تاریخ ناپلئون بوناپارت
تاريخ نابوليون بونابرت: ١٧٦٩–١٨٢١
ژانرها
كان هذا الرجل كرؤيا من الرؤى الغريبة المدهشة محلقا فوق أوروبا جمعاء، ذات يوم نظر جالسا بين أربعة عشر رأسا متوجا على كرسي أرفع من كراسيهم، ولما كان في فجر عظمته، خطر بباله أن يتلاعب بلقب البوربون في زاوية من زوايا إيطاليا وأن يرحبه حسب ذوقه، فعمل لويس دوق دي بارم ملكا على التيروري التي هي التوسكان اليوم، وفي ذلك العهد نفسه نزع من ملوك بريتانيا العظمى لقب ملوك فرنسا الذي اغتصبوه طوال أربعمائة سنة، كانت الثورة قد محقت أزاهير طغراء فرنسا فمحقها هو أيضا ولكن من طغراء إنكلترا، عندما كان يجتاز نهر الرين، كان منتخبو ألمانيا، هؤلاء الرجال الذين صعدوا إلى قمم الملك، يخفون إليه على أمل أن يتوجهم ملوكا، والأغرب من ذلك أن خلف كارلوس الخامس ملك إسبانيا والهند طلب يد أخته زوجة له، كان جنوده يعبدونه عبادة البشريين ربهم، وكانوا يرون الموت عذبا في سبيله، لم يكن له كما كان لملوك الشرق رئيس مشيخة البندقية ساقيا للراح، أو دوق بافيير ياورا له كما كان لملوك ألمانيا، بل كان يتاح له أحيانا أن يوقف قيد المحاكمة الملك الذي يقود فرقة خيالته.
كان هذا الرجل هائلا وعجيبا! فلم يبق رأس تحت السماء مهما كان عاليا وفخورا ما تمنى أن يكون له صلة به، ولم يبق عظيم من عظماء العالم لم يحي ذلك الجبين الذي وضعت عليه يد الله تاجين: أحدهما من ذهب ويدعى الملك، والآخر من نور ويدعى النبوغ، كل شيء في العالم كان ينحني أمام نابوليون، أجل كل شيء إلا ستة أدباء، اسمحوا لي أن أقول ذلك بفخر، إلا ستة أدباء ظلوا وحدهم واقفين في العالم الساجد، ستة من المفكرين العظام هم: دوسي، دوليل، مدام ده ستال، بانجمين كونستان، شاتوبريان ولو مرسيه، ما كان معنى تلك المقاومة في وسط تلك الأمة التي كان النصر والقوة والتسلط والجمال والتفوق من حلفائها؟ ما كان معنى تلك المقاومة التي وقفت في وجه المجد والنبوغ والبطولة؟ ما كان يمثله هؤلاء الستة المتمردون؟ كانوا يمثلون يوم ذاك شيئا واحدا لم تتمتع به أوروبا: الحرية!
كان نابوليون يحب الأدباء بقدر ما كان يخافهم؛ فلذلك كان يطمع في أن يجمع الأدب إلى صولجانه، كأنه لم يكتف بأن وضع لجاما في أفواه الشعب فأراد أن يخضع بانجمين كونستان، ولم يكتف بأن قهر ثلاثين جيشا فأراد أن يقهر لومرسيه، ولم يكتف بأن انتصر على عشر ممالك فأراد أن ينتصر على شاتوبريان.
لم يقف في وجه الاضطهادات في ذلك العهد إلا ستة أدمغة لا غير، لم يقف في وجه ذلك الرجل الذي ألغى الحرية من أوروبا إلا ستة من الأدباء الذين بقوا داعمين صولجان الفكرة الحرة، لقد خدموا الإنسانية بدفاعهم عن الحق ومن يستطيع أن يخدم الإنسانية كالأديب الصادق؟ إنهم لم يقاوموا الحكم المطلق والجور والظلم فحسب، بل إنهم قاوموا فكرة الحرب بكل ما أوتوه من قوة البيان وصدق الحجة، إنني من الذين يعتقدون أن الحرب مفيدة أحيانا، ومن الذين يعتقدون أن الأثلام التي تنشق في بطن الأرض ليست أكثر فائدة من الجراح التي تفصدها الحروب في الجنس البشري، منذ خمسة آلاف سنة وأغلال الأرض تنبت بفضل المحراث ورقي العالم يصعد على مدارج الحروب، ولكن عندما تقدم الحرب لتسود على الدنيا، عندما تصبح سنة من سنن الملك، عندما تمسي داء مزمنا يصعب شفاؤه، مثلا عندما تنطلق ثلاث عشرة حربا في أربعة عشر عاما، إذ ذاك لا تجد الإنسانية بدا من العذاب، إن الأخلاق والآداب لا تلبث أن تضأل وترق لدى احتكاك الأفكار الوحشية، فيصبح السيف أداة المجتمع الوحيدة وتصطنع القوة حقا لها، عند ذلك تنخسف أشعة الفضائل الإلهية، تلك الأشعة التي يجب أن تنير وجه العالم، وتصبح الإنسانية في خطر عظيم! في مثل تلك الظروف يحق للألسنة الحرة أن تنطلق من عقالها وأن يقف الذكاء اللامع في وجه القوة، في مثل تلك الظروف يجمل بالمفكرين من أبناء الأدب أن يتكاتفوا ضد الأبطال ولو في مواقف انتصاراتهم، وأن يعترض الشعراء، هؤلاء الحضريون المصلحون، على شرائع الغزاة، هؤلاء الحضريين القاسطين.»
هذا هو الرجل العجيب الذي أبى الأشراف إلا أن يروا فيه مغتصبا ظالما، وفاتحا نهما، في حين كان العملة والفلاحون والجنود يرون فيه «رجل الشعب»، رسول الله، ونتاج النبوغ في العالم.
الفصل الأول
لكل ظلمة سماء تتكشف عن نيرات، وفي كل ليلة متمردة الأمطار صواعق تنقض! كانت الأريستوقراطية الظالمة، وكان فولتير وروسو، كانت القرون الوسطى، وكانت الثروة! كانت المظالم نتاج ذلك الماضي المشئوم الملقب بالباستيل في باريس، وبرج لوندره في إنكلترا، والسبييلبرج في ألمانيا، والإسكوريال في إسبانيا، والكريملن في موسكو، وقصر سنت أنج في روما! وكان الماضي خمسة عشر قرنا تمردت فيها عهود الإقطاعية الجائرة، فكان للأسياد سيطرتهم، وللعبيد ذلهم، وللأشراف تحكمهم، كان الصولجان والعرش والملذات والحق الإلهي في جانب الملوك! وكانت سنة 1793، فإذا بهذه الاثني عشر شهرا تقف حكما على القرون الخمسة عشر.
كان الماضي وكانت المقصلة: فإذا الماضي الحكم المطلق، وإذا المقصلة نيران الثورة! يا للمقابلة الرهيبة! فمن جهة عقدة محكمة، ومن جهة أخرى فأس!
الثورة! ... وما أدراك ما الثورة المنبثقة من شفق الأجيال المظلومة؟ هجعت قرونا طوالا وانقضت في ثوان ... لقد خرجت من الأرض: ففي الأرض المرطبة بدماء المظلومين ودموعهم وعرق جباههم، تأصلت تلك الشجرة الجبارة، من تلك الأرض الملأى بالقبور والمكائد وجثث ضحايا الاستعباد والجور خرج ذلك الشبح المجهول، ذلك المنتقم، تلك الأداة القاطعة: المقصلة! ورفعت الثورة صوتها القاصف صارخة في وجه العالم القديم: «ها أنا ذا!» عند هذا حق للمقصلة أن تقول لمشارف القصور: «أنا ابنتك.»
يا له مشهدا جميلا ذلك الذي يرتفع فيه جبين الشعب عاليا فخورا! يا له مشهدا جميلا ذلك الذي تبرق فيه عيون الفلاسفة المضطهدين أمام مشعل الإنسانية الإلهي، أمام الحرية!
صفحه نامشخص