ولقد استعمل معه أنيبال ما استعمله مع القواد السابقين من الحيل ومتى أخرجه من محل استحكامه، وانتصر عليه بقوة فرسانه المشهورين في موقعة هائلة لم تستمر سوى ثلاث ساعات، قتل في أثنائها القائد الروماني وخمسة عشر ألفا من رجاله، وأخذ قدرهم أسراء، وفر الباقون يبكون إخوانهم ويندبون حظ بلادهم (217 قبل المسيح).
وبعد هذا الانتصار العظيم، لم يجسر أنيبال على الزحف على مدينة رومة التي كان لا يبعد عنها إلا بمقدار مائة كيلومتر لعلمه باستعداد أهلها للدفاع عنها، والتهالك في الذود عن حوضها حتى الممات، ولما أصاب جيوشه من النصب والتعب في هذا السير السريع والمحاربات المستمرة.
فلهذه الدواعي والأسباب رأى من الحكمة والصواب أن يتربص مدة شتاء تلك السنة ريثما تستريح جيوشه مما ألم بها من المتاعب وتتقوى خيوله مما لحقها من المشاق، ولكي يستميل إليه بعض القبائل التي ضمتها رومة إليها حديثا ولم تقو علائقها وروابطها معها، خصوصا سكان إيطاليا الجنوبية المسماة (إغريق الكبرى)، كما استمال سكان شمال إيطاليا الغاليين.
أما الرومانيون فلم ترعهم هذه المصائب المتوالية، ولم تؤثر على شجاعتهم ووطنيتهم هذه الكوارث المتعاقبة، بل جمعوا الجيوش والكتائب وقرر السناتو أن الوطن في خطر وعين القائد (فابيوس) رئيس طائفة الأشراف حاكما عاما مطلقا (دكتاتور) لمدة ستة شهور، وعين (مينوسيوس) قائدا للفرسان إرضاء للشعب حتى لا يظن بالسناتو سوءا.
وكانت طريقة فابيوس في الحرب التسويف، وعدم التورط في الحرب ما لم يكن متحققا من الظفر والنصر على الأعداء.
ولقد سعى أنيبال كثيرا في إغرائه على قبول المحاربة في السهول الواسعة التي يسهل فيها على فرسان قرطاجة الهجوم على الرومانيين فلم يفلح، ولم يتبعه إلى السهول مطلقا، بل اعتصم بالجبال متربصا الفرص فينتهزها بدون تراخ أو توان.
وبالغ فابيوس في الحذر والتوقي من مقابلة جيوش أنيبال حتى رماه أعداؤه بملاءمة العدو والاتفاق معه على خيانة الوطن وأهله، وساعد قائد الفرسان (مينوسيوس) على إذاعة هذه المفتريات ليعين حاكما عاما بعد انتهاء مدة فابيوس.
ولقد تحصل على بعض مطامعه إذ جعل قائدا مشاركا في الرئاسة لفابيوس بأن تكون القيادة العامة لكل منهما يوما بالتعاقب، فحارب مينوسيوس القرطاجيين وهزم، وكاد أنيبال يجهز على الجيش الروماني لولا مساعدة فابيوس له وإرشاده بنصائحه.
ولما انتهت مدة الحاكم العام عادت الأحكام الدستورية وانتخب قنصلان لهذه السنة، فانتخب حزب الأشراف (بول اميل) لكونه على رأي فابيوس في زيادة التحذر وعدم المخاطرة بالجيوش، وانتخب الحزب الأهلي (ترنتيوس فارون) قنصلا ثانيا، فكان الأول يميل على التسويف ويرغب الثاني في التعجيل بالحرب.
وبسبب هذا الخلف بين الرؤساء تطرق الخلل إلى الجنود، وصار كل منهما ينقض ما قرره زميله في يومه حيث كانت القيادة بينهما مناوبة.
صفحه نامشخص