بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين
خطْبَة الْكتاب
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ
وَبعد هَذَا أنموذج لطيف وعنوان شرِيف ذكرت فِيهِ وفيات من ظَفرت بتاريخ وَفَاته مِمَّن مَاتَ فِي هَذَا الْقرن الَّذِي أَوله سنة إِحْدَى وَتِسْعمِائَة ختم بِالْحُسْنَى من سَائِر الْعلمَاء والصلحاء والقضاة والأدباء والملوك والأعيان مصريًا كَانَ أَو شاميًا حجازيًا كَانَ أَو يمنيًا روميًا أَو هنديًا مشرقيًا أَو مغربيًا وضممت إِلَى ذَلِك ذكر بعض الْحَوَادِث والماجريات والحكايات العجيبة وَالْملح الغريبة وَلَا يعْدم كل شخص من نادرة جرت لَهُ من الْأَخْبَار وَشعر نظمه من الْأَشْعَار على وَجه الِاخْتِصَار وَمَا يحصل من الِاعْتِبَار وَللَّه در من قَالَ ... إِذا عرف الْإِنْسَان أَخْبَار من مضى ... تخيلته قد عَاشَ حينا من الدَّهْر
فقد عَاشَ كل الدَّهْر من كَانَ عَالما ... كَرِيمًا حَلِيمًا فاغتنم أطول الْعُمر ...
هَذَا وَلم استوعب كلما وَقع فِي هَذَا الْقرن من الْحَوَادِث لعدم اطلاعي عَلَيْهَا وَإِنَّمَا ذكرت مَا انْتهى إِلَيْهِ علمي مِنْهَا وَرُبمَا أَن الَّذِي تركته يكون أَكثر مِمَّا ذكرته وَلَكِن إِذا كَانَت الغايات لَا تدْرك فاليسير مِنْهَا لَا يتْرك وَأَرْجُو أَن يكون هَذَا الْكتاب كتاب حَدِيث وَفقه وتاريخ وأدب وسميته
1 / 5
النُّور السافر عَن أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر
ولنذكر قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود نبذة شريفة من أَوْصَاف سيد الْمُرْسلين وافضل الْأَوَّلين والآخرين تيمنا بِذكرِهِ واستشعارًا لعَظيم قدره عَسى أَن أسعد بِشَفَاعَتِهِ واحشر فِي زمرته لحبي اياه والتجائي الي شرِيف علياه ﷺ وَشرف وكرم ومجد وَعظم
أعلم أَن الله سُبْحَانَهُ لما أَرَادَ إِيجَاد خلقه ابرز الْحَقِيقَة المحمدية من أنواره الصمدية فِي حَضرته الأحمدية ثمَّ سلخ مِنْهَا العوالم كلهَا علوها وسفلها على مَا اقْتَضَاهُ كَمَال حكمته وَسبق فِي علمه وإرادته ثمَّ أعلمهُ الله تَعَالَى بِكَمَالِهِ ونبوته وبشره بِعُمُوم دَعوته ورسالته وَبِأَنَّهُ نبى الْأَنْبِيَاء وواسطة جَمِيع الأصفياء وَأَبوهُ آدم بَين الرّوح والجسد ثمَّ انبجست مِنْهُ عُيُون الْأَرْوَاح فَظهر مُمِدًّا لَهَا فِي عالمها الْمُتَقَدّم على عَالم الأشباح وَكَانَ هُوَ الْجِنْس العالي على جَمِيع الْأَجْنَاس وَالْأَب الْأَكْبَر لجَمِيع الموجودات وَالنَّاس فَهُوَ وَإِن تَأَخّر وجود جِسْمه متميز على العوالم كلهَا برفعته وتقدمه إِذْ هُوَ خزانَة السِّرّ الصمداني ومحتد تفرد الأمداد الرحماني وَصَحَّ فِي مُسلم أَنه ﷺ قَالَ ﴿إِن الله تَعَالَى كتب مقادير الْخلق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة وَكَانَ عَرْشه على المَاء﴾ وَمن جملَة مَا كتب فِي الذّكر وَهُوَ أم الْكتاب إِن مُحَمَّدًا خَاتم النَّبِيين وَصَحَّ أَيْضا أَنِّي عبد الله لخاتم النَّبِيين وَأَن آدم لَمُنْجَدِل فِي طينته أَي لطريح ملقى قبل نفخ الرّوح فِيهِ وَصَحَّ أَيْضا يَا رَسُول الله مَتى كنت نَبيا قَالَ ﴿وآدَم بَين الرّوح والجسد ويروي كتبت من الْكِتَابَة وَخبر﴾ كنت نَبيا وادم بَين المَاء والطين
قَالَ بعض الْحفاظ لم نقف عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ وَحسن التِّرْمِذِيّ خبر يَا رَسُول الله مَتى وَجَبت لَك النُّبُوَّة قَالَ وآدَم بَين الرّوح والجسد ومعني وجوب النُّبُوَّة وكتابتها ثُبُوتهَا وظهورها فِي الْخَارِج نَحْو كتب الله لأغلبن كتب عَلَيْكُم الصّيام وَالْمرَاد ظُهُورهَا للمليكة وروحه ﷺ فِي عَالم الْأَرْوَاح أعلامًا بعظيم شوقه وتميزه على بَقِيَّة الانبياء وَخص الاظهار بِحَالَة كَون آدم بَين الرّوح والجسد لانه اوان دُخُول الْأَرْوَاح
1 / 6
إِلَى عَالم الاجساد والتمايز حِينَئِذٍ أتم واظهر فاختص ﷺ بِزِيَادَة إِظْهَار شرفه حِينَئِذٍ ليتميز على غَيره تميزًا اعظم وَأتم
وَأجَاب الْغَزالِيّ عَن وَصفه نَفسه بِالنُّبُوَّةِ قبل وجود ذَاته وَعَن خبر ﴿أَنا أول الْأَنْبِيَاء خلقا وَآخرهمْ بعثًا بَان المُرَاد بالخلق هُنَا التَّقْدِير لَا الإيجاد فانه قبل ان تحمل بِهِ أمه لم يكن مخلوقًا مَوْجُودا وَلَكِن الغايات والكمالات سَابِقَة فِي التَّقْدِير لاحقة فِي الْوُجُود فَقَوله كنت نَبيا أَي فِي التَّقْدِير قبل تَمام خلقَة آدم إِذْ لم ينشأ إِلَّا لينتزع من ذُريَّته مُحَمَّد ﷺ وتحقيقه ان للدَّار فِي ذهن المهندس وجودا ذهنيًا سَببا للوجود الْخَارِجِي وسابقًا عَلَيْهِ فَالله تَعَالَى يقدر ثمَّ يُوجد على وفْق تَقْدِير بانيها انْتهى مُلَخصا
وَذهب السُّبْكِيّ إِلَى مَا هُوَ أحسن وابين وَهُوَ انه جَاءَ ان الْأَرْوَاح خلقت قبل الأجساد فالاشارة ب كنت نَبيا إِلَى روحه الشَّرِيفَة أَو حَقِيقَة من حقائقه لَا يعلمهَا إِلَّا الله وَمن حباه الِاطِّلَاع عَلَيْهَا ثمَّ انه تَعَالَى يُؤْتِي كل حَقِيقَة مِنْهَا مَا شَاءَ فِي أَي وَقت شَاءَ فحقيقته ﷺ قد تكون من حِين خلق آدم ﵇ أَتَاهَا الله ذَلِك الْوَصْف بَان خلقهَا متهيئة لَهُ وافاضه عَلَيْهَا من ذَلِك الْوَقْت فَصَارَ نَبيا وَكتب اسْمه على الْعَرْش ليعلم مَلَائكَته وَغَيرهم كرامته عِنْده فحقيقته مَوْجُودَة من ذَلِك الْوَقْت وان تَأَخّر جسده الشريف المتصف بهَا فنحو ايتائه النُّبُوَّة وَالْحكمَة وَسَائِر أَوْصَاف حَقِيقَته وكمالاتها معجل لَا تَأَخّر فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُتَأَخر تكونه وتنقله فِي الأصلاب والأرحام والطاهرة إِلَى ان ظهر ﷺ وَمن فسر ذَلِك بِعلم الله بِأَنَّهُ سيصير نَبيا لم يصل لهَذَا الْمَعْنى لَان علمه تَعَالَى مُحِيط بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء فالوصف بِالنُّبُوَّةِ فِي ذَلِك الْوَقْت يَنْبَغِي ان يفهم مِنْهُ انه أَمر ثابة لَهُ فِيهِ وَإِلَّا لم يخْتَص بِأَنَّهُ نَبِي اذ الْأَنْبِيَاء كلهم كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ لعلمه تَعَالَى
وَأخرج ابْن سعد عَن الشّعبِيّ مَتى أستنبئت يَا رَسُول الله قَالَ وآدَم بَين الرّوح والجسد حِين اخذ مني الْمِيثَاق وَهُوَ يدل على ان آدم ﵇ لما صور طينًا استخرج مِنْهُ ﷺ وَنَبِي اخذ مِنْهُ الْمِيثَاق ثمَّ أُعِيد إِلَى ظَهره ليخرج أَوَان وجوده فَهُوَ أَوَّلهمْ خلقا وَخلق آدم السَّابِق كَانَ مواتًا لَا روح فِيهِ وَهُوَ ﷺ كَانَ حَيا حِين استخرج وَنَبِي
1 / 7
وَأخذ مِنْهُ الْمِيثَاق وَلَا يُنَافِي هَذَا ان اسْتِخْرَاج ذُرِّيَّة آدم إِنَّمَا كَانَ بعد نفخ الرّوح فِيهِ لانه ﷺ خص من بَين بني آدم بذلك الاستخراج الأول وَفِي تَفْسِير الْعِمَاد بن كثير عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس ﵃ فِي قَوْله تَعَالَى﴾ ﴿وَإِذ اخذ الله مِيثَاق النَّبِيين﴾ الْآيَة ان الله لم يبْعَث نَبيا إِلَّا أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد فِي مُحَمَّد ﷺ لَئِن بعث وَهُوَ حَيّ ليُؤْمِنن بِهِ ولينصرنه وَيَأْخُذ الْعَهْد بذلك على قَوْله
واخذ السُّبْكِيّ من الْآيَة انه على تَقْدِير مَجِيئه فِي زمانهم مُرْسل إِلَيْهِم فَتكون نبوته ورسالته عَامَّة لجَمِيع الْخَلَائق من أَدَم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَتَكون الْأَنْبِيَاء وأممهم كلهم من أمته فَقَوله ﴿وَبعثت إِلَى النَّاس كَافَّة﴾ يتَنَاوَل من قبل زَمَانه أَيْضا وَبِه يتَبَيَّن معنى كنت نَبيا وآدَم بَين الرّوح والجسد وَحكمه كَون الْأَنْبِيَاء فِي الْآخِرَة تَحت لوائه وَصلَاته بهم لَيْلَة الْإِسْرَاء
وروى عبد الرَّزَّاق بِسَنَدِهِ ان النَّبِي ﷺ قَالَ ﴿إِن الله خلق نور مُحَمَّد قبل الْأَشْيَاء من نوره فَجعل ذَلِك النُّور يَدُور بِالْقُدْرَةِ حَيْثُ شَاءَ الله وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت لوح وَلَا قلم الحَدِيث بِطُولِهِ
وَاخْتلفُوا فِي أول الْمَخْلُوقَات بعد النُّور المحمدي فَقيل الْعَرْش لما صَحَّ من قَوْله ﷺ قدر الله مقادير الْخلق قبل ان يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة وَكَانَ عَرْشه على المَاء
وَصَحَّ أول مَا خلق الله الْقَلَم فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّي وَمَا اكْتُبْ قَالَ اكْتُبْ مقادير كل شَيْء لَكِن صَحَّ فِي حَدِيث مَرْفُوع ان المَاء خلق قبل الْعَرْش فَعلم ان أول الْأَشْيَاء على الْإِطْلَاق النُّور المحمدي ثمَّ المَاء ثمَّ الْعَرْش ثمَّ الْقَلَم لما علمت من حَدِيث أول مَا خلق الله الْقَلَم مَعَ مَا قبله الدالين على ان التَّقْدِير وَقع بعد الْعَرْش وَالتَّقْدِير وَقع عِنْد خلق الْقَلَم فَذكر الأولية فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لما بعده
وَورد لما خلق الله آدم جعل ذَلِك النُّور فِي صلبه فَكَانَ يلمع فِي جَبينه وَلما توفّي كَانَ وَلَده شِيث وَصِيّه فوصى وَلَده بِمَا وصاه بِهِ أَبوهُ ان لَا يوضع هَذَا النُّور الا فِي المطهرات من النِّسَاء وَلم يزل الْعَمَل بِهَذِهِ
1 / 8
الْوَصِيَّة إِلَى ان وصل ذَلِك النُّور إِلَى عبد الله مطهرًا من سفاح الْجَاهِلِيَّة كَمَا اخبر ﷺ عَن ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث
وَكَانَت وِلَادَته ﵊ يَوْم الأثنين لأثني عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول بعد الْفِيل بِسنتَيْنِ وشهرين وَقيل لَيْلَة الْجُمُعَة السَّابِع عشر من ربيع الأول فِي زمن الْملك أنو شرْوَان وَبعث إِلَى الْأسود والأحمر وَالْإِنْس وَالْجِنّ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ سنة وَقيل وَيَوْم وَكَانَ بعد عشْرين سنة من ملك ابرويز وَأقَام بعد الْبعْثَة فِي مَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة على الاصح وَقيل خَمْسَة عشر وَقيل عشرا
ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة ودخلها ضحوة يَوْم الأثنين لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول واقام بهَا بالأجماع عشر سِنِين
فَفِي السّنة الأولى من الْمحرم بنى مَسْجده وسكنه وآخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَشرع الْأَذَان وَفِي السّنة الثَّانِيَة مِنْهَا فِي صَلَاة الْعَصْر من نصف شعْبَان حولت الْقبْلَة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة فدار ﷺ فِي رُكُوع الرَّكْعَة الثَّانِيَة ودارت الصُّفُوف خَلفه إِلَى الْكَعْبَة فِي مَسْجِد بني سَلمَة فَسُمي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ وَفِي شعْبَان مِنْهَا فرض صَوْم رَمَضَان وفيهَا فرضت صَدَقَة الْفطر وَفِي رَمَضَان هَذَا كَانَت غَزْوَة بدر وَفِي شَوَّال مِنْهَا بنى بعائشة ﵂ وفيهَا تَزْوِيج فَاطِمَة ﵂
وَفِي السّنة الثَّالِثَة مِنْهَا غَزْوَة أُحد يَوْم السبت السَّابِع من شَوَّال ثمَّ غَزْوَة بدر الصُّغْرَى فِي هِلَال ذِي الْقعدَة وفيهَا غَزْوَة بني النَّضِير وَحرمت الْخمر بعد غَزْوَة أُحد
وَفِي السّنة الرَّابِعَة مِنْهَا غَزْوَة الخَنْدَق وَتسَمى الْأَحْزَاب وحاصروا الْمَدِينَة خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ هَزَمَهُمْ الله تَعَالَى وَحده وفيهَا قصرة الصَّلَاة وَنزل التَّيَمُّم
وَفِي السّنة الْخَامِسَة مِنْهَا غَزْوَة ذَات الرّقاع أول الْمحرم وفيهَا صلى صَلَاة الْخَوْف وفيهَا غَزْوَة دومة الجندل وغزوة بني قريضة
وَفِي السّنة السَّادِسَة مِنْهَا غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وبيعة الرضْوَان وغزوة بني المصطلق
1 / 9
وَفِي السّنة السَّابِعَة مِنْهَا غَزْوَة خَيْبَر
وَفِي السّنة الثَّامِنَة مِنْهَا غَزْوَة مُؤْتَة وَذَات السلَاسِل وَفتح مَكَّة فِي رَمَضَان وغزوة حنين والطائف
وَفِي السّنة التَّاسِعَة مِنْهَا غَزْوَة تَبُوك وَتَتَابَعَتْ الْوُفُود وَدخل النَّاس فِي دين الله أَفْوَاجًا
وَفِي النة الْعَاشِرَة مِنْهَا حجَّة الْوَدَاع ووفاة إِبْرَاهِيم وَتُوفِّي ﷺ ضحوة يَوْم الْإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة وَمُدَّة مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ اثْنَا عشر يَوْمًا وَقيل أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَكَانَ عمره ﵊ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة
وَمن أعظم معجزاته ﷺ الْقُرْآن كَلَام الله المتلو آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار وَقد اعجز الْجِنّ والأنس لَا يقدرُونَ على أَن يَأْتُوا بِسُورَة مثله بل وَلَا بِآيَة وكل معجزات الْأَنْبِيَاء ﵈ انْقَطَعت بموتهم إِلَّا معجزته ﷺ وَانْشَقَّ الْقَمَر كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن وَصَحَّ من طرق وَكَلمه الضَّب كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي صَحِيحه
وَأخْبر أَن خَزَائِن كسْرَى تنفقها أمتِي فِي سَبِيل الله وان ملك كسْرَى وَالروم يفتح فَكَانَ كَذَلِك وَأَن الْمُسلمُونَ يُقَاتلُون قوما صغَار الْأَعْين عراض الْوُجُوه ذلف الأنوف أَي فطسها وان الشَّام واليمن يفتحان وَأَن أمته تفتح مصر ارْض يذكر فِيهَا القيراط وَإِن أويس الْقَرنِي يقدم فِي إمداد الْيمن وَكَانَ بِهِ برص فبرىء إِلَّا قدر دِرْهَم وهاجت ريح شَدِيدَة هَاجَتْ فَقَالَ هَذِه الرّيح لمَوْت مُنَافِق
قَالَ جَابر فقدمنا فَوَجَدنَا عَظِيما من الْمُنَافِقين قد مَاتَ وَأكل من شَاة لقْمَة ثمَّ قَالَ هَذِه تُخبرنِي بِأَنَّهَا أخذت بِغَيْر أذن أَهلهَا فَإِذا هُوَ كَمَا قَالَ وتحرك الْجَبَل فَقَالَ اسكن فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي أَو صديق أَو شهيدان فسكن وَكَانَ هُوَ وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان عَلَيْهِ
وَفِي صَحِيح مُسلم أَن الله زوى لي الأَرْض فَرَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا وسيبلغ ملك امتى مَا زوى لي مِنْهَا وَفِي البُخَارِيّ نبع المَاء من بَين أَصَابِعه بِالْحُدَيْبِية فتوضأوا وَشَرِبُوا وهم خمس عشرَة مائَة
1 / 10
وَمرَّة أُخْرَى وهم ثلاثمائه وَمرَّة وهم مَا بَين السّبْعين إِلَى الثَّمَانِينَ وَحَدِيث المزادتين قَالَ عمر أَن شربنا مِنْهُمَا وَنحن نَحْو الْأَرْبَعين فَلم تنتقصا وَسبح فِي كَفه الْحَصَا وَكَذَلِكَ الطَّعَام كَانَ يسمع تسبيحه وَهُوَ يُؤْكَل وَسلم عَلَيْهِ الْحجر وَشهد الذِّئْب بنبوته وَمر فِي سَفَره بِبَعِير يستقى عَلَيْهِ المَاء فَلَمَّا رَآهُ جرجر أَي صَوت فَقَالَ انه شكى كَثْرَة الْعَمَل وَقلة الْعلف وَمر بِبَعِير آخر فِي حَائِط فَلَمَّا رَآهُ حن وذرفت عَيناهُ فَقَالَ لصَاحبه إِنَّك تجيعه وشكى لَهُ بعيران عجز صَاحبهمَا عَن شدتهما وَجَاءَت شَجَرَة تشق الأَرْض حَتَّى قَالَت عِنْده وَهُوَ نَائِم فَسلمت عَلَيْهِ وَأمر شجرتين فاجتمعتا حَتَّى قضى حَاجته خلفهمَا ثمَّ أَمرهمَا فتفرقتا ودعا عذقا فَنزل من جذعه حَتَّى سقط فِي الأَرْض فَجعل ينقز فِي الأَرْض حَتَّى أَتَاهُ ثمَّ قَالَ لَهُ أرجع فَرجع مَكَانَهُ وَأمر بنحر سِتّ بدنات فَجعلْنَ يزدلفن إِلَيْهِ بايتهن يبْدَأ وَأُصِيبَتْ عين قَتَادَة بن النُّعْمَان يَوْم أحد حَتَّى وَقعت على وجنته فَردهَا ﷺ بِيَدِهِ فَكَانَت اصح عَيْنَيْهِ وَأَحَدهمَا فَكَانَت لَا ترمد إِذا رمدت الْأُخْرَى وتفل فِي عين عَليّ ﵁ يَوْم خَيْبَر وَكَانَ ارمد فبرىء من سَاعَته واتاه وَهُوَ شَاك فَدَعَا لَهُ فَمَا اشْتَكَى وَجَعه ذَلِك وَكسرت رجل عبد الله ابْن عتِيك فمسحها ﷺ بِيَدِهِ فبرئت من وقته
وَاخْبَرْ انه يقتل أُميَّة بن خلف فَكَانَ كَمَا قَالَ وَأخْبر بمصارع الْمُشْركين ببدر هَذَا مصرع فلَان غَدا إِن شَاءَ الله فَلم يعد وَاحِد مِنْهُم مصرعه الَّذِي سَمَّاهُ وَأَن طوائف من أمته يركبون الْبَحْر غزَاة فِي سَبِيل الله كالملوك على الأسرة وَأَن أم حرَام خَالَة أنس بن مَالك مِنْهُم فَكَانَ كَذَلِك وَأخْبر أَن عُثْمَان ﵁ تصيبه بلوى فَقتل صَابِرًا وَقَالَ لِلْحسنِ ﵁ إِن أبني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين فَسلم الْأَمر لمعاوية وَأخْبر بقتل الْأسود الْعَنسِي الْكذَّاب لَيْلَة مَقْتَله وبمن قَتله وَهُوَ بِصَنْعَاء من الْيمن فجَاء كَمَا قَالَ وَأخْبر بِمثل هَذَا عَن كسْرَى فَكَانَ كَذَلِك وَقَالَ لرجل يَدعِي الْإِسْلَام وَهُوَ فِي الْقِتَال مَعَه إِنَّه من أهل النَّار فَصدق الله تَعَالَى قَوْله بِأَن نحر نَفسه وشكي إِلَيْهِ قحط الْمَطَر وَهُوَ على الْمِنْبَر فَدَعَا الله وَمَا فِي السَّمَاء
1 / 11
فزعة أَي قِطْعَة سَحَاب فثار سَحَاب أَمْثَال الْجبَال فَمُطِرُوا إِلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى فشكي إِلَيْهِ كَثْرَة الْمَطَر فَدَعَا الله فرفعه فِي الْحَال وَأطْعم أهل الخَنْدَق وهم ألف من صَاع شعير واطعم جمَاعَة من تمر يسير لم يمْلَأ كفيه واطعم فِي منزل أبي طَلْحَة ثَمَانِينَ رجلا من أَقْرَاص شعير جعلهَا انس تَحت إبطه حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِي كَمَا هُوَ
وامر عمر بن الْخطاب ﵁ ان يزود أَرْبَعمِائَة رَاكب من تمر قَلِيل فزودهم وَبَقِي كَأَنَّهُ لم ينتقص وَأطْعم الْجَيْش من مزود أبي هُرَيْرَة ﵁ حَتَّى شَبِعُوا ثمَّ رد مَا بَقِي مِنْهُ وَكَانَ وَضعه فِي يَده ودعا لَهُ فَأكل مِنْهُ مُدَّة حَيَاة النَّبِي ﷺ وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان ﵃ فَلَمَّا قتل عُثْمَان ذهب وَحمل مِنْهُ نَحْو ثَمَانِينَ وسْقا فِي سَبِيل الله وَأطْعم فِي بنائِهِ بِزَيْنَب بنت جحش ﵂ من قَصْعَة أَهْدَتْهَا لَهُ أم سليم خلقا كثيرا ثمَّ رفعت وَهِي كَمَا هِيَ ﷺ كلما ذكره الذاكرون وغفل عَن ذكره الغافلون
ولبعض فضلاء الْعَصْر قصيدة عَظِيمَة فِي مدح النَّبِي ﷺ أَحْبَبْت أَن آتِي بهَا هُنَا بكمالها لينقطع بهَا مَا أردناه فِي الْمُقدمَة من الْكَلَام ولتكون لهَذَا التَّارِيخ مسك الختام وَهِي ... إِنِّي أرى فِي النّوم اني فِي الْكرَى ... واصلته يارب حقق مَا جرا
لم يسر لي إِلَّا خيال خيالهم ... مَاذَا على طيف الْأَحِبَّة لَو سرا
وَلَقَد جرى كالنهر سَائل مدمعي ... أَتَرَى درى ذَاك الرَّقِيب بِمَا جرا
أوقفت دمع الْعين يجْرِي فِي الْهوى ... أَنا لَا أسائل هَل درى أَو مَا درى
يَا صَاح قُم ودع التواني واصطبح ... من بنت قشر بالجواهر تشترى
هِيَ قهوة بنية قشرية ... فِي طيبَة تجلى وَفِي أم الْقرى
فَاشْرَبْ شراب الصَّالِحين وَلَا تقل ... ادر الزجاجة فالنسيم قد أنبرا
فالصبح قد وافت طلائع جَيْشه ... والنجم قد صرف الْعَنَان عَن السرا
لَا عَيْش إِلَّا والشبيبة غضة ... مِنْهَا يكَاد المَاء أَن يتقطرا
لله مَجْلِسنَا الأنيس وَقد بَدَت ... فِيهِ الغزال تصيد آساد الشرى
سفرت فَكَانَت والبدور طوالع ... مِنْهَا وَمن شمس الظهيرة أنورا ...
1 / 12
.. خطرت فَقَامَ الْغُصْن يلثم اثرها ... ورنت فظل الظبي مِنْهَا أحورا
وَلَقَد نظرت إِلَى الرياض وَجههَا ... فَرَأَيْت طلعتها البهية أنضرا
أندى على الأكباد من قطر الندى ... إِن قطرت ذَاك اللمي لي قطرا
وعبابها أشهى إليّ من المنى ... وألذ فِي الأجفان من سنة الْكرَى
وَلَقَد حمت عني سلافة رِيقهَا ... ظنا بِأَنِّي لَا أحب المسكرا
من قَالَ إِن سلاف فِيك محرم ... يَا منيتي مَا قَالَ إِلَّا مُنْكرا
رامت تصيد حشاشتي قلت لَهَا ... فالصيد كل الصَّيْد فِي جَوف الفرا
شهرت سيوف لحاظها تنعي الحشا ... فسعى إِلَيْهَا بالدماء مشهرا
صدت والوت عَن محب صَادِق ... مَا كَانَ صدك لي حَدِيثا يفترى
وَلَقَد سرت لي من حماها نسمَة ... فنشقتها ودرى الفؤادبما درى
ويلاه مَا أذكى عبير ترابها ... قد فاق كل الطّيب حَتَّى العنبرا
يَا دارها مَا أَنْت إِلَّا جنَّة ... يَا رِيقهَا مَا أَنْت إِلَّا كوثرا
يَا لَفظهَا يَا ثغرها يَا نحرها ... مَا أَنْت يَا ذَا العقد إِلَّا جوهرا
ساومت مبسمها بَدْرًا مدامعي ... ان يَشْتَرِي درا فَهَذَا الْمُشْتَرى
لَكِن رَأَيْت الدَّهْر غير مساعد ... وَرَأَيْت مِنْهُ مَا لعقلي ابهرا
صبرا لهَذَا الدَّهْر فِي تصريفه ... صبرا على مَا فِي فُؤَادِي اسعرا
اني لأصبر والخطوب جليلة ... وعَلى العظائم كلهَا لن يصبرا
وَإِذا عرتني فِي الْأُمُور ملمة ... أَو كربَة مَالِي سوى خير الورى
طه أجل الْأَنْبِيَاء امامهم ... من فاق كل الْمُسلمين بِلَا مرا
الحامد الْمَحْمُود اكرم مُرْسل ... وَهُوَ المشفع إِذْ يروم المحشرا
وَله الشَّفَاعَة فِي الْخَلَائق كلهم ... فصل القضا واجل مِنْهُ واكبرا
وَله الْوَسِيلَة وَهِي أَعلَى رُتْبَة ... وَلَو اللوا اعظم بذلك مفخرا
كل الْخَلَائق تَحت ظلّ لوائه ... أكْرم بعسكره المكرم عسكرا
للعرض باتوا وَالْوُجُوه منيرة ... كلا ترَاهُ مهللا ومكإسرا
ان مسهم ظماء فحوض الْمُصْطَفى ... يردون مِنْهُ فِي الْقِيَامَة كوثرا
يَا أمة الْمُخْتَار شرفتم بِهِ ... وعلوتم أمما وكنتم أخيرا
فَالْحَمْد لله الَّذِي قد خصنا ... بِنَبِيِّهِ وحبيبه خير الورى
هُوَ أَحْمد وَمُحَمّد وَله لوا ... الْحَمد مَحْمُود الْمقَام وَقد سرا ...
1 / 13
.. نَحْو السَّمَوَات العلى لَيْلًا على ... ظهر الْبراق فنال مَا لم يحصرا
وَلَقَد رأى رب الْعباد بِعَيْنِه ... تالله مَا هَذَا حَدِيث يفترى
من حَيْثُ لَا جِهَة وَلَا ايْنَ وَقد ... جَاءَ الحَدِيث بِصدق ذَلِك مخبرا
أوحى إِلَيْهِ الله مَا أوحى وَقد ... وافا لمضجعه وَقد حمد السرى
الله أكبر يَا لَهَا من رُتْبَة ... مَا نالها أحد سواهُ إِذا ترى
الله أكبر يَا لَهَا من مزة ... قد خصها الْمولى الحبيب الأكبرا
فليهنأ مَا قد رأى من ربه ... وليهننا من فَضله مَا قد نرى
الله اكرمه بِوَحْي منزل ... فاتاه جِبْرِيل الْأمين على حرا
فَدَعَا إِلَى سبل النجَاة مبشرًا ... وَعَن الغواية قد نَهَانَا منذرا
ختمت شَرِيعَته الشَّرَائِع كلهَا ... اذ كَانَ فِي أم الْكتاب مصدرا
كم معجزات مُحكم آياتها ... كم بَيِّنَات باهرات للورى
مزمل مدثر اسماؤه ... أكْرم بِهِ مزملا مدثرا
اني إِذا مارست مدح الْمُصْطَفى ... فَأَنا الْخَطِيب وَقد عَلَوْت المنبرا
واذا نظمت قلائدًا فِي مدحه ... تالله مَا نظمت إِلَّا جوهرًا
اَوْ مَا رَأَيْت الْمسك وَهُوَ مضرج ... لما أتيت بِمَا يفوق العنبرا
هَا قد وجدت حلاوة فِي مطمعي ... ذوقوا فمي تَجدوا حلاه سكرا
وكذاك فِي شمي وجدت طلاوة ... عرفا تأرجه يفوق العبهرا
وكذاك فِي سَمْعِي وجدت لذاذة ... لما سَمِعت حَدِيثه مُسْتَبْشِرًا
وكذاك فِي بَصرِي رَأَيْت بَصِيرَة ... لما نقاب الْحجب عني أسفرا
وكذاك فِي لمسي شهِدت تَفَاوتا ... مذ لامست كفاي هاتيك الثرى
هذي الظَّوَاهِر والبواطن مثلهَا ... إِن شَاءَ رَبِّي قطّ لَا يستكثرا
فِي جنب مدحته وَفضل جنابه ... ذَا هَين وَالله يُعْطي أكثرا
ولسوف يُعْطي فِي الْقِيَامَة مثل مَا ... أعطَاهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا لم يحصرا
يَا رب الْمُخْتَار طه جد لنا ... بِالْعَفو مِنْك وهب لنا خير القوى
فبه توسلنا إِلَيْك وَمن يكن ... طه وسيلته نفقد نَالَ الكرا
يَا سيد الشفعآء دينك ملتي ... وَعَلِيهِ أرجوا أَن أُوَسَّد فِي الثرى
وَأجِيب عَنهُ بِفضل رَبِّي ثَانِيًا ... وَعَلِيهِ أَرْجُو أَن أقوم وأحشرا
يَا سَيِّدي فاشفع لعبد مذنب ... ركب الذُّنُوب مفرطا ومقصرا ...
1 / 14
.. وَأطَال فِي ليل الْجَهَالَة ركضة ... حَتَّى إِذا صبح الْحَقِيقَة أسفرا
أضحى وَلَا عمل لَدَيْهِ وَلَا لَهُ ... امل يرجيه إِذا خطب عرا
الا تمسكه بحبك سَيِّدي ... فَهُوَ النجَاة لَهُ إِذا فَصمت عرا
فَعَلَيْك صلى الله مَا ودق هما ... وَعَلَيْك صلى الله مَا برق شرا
وَعَلَيْك سلم كلما حج الورى ... أَو أمك الزوار من أم الْقرى
وَكَذَلِكَ آلك وَالصَّحَابَة كلهم ... مَا أمك الْعَافُونَ أَو ركب سرى
أَو يمم السارون نَحْوك طلبا ... سهروا وَقد وافوك يلتمسوا الْكرَى
وفدوا وَقد حطوا بسوحك رحلهم ... فَقبلت زورتهم وفازوا بالقرى
يَا رب صل على الحبيب وَآله ... والصحب مَا صبح السَّعَادَة أسفرا
وَكَذَا السَّلَام عَلَيْهِ ثمَّ عَلَيْهِم ... كَرَّرَه مَا أحلى ثناه مكررا
لَا سِيمَا الصّديق ثَانِي اثْنَيْنِ من ... بِالصّدقِ والتصديق قد بهر الورى
وَكَذَلِكَ الْفَارُوق من أردى العدى ... وَالدّين نَالَ بعزه أوج الذرى
وكذاك ذُو النورين عُثْمَان الَّذِي ... يتنور الْمِحْرَاب مِنْهُ إِذا قرا
وَكَذَا أَبُو السبطين صنوا الْمُصْطَفى ... بعل البتول وَمن يُسمى حيدرا
وكذاك كل الْآل وَالْأَصْحَاب والأ ... زواج اكرم بِالْقَرَابَةِ معشرا
وكذاك تَابعهمْ وتابع تَابع ... بِالْخَيرِ يقفو الْأَثر حَتَّى المحشرا
يَا رب وَاخْتِمْ لي بِخَير انني ... متوسل بالمصطفى خير الورى ...
ولنرجع إِلَى مَا نَحن بصدده من التَّارِيخ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
فَفِي سنة احدى وَتِسْعمِائَة ٩٠١ هـ
توفّي الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن صَالح أَبُو زيد المكودي نسبا الفاسي الْمَكِّيّ شَارِح الاجرومية
وفيهَا عِنْد غرُوب الشَّمْس يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر ذِي الْقعدَة
توفّي سُلْطَان الديار المصرية الْملك قايتباي الجركسي المحمودي الاشرفي ثمَّ الظَّاهِرِيّ وَصلي عَلَيْهِ يَوْم الِاثْنَيْنِ وَكَانَ لَهُ مشْهد عَظِيم وَلم يخلفه مثله فِي الجراكسة بل قيل إِنَّه لم يمْكث أحد فِي المملكة قدر مدَّته فَكَانَت قريب ثَلَاثِينَ سنة وَصلي عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الثَّلَاثَة وَختم لَهُ فِيهَا بعدة ربعات أحد مُلُوك الديار المصرية وَالْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ من مُلُوك
1 / 15
التّرْك البهية بَقِيَّة الْمُلُوك الْعِظَام وخاتمة النظام ولد تَقْرِيبًا سنة بضع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَقدم مَعَ تاجره مُحَمَّد بن رستم فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ فَاشْتَرَاهُ الاشرف برسباي ثمَّ صَار إِلَى الْملك الظَّاهِر فَأعْتقهُ وَلم يزل عِنْده يترقى من مرتبَة إِلَى أَن صَار الْملك وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَكَانَ بعض أَوْلِيَاء الله تَعَالَى قد اشار إِلَى ملكه قبل أَن يفضى إِلَيْهِ الْملك بِزَمَان فَقَالَ لَهُ فِي وَاقعَة قُم أَنْت أَيهَا الْملك الْأَشْرَف قايتباي وَحكي مثل ذَلِك عَن آخر بل أرسل إِلَيْهِ مَعَ بعض خاصته بالبشارة بذلك فخشي صَاحب التَّرْجَمَة أَن يَنَالهُ بِسوء من الْمُتَوَلِي إِذْ ذَاك بِسَبَب هَذَا الإبعاد واستبعد وُقُوع هَذَا الْأَمر غَايَة الاستبعاد
ورأي بَعضهم كَأَن شَجَرَة رمان لَيْسَ بهَا سوى حَبَّة وَاحِدَة وَأَن صَاحب التَّرْجَمَة بَادر قطعهَا فتأوله الرَّأْي بِأَخْذِهِ للْملك وأعلمه بذلك فَأمره باخفاء هَذَا الْمَنَام لذَلِك أَيْضا وَلما أستقر فِي المملكة أَخذ فِي الْحل وَالْعقد والعزل والعهد وَلم يكن فِي زَمَنه مُنَازع وَلَا مدافع وطالت أَيَّام دولته السعيدة وَسَار فِي النَّاس السِّيرَة الحميدة وأجتهد فِي بِنَاء المشاعر الْعِظَام بِحَيْثُ وَقع لَهُ من ذَلِك مَا لم يتَّفق لغيره من مُلُوك الْإِسْلَام كعمارة مَسْجِد الْخيف بمنى وحفر بنمره صهريجًا ذرعه عشرُون ذِرَاعا وَعمر بركَة خليص وأجرى الْعين الطّيبَة إِلَيْهَا بل أصلح الْمَسْجِد الَّذِي هُنَاكَ بِحَيْثُ عَم الأنتفاع بكله للقاطن والسالك وَعمر عين عَرَفَة بعد أنقطاعها ازيد من قرن وَعمر سِقَايَة سيدنَا الْعَبَّاس وَأصْلح بِئْر زَمْزَم وَالْمقَام وجهز فِي سنة تسع وَسبعين لِلْمَسْجِدِ منبرا عَظِيما وَنَصه فِي ذِي الْقعدَة وَكَانَ يُرْسل للكعبة الشَّرِيفَة بكسوة فائقة جدا فِي كل سنة وَأَنْشَأَ بِجَانِب الْمَسْجِد الْحَرَام عِنْد بَاب السَّلَام مدرسة عَظِيمَة بهَا صوفية وتدريس وفقرا وخزانة للربعات وَكتب الْعلم وبجانبها رِبَاط للْفُقَرَاء والطلبة وَمَعَ أجراء الْقُوت لَهُم فِي كل يَوْم وسبيل عَظِيم للخاص وَالْعَام ومكتب للأيتام وَكَذَا أنشأ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة مدرسة بديعة بهية بل بنى الْمَسْجِد الشريف بعد الْحَرِيق وجدد الْمِنْبَر والحجرة والمصلى النَّبَوِيّ إِلَى غَيرهَا من الْمِحْرَاب العثماني والمنارة الرئيسية بداء على عود بل رتب لأهل السّنة من أَهلهَا والقادمين عَلَيْهَا من كَبِير وصغير وغني وفقير
1 / 16
ورضيع وفطيم وخادم وخديم مَا يَكْفِيهِ من الْبر وَمن الدشيشة وَالْخبْز مَا تيَسّر وَعمل أَيْضا بِبَيْت الْمُقَدّس مدرسة كَبِيرَة بهَا شيخ وصوفية ودرسة وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره
قَالَ السخاوي وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يجْتَمع لملك مِمَّن أدركناه مَا اجْتمع لَهُ وَلَا حوى من الحذق والذكاء والمحاسن مُجمل مَا أشتمل عَلَيْهِ وَلَا مفصله وَرُبمَا مدحه الشُّعَرَاء وَلَا يتلفت إِلَى ذَلِك وَيَقُول لَو أشتغل بالمديح النَّبَوِيّ كَانَ أعظم من هَذِه المسالك وترجمته تحْتَمل مجلدات
قَالَ وَله تهجد وَتعبد وأوراد وإذكار وتعفف وبكاء من خشيَة الله تَعَالَى وميل لِذَوي الهيئات الْحَسَنَة وَالصِّفَات وتلاوة ومطالعة فِي كتب الْعلم والدقائق وسير الْخُلَفَاء والملوك بِحَيْثُ يسْأَل الْقُضَاة وَغَيرهم الأسئلة الجيدة وَرُبمَا افادهم فِي بعض الأحيان وَالِاعْتِرَاف من نَفسه بالتقصير والاعتقاد فِيمَن يثبت عِنْده صَلَاحه من الصلحاء وَالْعُلَمَاء
قَالَ وتكرر وَجهه لبيت الْمُقَدّس والخليل وثغور دمياط واسكندرية ورشيد وأزال كثيرا من الظلامات الحادثات وزار من هُنَاكَ من السادات بل حج فِي طَائِفَة قَليلَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ ووهب وَتصدق وَأظْهر من تواضعه وخشوعه فِي طَوَافه وعبادته مَا عد من حَسَنَاته
قَالَ وَبَلغنِي عَن بعض الصَّالِحين أَنه اخبر بِرُؤْيَة النَّبِي ﷺ فِي الْمَنَام تِلْكَ الْأَيَّام وَأخْبر بِأَنَّهُ من الْفرْقَة النَّاجِية قَالَ وَقد حج قبل ترقيه فِي زمن الظَّاهِر وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَكَذَا انفق أَمْوَالًا عَظِيمَة فِي غَزْوَة الْكفَّار ورباط الثغور وَحفظ الامصار رَحمَه الله تَعَالَى
وفيهَا قدم إِلَى مَدِينَة زبيد بِكِتَاب فتح الْبَارِي شرح البُخَارِيّ لِلْحَافِظِ شهَاب الدّين بن حجر من الْبَلَد الْحَرَام وَهُوَ أول دُخُول الْيمن وَكَانَ السُّلْطَان عَامر أرسل إِلَى لاشترائه فَاشْتَرَاهُ بِمَال جزيل ثمَّ قدم بِهِ الرَّسُول إِلَى مَدِينَة زبيد ثمَّ توجه بِهِ إِلَى بَاب السُّلْطَان فواجهه بِهِ فِي مَدِينَة تعز وَهَذَا الْكتاب من آيَات الله الْكُبْرَى
وفيهَا حصل طوفان عَظِيم من نَاحيَة بَحر الْهِنْد غرق مِنْهُ فِي بندر الديو
1 / 17
عشرَة مراكب وَفِي الباحة أَرْبَعَة مراكب وَتلف فِيهَا من الْأَمْوَال مَا لَا ينْحَصر وتغيرت أَرْبَعَة مراكب وأنكسرت أدقالهم ورموا من حملهمْ أَكثر من النّصْف وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
سنة أثنين بعد التسْعمائَة ٩٠٢ هـ
وَفِي يَوْم الْأَحَد وَقت الْعَصْر الثَّامِن وَالْعِشْرين من شهر شعْبَان توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الرحلة الْحَافِظ أَبُو عبد الله شمس الدّين مُحَمَّد أبن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عُثْمَان بن مُحَمَّد السخاوي الأَصْل القاهري الشَّافِعِي بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة حَال مجاورته الْأَخِيرَة بهَا وعمره إِحْدَى وَسَبْعُونَ سنة وَصلي عَلَيْهِ بعد صَلَاة الصُّبْح يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي تَارِيخه بالروضة الشَّرِيفَة ووقف بنعشه تجاه الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَدفن بِالبَقِيعِ بجوار مشْهد الإِمَام مَالك وَكَانَت جنَازَته حافلة وَلم يخلفه بعد مثله فِي مَجْمُوع فنونه وَكَانَت وِلَادَته فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وَحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم وَهُوَ صَغِير وجوده ثمَّ حفظ الْمِنْهَاج الْأَصْلِيّ والفية ابْن مَالك والنخبة والفية الْعِرَاقِيّ وَشرح النخبة وغالب الشاطبية ومقدمة الشاوي فِي الْعرُوض وَكلما أنْتَهى حفظه لكتاب عرضه على شُيُوخ عصره
وبرع فِي الْفِقْه والعربية وَالْقِرَاءَة وَغَيرهَا وشارك فِي الْفَرَائِض والحساب والميقات وأصول الْفِقْه وَالتَّفْسِير وَغَيرهَا وَأما مقرؤاته ومسموعاته فكثيرة جدا لَا تكَاد تَنْحَصِر واخذ عَن جمَاعَة لَا يُحصونَ حَتَّى بلغت عدَّة من اخذ عَنهُ زِيَادَة على أَرْبَعمِائَة نفس وَأذن لَهُ غير وَاحِد بالإفتاء والتدريس والإملاء وَسمع الْكثير من الحَدِيث على شَيْخه إِمَام الْأَئِمَّة الشهَاب بن حجر وَأَقْبل عَلَيْهِ بكليته اقبالًا يزِيد على الْوَصْف حَتَّى حمل عَنهُ علما جمًا وأختص بِهِ كثيرا بِحَيْثُ كَانَ من اكثر الآخذين عَنهُ وأعانه عَليّ ذَلِك قرب منزله مِنْهُ وَكَانَ لَا يفوتهُ مِمَّا يقْرَأ عَلَيْهِ إِلَّا النَّادِر
وَقَرَأَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاح بِتَمَامِهِ وَسمع عَلَيْهِ جلّ كتبه كالألفية وَشَرحهَا مرَارًا وعلوم الحَدِيث إِلَّا الْيَسِير من أَوَائِله لِأَبْنِ الصّلاح واكثر تصانيفه
1 / 18
فِي الرِّجَال وَغَيرهَا كالتقريب وَثَلَاثَة أَربَاع اصله وَاللِّسَان بِتَمَامِهِ ومشتبه النِّسْبَة وَتَخْرِيج الزَّاهِر وتلخيص مُسْند الفردوس والمقدمة وأماليه الحلبية والدمشقية وغالب فتح البارى وَتَخْرِيج المصابيح وَابْن الْحَاجِب الأَصْل وَتَعْلِيق التَّعْلِيق ومقدمة الْإِصَابَة وَجُمْلَة يطول تعدادها وَفِي بعضه مَا سَمعه أَكثر من مرّة وَلم يُفَارِقهُ إِلَى أَن مَاتَ وَأذن لَهُ فِي الاقراء والإفادة والتصنيف وتدوب بِهِ فِي معرفَة العالي والنازل والكشف عَن التراجم والمتون وَسَائِر الِاصْطِلَاح وَغير ذَلِك
وجاب الْبِلَاد وجال وجد فِي الرحلة وارتجل إِلَى حلب ودمشق وَبَيت الْمُقَدّس والخليل ونابلس والرملة وحماه وبعلبك وحمص بِحَيْثُ أَن الَّذِي سمع عَنْهُم يكونُونَ قريب مائَة نفر بل زَاد عدد من أَخذ عَنهُ من الاعلى والدون والمساوي على ألف وَمِائَتَيْنِ والأماكن الَّتِي تحمل فِيهَا من الْبِلَاد والقرى على الثَّمَانِينَ وأجتمع لَهُ من المرويات بِالسَّمَاعِ وَالْقِرَاءَة مَا يفوق الْوَصْف وَهِي تتنوع انواعًا تنيف على الْعشْر حَسْبَمَا ذكره مُسْتَوْفِي فِي تَرْجَمته من تَارِيخه وَأَعْلَى مَا عِنْده من الْمَرْوِيّ مَا بَينه وَبَين الرَّسُول ﷺ بالسند المتماسكة فِيهِ عشرَة انفس واكثر مِنْهُ وَأَصَح مَا بَين شُيُوخه وَبَين النَّبِي ﷺ فِيهِ الْعدَد الْمَذْكُور واتصلت لَهُ الْكتب السِّتَّة وَكَذَا حَدِيث كل من الشَّافِعِي وَأحمد والدارمي بِثمَانِيَة وسائط وَفِي بعض الْكتب السِّتَّة كَأبي دَاوُد من طَرِيق آخر وأبواب فِي النَّسَائِيّ مَا هُوَ سَبْعَة بِتَقْدِيم الْمُهْملَة واتصل لَهُ حَدِيث مَالك وَأبي حنيفَة بِتِسْعَة بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة
وَحج بعد وَفَاة شَيْخه ابْن حجر مَعَ وَالِديهِ وَلَقي جمَاعَة من الْعلمَاء فاخذ عَنْهُم كَأبي الْفَتْح الْأَغَر والبرهان الزمزمي والتقي بن فَهد وَأبي السعادات ابْن ظهيرة وخلائق ثمَّ زار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَرجع إِلَى الْقَاهِرَة ملازمًا للسماع وَالْقِرَاءَة والتخريج والإستفادة من الشُّيُوخ والأقران من غير فتور عَن ذَلِك وَلم يزل يجْتَهد فِي السماع ويرحل إِلَى الأقطار حَتَّى وصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ وَخَصه بعض شُيُوخه على عقد
1 / 19
مجْلِس الْإِمْلَاء فامتثل إِشَارَته فاملا حَتَّى اكمل تِسْعَة وَخمسين مَجْلِسا ثمَّ توجه إِلَى الْحَج فِي سنة سبعين فحج وجاور وَحدث هُنَاكَ بأَشْيَاء من تصانيفه وَغَيرهَا واقرأ ألفية الحَدِيث تقسيمًا وغالب شرحها لناظمها والنخبة وَشَرحهَا واملأ مجَالِس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام
وَلما رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَة شرع فِي املاء تَكْمِلَة تَخْرِيج شَيْخه للأذكار ثمَّ املاء تَخْرِيج اربعي النَّوَوِيّ ثمَّ غَيرهَا بِحَيْثُ بلغت مجَالِس الاملاء ستماية مجْلِس فَأكْثر وَكَذَا حج فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وجاور سنة سِتّ ثمَّ سنة سبع وَأقَام مِنْهَا ثَلَاثَة أشهر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة ثمَّ فِي سنة اثْنَيْنِ وَتِسْعين وجاور سنة ثَلَاثَة ثمَّ سنة ارْبَعْ ثمَّ فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وجاور إِلَى أثْنَاء سنة ثَمَان فَتوجه إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فَأَقَامَ بهَا شهرا وَصَامَ رَمَضَان بهَا ثمَّ عَاد فِي شوالها إِلَى مَكَّة وَمكث بهَا مَا شَاءَ الله ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وجاور بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَحمل النَّاس من أهلهما والقادمين عَلَيْهِمَا عَنهُ الْكثير جدا رِوَايَة ودراية وحصلوا من تصانيفه مَعَ مُلَازمَة النَّاس فِي منزله للْقِرَاءَة دراية وَرِوَايَة فِي تصانيفه وَغَيرهَا بِحَيْثُ ختم عَلَيْهِ مَا يفوق الْوَصْف من ذَلِك وَأخذ عَنهُ من الْخَلَائق مَا لَا يُحْصى كَثْرَة
وَشرع فِي التصنيف والتخريج قبيل الْخمسين وهلم جرا وتصانيفه إِلَيْهَا النِّهَايَة فِي الشَّهَادَة لَهُ لمزيد علوه وفخره وَمن تصانيفه فسح المغيث بشرح الفية الحَدِيث وَهُوَ مَعَ اختصاره فِي مُجَلد ضخم وسبك الْمَتْن فِيهِ على وَجه بديع لَا يعلم فِي هَذَا الْفَنّ اجْمَعْ مِنْهُ وَلَا أَكثر تَحْقِيقا لمن تدبره وتوضح لَهُ حَاذَى بِهِ الْمَتْن بِدُونِ الإفصاح والمقاصد الْحَسَنَة فِي بَيَان كثير من الْأَحَادِيث المشتهرة على الْأَلْسِنَة وَهُوَ كتاب جليل لم يسْبق إِلَى مثله مُفِيد فِي بَابه جدا وَالْقَوْل البديع فِي الصَّلَاة على الحبيب الشَّفِيع وَهُوَ فِي غَايَة الْحسن والضوء اللامع لأهل الْقرن التَّاسِع يكون سِتّ مجلدات وعمدة المحتج فِي حكم الشطرنج والمنهل العذب الروي فِي تَرْجَمَة قطب الْأَوْلِيَاء للنووي والجواهر والدرر فِي تَرْجَمَة شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر فِي مُجَلد ضخم وَرُبمَا يكْتب فِي مجلدين والتاريخ الْمُحِيط وَهُوَ فِي نَحْو ثَلَاثمِائَة ورقة على حُرُوف المعجم لَا يعلم من سبقه إِلَيْهِ وتلخيص تَارِيخ الْيمن ومنتقى من تَارِيخ مَكَّة للفاسي
1 / 20
والفوائد الجلية فِي الْأَسْمَاء النَّبَوِيَّة وَالْفَخْر الْعلوِي فِي المولد النَّبَوِيّ وارتقاء الغرف بحب أقرباء الرَّسُول وَذَوي الشّرف والايناس بمناقب الْعَبَّاس ورجحان الكفة فِي بَين أهل الصّفة وَالْأَصْل الْأَصِيل فِي تَحْرِيم النَّقْل من التَّوْرَاة والانجيل وَالْقَوْل المتين فِي تَحْسِين الظَّن بالمخلوقين وَغير ذَلِك وقرض أَشْيَاء من تصانيفه غير وَاحِد من أَئِمَّة الْمَذْهَب كالحافظ ابْن حجر والجلال الْمحلي وَالْعلم البُلْقِينِيّ والشرف الْمَنَاوِيّ والتقي الحصني والعيني والكافياجي وتناقلها النَّاس إِلَى كثير من الْبلدَانِ والقرى وَكتب الأكابر بَعْضهَا بخطوطهم حَتَّى قَالَ بَعضهم إِن لم تكن التصانيف هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا
فائد
وَكَانَ شَيْخه شيخ الأسلام ابْن حجر يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وينوه بِذكرِهِ ويعترف بعلو فخره ويرجحه على سَائِر جماعته المنسوبين إِلَى الحَدِيث وصناعته وَكَانَ من دعواته لَهُ قَوْله وَالله المسؤول أَن يُعينهُ على الْوُصُول إِلَى الْحُصُول حَتَّى يتعجب السَّابِق من اللَّاحِق
وَمِمَّا وَصفه بِهِ بعض الْحفاظ بعد كَلَام تقدم وَهُوَ وَالله بَقِيَّة من رَأَيْت من الْمَشَايِخ وَأَنا وَجَمِيع طلبة الحَدِيث بالبلاد الشامية والبلاد المصرية وَسَائِر بِلَاد الأسلام عِيَال عَلَيْهِ وَالله مَا أعلم فِي الْوُجُود لَهُ نظيرًا
وَقَالَ غَيره هُوَ الْآن من الافراد فِي علم الحَدِيث الَّذِي اشْتهر فِيهِ فَضله وَلَيْسَ بعد شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر فِيهِ مثله
وَقَالَ غَيره وَاسِطَة عقدهَا من العقد الْإِجْمَاع على أَنه أَمْسَى كالجوهر الْفَرد وَأصْبح فِي وَجه الدَّهْر كالغرة حَتَّى صَارَت الْغرَر مَعَ جواهره كالذرة بل جواد جوده شهد لَهُ جَرَيَانه بِالسَّبقِ فِي ميدان الفرسان وَحكم لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَرْع الَّذِي فاق أَصله البديع بالمعاني فَلَا حَاجَة للْبَيَان أَضَاء هَذَا الشَّمْس فاختفت مِنْهُ كواكب الدراري كَيفَ لَا وَقد جاده الْفَيْض بِفَتْح الْبَارِي فَهُوَ نخبة الْعَصْر والدهر وَعين القلادة فِي طبقَة الْجُود لِأَنَّهُ عين السخاء وَزِيَادَة فبدايته إِلَيْهَا النِّهَايَة ومنهاجه أوضح طرق إِلَى الْغَايَة وهوالخادم للسّنة الشَّرِيفَة وَالْحَاوِي لمحاسن
1 / 21
الِاصْطِلَاح والنكت المنيفة فبهجته زهت بروضها وروضته زهت ببهجتها
وَقَالَ آخر هُوَ الَّذِي انْعَقَد على تفرده بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيّ الاجماع وانه فِي كَثْرَة اطِّلَاعه وتحقيقه لفتوته بلغ مَا لَا يُسْتَطَاع ودونت تصانيفه واشتهرت وَثبتت سيادته فِي هَذَا الْفَنّ النفيس وتقررت وَلم يُخَالف أحد من الْعُقَلَاء فِي جلالته ووفور ثقته وديانته وأمانته بل صَرَّحُوا بأجمعهم بِأَنَّهُ هُوَ المرجوع إِلَيْهِ فِي التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيح والتحسين والتصحيح بعد شَيْخه شيخ مَشَايِخ الْإِسْلَام ابْن حجر حَامِل راية الْعُلُوم والأثر وَقَالَ آخر لقد أَجَاد النَّقْل من كَلَامي الله وَرَسُوله الْقَدِيم والْحَدِيث وسارت بفضله الركْبَان وبالغت فِي السّير الحثيث ومدحه آخر بِهَذِهِ الأبيات وَهِي ... يَا سيدًا أضحى فريد زَمَانه ... وَدَلِيل مَا قد قلته الاجماع
عِنْدِي حَدِيث مُسْند ومسلسل ... نرويه بالاتقان لَا الوضاع
مَا فِي الزَّمَان سواك يلقى عَالما ... صحت بِذَاكَ اجازة وَسَمَاع
الْخَيْر فِيك تَوَاتَرَتْ أخباره ... وَهُوَ الصَّحِيح وَلَيْسَ فِيهِ نزاع
يَا من إِذا مَا قد أَتَاهُ ممرض ... يشكو زَوَال الضّر والأوجاع ...
ورئي بعد مَوته على هَيْئَة حَسَنَة فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ حاسبني وَغفر لي وحشرني مَعَ الْعلمَاء وترجمته فِي تَارِيخه ثَلَاثَة كراريس على الْقطع الْكَامِل
قَالَ الشَّيْخ جَار الله بن فَهد ﵀ عقب تِلْكَ التَّرْجَمَة إِن شَيخنَا صَاحب التَّرْجَمَة حقيق بِمَا ذكره لنَفسِهِ من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة وَلَقَد وَالله الْعَظِيم لم أر فِي الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين مثله وَيعلم ذَلِك كل من اطلع على مؤلفاته أَو شَاهده وَهُوَ عَارِف فَقِيه منصف فِي تراجمه ورحم الله جدي حَيْثُ قَالَ فِي تَرْجَمته إِنَّه انْفَرد بفنه فطار اسْمه فِي الْآفَاق وَكَثُرت مصنفاته فِيهِ وَفِي غَيره طَار صيته شرقًا وغربًا شامًا ويمنًا وَلَا أعلم الْآن من يعرف عُلُوم الحَدِيث مثله وَلَا أَكثر تصنيفًا وَلَا أحسن وَلذَلِك أَخذهَا عَنهُ عُلَمَاء الْآفَاق من الْمَشَايِخ والطلبة والرفاق وَله الْيَد
1 / 22
الطُّولى فِي الْمعرفَة بالعلل وَأَسْمَاء الرِّجَال وأحوال الروَاة وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل وَإِلَيْهِ يشار فِي ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء لم يَأْتِ بعد الْحَافِظ الذَّهَبِيّ أحد سلك هَذِه المسالك وَلَقَد مَاتَ فن الحَدِيث من بعده وأسف النَّاس على فَقده وَلم يخلق بعده مثله انْتهى وَولي تدريس الحَدِيث فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء مصر فَلم يقبله رَحمَه الله تَعَالَى
وفيهَا فِي شهر ذِي الْقعدَة توفّي الْفَقِيه الصَّالح جمال الدّين مُحَمَّد المقبول بن أبي بكر الزَّيْلَعِيّ صَاحب قَرْيَة اللِّحْيَة نفع الله بِهِ
وفيهَا أَمر السُّلْطَان عَامر بن عبد الْوَهَّاب بتقييد رَئِيس الأسماعيلية سُلَيْمَان بن حسن بِمَدِينَة تعز واودعه دَار الْأَدَب وَكَانَ يتحدث بِمَا لَا يعنيه من المغيبات المستقبلات وَكَانَ عَالم الإسماعيلية وَأمر بإحضار كتبه واتلافها فأتلفت وَالْحَمْد لله
سنة ثَلَاث بعد التسْعمائَة ٩٠٣ هـ
وَفِي ربيع الأول توفّي الْعَالم الْعَارِف بِاللَّه الْجَلِيل الرباني مُحَمَّد بن أَحْمد باجرفيل الدوعاني ﵀ بغيل أبي وَزِير من أَعمال الشحن وجرفيل بجيم ثمَّ رَاء ثمَّ فَاء وَكَانَ مولده فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الأول سنة عشْرين بعد الثَّمَانمِائَة غلب عَلَيْهِ التصوف فَخَاضَ غماره وحقق أسراره وَصَارَ من كبار مَشَايِخ الطَّرِيقَة واعلام رجال أَئِمَّة الْحَقِيقَة يقْتَدى بآثاره ويهتدى بأنواره
وَحكي عَنهُ أَنه قَالَ لم أصحب مَعَ كَثْرَة من صحبته من العارفين بِاللَّه مِثَال الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر فلازمته أَرْبَعَة أشهر على أَن يَقُول لي أَنْت منا أهل الْبَيْت كَمَا قَالَ ذَلِك النَّبِي ﷺ لسلمان الْفَارِسِي ﵁ فَلم يجبني إِلَى ذَلِك فَلَمَّا ألححت عَلَيْهِ وَتحقّق صدق ودي ومحبتي لأهل الْبَيْت فَقَالَ يَا فَقِيه إِن الدّين النَّصِيحَة لَا يجيبك إِلَى مقصودك هَذَا إِلَّا الشَّيْخ أَبُو بكر بن عبد الله فَإِنَّهُ القطب الْوَارِث للقطبية من صغره بعد موت أَبِيه الشَّيْخ عبد الله بن أبي بكر وَنحن نكتب لَك إِلَيْهِ أَن يجيبك إِلَى مرادك قَالَ وَالشَّيْخ أَبُو بكر يَوْمئِذٍ بِالْيمن فَكتب الشَّيْخ عَليّ إِلَيْهِ وكتبت أَنا أَيْضا إِلَيْهِ فَأَتَانَا مِنْهُ بِحَمْد الله الْجَواب بِالْقَصْدِ وَالْمرَاد
1 / 23
قَالَ الْعَلامَة بحرق وَلَقَد كنت اسْتشْكل أَشْيَاء تصدر من سيد الشَّيْخ أبي بكر العيدروسي قدس الله روحه تقصر عَنهُ عقول أمثالنا القاصرة وَلَكِنِّي كنت بِتَوْفِيق الله أعرضها على أَرْبَاب البصائر فَمَا مِنْهُم إِلَّا ويأمرني بِالتَّسْلِيمِ وَيشْهد عِنْدِي بعلو مقَام سَيِّدي وانه على هدى من ربه الْعَلِيم مِنْهَا أَنِّي عرضت على الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد باجرفيل تَصَرُّفَات مَالِيَّة يُبَاشر سَيِّدي فِي قبضهَا وصرفها فِي ظَاهر الْأَمر فِي غير مصارفها فَقَالَ لي أَنا أشهد أَنه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَالِك للتولية والعزل والحل وَالْعقد والتصرفات كلهَا وَأشْهد أَنه أفضل أهل الأَرْض ظَاهرا وَبَاطنا فَقلت لَهُ أما الْبَاطِن فبصائرنا عَنهُ قَاصِرَة وَأما الظَّاهِر فَمَا وَجهه فَقَالَ وَجهه أَن أهل الْبَيْت أفضل من سَائِر النَّاس وَآل باعلوي الْيَوْم أفضل من سَائِر أهل الْبَيْت باتبَاعهمْ السّنة وَلما اشْتهر لَهُم من الْعِبَادَة والزهادة وَالْكَرم وَحسن الْأَخْلَاق وَالشَّيْخ أَبُو بكر أفضل آل باعلوي بالِاتِّفَاقِ فَهُوَ أفضل أهل زَمَانه
وفيهَا فِي يَوْم السبت خَامِس عشر شَوَّال توفّي الْفَقِيه الْمنور الْمُتَّفق على جلالة قدره علما وَعَملا وورعًا جمال الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الشهير بِابْن عَليّ أَبَا فضل السَّعْدِيّ نِسْبَة إِلَى سعد الْعَشِيرَة الْحَضْرَمِيّ ثمَّ الْعَدنِي ﵀ بعدن وحزن النَّاس عَلَيْهِ وَكثر تأسفهم على فَقده ﵀
وَكَانَ مولده فِي حضر موت بتريم سنة أَرْبَعِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ ارتحل فِي طلب الْعلم إِلَى عدن وَأخذ عَن الامامين الفاضلين مُحَمَّد بن مَسْعُود باشكيل وَمُحَمّد بن أَحْمد باحميش وجد فِي الطّلب ودأب حَتَّى برع فِي الْعُلُوم وانتصب للتدريس وَالْفَتْوَى وَصَارَ من أَعْلَام الدّين وَالتَّقوى وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا عَالما عَاملا محققًا ورعًا زاهدًا مُجْتَهدا عابدًا مُقبلا على شانه تَارِكًا لما لَا يعنيه ذَا مقامات وأحوال وكرامات وَكَانَ حسن التَّعْلِيم لين الْجَانِب متواضعًا صبورًا مثابرًا على السّنة مُعظما لأهل الْعلم
وَكَانَ هُوَ وَصَاحبه الْعَلامَة عفيف الدّين عبد الله بن أَحْمد بامحزمه عُمْدَة الْفَتْوَى بعدن وَكَانَ بَينهمَا من التوادد والتناصف مَا هُوَ مَشْهُور
1 / 24