنها كانت محاطة بعدد كبير من الخصوم الأقوياء، ومليئة بعدد ضخم من المشاكل. ولقد حاولت «جمعية الاتحاد والترقي» خلق ما أسمته «الجامعة العثمانية» ولكنها لم تستطع، وكان شبان العرب الأحرار في طليعة من حاولوا الانفصال عن تلك الجامعة الغريبة، وأخذوا يفكرون في العمل للتخلص من ربقة الاحتلال العثماني والعهد الحميدي المتستر بستار الدين، البعيد عن روح الدين ومبادئه القويمة وأهدافه السامية على ما سنفصله فيما بعد.
الفصل الخامس
الحركات في العهد الحميدي وأثرها
في العالم العربي
كانت الإمبراطورية العثمانية وقت اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني على عرشها في حالة من التفكك الداخلي جد واضحة، كما كانت الدول الأوروبية تعمل على انتقاص رقعتها وإفساد الجو الخارجي حولها، وكانت أقرب الدول الأوروبية منها هي دولة ألمانيا القيصرية؛ فقد تقرب القيصر غليوم الثاني من السلطان عبد الحميد الثاني، وتظاهر بأنه صادق في تقربه، وأنه يريد أن يجعل من دولة الخلافة دولة قوية، واعتقد السلطان العثماني بصحة هذا القول، فبادل القيصر العواطف، وقويت المظاهر الودية بين الدولتين، وتتابع الرسل والسفراء ورجال الإرساليات والبعوث بينهما، وكان من أبرزها بعثة الكولونيل فون ديركولتز،
1
وهو من أقدر ضباط الجيش الألماني، وقد قدم الآستانة في ربيع سنة 1883م لينظم الجيش التركي، فقام بعمله أحسن قيام، وظل ثلاث عشرة سنة يعمل بدأب حتى استقامت أمور الجيش، ونبغ فيه نفر من الضباط الأذكياء - وفيهم عدد غير قليل من الشبان العرب - وكان هؤلاء الضباط نواة الحركة التحررية في الإمبراطورية العثمانية.
وفي عام 1898م قدم القيصر نفسه إلى زيارة السلطان زيارة رسمية، فتلقاه وفتح له القصور واستقبله استقبالا باهرا، وعقد معه اتفاقية سكة حديد «برلين - بغداد - البصرة»، وزار الإمبراطور في هذه المناسبة بيت المقدس ودمشق، وكانت هذه الزيارة بمثابة دقة ناقوس نبهت الدول الغربية، وبخاصة بريطانية، على وجوب الوقوف أمام هذا التقرب التركي-الألماني، واستمر هذا التقارب بين الدولتين طوال عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
ومما هو جدير بالذكر أن أكثر العالم العربي كان خاضعا في هذا العصر للنفوذ العثماني؛ فبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية كانت ممتلكات خاضعة خضوعا تاما للباب العالي، وكانت بلاد الشام مقسمة إلى ولايتين وسنجق واحد، ثم رأوا تقسيمها منذ سنة 1887م إلى ثلاث ولايات وسنجقين اثنين، وهي ولاية حلب في الشمال والشمال الشرقي، وولاية بيروت في الغرب، وولاية الشام في الشرق، وسنجق لبنان الذي اقتطع من ولاية بيروت، وسنجق القدس في الجنوب، وكان لهذين السنجقين وضع إداري مستقل.
وأما العراق، فكان مقسما إلى ثلاث ولايات، وهي: ولاية الموصل في الشمال، وولاية بغداد في القلب، وولاية البصرة في الجنوب.
صفحه نامشخص