تاریخ تمدن اسلامی
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
ژانرها
وتوفي أبو بكر في تلك السنة وقد أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب، وليس هو أكبر سائر المهاجرين سنا، لكن الصحابة لم يكونوا مخيرين في خلافته، لأن أبا بكر أوصى له بها، وكان عمر رجلا حازما عادلا شديدا في الحق، وفي أيامه تم فتح الشام والعراق وأهم وقائعها واقعة القادسية سنة 14ه وهي من أشهر الوقائع الرئيسية التي فاز فيها المسلمون، وفي أيامه فتح بيت المقدس واشترط أهلها أن يأتي عمر بنفسه لعقد الصلح على يديه، وفتحت المدائن عاصمة الفرس سنة 16ه ثم أوغلت جنود المسلمين في فارس، وفتحت الجزيرة وأرمينيا سنة 17ه، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص، ثم فتحت برقة.
وهو الذي دون الدواوين ووضع الأعطية كما سنفصله، وفي أيامه بنيت الكوفة والبصرة والفسطاط، وبنى المسجد الحرام بمكة ووسع فيه فأضاف إليه ما كان يخاوره من الأرض، ابتاعها من أصحابها.
وقتل الإمام عمر سنة 23ه وخلفه عثمان بن عفان، ونظرا لكثرة الفتوح في أيامه نذكر الأسباب التي ساعدت عليها.
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
للكتاب وأهل النقد بحث طويل وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على فتح بلاد الروم والفرس، وقهر القياصرة والأكاسرة برجال يكاد لا يزيد عددهم على عدد حامية مدينة من مدن أولئك، مع ما كان عليه العرب يومئذ من سذاجة المعيشة وقلة الدربة في فنون الحرب وضيق ذات اليد وضعف العدة، والروم والفرس أعظم دول الأرض يومئذ وعندهما العدة والرجال والحصون والمعاقل، وزد على ذلك أن العرب فضلا عن قلتهم وسذاجة أحوالهم جاءوا مهاجمين في بلاد لا يعرفونها ولا نصير لهم فيها، وأغرب من ذلك كله أنهم فتحوا تينك المملكتين في مدة لا تتجاوز بضع عشرة سنة، فكيف تأتى لهم ذلك؟
أشهر أقوال أهل النقد في هذا الشأن أن العرب لم يستطيعوا فتح تينك المملكتين إلا لما كان فيه الروم والفرس من التضعضع والضعف، على أثر ما كان من الحروب بينهما قبيل الإسلام مما بيناه في فصل سابق، وعندنا أن ذلك التضعضع لم يكن وحده علة ذلك النصر، وإلا لكانت إحدى الدولتين أولى بالاستيلاء على جارها وعدوتها من أمة صغيرة قليلة العدد ضعيفة العدة غلبت الدولتين جميعا، على أننا لا ننكر ما كان لتضعضع الروم والفرس من التأثير في تسهيل الفتح ولكنه لم يكن هو علته، وهناك أسباب أخرى سيأتي بيانها. (1) ما الذي جرأ العرب على الفتح؟
لنبحث أولا في الأسباب التي جرأت العرب على مهاجمة تينك المملكتين، وهم أهم بادية ما برحوا من أجيال متطاولة ينظرون إلى الروم والفرس نظر الاحترام والتهيب، يضربون الأمثال بضخامة ملكهما ويخافون اسميهما، فكيف تتجرأ شرذمة منهم على مناوأتهما ببضعة آلاف ليس على أبدانهم إلا غليظ الكساء، وأكثر طعامهم الشعير، وعدتهم الرماح مشدودة بعصب والسيوف معلقة بخرق؟ ولماذا لم يفعلوا ذلك قبل الإسلام؟ والجواب على ذلك أن العرب أصبحوا بعد الإسلام غير ما كانوا عليه قبله كانوا قبائل مشتتة متباغضة فأصبحوا أمة واحدة بقلب رجل واحد، وهذا وحده لا يكفي لإقدامهم على هذا الأمر العظيم، وإنما ساعدهم على ذلك اعتقادهم صدق الدعوة التي دعوا إليها، اعتقادهم أنهم إنما يفتحون الدنيا في سبيل الدين، وأن الله يدعوهم إلى نشر الإسلام في الأرض، وأن من مات منهم مات شهيدا، وأن العالم الآتي خير وأبقى، هذا الاعتقاد هو الذي جرأ العرب على ركوب هذا المركب الخشن، غير ما ذاقوه من حلاوة النصر في غزواتهم وسراياهم في أيام النبي، والإنسان إذا خدمه التوفيق في أمر هانت عليه المخاطر بكل ما له في سبيله. (1-1) الاتحاد بالإسلام
أما الاتحاد بالإسلام فإنه ظاهر في كل أعمالهم، يشهد بذلك ما قدمناه من أمر المعاهدة والمؤاخاة في أول سنة للهجرة، ويؤيده أن الإسلام عنوان التوحيد كما يتضح من مراجعة القرآن والحديث، ولا تكاد تخلو خطبة من خطب الخلفاء أو الأمراء في صدر الإسلام من الإشارة إلى تلك الوحدة، وتذكير المسلمين بما كان عليه آباؤهم في الجاهلية من التفرق والتشتت، وما يدعوهم إليه الإسلام من نزع العصبية وتوحيد الكلمة، وقد زاد متانة تلك الوحدة اجتماعهم خمس مرات في اليوم للصلاة خلف الإمام أو من يقوم مقامه، وفي ذلك من توطيد عرى الاتحادة والإجماع على الطاعة ما لا يخفى، ذكر البلاذري أن أبا سفيان لما جاء المسلمين قبل الفتح - وهو لم يسلم بعد - رآهم قائمين للصلاة إذا ركع النبي ركعوا وإذا سجد سجدوا فقال «تالله ما رأيت كاليوم طواعية قوم جاءوا ههنا وههنا ولا فارس الكرام والروم ذات القرون». (1-2) اعتقادهم صدق الدعوة
وأما اعتقاد العرب صدق الدعوة وأنهم كانوا يعملون لآخرتهم لا لدنياهم فظاهر من أقوالهم وأعمالهم في أثناء الفتح، كقول المغيرة لما قال له رستم القائد الفارسي في أثناء واقعة القادسية «إنكم تموتون في ما تطلبون» فقال المغيرة «يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم»، وكقول عبادة بن الصامت للمقوقس صاحب مصر، لما خوفه بجموع الروم وأنهم لن يقدروا عليهم وهم محاصرون حصن بابل فقال عبادة:
يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأننا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعضر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولإنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله - عز وجل - قال لنا في كتابه
صفحه نامشخص