وكانت هذه الموقعة هي الحاسمة إذ قتل فيها كثير من رؤساء الفريقين في مبارزات خصوصية كما كان الحال في حروب الجاهلية عند العرب، وقتل آخر أولاد تركان وجرح هو أيضا جرحا بليغا كان سبب وفاته، وبذلك ارتاحت مدينة رومة ورسخت الجمهورية فيها أي رسوخ استمرت بعده إلى سنه 28ق.م حين اغتصب أغسطس قيصر الحكومة لنفسه وأسس الإمبراطورية الرومانية؛ أي إن الحكومة الجمهورية مكثت برومة مدة 482 سنة امتد سلطانها في خلالها على جميع الأجزاء المعلومة من المسكونة في ذلك الزمان.
ولقد ينسب الرومانيون انتصارهم هذا على أعدائهم إلى تداخل الآلهة كما كان شأنهم في جميع الحوادث المهمة للتأثير على عقول الأهالي، فقد ذكر في كتبهم أنهم نظروا شابين جميلي الصورة مرتفعي القامة راكبين على جوادين شاهقين في البياض يحاربان في مقدمة الجنود، وكانا أول من اجتاز حصون الأعداء غير مبالين بالشهب والنبال الموجهة إليهم كالمطر فتبعهما الرومانيون، وتم لهم النصر بسبب شجاعتهما، ولما بحث عنهما لتسليمهما المكافآت التي كانت مقررة لمن يجتاز حصون الأعداء لم يوقف لهما على أثر، ثم ادعى بعضهم أنهم نظروهما يغسلان أسلحتهما وملابسهما من التراب والدم في إحدى أفنية المدينة، وقال الكهنة إنهما ولدا المشترى أكبر آلهتهم واسمهما «كستور» و«بولوكس»، ومن ذلك العهد أقيم لهما معبد في الفورم وخصص لهما يوم يحتفل فيه بتذكار مساعدتهم للرومانيين في كل سنة، واتخذهما الشفالية الرومانيون حماة لطائفتهم.
هوامش
نظامات الرومانيين الأولى
وحيث وصلنا إلى تأسيس الجمهورية وشرحنا الحوادث التي أدت إلى سقوط الملوكية بالتفصيل مع ذكر خرافات القوم وأوهامهم، رأيت قبل الشروع في بيان تاريخ الجمهورية أن آتي على شرح وجيز لترتيباتهم الداخلية ونظاماتهم العمومية مع ذكر بعض عوائدهم المنزلية والعائلية؛ ليكون القارئ على بينة من جميع أمورهم، وليقف وقوفا تاما على كافة أحوالهم، وإليك - أيها القارئ - بيان ذلك:
إن أول نظام وضعه رومولوس لأهالي رومة هو أن قسمهم ثلاث فرق أو قبائل: الأولى مؤلفة من رفاقه الأصليين الذين ساعدوه على تأسيس المدينة، والثانية من رجال تيتوس ملك السابيين الذي عاهد رومولوس بعد القتال الذي وقع بينهما عقب اختطاف بنات السابيين وسبق ذكره في موضعه، والثالثة قيل إنها مؤلفة من رجال أحد أمراء الأتروسك واسمه (لوكومون) أتى إلى رومة لمساعدة رومولوس على بناء المدينة، لكن عدم تمتع رجال هذا القسم ببعض امتيازات القسمين الأولين، وعدم وجود نواب عنهم في مجلس السناتو الذي سيأتي الكلام عليه؛ حمل بعض المؤرخين على الظن بأنه كان مكونا من سكان رومة الأصليين الذين أتى رومولوس في أول الأمر وأقام بين ظهرانيهم عنوة، وهذا الرأي هو الأقرب للصواب، وبقي هذا القسم في هذه الدرجة المنحطة إلى عهد تركان فمنحه المساواة مع القسمين الآخرين في جميع الحقوق والواجبات، وكان لكل قسم أو قبيلة رئيس يلقب (تريبون )، وكل قسم ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من مائة نفس، ويسمى القسم المائيني ورئيسه يلقب (سانتوريون)؛ أي رئيس المائة، وكل قسم مائيني ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من عشرة أنفس ويسمى القسم العشري ويلقب رئيسه (ديكوريون)؛ أي رئيس العشرة.
ومن جهة أخري كان يوجد بكل قسم من الأقسام الثلاثة الأصلية أقسام ثانية تسمى (جنتس)؛ أي عشائر أو أجناس كانت كل واحدة منها مؤلفة من أعضاء العائلة التي تربطهم روابط النسب والمصاهرة وممن ارتبط معها بروابط أخرى اجتماعية مثل رابطة التوارث لو مات رئيس العائلة عن غير وارث ولم يترك وصية، ويمكنا أن نسمي أعضاء هذا الفريق الثاني بالأتباع، فأعضاء العائلة المرتبطون معها برابطة النسب كانوا هم المتمتعين بجميع الحقوق المدنية والسياسية، ومنهم تكون طبقة الأشراف أو الأسياد دون أعضاء الفريق الثاني (الأتباع) الذين كانوا يفضلون الالتصاق بإحدى هذه العائلات بالتبعية ليأمنوا شر حوادث الزمان، وليكونوا في راحة بال ورغد من العيش متنازلين عن حقوقهم المدنية في نظير هذه الحماية، فكان السيد أو المتبوع يعطي لكل تابع من أتباعه قطعة من الأرض ليتعيش منها ويساعده فيما يكون له أو عليه من القضايا، وبعبارة وجيزة يعامله كما لو كان ولده، أما التابع فكان يجب عليه أن يتسمى باسم العائلة التابع لها ويساعد متبوعه على دفع الفدية لو أخذ أسيرا في الحرب، وفي دفع ما يحكم به عليه من الغرامات وفي أمهار بناته، وبالاختصار في جميع شؤونه ومصارفه العمومية والخصوصية، ولا يجوز له أن يساعد أو يعاون أحدا ضد متبوعه السياسي، ولا يجوز للتابع أو المتبوع أن يشهدا ضد بعضهما أمام المحاكم أو يرفعا قضايا على بعضهما إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات المفصلة في كتب القوم وأسفارهم، ولما امتدت فتوحات الرومانيين في عهد الجمهورية كما سيجيء امتد ظل هذه التابعية إلى أمم بأجمعها ومدن بجميع سكانها، وساعدت هذه الطريقة على استعار نيران الحروب الداخلية؛ إذ كان كل سيد يدعي الرئاسة لنفسه ويستعين بمتبوعيه الذين لا يجدون مفرا من مساعدته.
وكان الأشراف يجتمعون بهيئة جمعية عمومية (كومسيو) للنظر في الشؤون المهمة وتقريرها بأغلبية الآراء، وذلك كوضع الشرائع وتقنين القوانين وإشهار الحرب وإبرام الصلح والتعيين في الوظايف العمومية الرئيسية مدنية كانت أو دينية، أما الأشغال العادية فكانت تنظر في مجلس (السناتو)، وهذا المجلس كان بمثابة جمعية استشارية لرئيس الحكومة الأعلى وهو الملك، وكان يؤلف السناتو أولا من رؤساء العائلات السياسية فقط، ثم تغيرت كيفية تشكيله فيما بعد كما سيذكر في موضعه، وكان عدد أعضائه أولا مائة شخص ثم وصل مايتين بعد انضمام السابيين إلى الرومانيين، وأخيرا ثلاثمائة في عهد تركان، وبالاختصار كانت الحكومة مشكلة بالكيفية الآتية:
أولا:
الملك وهو الرئيس الأعلى، وكان يجمع في شخصه أكبر وظيفة دينية؛ إذ كان يعتبر بمثابة رئيس ديني كإمبراطور الروسيا وملكة الإنكليز الآن، وأكبر وظيفة في الجيش حيث كان قائده العام، وأعلى وظيفة قضائية.
صفحه نامشخص