وفي 19 من ذلك الشهر التحم الجيشان بمحل يقال له (زاما) (Zama) ، وانتصر الرومانيون على القرطاجيين نصرا لم تقم لهم بعده قائمة، وفر أنيبال إلى مدينة (هدروميت) ومنها إلى قرطاجة فدخلها مهزوما بعد أن أقام خارجها خمسا وثلاثين سنة قضاها في الحرب والقتال.
وبعد الانتصار عاد سيبيون إلى تونس طاردا من طريقه كل من قابله من بقايا الجيوش، ومن تونس أرسل إلى قرطاجة رسولا بالشروط التي اقترحها للصلح وإخلاء أرض قرطاجة، وهذه الشروط هي: أن تتخلى قرطاجة عن جميع أملاكها بإسبانيا وجزائر البحر المتوسط ولا تحفظ إلا بلاد قرطاجة الأصلية (إقليم تونس)، وأن تسلم جميع ما لديها من أسرى الرومانيين والفارين إليها من الجيوش الرومانية، وجميع ما عندها من السفن بحيث لا يكون لها الحق إلا في عشر سفن لا غير، وأن تسلم ما لديها من أفيال القتال، وأن لا يجوز لها أن تقتني غيرها فيما بعد، وأن لا تحارب أحد مجاوريها إلا بإذن رومة، وأن لا تؤجر الأغراب في جيوشها، وأن تدفع غرامة حربية قدرها عشرة آلاف تالنت (Talents)
في مدة خمسين سنة، وأن تعتبر مسنيسا حليفا لها وتعطيه غرامة حربية تقدر فيما بعد.
فقبل سناتو قرطاجة هذه الشروط جميعها، وسلمه خمسمائة سفينة حربية أمر سيبيون بحرقها أمام قرطاجة حتى يثبت لهم أن رومة غير محتاجة لسفنهم وأنها غنية بنفسها.
وكان رأي بعض قواد الرومان إلغاء حكومة قرطاجة بالمرة ومحوها من عالم الوجود، حتى تكون رومة المالكة الوحيدة لحوض البحر المتوسط الغربي، لكن لم يوافق سيبيون على هذا الرأي، بل فضل بقاء قرطاجة ضعيفة وبجانبها حكومة قوية محالفة لها وتحت سيطرة الحكومة الرومانية وهي حكومة (نوميديا)، وعزز هذا الرأي بأن الرومانيين لو أمنوا كل مزاحمة من جهة قرطاجة لركنوا إلى الخمول؛ إذ لا يكون لديهم باعث يحثهم على مداومة الحذر والاستعداد لصد كل طارئ، وتكون النتيجة إماتة الإحساسات الحربية والعواطف الوطنية في الأمة الرومانية، ونعم الرأي رأيه، فإن اهتمام الأمة بأمر حياتها وحمايتها من الطوارئ الخارجية يجدد فيها دائما روح الوطنية، ويشدد ربط الاتحاد بين أفرادها بخلاف ما لو كانت آمنة من الأعداء داخلا وخارجا، فإنها تميل إلى الترف وحب الزخرف، وتشغلها الملاذ الدنيوية عن الاهتمام بالأمور العمومية النافعة للبلاد، وتضعف فيها العواطف الشريفة شيئا فشيئا حتى تتلاشى بالمرة وتكون فريسة سهلة لكل طامع في امتلاكها ساع وراء إبادتها.
ولهذه الملاحظات صدق مجلس سناتو رومة على هذه الشروط، واحتفل بسيبيون عند عودته احتفالا لم يسبق لغيره من القواد العظام، فدخل رومة في موكب حافل سار فيه وراء عربته الملك سيفاكس السابق الذكر، وهو أول ملك سار بصفة أسير في موكب انتصاري برومة (وقال بعض المؤرخين إنه مات في السجن قبل هذا الاحتفال)، وقامت له الأهالي من جميع الطبقات بمظاهرات الولاء والإخلاص، وتغالت الأمة في إظهار شكرها له على تخليصها من الاحتلال الأجنبي وضعضعة أركان قرطاجة حتى عينته حاكما مطلقا (دكتاتور) طول حياته خلافا لما تقضي به النظامات والقوانين.
هذا؛ ويظهر للمطلع على التاريخ القديم والحديث أن بين حروب رومة لقرطاجة وحروب فرنسا لإنكلترا في أوائل القرن التاسع عشر تشابه عظيم؛ وهو أن كلا منهما كانت تسعى للاختصاص بسيادة البحار دون الأخرى ففازت رومة على منافستها، ولم تفز فرنسا على إنكلترا لدواع يطول شرحها.
وكذلك توجد مشابهة بين اجتياز أنيبال لجبال الألب في أوائل الحرب البونيقية الثانية وبين عبور نابليون بونابرت لها عند محاربته النمسا في آخر القرن الثامن عشر، فإنه اتبع طريق سان برناد الذي اتبعه أنيبال فكان له منه قدوة حسنة سار عليها ونسج على منوالها، وكذلك فقد أراد نابليون مجاراة سيبيون الإفريقي في طريقة محاربته لقرطاجة، ونقله الحرب إلى بلادها بدل أن تكون بلاد إيطاليا مرسحا للقتال، فأنشأ معسكرا عظيما في ثغر (بولونيا) على بحر المانش الفاصل بين فرنسا وإنكلترا، وجمع فيه جيشا جرارا وعدة مئات من السفن الحربية وسفن النقل لنقل الجنود إلى بلاد الإنكليز ومحاربتها في نفس بلادها، فيضطرها لسحب عساكرها من البرتقال وإسبانيا وباقي جهات قارة أوروبا، والاشتغال بالدفاع عن بلادها، وعدم مساعدة باقي دول أوروبا ضده، لكن لم تساعده الظروف على تتميم هذا المشروع، وحفظت إنكلترا من إغارته التي لو تمت حسب تدبيره لأجهزت عليها ولم تقم لها بعد ذلك قائمة، كما حصل لقرطاجة بعد الحرب البونيقية الثانية.
وقد كانت نتائج هذه الحرب عظيمة جدا، فإن رومة سادت على أوروبا الغربية بأسرها، وعلى جميع شواطئ البحر المتوسط الغربي، ولم يبق لها به مزاحم، فطمحت إلى التوسع في امتلاك البلاد الشرقية حتى يكون لها ملك البحر الأبيض المتوسط من أوله لآخره، وساعدها على مقصدها ما صارت إليه حالة العالم الشرقي من الانحلال عقب سقوط المملكة الواسعة الأطراف التي أسسها إسكندر الأكبر باني إسكندريتنا المتوفى سنة 323ق.م، وتقسيم قواده مملكته إلى عدة ممالك صغيرة، واستمرار الحروب بين هذه الإمارات كما حصل في أواخر خلافة العباسيين في نفس هذا العالم الشرقي مما كان سببا لتلاشيه، كما كان السبب بعينه سببا لتلاشي ملك الإسكندر وامتلاك الرومانيين لهذه الإمارات جميعها الواحدة بعد الأخرى، كما سيأتي في الجزء التالي.
وكذلك كانت بلاد اليونان الأصلية منفصمة العرى لا تضافر ولا ارتباط بين مدنها؛ إذ كانت كل مدينة تصبو إلى التسلط على جارتها والتهام ما تصل إليه يدها من أراضيها، وبالاختصار فلم يكن في الشرق دولة يمكنها مقاومة أطماع الدولة الرومانية وصد غاراتها عن الشرق، نعم لو اتحدوا معا ونبذوا الانقسام ظهريا لأمكنهم حفظ استقلالهم أمام أي دولة مهما كانت قوتها، فالعروة الوثقى لا انفصام لها، لكنهم لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة الباهرة، بل استمروا على تفرقهم، فسطت الدولة الرومانية عليهم وحرمتهم استقلالهم وسلبتهم حريتهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة جزاء ما كانوا يفعلون.
صفحه نامشخص