المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
تاريخ نابوليون بونابرت
تاريخ نابوليون بونابرت
1769-1821
تأليف
إلياس أبو شبكة
المقدمة
منذ وطأت الأيام كنف السلطان لنابوليون لم يقع إلا على المعجبين والمتملقين، أما سحر النبوغ فلم يتفق له يوما أن أثار حماس الخلق كما أثاره نبوغ هذا الرجل، ولم يقيض للسلطة مرة أن تتمتع بمثل ما تمتعت به سلطته، لقد كان رقية عامة، والشعب الذي لم يشأ إلا أن يحدر عن ذلك الإنسان لثام الإنسان فيجعله شبه إله، ويسير في مواكبه وجوه الأمم ممن علت بهم السن في طلائع المجد، إنما أتيح له أن يستوفي قسطه من الكرامة التي استمدها بونابرت من مشيئته وفكرته.
قال أحد المادحين سنة 1813 ما يلي: «إن أوروبا جمعاء إنما ستصبح، بفضل نبوغه وذكائه، أسرة واحدة رحبة يجمعها دين واحد وشرائع واحدة، والأجيال التي تتمتع بهذه الخيرات لن تتلفظ باسم البطل المحسن إليها إلا بفخر وإعجاب.»
وقال أحدهم في ذلك العهد ما يلي: «لو عاد إلى الأرض رجل من عصر المدسيس أو عصر لويس الرابع عشر وانحط نظره على تلك العجائب العديدة فملكه الدهش فسأل: كم استوفى هذا العمل من عصور سلام ودول مجيدة؟ فأجيبوه : إنه إنما هو نتيجة اثنتي عشرة سنة حرب ونبوغ رجل واحد.»
إلا أن عهد العبادة والحماس ما لبث أن اضمحل، فلما تخلى الحظ عن الجند الفرنسي تخلى مع الحظ كل شيء، كل شيء ... إلا الشعب! الشعب الذي لم يشأ أن يميز بين نابوليون على العرش ونابوليون في المنفى، بل ظل الرجل الفرد في قلبه، كلمة المساواة ومسيح الثورة الفرنسية في أوروبا.
قال شاتوبريان عقيب رسالة بليغة حمل فيها على نابوليون ما يلي: «إن العالم إنما هو ملك نابوليون؛ فإن أخطأ الدنيا وهو حي فقد استولى عليها وهو ميت! فالجندي والمواطن، الجمهوري والملكي، الغني والفقير كلهم يضعون تماثيل بونابرت ورسومه في قصورهم أو أكواخهم، حتى إن مقهوري الأمس وقاهريه أجمعوا على أن يختموا قلوبهم على تمجيده، فما يجول أحد جولة في إيطاليا إلا ويقف بصره عليه، وما يلج ألمانيا والج إلا ويناله بالنظر فيخلد إليه إذ إن الذين زجوه عنهم في هذه الأمة قد نبت الربيع على دمنتهم أو ذهبوا.
ليس بونابرت كبيرا بكلماته، وخطبه، وكتاباته، وشغفه بالحرية التي لم يوطئ لها السبيل يوما! بل هو كبير بخلقه حكومة منظمة قوية، ومجموعة قوانين درجت عليها ممالك كثيرة، ودور عدل، ومدارس، وإدارة حازمة ما زلنا نعيش في كنفها، هو كبير؛ لأنه بعث إيطاليا وأنارها ومضى بها في سبل الرقي قدما، هو كبير لأنه جدد النظام في فرنسا بعد أن أقوت منه؛ لأنه تمكن من نواصي الطباع جميعا فما جابه رجلا إلا وتسلل إلى مداخل طبعه؛ لأنه أمال إليه جموعا من الثائرين، وكتلة غير قليلة من العلماء المتصلفين، والأدباء الفوضويين، وخطباء الشوارع، وسفاكي السجون والطرق، وبائسي المنابر، والنوادي والمشانق، هو كبير؛ لأنه سليل نفسه؛ لأنه عرف، من غير أن تدعمه سلطة إلا سلطة نبوغه، أن يخضع إليه ستة وثلاثين مليونا من الرجال في عهد لم يحط به الغرور عرشا من العروش، هو كبير؛ لأنه قهر جميع الملوك الذين وقفوا في سبيله؛ لأنه سحق الجيوش أيا كان تباين نظامهم وبسالتهم وأيا كانوا؛ لأنه طبع اسمه على شفاه الشعوب الهمجية كما طبعه على شفاه المتمدنين؛ لأنه تجاوز جميع القاهرين الذين تقدموه، وملأ اثنتي عشرة سنة من العجائب التي أوشك اليوم أن يعمى على الناس إدراكها!»
هكذا انحنى ذلك الخصم أمام عظمة الصنم الذي حاول طويلا أن يسحقه بعد أن تزيد في معاضدة الأحقاد الأجنبية والخيانات الأهلية التي هيئت للنيل من نابوليون، هكذا تزاحف شاتوبريان على استشعار الحقيقة في الدفاع عن بونابرت ضد المتهجمين الذين آلوا على نفوسهم أن يتحيفوا من حقه ويقمروه المجد الذي ما نض بيد أحد مثله، ولم يكن شاتوبريان الرجل الوحيد الذي أرغمته الصراحة النبيلة على مجاورة الحق؛ فإننا لو تمكنا من إيراد مذاهب كل عمد العصر فيه ممن فسح لهم في الفلسفة والأدب كبيرون، ولامنه، ولامرتين، وبلزاك، وهيغو، وفيني، وبلان، وكريل، وبرنجه وغيرهم لما بقي فضل لحوار ولا جدل، ولكننا نكتفي بذكر ما قاله المؤرخ الكبير، رئيس الأمة الفرنسية تيير في نابوليون: «إنه وإن كان رجل دم إلا أنه أعظم الرجال جميعا.»
إن الظروف لم تعدم رجالا مفكرين في عصر من العصور، فكلما احتاج العالم إلى فكرة جديدة لكيلا يضمحل مع العقائد، والنظم، والممالك التي كساها القدم حلة التلف مهدت له الأيام عنصرا قويا من عناصر الفكر والنبوغ فأحله الشعب محلا موفور الكرامة ... مهدت له الأيام عمدا من عمد الفلسفة السامية ليهديه إلى مطارح النور، وخطباء مبسوطي العلم بمداخل السياسة الصحيحة، وشارعين نبهاء لا ينحطون إلا على قمة الرأي، وفاتحين أقوياء يقيلون الوطن قبل أن يتحكم في شأنه غير أهله.
إن الانتصارات الكبرى، والفن العسكري، والفتوحات الغراء، وكل ما يترقى بالنبوغ في مدارج الرفعة إنما هي وحدها التي يترسمها التاريخ فيرقمها في مطاويه، وهي هي التي تقف عليها نواظر الشعوب في حياة الرجال العظماء الذين يدمرون الممالك أو يشيدونها بقوة السيف.
هو ذا القيصر الكبير؛ فإنه وإن قهر الجرمانيين، وغرس النسور الرومانية من قمة القوقاز إلى جبال كليدونيا، وإنه وإن جاز غاليا إلى إيطاليا، وروما إلى مكدونيا، وصحاري الفرسل إلى أفريقيا وأطلال قرطجنة إلى شواطئ النيل، وإنه وإن عبر البوسفور والرين، وجبال طارق والألب والبيرينه إلا أنه إنما هو يسير اسم روما ولغتها وعاداتها تحت حماية مجده الشخصي، إنه ليحمل معه عصر أغسطوس وهو يتنزى إلى مطارح الحياة والنور، ويبني أعظم وحدة سياسية عرفتها الأرض، هو ذا القيصر الكبير الذي أخذ إخذ الإسكندر في خططه، وأمده شعبه بمثل ما أمد به الإسكندر إذ لم ير فيه غير إله؛ فإنه لقد رحب بعجائب السيف واللسان نطاق ذلك المذهب السامي الذي عرف أن يدني الرفيع ويرفع الدنيء.
ولكن الدهر لم يقيض لأحد بين جميع هؤلاء الفاتحين أن يتناول من أسباب الحظ ما تناوله نابوليون الكبير؛ فإن كان الإسكندر قد فتح في الحرب فتحا أمكنه من عصر بركلس فحمله إلى مذاهب الجوزاء كما حمل القيصر عصر أغسطس، وإن كان هذان الفاتحان قد استمدا نبوغ هوميروس، وسوفوكل، وأفلاطون، وأرسطو، وشيشرون، وفرجيل وهوراس؛ فإن نابوليون حمل معه ثلاثة عصور فسح له الله في الفن، والعلم، والفلسفة، وما كان عصره أقل انطلاقا في ميدان النبوغ من عصر من تقدمه من الفاتحين: لقد اجتاز أوروبا مع مونتين وديكارت، مع كورنيل وراسين، مع فولتير وروسو، وما كانت أركان جيشه إلا جامعة متنقلة طوافة يرف فيها روح القرن الثامن عشر، وتجوب جيوب الأمم المتأخرة لتستل منها ذاتيتها الرثة وتنزلها عند طبيعتها فتتأثر بعادات أمة اعترف لها العالم بالفضل وبايعها السلطان عليه، لقد خلص نابوليون إلى غايته في كل طور نحاه؛ فإن وإن لاطف ذكريات الأريستوقراطية في فرنسا، وتملق لأوهام الحكم المطلق إذ طلاه بأنظمة زائلة تهدمت تحت ثقل القدم إلا أنه بقي ذلك الديموقراطي المبدع العظيم، ممثل تلك الثورة الكبرى التي أطلقها ميرابو مع صواعق البلاغة، ودافعت عنها جمعية السلام العام بصواعق الهول، وأيدها هو - نابوليون - ونشرها في أوروبا مع صواعق الحرب، تلك الثورة التي سميت «فرنسية» من يوم مدرجها، وما لبثت أن أصبحت وهي ثورة «عالمية».
قال الشاعر الفرنسي العظيم فيكتور هيغو كلمته في نابوليون والأدب فآثرنا تعريبها وإلحاقها بهذه المقدمة لتكون لها خاتمة صالحة: «كانت فرنسا في مطلع هذا العصر مشهدا جميلا تشخص إليه الأمم بإعجاب، وكان رجل واحد يملؤها يوم ذاك بعظمته ومجده ويجعلها كبيرة رحبة حتى تملأ أوروبا بأسرها، هذا الرجل الذي خرج من الظلمة، وكان ابن رجل كرسكي رقت حاشية حاله، قيض له في مدة لا تجاوز السنين القلائل أن يبلغ أرفع قمة من قمم الملك لم يشهد التاريخ مثيلا لها منذ نشأته، لقد كان أميرا بالنبوغ والحظ والأعمال، وكان كل ما فيه يشير إلى أنه المالك الشرعي لسلطان رباني، لقد توفرت فيه شروط العظمة الثلاثة: الحوادث، والثقة، والمسح، فالثورة ولدته، والشعب اصطفاه، والخليفة مسحه! كثير من الملوك والقواد عرفوا فيه من خلال المستقبل مصطفى القدر، لقد كان الرجل الذي قال له إسكندر روسيا قبل أن فني في تاغنروغ: «لقد اختارتك السماء!» والذي قال له كليبر قبل أن قتل في مصر: «أنت كبير كالعالم!» والذي قال له دوزه قبل أن مات في مارنغو: «أنا الجندي وأنت القائد!» والذي قال له فالهوبرت وهو يحتضر في أوسترلتز: «إني سأموت أما أنت فستملك!» أجل، إن شهرته الحربية كانت عظيمة وفتوحاته هائلة! كان كل سنة يمد حدود مملكته إلى ما وراء الحدود نفسها التي وهبها الله لفرنسا، لقد محق جبال الألب كما فعل شارلمان، ومحا البيرينه كما فعل لويس الرابع عشر، واجتاز نهر الرين كالقيصر، وكاد يقطع المانش كغليوم المنتصر! وكانت فرنسا تملك مائة وثلاثين مقاطعة يومذاك، فمن جهة كانت تصل إلى أفواه الإيلب، ومن جهة أخرى كانت تبلغ التيبر، كان ملكا على أربعة وأربعين مليونا من الفرنسيين ومحاميا عن مائة مليون من الأوروبيين، فشيد في وسط أوروبا مملكة كالقلعة الحصينة أعطاها عشر سلطات أدخلها في الوقت نفسه إلى ملكه وأسرته؛ إذ إنه وضع تيجانا على رءوس أترابه وأبناء أعمامه الذين كان يلعب معهم وهو صغير في باحة منزله في أجاكسيو، لقد أزوج ولدا تبناه من أميرة من أميرات بافيير، وأخاه الأصغر من أميرة من أميرات ويرتنبرغ، أما هو ، فبعد أن نزع من النمسا تسلط ألمانيا الذي كان قد ادعاه تحت اسم معاهدة الرين، وبعد أن نزع منها التيرول ليضيفه إلى البافيير والإيلليري ليتبعها بفرنسا، تنازل فتزوج من أرشيدوقة.
كان هذا الرجل كرؤيا من الرؤى الغريبة المدهشة محلقا فوق أوروبا جمعاء، ذات يوم نظر جالسا بين أربعة عشر رأسا متوجا على كرسي أرفع من كراسيهم، ولما كان في فجر عظمته، خطر بباله أن يتلاعب بلقب البوربون في زاوية من زوايا إيطاليا وأن يرحبه حسب ذوقه، فعمل لويس دوق دي بارم ملكا على التيروري التي هي التوسكان اليوم، وفي ذلك العهد نفسه نزع من ملوك بريتانيا العظمى لقب ملوك فرنسا الذي اغتصبوه طوال أربعمائة سنة، كانت الثورة قد محقت أزاهير طغراء فرنسا فمحقها هو أيضا ولكن من طغراء إنكلترا، عندما كان يجتاز نهر الرين، كان منتخبو ألمانيا، هؤلاء الرجال الذين صعدوا إلى قمم الملك، يخفون إليه على أمل أن يتوجهم ملوكا، والأغرب من ذلك أن خلف كارلوس الخامس ملك إسبانيا والهند طلب يد أخته زوجة له، كان جنوده يعبدونه عبادة البشريين ربهم، وكانوا يرون الموت عذبا في سبيله، لم يكن له كما كان لملوك الشرق رئيس مشيخة البندقية ساقيا للراح، أو دوق بافيير ياورا له كما كان لملوك ألمانيا، بل كان يتاح له أحيانا أن يوقف قيد المحاكمة الملك الذي يقود فرقة خيالته.
كان هذا الرجل هائلا وعجيبا! فلم يبق رأس تحت السماء مهما كان عاليا وفخورا ما تمنى أن يكون له صلة به، ولم يبق عظيم من عظماء العالم لم يحي ذلك الجبين الذي وضعت عليه يد الله تاجين: أحدهما من ذهب ويدعى الملك، والآخر من نور ويدعى النبوغ، كل شيء في العالم كان ينحني أمام نابوليون، أجل كل شيء إلا ستة أدباء، اسمحوا لي أن أقول ذلك بفخر، إلا ستة أدباء ظلوا وحدهم واقفين في العالم الساجد، ستة من المفكرين العظام هم: دوسي، دوليل، مدام ده ستال، بانجمين كونستان، شاتوبريان ولو مرسيه، ما كان معنى تلك المقاومة في وسط تلك الأمة التي كان النصر والقوة والتسلط والجمال والتفوق من حلفائها؟ ما كان معنى تلك المقاومة التي وقفت في وجه المجد والنبوغ والبطولة؟ ما كان يمثله هؤلاء الستة المتمردون؟ كانوا يمثلون يوم ذاك شيئا واحدا لم تتمتع به أوروبا: الحرية!
كان نابوليون يحب الأدباء بقدر ما كان يخافهم؛ فلذلك كان يطمع في أن يجمع الأدب إلى صولجانه، كأنه لم يكتف بأن وضع لجاما في أفواه الشعب فأراد أن يخضع بانجمين كونستان، ولم يكتف بأن قهر ثلاثين جيشا فأراد أن يقهر لومرسيه، ولم يكتف بأن انتصر على عشر ممالك فأراد أن ينتصر على شاتوبريان.
لم يقف في وجه الاضطهادات في ذلك العهد إلا ستة أدمغة لا غير، لم يقف في وجه ذلك الرجل الذي ألغى الحرية من أوروبا إلا ستة من الأدباء الذين بقوا داعمين صولجان الفكرة الحرة، لقد خدموا الإنسانية بدفاعهم عن الحق ومن يستطيع أن يخدم الإنسانية كالأديب الصادق؟ إنهم لم يقاوموا الحكم المطلق والجور والظلم فحسب، بل إنهم قاوموا فكرة الحرب بكل ما أوتوه من قوة البيان وصدق الحجة، إنني من الذين يعتقدون أن الحرب مفيدة أحيانا، ومن الذين يعتقدون أن الأثلام التي تنشق في بطن الأرض ليست أكثر فائدة من الجراح التي تفصدها الحروب في الجنس البشري، منذ خمسة آلاف سنة وأغلال الأرض تنبت بفضل المحراث ورقي العالم يصعد على مدارج الحروب، ولكن عندما تقدم الحرب لتسود على الدنيا، عندما تصبح سنة من سنن الملك، عندما تمسي داء مزمنا يصعب شفاؤه، مثلا عندما تنطلق ثلاث عشرة حربا في أربعة عشر عاما، إذ ذاك لا تجد الإنسانية بدا من العذاب، إن الأخلاق والآداب لا تلبث أن تضأل وترق لدى احتكاك الأفكار الوحشية، فيصبح السيف أداة المجتمع الوحيدة وتصطنع القوة حقا لها، عند ذلك تنخسف أشعة الفضائل الإلهية، تلك الأشعة التي يجب أن تنير وجه العالم، وتصبح الإنسانية في خطر عظيم! في مثل تلك الظروف يحق للألسنة الحرة أن تنطلق من عقالها وأن يقف الذكاء اللامع في وجه القوة، في مثل تلك الظروف يجمل بالمفكرين من أبناء الأدب أن يتكاتفوا ضد الأبطال ولو في مواقف انتصاراتهم، وأن يعترض الشعراء، هؤلاء الحضريون المصلحون، على شرائع الغزاة، هؤلاء الحضريين القاسطين.»
هذا هو الرجل العجيب الذي أبى الأشراف إلا أن يروا فيه مغتصبا ظالما، وفاتحا نهما، في حين كان العملة والفلاحون والجنود يرون فيه «رجل الشعب»، رسول الله، ونتاج النبوغ في العالم.
الفصل الأول
لكل ظلمة سماء تتكشف عن نيرات، وفي كل ليلة متمردة الأمطار صواعق تنقض! كانت الأريستوقراطية الظالمة، وكان فولتير وروسو، كانت القرون الوسطى، وكانت الثروة! كانت المظالم نتاج ذلك الماضي المشئوم الملقب بالباستيل في باريس، وبرج لوندره في إنكلترا، والسبييلبرج في ألمانيا، والإسكوريال في إسبانيا، والكريملن في موسكو، وقصر سنت أنج في روما! وكان الماضي خمسة عشر قرنا تمردت فيها عهود الإقطاعية الجائرة، فكان للأسياد سيطرتهم، وللعبيد ذلهم، وللأشراف تحكمهم، كان الصولجان والعرش والملذات والحق الإلهي في جانب الملوك! وكانت سنة 1793، فإذا بهذه الاثني عشر شهرا تقف حكما على القرون الخمسة عشر.
كان الماضي وكانت المقصلة: فإذا الماضي الحكم المطلق، وإذا المقصلة نيران الثورة! يا للمقابلة الرهيبة! فمن جهة عقدة محكمة، ومن جهة أخرى فأس!
الثورة! ... وما أدراك ما الثورة المنبثقة من شفق الأجيال المظلومة؟ هجعت قرونا طوالا وانقضت في ثوان ... لقد خرجت من الأرض: ففي الأرض المرطبة بدماء المظلومين ودموعهم وعرق جباههم، تأصلت تلك الشجرة الجبارة، من تلك الأرض الملأى بالقبور والمكائد وجثث ضحايا الاستعباد والجور خرج ذلك الشبح المجهول، ذلك المنتقم، تلك الأداة القاطعة: المقصلة! ورفعت الثورة صوتها القاصف صارخة في وجه العالم القديم: «ها أنا ذا!» عند هذا حق للمقصلة أن تقول لمشارف القصور: «أنا ابنتك.»
يا له مشهدا جميلا ذلك الذي يرتفع فيه جبين الشعب عاليا فخورا! يا له مشهدا جميلا ذلك الذي تبرق فيه عيون الفلاسفة المضطهدين أمام مشعل الإنسانية الإلهي، أمام الحرية!
ولكن لا بد لكل ثورة من نظم تتمشى عليها للوصول إلى المقصد الأسمى، ولا بد لهذه النظم من دماغ يسنها وسيف يدافع عنها. فبينما كان فولتير وروسو ينحنيان إلى القبر بعد أن ملآ العصر بدوي شهرتهما، وبينما كان ميرابو الذي قدر له أن ينقل صولجان الرأي من الفلسفة إلى البلاغة السياسية يمهد لكهولته شهرة الخطيب ومجد رجل الأمة، كانت الحكمة التي تقود العالم إلى الغاية التي تتوخاها في طرق لم يقيض لأحد غيرها أن يتسلل إلى مداخل أسرارها، الحكمة التي في تعاقب الأجيال والممالك، تهيئ كل شيء بأبعد ما يكون من الإتقان في سبيل رقي الأفكار وفوز الثورات الكبرى، أجل، كانت تلد، في زاوية مظلمة من زوايا البحر المتوسط، الرجل الذي سيقف روح الحرب لخدمة روح الإصلاح، ويختم القرن الثامن عشر بمعجزات عسكرية بزت جميع المعجزات التي أدهشت القرون القديمة والوسطى.
ولد نابوليون بونابرت في أجاكسيو من أعمال جزيرة كورسكا، في الخامس عشر من شهر آب سنة 1769، من شارل بونابرت وليسيا رامولينو.
عندما أشرف على تجديد المملكة في عهد القنصلية، صور لبعض الكتبة أن يختلقوا للإمبراطور المزمع سلسلة نسب تصله بالأمراء، وأن يوجدوا له أجدادا بين ملوك الشمال القدماء، إلا أن الجندي الذي كان يشعر بثورة فرنسا تتمخض فيه، ولا يجهل أن استحقاقه وحده هو الذي حمله، في عهد المساواة، من أسفل مراتب الجندية إلى أقصى طبقة من طبقات الملك، أوعز إلى جرائده أن تجيب بأن شرفه لا ينتمي إلى غير الخدم التي أداها إلى بلاده، وأن ذلك الشرف يبتدئ تاريخه من عهد موقعة مونتينوت.
أنهى والد نابوليون دروسه في بيز وروما، فكان على بسطة في العلم والفصاحة ما أتاح له أن يبرز قسطا وافرا من النشاط والجد في كثير من المواقف المهمة خصوصا في مفاوضة كورسكا، تلك المفاوضة التي انتهت باستيلاء فرنسا على تلك الجزيرة سنة 1768.
ظهر شارل بونابرت بعد ذلك في مدينة فرسايل، على رأس وفد ولايته، بداعي المخاصمات التي قامت بين القائدين الفرنسيين ماربوف وناربون بيليز اللذين كانا آمرين في كورسكا، كان نفوذ هذا الأخير عظيما لدى البلاط، إلا أنه سقط أمام الشهادة القوية الصادقة التي أداها شارل بونابرت في دفاعه البليغ عن ماربوف ليبقى وفيا للعدالة والحق، أما ماربوف فلم يفته بعد ذلك أن يمد يد المساعدة إلى أسرة بونابرت.
كان نابوليون، بالرغم من أنه ثاني أولاد شارل بونابرت، معتبرا كرأس للأسرة، وكان عمه الأكبر الأرشيدياكنوس لوسيان، الذي كان عمد ذويه، قد أعطاه هذا اللقب وهو على فراش الموت.
في سنة 1777 وضع في مدرسة بريين، فاجتهد وخص نفسه بدراسة التاريخ والجغرافية وسائر العلوم المدقق فيها، فنجح في جميع هذه المواد وخصوصا في الرياضيات، أما ميله إلى المواد السياسية فقد بدأ ينمو ويعرف منذ ذلك الحين.
أولع باستقلال وطنه، فوقف نوعا من التعبد لباولي
1
الذي كان يدافع عنه بحماسة ضد رأي والده نفسه.
عزي إليه خطأ أنه كان في المدرسة ميالا إلى الوحدة والصمت، لا أصدقاء له ولا أنداد، ولا نصيب له من حب أحد لما اشتملت عليه نفسه من القساوة وخشونة الطبع، بل كان عذب الخلق، لين العريكة، أدعى إلى الحب بما تناهى إليه من الدماثة واللطف، ولم يطرأ بعض الانقلاب على طبعه إلا في عهد البلوغ فأصبح وهو كئيب النفس عبوس، هذا ما قاله عن نفسه في مذكراته التي كتبها وهو أسير في سنت هيلين.
وزعم أن ميله إلى العزلة ورغبته في الفن العسكري، تلك الرغبة التي نضجت قبل أوانها، إنما هما اللذان كانا يحببان إليه الاختلاء في حديقته التي كان يتحصن فيها ضد غارات رفاقه، إلا أن أحد هؤلاء الرفاق أخذ على نفسه تكذيب هذا الزعم فقال: «في شتاء سنة 1783-1784، الذي تراكم فيه الثلج على الطرق وفي باحات المدارس، جنح نابوليون عن تردده إلى الحدائق الصغيرة التي كان يستعذب فيها الخلوة والسكون، وأصبح في أوقات فرصه المدرسية يضطر إلى الاختلاط برفاقه والتنزه معهم في قاعة كبرى من قاعات المدرسة، ولكي يتخلص من تلك الحالة المملة، قيض له أن يحرك المدرسة جميعها، بأن هيأ لرفاقه أنهم يستطيعون أن يجدوا له مخرجا إلى التسلية واللهو إذا هم فتحوا بالمجارف معابر مختلفة في وسط الثلوج أو حفروا خنادق ورفعوا أسوارا وخيالة ... وزاد على ذلك بقوله: عندما ينتهي العمل الأول، ننقسم إلى فرق، ونعمل لنا حصنا، وبما أني مخترع هذا النوع من التسلية آخذ على عهدتي إدارة القتال، فنزل الرفاق عند فكرته بغبطة وفرح، وبقيت تلك الحرب المتنكرة مدة خمسة عشر يوما، ولم تضع أوزارها إلا عندما تخللت كرات الثلوج حصيات وحجارة صغيرة نجم عنها أن بعض التلاميذ أصيبوا بجراح بليغة، أذكر أنني كنت في عداد الذين اضطهدوا اضطهادا فظيعا في تلك المعركة.»
كان على بونابرت الفتى ليتمكن من القيام بهذا العمل، بالرغم من ميله إلى الوحدة والتأملات، أن يكون ذا سطوة على رفاقه، وهذه السطوة لا تكتسب بالخشونة والتوحش اللذين عزاهما إليه بعض المترجمين الأغبياء.
لم يكن نابوليون متمتعا باحترام رفاقه فحسب، بل كان حاصلا على ثقة معلميه وإكرامهم حتى إن كثيرين منهم كانوا يتنبئون له عن مستقبل عظيم، وقد أكد ده لاكيل، أستاذه في التاريخ، أنه إذا فتحت خزائن المدرسة الحربية قرئ في أحد سجلاتها حاشية ضمنها مستقبل تلميذه وهي: «كورسكي الملة والخلق، سيبلغ شأوا بعيدا إذا ساعدته الظروف»، وكان دو ميرون، أستاذه في الآداب، الذي امتاز بين معلمي البيان، يسمي شروحه: «حجارة من الصوان أحميت في بركان.»
في مباراة سنة 1785، اختاره الشفالييه ده كيراليو لمدرسة باريس الحربية، فسعوا عبثا أن يحولوه عن فكرته هذه؛ لأن التلميذ لم يكن بالغا السن؛ ولأنه لا يجيد إجادة تامة إلا المواد الرياضية، فلم يقنع هذا القول الشفالييه الذي كان ضابطا كبيرا ويشغل وظيفة مفتش فأجاب: «إنني إنما لا أجهل ما أعمل، وإذا كنت الآن أخترق النظام فليس ذلك إكراما لأسرته لأني لا أعرف أحدا من أعضائها، إنما يتراءى لي في هذا التلميذ جذوة متقدة من الواجب أن يواصل اضطرامها.»
عندما دخل نابوليون تلك المدرسة الجديدة، لم يلبث أن حزن من التربية اللينة المرفهة التي يتعهدون بها فتيانا يعدونهم للحياة القاسية في المعسكر ولمهنة الجندية الشاقة، فكتب مذكرة أرسلها إلى السيد بروتون قال فيها: «إن تلاميذ المدرسة الملكية يسلكون منهجا لا يصل بهم إلى الغاية التي تنتظرها منهم بلادهم، فبدل أن يخصص عدد من الخدم لقضاء حاجاتهم، أو أن تصرف الأموال الكثيرة بترويض خيولهم على يد السياس، يجدر بهم هم أنفسهم أن يقوموا بهذا العمل، أليسوا جميعا بعيدين عن طرف القصور وبهرجة الغنى، معدين للخدمة العسكرية التي من أجلها وحدها إنما وجدوا في هذه المدرسة؟ لقد قدر لهم أن يسلكوا حياة متزهدة، لا حياة ترف ورفاه، وأن يتعهدوا نفوسهم بنفوسهم فيصبحوا أشداء يقتحمون المصاعب بتجلد وقوة، ويتحملون بشجاعة وبسالة أهوال الحروب الشاخصة إليهم من خلال المستقبل، ولا يصدفون عن احترام الجنود الذين سيكونون تحت سلطتهم.»
هكذا كان نابوليون وهو لا يزال ولدا، يملي في مذكرة التلميذ قواعد نظام حققها فيما بعد وهو في أعلى ذروة من ذرى مجده.
أما الامتحانات اللامعة التي قدمها، فقد مهدت له شهرة في باريس كما مهدت له في بريين، وفي سنة 1887 خرج من المدرسة الحربية برتبة ملازم ثان، وانخرط في فرقة مدفعية لافير التي كانت وقتئذ محافظة في غرونوبل.
كان نابوليون في مدة إقامته بباريس، وهو لا يكاد يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يتردد إلى الأب راينال فيبحث معه باطلاع وافر في أكبر مسائل التاريخ وأصول وضع الشرائع والسياسة، ثم أرسل إلى فالنس، وفيها قسم من فرقته، فما عتم الأمر أن أتيح له أن يتعرف إلى المجتمعات الراقية، خصوصا مجتمع السيدة ده كولومبييه، وهي امرأة على جانب عظيم من الذكاء والعلم، فتعرف هناك إلى السيد ده مونتاليفه الذي جعله فيما بعد وزير خارجيته.
كان للسيدة كولومبيه ابنة، أوحت إلى الضابط الفتى أولى عواطف الحب التي اختبرها في حياته، قال نابوليون: «كان ذلك الميل الطاهر مشتركا بيني وبينها، وكانت أسعد أوقاتي معها مقتصرة على قطف الكرز وأكله جنبا إلى جنب.»
إلا أن الأم، مع احترامها للفتى وتعلقها به، لم تفكر قط بزواج ابنتها منه، ولكنها كانت تتنبأ له دائما عن مستقبل عظيم، حتى إنها كررت نبوءتها هذه وهي على فراش الموت، في حين كانت الثورة الفرنسية تتحفز للوثوب وتفتح ميدانها في وجه ذلك الضابط الفتى.
لم تكن مشاغل القلب ولا الفوز الذي أحرزه في العالم لتحول بينه وبين ممارسته دروسه المجهدة وانصبابه على حل أصعب المسائل الاقتصادية، حتى إنه نال تحت اسم مستعار، الجائزة التي وضعها مجمع ليون العلمي للجواب على هذا السؤال الذي اقترحه الأب راينال وهو: «ما هي القواعد والطرق التي يجب على الرجال أن يتعلموها ليصلوا إلى السعادة الممكنة؟»
أطلقت قنبلة الثورة الفرنسية فقابلها الشباب الراقي بالاستحسان؛ لأنها جاءت طبقا للمذاهب الفلسفية التي تشربها قبل حين، غير أن فئة من الأشراف الذين كانوا متمسكين بامتيازاتهم وألقابهم، وكان في الجندية عدد غير قليل منهم، لم يشاطروا تلك الفئة الأولى استحسانها لتلك الثورة، أما نابوليون فلم يحذ حذو الكثيرين من رفاقه الذين ذهبوا إلى الخارج ليظهروا عدم رضاهم بتجدد وطنهم، بل انخرط في سلك المحدثين قائلا لقائده: «إن الثورات إنما هي فرصة سانحة للجند الأشداء، ذوي الروح الناضج.» أجل، كان نابوليون مصيبا في قوله؛ إذ إنه لا ينبغي للمسائل العمومية أن تولج عن طريق الزهد إذا أريد أن يعمل في سبيل مستقبل الشعوب، ويجب أن لا يدفع العالم إلى الأمام بعدم التغرض، الذي هو عامل من عوامل الضعف، أجل، كان من حظ فرنسا وسعدها أن يكون بين واضعي الشرائع والجنود المخلصين لتنظيم 1789، نفوس تواقة إلى المجد، طامعة في القوة التي تسهل للنبوغ تحقيق أمانيه، وكان من سعد حظها أيضا، أن يكون بين هؤلاء الطامعين الذين لولاهم لما نالت الثورة قسطها من الحياة، جندي أهل لأن يرتفع إلى شهرة خالدة وسطوة عظيمة بما أتاه من الأعمال المجيدة لمصلحة أوروبا جمعاء.
أذعن نابوليون بوقت واحد إلى حججه وإلى القدر الذي شعر بجناحيه يحلقان فوق مجده وهو يعانق فئة الشعب بحمية وعطف، إلا أن هذه الغيرة الوطنية لم تحوله عن أن يغذي في نفسه مقته الفطري للفوضى، وأن يشهد بألم لا ألم بعده ذلك الإفراط في الثورات الذي كان يشير إلى احتضار سلطة ستعود إليه يوما.
في العشرين من شهر حزيران عام1792، بينما كان نابوليون واقفا على سطح التويلري،
2
أبصر لويس السادس عشر متعصبا بقبعة حمراء وضعها على رأسه رجل من رجال الشعب، فصرخ قائلا: «كيف تركوا السبيل لهذا النذل بالدخول إلى هنا؟ كان يجب أن يكنسوا أربع أو خمسمائة من هؤلاء برشاش المدافع!»
كان نابوليون، مع انحيازه إلى الثورة الفرنسية، متعلقا أشد التعلق بفكرة حفظ النظام ومداراة السلطة، فترك عاصمة فرنسا واتجه إلى كورسكا، وفي ذلك الوقت، كان باولي يبث دسائسه في تلك الجزيرة وفقا لمصلحة إنكلترا، فما كان من نابوليون، الذي استهجن ذلك التصرف السيئ، إلا أن حطم صنم حداثته واستلم قيادة في الحرس الشعبي وأخذ يحارب ذلك الشيخ الذي كثيرا ما جاهر باحترامه له وإعجابه به.
أحرق الإنكليز أجاكسيو ونال منزل بونابرت نصيبه من ذلك الحريق، فلم تجد عائلته بدا من النزوح إلى فرنسا والسكن في مرسيليا، أما نابوليون، فلم يقم طويلا بهذه المدينة، بل أسرع بالعودة إلى باريس التي كانت الحوادث فيها تتوالى بسرعة وشدة معلنة في كل يوم وفي كل ساعة عن أزمة جديدة.
كانت فرنسا الشمالية قد رفعت علم المعاهدة، وكانت الخيانة دفعت طولون
3
إلى الإنكليز، فعهدت الاتفاقية إلى الجنرال كارتو بأن يصلح البروفانس
4
على قواعد الجمهورية، وأن يحث على معاقبة المتمردين والخائنين.
عندما قاد النصر هذا الجنرال إلى مرسيليا، أمر بحصار طولون، فاتجه نابوليون إليها بصفة قائد مدفعية، في ذلك العهد، وضع نبذة صغيرة تحت عنوان «عشاء بوكير»، تضمنت آراءه التي كان عليه أن يبديها بصفته مواطنا نشيطا ورجل حرب حاذقا، وكانت هذه الآراء تحتوي على نظرة في اضطرابات الشمال، وحادثة المعاهدة، أذاعت عن ضابط المدفعية البسيط تلك الحجة السامية وذلك الإدراك الصحيح اللذين أكسباه إعجاب الجمهور وهو إمبراطور.
الفصل الثاني
عندما وصل نابوليون إلى أسوار طولون وجد فرقة من المتطوعين البسلاء، إلا أنه لم يجد زعيما جديرا بقيادتهم.
كان الجنرال كارتو، وهو من أشد المتظاهرين بعظمة وجبروت لا ينطبقان على صعوبة المبادئ الجمهورية، ينطوي على جهل أكثر مما ينطوي على زهو وفخفخة، وكان فتح طولون عملا تعجز عنه قواه، غير أنه لم يكن ليعترف بذلك العجز المقنط، فكان من تلك الثقة العمياء أن أوحت إليه تلك الخطة التي حملت هذه الكلمات: «إن قائد المدفعية سيصعق طولون مدة ثلاثة أيام، أهجم في نهايتها بثلاث فرق وأستولي عليها.»
إلا أن حسن الحظ شاء أن يكون إلى جنب هذا الفنان الماهر الذي يستشعر الإيجاز في خططه، ضابط قيض له أن يكون على بسطة في العلوم العسكرية بقدر ما قدر له أن يكون في رتبة سفلى، كان هذا الضابط فتى في الرابعة والعشرين من عمره، وكان مع ما هو عليه من الضعة وخفض الجناح لا يقدر على حجب مقته للقسم الأكبر من الرجال، الذين كانت سلسلة المراتب والنظم توجب عليه أن يحترمهم كرؤساء لهم عليه واجب الإذعان، بالرغم من أن عجزهم وقصورهم كانا يهددان الجمهورية بسوء المصير، فهذا المقت الحلال، وتلك الثقة التي أكدت له أنه إنما هو فوق من حوله، كانا يشجعانه على أن يغالط رؤساءه أنفسهم، بدل أن يدعهم ينفذون من غير مخالفة مقاييس كان يراها مضرة جدا، حتى إن امرأة الجنرال كارتو لم تجد بدا من أن تقول لزوجها: «دع هذا الفتى يجري ما يراه صالحا، فهو أعرف منك بكل شيء، ألا تراه لا يسترئيك قط؟ أما المجد فهو باق لك لا ينازعك إياه أحد.»
عندما وصل نابوليون إلى المعسكر، أدرك بتلك النظرة الثاقبة التي كثيرا ما ساعدت نبوغه في ساحة الحروب، أن استرجاع طولون يتوقف على الإغارة عليها من منفذ الخليج، إلا أنه سعى طويلا مساعي خائبة حتى أتيح له أخيرا أن ينفذ فكرته، كان بين ممثلي الشعب رجل قدر له أن يكون على بسطة في الفراسة والذكاء فتوسم مستقبلا عظيما لهذا الضابط البسيط، وما عتم الأمر أن قيض لنابوليون أن ينال ما يحتاج إليه من السلطة ليحقق نجاح خططه.
أبرز نابوليون في مدة الحصار مثلا في الاطمئنان والشجاعة النادرة لا يرتفع مثل عليه؛ إذ إنه لم يكن ليظهر حذاقته وخبرته في المشورة فقط بل كان يبرزهما في وسط العمل بذلك الهدوء الباسل الذي اضطر رؤساءه أن يحترموا فيه بسطة علمه ويعجبوا بسرعة ذكائه، أما هذه الجرأة المدهشة فقد كلفته سقوط جياد كثيرة تحته، وسببت له جرحا بليغا في فخذه الأيسر.
كان استعداده في العلم النظري الصرف ليس بذي أهمية، وكان احتقاره للتفوق والعلوم النظرية عظيما حتى إنه لم يكن ليستطيع أن يضع لنفسه حدا فيها، فالإدراك والتنفيذ كانا عنده أمرين متصلا بعضهما ببعض اتصالا كليا، ولكانت فكرته الرحبة قد أزعجته لو لم يشعر بروح وساعد يعملان معا على تحقيقها بشجاعة وثبات.
إن الحاجة إلى العمل تبعت نابوليون في كل مواقفه، فلقد حافظ عليها في وجوه حظوظه جميعها، وعندما أصبح من الصعب عليه أن يواصل تحقيقها، ختم الموت حياته، لقد مات في حين رأى نفسه مضطرا على أن يطوي تلك المخيلة الرحبة التي ملأت أوروبا بإبداعها العظيم.
لم يكن يطبق ذلك النشاط المتواصل في المسائل الكبرى فحسب، بل كان يضع يده على كل شيء عندما توجب عليه الظروف، ولا يخشى قط أن يعرض روحه الزاخر للمخالفة عند الاقتضاء.
ذات يوم في حصار طولون، بينما كان في أحد صفوف المدافع، قتل رجل من رجال المدفعية فاستولى على مدفع القتيل بسرعة، وأطلق بنفسه عدة طلقات، فكان من جراء ذلك أن أصيب بداء الجرب الذي كان القتيل مصابا به، وقد أسقمه ذلك الداء إسقاما لازمه في حروب مصر وإيطاليا، ولم يقيض له الشفاء إلا في عهد المملكة بعناية كورفيزار.
لم يكن في جميع رؤسائه من تملكه الحسد والسخافة ككارتو، بل إن القائدين دوتيل ودو كوميه كانا يظهران له احتراما ساميا ومراعاة لم يظهرا مثلها لأحد من مرءوسيهما قبله، حتى إن دو كوميه لم يجد بدا من الدهشة والاستغراب ساعة سمعه يقول له بعد الاستيلاء على البتي جيبرالتر: «خذ لنفسك الراحة، فلقد استولينا على طولون وتستطيع أن تنام فيها بعد غد!» إلا أن هذه الدهشة تركت محلا للإعجاب الشديد عندما تحققت تلك النبوءة الغريبة ، فكتب دو كوميه عندئذ إلى جمعية السلام العام يطلب منها رتبة قائد فرقة عسكرية للكومندان بونابرت قائلا: «كافئوا هذا الشاب وادفعوه إلى الأمام، فهو إذا بقي منكور الجميل لا يلبث أن يدفع نفسه بنفسه.» فنزل ممثلو الشعب عند هذا الطلب، ووظف القائد الجديد في إيطاليا تحت إشراف دو ميربيون وساعد بمقدرة عظيمة على أخذ ساورغيو.
كان نابوليون، مع تعلقه بقواعد الجمهوريين الغير الذين كانوا يعملون على إنقاذ البلاد بنشاط كثيرا ما رافقته مقاييس هائلة، يشرف على الأهواء والآراء التي كانت تصطدم بشدة لكيما تبقي تحت سطوة الحمى الثورية نفسها خلقا من الاعتدال وعدم التعصب، فإنه لم يستعمل نفوذه وقدرته إلا ليصون أخصامه السياسيين من الاضطهاد، وينقذ المهاجرين الذين ألقتهم الزوبعة في جهة فرنسا وكان بينهم عائلة شابريان.
كان روبسبيير في ذلك العهد في غضاضة العمر، وكان شديد الإعجاب بنابوليون، فسعى إلى أخذه إلى باريس قبل التاسع من ترميدور بوقت قصير، قال نابوليون: «لو لم أرفض بقساوة وصلابة، لما عرف أحد إلى أين قذفت بي تلك الخطوة الأولى وأي قدر كان ينتظرني.»
صادف نابوليون دوروك وجونو في حصار طولون، فملك دوروك محبة بونابرت وثقته، وأما جونو فقد امتاز في عينيه بهذه النادرة: «كان قائد المدفعية، عند وصوله إلى طولون، قد احتاج إلى الكتابة في المكان نفسه الذي كان يجهز فيه صفا من المدافع، فطلب أحد الجنود ليلازمه بصفة كاتم أسرار فمثل الجندي لديه، ولم تكد الرسالة تنجز حتى انطلقت قنبلة فملأتها ترابا، فقال العسكري بهدوء وسكينة تامة: حسنا، لم أبق بحاجة إلى التراب، كان هذا الجندي جونو، فهذا المثل في الشجاعة كان كافيا لإلفات نظر قائده إليه، فرقاه من ذلك الحين إلى أعلى رتبة في الجيش.»
لم يقدر فتح طولون الذي توقف على بونابرت الفتى أن يضعه في أمن من الاضطهادات، فذات مرة صدر أمر بقي بدون تنفيذ يطلبه إلى الديوان العرفي ليجيب على أسئلة تتعلق ببعض أوامر نظمها في تحصينات مرسيليا، ومرة غضب أحد الوكلاء من صلابة طبعه؛ إذ رآه غير مطيع لمطاليبه فلفظ ضده هذه الكلمة التي كثيرا ما كانت قتالة إلا أنها ذهبت هذه المرة أدراج الرياح: «يوضع خارج الشريعة.»
قلنا: إن جميع وكلاء المعاهدة في جيش الشمال كانوا يسيئون التصرف مع نابوليون إلا واحدا لا غير، كان متزوجا من امرأة كثيرة اللطف والجمال؛ فإنه أسبغ عليه جزيلا من الإنعام، وأحله في بيته محلا موفور الكرامة وكانت امرأته تشاطره هذا الإكرام.
عندما صار نابوليون إمبراطورا، أبصر ثانية المرأة الجميلة التي أضافته في نيس، إلا أن الأحزان والمصائب كانت قد محت عنها جميع الجواذب التي استهوته في الماضي، فقال لها: «كيف لم تستعيني بمعارفنا في جيش نيس للوصول إلي؟ فلا يزال قسم كبير منهم له علاقة متواصلة معي.» فأجابته: «واحسرتاه يا مولاي! لقد انقطع تعارفنا منذ صاروا كبارا وصرت تعسة.»
كانت المسكينة قد أصبحت أرملة وعضها الفقر المدقع، فنالها نابوليون كل ما طلبت.
قال نابوليون ذات مرة، وقد مر بمخيلته ذلك العهد الجميل، على لغة الناس أو بالحري على لغة الأخلاق: «كنت في ميعة العمر يومذاك، وكنت سعيدا وفخورا بنجاحي الصغير، كنت ذات يوم أتنزه معها في وسط مواقعنا، في نواحي تاند، فخطر لي فجأة أن أريها مشهد حرب صغيرة وأمرت بالقتال، فكان النصر حليفنا، إلا أن الأمر كان مجردا من نتيجة؛ لأن القتال كان وليد هوى لا غير، مع أنه لم يخل من بعض القتلى الذين ذهبوا ضحية ذلك الهوى الفارغ، فيما بعد، كلما تذكرت ذلك العمل وبخت نفسي عليه.»
إن حوادث 9 ترميدور
1
أوقفت نابوليون موقتا في الميدان الذي ظهرت فيه طلائع نجاحه؛ إذ إن علائقه مع روبسبيير قد اشتبهت على الرجعيين، وإذ إن حاسديه على مجده الطالع قد مهدوا الطريق لخذلانه، فمنع عن مواصلة أعماله وأوقف بأمر من ألبيت ولابورت وسالسيتي الذين عزوا إليه جريمة بسبب السفر الذي كان قد قام به إلى جنوا.
صرح بأنه غير أهل لثقة الجيش وعزل، إلا أنه لم يسكت عن هذا السقوط وهذه الشكوى، فأنشأ مذكرة رفعها إلى الوكلاء الذين أوقفوه ، تضمنت ذلك الإنشاء السامي القوي الذي أعجب به بعد ذلك في جميع خطبه وإنشاءاته، ندرج هنا بعض مقاطع من تلك المذكرة النفيسة: «إنكم أوقفتموني عن أعمالي وصرحتم بعزلي ...
فها أنذا مهتوك الحرمة من غير محاكمة، أو محاكم من غير أن يصغى إلى دفاعي.
إن في المواقف الثورية أمرين: الشكوك وحب الوطن ... ففي أية مرتبة يراد أن أكون؟
ألم أكن منذ بدء الثورة متعلقا بالنظم؟
ألم أشاهد دائما في الحروب تارة ضد الأعداء الداخليين وتارة ضد الغرباء؟
لقد ضحيت بمقاطعتي، وهجرت مصالحي، وفقدت كل شيء في سبيل الجمهورية.
لقد خدمت في طولون خدمة ممتازة وأكسبت جيش إيطاليا أكاليل الغار بأخذ ساورغيو وأونيل وتانارو ...
لقد كان تصرفي في اكتشاف مؤامرة روبسبيير تصرف رجل لم يتعود إلا السير على النظم.
إذن، فلا يستطيع أحد أن يجردني من لقب محب للوطن.
لماذا يصرح بعزلي من غير أن يصغى إلي؟
بريء، محب للوطن، مفترى عليه، مهما كانت المقاييس التي تتخذها الجمعية فلا يمكنني أن أتشكى منها.
إذا صرح ثلاثة رجال أنني مذنب فلا أتظلم من الجمعية التي تحكم علي.
أيحق للممثلين أن يضعوا الحكومة في مأزقين: إما أن تكون ظالمة، وإما أن تكون غير صالحة للسياسة؟
أصغوا إلي، واعدلوا عن الظلم الذي يحيط بي، وأرجعوا إلي إكرام المحبين للوطن ...
إذا بقي الأردياء، ساعة بعد الآن، مصرين على أخذ حياتي فإني أنبذها كما نبذتها مرارا قبل الآن ... أجل، إن الأمر الوحيد الذي يشجعني على احتمال أثقال حياتي هو أنها قد تكون مفيدة للوطن.»
فهذا الاعتراض الشرعي، الذي انطوى على كل ما في بساطة الكلام من العزة والفخر، دعا الممثلين إلى التبصر في أنهم ينهجون مع رجل ذي قدر سام وخلق كبير وأنهم يجب أن يقنطوا من إذلاله واضطهاده من غير أن يعرضوا نفوسهم إلى مقاومته الشديدة المتواصلة، فعقد ألبيت وساليستي والجنرال دو ميربيون مجلسا فيما بينهم ورأوا من الحكمة أن يلغوا حكمهم إلى حين، فقرروا إطلاق حرية الجنرال بونابرت، قائلين: «إن معارفه الحربية قد تكون مفيدة للجمهورية .»
في غضون ذلك كانت الرجعة الترميدورية قد دفعت إدارة الجمعية الحربية إلى قائد مدفعية قديم يدعى أوبري، وكان نابوليون قد رفع من العسكرية وعين قائدا للمشاة ليذهب إلى الفانده فيقوم بخدمته هناك، فعندما وصل إلى باريس، ساخطا على تغيير مهين بحقه، غير مستعد لأن يقف ذكاءه لحرب عقيمة، أسرع برفع اعتراضاته إلى الجمعية العسكرية فبين أفكاره بكثير من الحمية والشدة، إلا أن أوبري ظل صلبا وقال لنابوليون: «إنك فتى ويجب أن يفسح السبيل للقدماء ...» فأجاب نابوليون: «إن من يشهد ساحات الحروب تدهمه الشيخوخة عاجلا»، ولم يكن رئيس الجمعية قد شهد النار بعد.
على أن هذا الجواب البديهي الحاد أغاظ أوبري بدل أن يرضيه فأصر على البقاء فيما كان عليه، أما الضابط الفتى، الذي لم يكن أقل تشبثا منه في عزمه، فقد آثر العزل على الإذعان للظلم.
الفصل الثالث
إن من الغرابة أن يرى قاهر أوروبا في الغد موقفا في وسط ميدانه، معزولا، وممحوا من قائمة القواد الفرنسيين جبرا، بإشارة من ميرلن دو دوه، وبرليه، وبواسي دانكلاس، وكمبا سيريس الذين سيجيء يوم يتبارون فيه بألوان الحمية والتمليق لينالوا بسمة رضا واستحسان من الضابط الفتى الذي كانوا فيما مضى ينهجون معه نهجا سيئا.
إلا أنه وجد بين رجعيي الترميدور رجل، لم يشأ أن تبقى مناقب بونابرت العسكرية مهملة، تلك المناقب الممتازة التي أبرزها في طولون.
كان هذا الرجل بونتيكولان، خلف أوبري، الذي، من غير أن يعرض نفسه لتوبيخ الحزب السائد، وظف نابوليون في عمل خطط المواقع.
على أن هذا المركز الخامل الذي لم ينطبق على سجية محارب جدير بالمجد وإضرام الفتن، ما لبث أن اعتبر فوق استحقاق الضابط الفتى الذي كانوا يعملون على إتلاف حظه وحطم سلاحه، فاسترجع ده لامانش الذي ناب عن بونتيكولان في رئاسة الجمعية العسكرية تلك الأحقاد القديمة التي كان أوبري متخلقا بها، وفقد نابوليون كل نوع من أنواع الخدمة.
كان من جراء ذلك أن يئس نابوليون من التغلب على ذلك الحسد وتلك الأحقاد المكينة، ولم يشأ من جهة أخرى أن يخنق تحت صدمات الغباوة والحماقة كل ما كان يشعر به من المقدرة السياسية والعسكرية، فألوى بنظره فترة عن أوروبا ليشخص به إلى الشرق.
كان بحاجة إلى حظوظ كبيرة تساعده على هذا العمل، إلا أن الطبيعة كانت قد أبدعته أهلا لكل عمل كبير وتحقيق ما يرغب فيه، وإذا كانت فرنسا تأبى عليه ذلك فالشرق يمنحه إياه.
ملأت هذه الأفكار مخيلة نابوليون فأنشأ مذكرة ليفهم الحكومة الفرنسية أنه من مصلحة الجمهورية أن تساعد على إنماء وسائل الدفاع عن فرنسا ضد مقاصد الممالك الأوروبية الطماعة وتجاربها المغيرة، جاء في المذكرة: «إن الجنرال بونابرت الذي ما زال منذ حداثته يخدم المدفعية، والذي قادها في حصار طولون وفي موقعتين من مواقع جيش إيطاليا يمتثل اليوم لدى الحكومة لتسمح له بالمضي إلى تركيا بوكالة من الحكومة ...
إنه سيعمل لمصلحة وطنه في هذا الميدان الجديد، فإذا قيض له أن يشدد قوى الأتراك، ويحكم صيانة قلاعهم، ويرمم ما تداعى منها، فيكون قد أدى لبلاده خدمة صحيحة.»
قال السيد ده بوريين: «لو وضع أحد كتاب الحرب كلمة كلمة «منح» تحت هذه المذكرة لغيرت هذه الكلمة وجه أوروبا.» إلا أن هذه الكلمة لم توضع، وبقي نابوليون خاملا في باريس، محكوما عليه بالبطالة من قبل السلطة، ولكن الحكمة كانت تهيئه لأوامر الثورة.
لم تدعه الثورة ينتظر طويلا. أفاق الملكيون، وقد شجعتهم الرجعة الترميدورية، فتسللوا إلى مداخل الأقسام الباريسية ودفعوها إلى التمرد على الاتفاقية، فكان الفوز الأول للمتمردين.
إن الجنرال مينو الذي اتهم بالخيانة، وكان قد تحقق ضعفه فأظهر تساهلا محسوسا، هو الذي سهل لهم هذا الفوز، وكان عليه أن يشتت شملهم ويخضعهم، أما زعماء الاتفاقية، الذين كانوا يعرضون نفوسهم بشدة لخطر الملكيين، فقد تذكروا عندئذ، بالرغم من غضبهم على الجاكوبيين،
1
ولكيلا يجزعهم انتصار الفئة المضادة للثورة، أنهم اضطهدوا وسجنوا فئة من الوطنيين المخلصين، الذين يستطيعون في مثل هذه الأحوال الخطرة، أن يكونوا مساعدين أشداء.
عند هذا سمع الجمهوريون المضطهدون نداء مضطهديهم، فأسرعوا إلى السلاح ليتلافوا الخطر الداهم، إلا أن هذا الجيش الفجائي كان بحاجة إلى قائد بعد أن سقط مينو ووضع قيد التوقيف، وبعد أن عين باراس لرئاسة ذلك الجيش وظهر عجزه عن قيادته، غير أن باراس هذا أتاح له الفكر الصائب أن يفهم موقفه العاجز، فطلب معاونا له أخبر منه بمهنة الحرب، وعين الجنرال بونابرت، فوافقت الاتفاقية على هذا التعيين بأمر منها، وقيض لنابوليون أن يسمعه من على المنابر العمومية، التي كان قد أسرع إليها ليشهد عن قرب سلوك الجماعة الذين يقبضون بيدهم على مقدرات الجمهورية.
بقي نابوليون يشاور نفسه مدة نصف ساعة تقريبا بين أن يقبل أو أن يرفض ذلك المنصب المهم؛ إذ إنه لم يكن ليرضى أن يحارب ضد الفانده، ولم يكن من السهل عنده أن يعزم من غير تردد على تصويب مدافعه على صدور الباريسيين، قال نابوليون في مذكراته التي كتبها في سنت هيلين ما يلي: «كنت أقول في نفسي: ولكن إذا سقطت الاتفاقية ماذا يحل بحقائق ثورتنا الكبرى؟ إن انتصاراتنا العديدة ودمنا الذي كثيرا ما هرقناه ما هي اليوم سوى أعمال مخجلة، والغريب الذي كثيرا ما غلبناه ينتصر ويرهقنا باحتقاره ...» هكذا يكلل سقوط الاتفاقية جبين الغريب ويلصق العار والعبودية بالوطن، فهذا الشعور، والخمس والعشرون سنة، والثقة بقواه، وحظه، كل ذلك كان يدفعه إلى الأمام، فعقد النية على العمل ومثل أمام الجمعية.
هذا العزم الثابت جاء شؤما على العصاة؛ إذ إن نابوليون عرف أن يحقق مقاييسه تحقيقا حسنا، وقدر له ببعض ساعات حرب أن يطرد الجيش الباريسي من جميع مراكزه ويقضي على التمرد قضاء مبرما.
أما الاتفاقية فجازت منقذها بأن سمته قائدا عاما لجيش الداخلية، منذ ذلك اليوم صرح نابوليون بأنه سينظم قوى فرنسا العسكرية، ووضع قدمه على الدرجة الأولى من العرش قابضا بيده على قيادة العاصمة، تلك القيادة السامية العليا، يا له انقلابا في أربع وعشرين ساعة! في الثاني عشر من فندميير كان يعيش في البطالة وزوال الحرمة، يائسا من عودة ذكائه إلى العمل والنشاط، تدفعه العقبات والنوائب إلى الريبة بمستقبله، وقد أتعبته الموانع والعراقيل التي صدمته في المسرح السياسي، حتى إنه لم يجد مفيضا من القول، ساعة تناهى إليه زواج أخيه جوزيف من ابنة تاجر كبير من تجار مرسيليا: «يا له من عفريت سعيد!»
وفي الرابع عشر من فنديميير كان الأمر بالعكس، فقد توارت جميع تلك الإرادات المدنية التي لم يكن لها قسط من الثبات، وأصبح طريد الأمس قاهر الغد، أجل، أصبح مركز المؤامرات والمطامع جميعها كما كان روحا لجميع الفتن، لقد علق قاهر الأقسام الباريسية الفتى، على مرأى من الملكيين الذين كانت روح فرنسا تدفع علمهم إلى الوراء، وفي حين لم يكن فوق رأسه سوى جماعة شاخت سريعا في وسط ميدان الصدمات الدولية والمقاصل، لقد علق بكوكبه الطالع مقدرات الثورة التي لم يبق باستطاعة كوكب الاتفاقية الشاحب أن يقودها بذلك البريق الذي كان يزينه في أولى سنوات الحرية.
أول ما بدأ به نابوليون، هو استعمال نفوذه ومقدرته لإنقاذ مينو الذي كانت الجمعيات تعمل على إهلاكه.
لم يستطع المقهورون، بالرغم من إنصافه واعتداله، أن يغفروا له هزيمتهم، إلا أن انتقامهم اقتصر على إعطائه لقب «رامي القنابل».
كان الشعب الباريسي قد جرح في صميمه، وجاءت المجاعة تضع يدها على رجال الحرب الذين سببوها، قال السيد ده لاس كاز: «ذات يوم، في حين أن توزيع الخبز لم يكف حاجة الجمهور، وبينما كان الحشد الغفير مجتمعا على أبواب الخبازين، مر نابوليون تصحبه فرقة من ضباطه ليتفقد حالة شعبه، فتألب حوله جمع غفير من الرجال والنساء يصرخون بأعلى صوتهم طالبين الخبز، هائلة البدن امتازت عمن حولها بألوان الحركات والكلام، فكانت تصرخ مخاطبة هذا الجمع من الضباط بقولها: إن جميع هذه الرمانات التي على أكتافكم إنما هي دلائل الهزء بنا، فأنتم لا يهمكم إلا أن تأكلوا جيدا وتسمنوا، وسواء عندكم أمات الشعب جوعا أم لم يمت! فخاطبها نابوليون بقوله: انظري إلي أيتها المرأة، من منا أجسم من الآخر؟ - كان نابوليون أبعد ما يكون من السقم، وكان يقول عن نفسه: كنت في ذلك الحين قطعة من الرق - فاستولى على الجمهور ضحك شديد، وأتيح لفرقة الضباط أن توالي سيرها.»
في أثناء ذلك كانت فتنة التمردات الفنديمييرية
2
ومجموع الشكاوى المرتفعة من جميع الأحزاب ضد الاتفاقية قد أصدرت أحكامها بنزع سلاح الأقسام جميعها، بينما كانت هذا الأحكام على قيد التنفيذ، دخل فتى بين العاشرة والثانية عشرة من عمره على القائد العام، وتوسل إليه بأن يعيد إليه حسام والده الذي قاد سابقا جيوش الجمهورية، كان هذا الفتى أوجين ده بوهارني، فنزل نابوليون عند طلبه وأظهر له كل محبة وإكرام، فما كان من الفتى إلا أن بكى حنوا وذكر عطف الجنرال أمام والدته التي ظنت أنه من الواجب عليها أن تذهب إليه بنفسها فتشكره على هذا الصنيع.
لا شك في أن السيدة ده بوهارني، التي كانت في عنفوان الصبا، لم تحجب في تلك الزيارة اللطافة والجواذب التي امتازت بها في أظرف مجتمعات العاصمة، فأثرت هذه الأدلة في نابوليون أيما تأثير، حتى إنه أصبح بعد ذلك يتوق إلى مواصلة علائقه معها فيصرف سهر لياليه في منزل جوزيفين.
كان يجتمع في منزل السيدة ده بوهارني بعض حكام هؤلاء الأشراف القدماء من غير أن يزعجهم وجود «رامي القنابل» الصغير بينهم، وعندما ينفض الجمع، كان يبقى بعض الخاصة من الأصدقاء، كالسيد ده مونتيسكيو المسن والدوق ده نيفرنه ليتحدثوا في خلوة بأمر البلاط القديم، أو «ليجولوا جولة في فرسايل».
لم تكن علاقة نابوليون بالسيدة ده بوهارني علاقة وهمية، بل إن أشد عوامل الحب كانت تتغلغل في روحه، وقد وقف سعادته للتزوج من تلك التي كان يعبدها، ثم تم هذا الزواج في التاسع من شهر آذار سنة 1796.
كانت عبدة سوداء قد تنبأت لجوزيفين بأنها ستصير ملكة، وكانت هذه تجد لذة في ذكر ذلك من غير أن تظهر على وجهها دلائل عدم التصديق، وجاء اقترانها ببونابرت خطوة أولى في تحقيق هذه النبوءة.
كان شيرير، قائد عام جيش إيطاليا قد عرض للخطر عسكرية الجمهورية وشرفها بعدم كفاءته العسكرية وفساد إدارته؛ فإنه ترك بين أنياب التلف جياده فماتت جوعا، وكان الجيش في عوز شديد، لا يملك حطاما، حتى عجز عن الثبات في نهر جنوا، فلكي يوقف مجلس الشعب هذا العوز الشديد أرسل إلى الجيش قائدا جديدا، كان هذا القائد، لحسن الحظ، الجنرال بونابرت الذي ناب ذكاؤه عن كل شيء.
ترك بونابرت باريس في الواحد والعشرين من شهر آذار سنة 1796 مخليا قيادة جيش الداخلية لقائد مسن يدعى هاتري، وعزم على أن يلج إيطاليا من الوادي الذي يفصل أواخر قمم الألب والأبنين، وأن يفرق الجيش الأوسترو ساردي مرغما الملكيين على صيانة ميلان، والبيمونتين على التكفل بعاصمتهم، وبلغ نيس في أواخر آذار، عندما استعرض الجنود لأول مرة قال لهم: «أيها الجنود، إنكم عراة، معدمون، وإنهم مدينون لنا بكثير ولا يستطيعون إعطاءنا شيئا، إن صبركم والشجاعة التي تبدونهما بين هذه الصخور لمن الغرابة بمكان عظيم، إلا أنهما لا يقلدانكم مجدا، ولقد جئت لأقودكم إلى أخصب أراضي العالم، سيكون تحت تصرفنا مقاطعات غنية ومدن كبيرة، وهناك، تتمتعون بالغنى والشرف والمجد، جنود إيطاليا! أتفتقرون إلى شجاعة؟»
فأثارت هذه الكلمات مكمن الحمية من صدور الجيش، وأعادت إليه الأمل المفقود، فاغتنم القائد العام هذه السانحة ليطلب من مشيخة جنوا بصوت مرتفع عبور البوكشيتا ومفاتيح كافي.
في الثامن من شهر نيسان كتب إلى مجلس الشعب يقول: «لقد وجدت هذا الجيش مشتت النظام، في حالة تمرد دائم فوق ما هو عليه من الفاقة، ولكن ثقوا بأن النظام والسلام سيستتبان في القريب العاجل ... وعندما تقرءون هذه الرسالة نكون قد قاتلنا»، ولقد جرى كل ما توقعه بونابرت وأكده.
كان الجيش العدو بقيادة الضابط الممتاز بوليو الذي كسب شهرة في مواقع الشمال، فعندما تناهى إليه أن الجيش الفرنسي، الذي كان يدافع بصعوبة قبل الآن قد أتيح له فجأة أن يتأهب بجسارة لعبور أبواب إيطاليا، أسرع بإخلاء ميلان وهرول إلى نجدة جنوا.
عندما استتب نابوليون في نوفي، التي كان فيها قواد جنوده، قسم جيشه إلى ثلاث فرق، وأنشأ منشورا أرسله إلى مجلس الشعب قال فيه: إنه سيجيب عليه ثاني يوم الحرب.
وقعت هذه الحرب في اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه، وكانت فاتحة انتصارات القائد الجمهوري الذي أحب فيما بعد أن يجعلها «مصدر شرفه».
ووقعت حروب أخرى لم تكن إلا لتكسبه انتصارات، ففي الرابع عشر من هذا الشهر فاز في ميلليزيمو، وفي السادس عشر في ديغو، ثلاثة انتصارات في أربعة أيام كانت جوابا عظيما على منشور بوليو! وفي مساء موقعة ديغو، أدى بونابرت علما إلى مجلس الشعب عن أعماله المجيدة وخص بالثناء الرؤساء الذين كانوا تحت قيادته وهم جوبر، وماسينا، وأوجيرو، ومينار، ولاهارب، ورامبون، ولان؛ الذين أبلوا بلاء حسنا في تلك المواقع اللامعة، قال نابوليون: «لقد ربحنا في هذا النهار من سبعة إلى تسعة آلاف أسير بينهم ملازم عام وعشرون أو ثلاثون أميرالاي ... وأصيب الأعداء بعدد من القتلى يتراوح بين ألفين وألفين وخمسمائة رجل، سأطلعكم عن قريب على تفاصيل هذا العمل المجيد وعلى الرجال الذين امتازوا فيه بنوع خاص.»
في أثناء ذلك كتب الجنرال كوللي، قائد فرقة اليمين، إلى بونابرت يوسطه في رسول صلح يدعى مولين، وهو مهاجر فرنسي أوقف في ميرسيكو، ويهدده لمعاملته قائد الفرقة العسكرية برتيليمي، الذي أسره النمسويون، معاملة سيئة، فأجابه بونابرت: «إن المهاجر يا حضرة السيد، إنما هو ولد قاتل أباه وأمه لا يحمل خلقا يؤهله لأن يكون مقدسا، ولقد أساءوا إلى الشرف وإلى مراعاة حقوق الشعب الفرنسي، بإرسالهم السيد مولين ليفاوض في شروط الصلح، ثم إنك تعرف قوانين الحرب، فأنا لا أصدق أنك تهدد برتيليمي بالعذابات، وإذا كنت تخترق قوانين الحرب جميعها فتجيز لنفسك عملا فظيعا كهذا العمل، فاعلم أن جميع أسرى أمتك يعترضون عليك بأفظع ما في الثأر من الصرامة؛ إذ إنني أوفر لضباط بلادك الاحترام الجدير برجال الحرب البسلاء.» لم يكن تهديد بونابرت تهديدا باطلا؛ إذ إنه كان موقف قائد يعرف أن تحت تصرفه عددا كبيرا من الأسراء، ولقد رد على كوللي بهذا الجواب في الثامن عشر من شهر نيسان.
كانت نتيجة المواقع اللامعة التي اشتهر فيها جوبير وماسينا وأوجيرو، أن تجزأ أخريات الجيش العدو التي كان يقودها بوفيرا وتجبر على رمي سلاحها، وأن تهيأ انفصالات النمسويين والبييمونتيين، ويفتح في وجه جيوش الجمهوريين طريق ميلان وتورين المزدوج.
عندما بلغ القائد العام مرتفعات مونتيزيمو، التي شغلها أوجيرو يوم أرغم سيروريه كوللي على الخروج من معسكره، دل جيشه على القمم الفخورة التي كان الثلج يعلنها من بعيد، والتي كانت ترتفع كمنحدرات من الجليد جميلة فوق سهول بيينمونت الغنية، وقال لجنوده محدقا بنظره إلى تلك الجبال: «لقد اغتصب أنيبال
3
الألب، أما نحن فسنجول فيها كلها.»
في الثاني والعشرين فوز جديد، عبر نهر تانارو، ورفع متراس بيكوك، وأصبحت موندوفي ومخازنها تحت تصرف الجيش الجمهوري، وفي الخامس والعشرين أخذت شيراسك، وكان فيها مدافع، فعملوا على تقويتها بنشاط متواصل، وفي الثامن والعشرين عقدت فيها هدنة.
كان نابوليون، في الرابع والعشرين، قد أجاب الجنرال كوللي على رسالة أرسلها هذا إليه، بهذه الكلمات: «إن مجلس الشعب التنفيذي قد احتفظ لنفسه بحق المذاكرة في الصلح، إذن فيجب على مفوضي الملك سيدك أن يحضروا إلى باريس أو أن ينتظروا في جنوا المفوضين الذين قد تستطيع الحكومة الفرنسية أن ترسلهم إليها.
إن موقف الجيشين العسكري والأهلي يجعل كل توقيف بسيط مستحيلا، فمع اقتناعي بأن الحكومة ستمنح ملكك شروط صلح معتبرة، لا أقدر أن أوقف سيري استنادا إلى ظنون مبهمة، غير أن هناك وسيلة للوصول إلى غايتك، موافقة لمصالح بلاطك، وقد توفر هرق دم باطل معاكس للعقل ولقوانين الحرب: تلك الوسيلة هي أن تضع تحت تصرفي قلعتين من ثلاث قلاع كوني وألكسندري وتورتون، أترك الاختيار لك.»
فسلمت قلعتا كوني وتورتون إلى الجمهوريين وأضيفت عليهما قلعة سيفا وعقدت الهدنة.
كم أنجز من الأعمال في شهر واحد! أصبحت الجمهورية مطمئنة إلى مرافئها وحدودها لا يهددها مهدد، بل أصبحت بدورها تخيف الملوك الذين كانوا يهددونها فيما مضى، وهذا الانقلاب تم بسرعة مدهشة على يد جيش فان لم يكن لديه زاد ولا مدافع ولا خيالة، هذه الأعجوبة كانت نتاج نبوغ رجل عظيم، وروح الحرية التي أعطته جنودا وقوادا حريين به.
أصيب الغرباء بدهش عظيم، وقلق خاطر الجيش الفرنسي الذي كان طافحا بالإعجاب بقائده الفتى، في وسط تلك الانتصارات الغريبة؛ لأنه كان يفكر في ضعف الوسائل التي يملكها ليتابع مجريات ذلك الحظ اللامع، فلكي يبدد نابوليون ذلك القلق ويدفئ أيضا حماسة الجماهير، وجه إليهم من شيراسك هذا الالتماس الآتي: «أيها الجنود! لقد قيض لكم ستة انتصارات في خمسة عشر يوما، وربحتم واحدا وعشرين علما، وخمسة وخمسين مدفعا، وكثيرا من الحصون المنيعة، وغزوتم أغنى جهة من جهات بيمونت، لقد أسرتم خمسة عشر ألف محارب، وقتلتم وجرحتم أكثر من عشرة آلاف رجل، لقد كنتم قبل ذلك تحاربون لأجل صخور جرداء عززتموها بشجاعتكم، ولكنها كانت غير مفيدة للوطن، أما اليوم فإنكم تضارعون بخدمكم جيش هولاندا والرين المنتصر، لقد عوضتم عن كل شيء بعد أن كنتم معدمين، لقد ربحتم حروبا من غير مدافع، وعبرتم أنهرا من غير جسور، وقمتم بسير شاق من غير أحذية، وبتم لياليكم في الصحاري من غير خمر وخبز، إن جحافل الجمهورية وجنود الحرية هم وحدهم جديرون بمقاساة ما قاسيتم، فالوطن العارف الجميل مدين لكم بخيره وسعادته، وإذا تفاءلتم بموقعة 1793
4
الخالدة؛ فإن انتصاراتكم الحاضرة تتفاءل بألمع منها.
إن الجيشين اللذين كانا يهجمان عليكم بجسارة وجرأة يهربان من وجهكم اليوم، والرجال الأردياء الذين كانوا يضحكون من فاقتكم ويفرحون في قلوبهم لفوز أعدائنا أصبحوا اليوم خجلين مضطربين، ولكن، أيها الجنود، يجب ألا أكتمكم أنكم لم تعملوا شيئا حتى الآن لأن أمامكم بعد أعمالا عظيمة، فلا تورين تخصكم ولا ميلان، ورماد منتصري تاركين لا تزال تدوسه قتلة باسيفيل! لقد كنتم مجردين من كل شيء في بدء المعركة، وهو ذا أنتم مزودون بكل شيء، إن المخازن التي أخذتموها من أعدائكم لكثيرة العدد، ولقد وصلت إلينا مدفعية الحصار.
أيها الجنود! يحق للوطن أن ينتظر منكم أعمالا كبيرة، أتحققون أمله؟ إن الموانع الكبرى قد اخترقت كلها، ولكن لا يزال أمامكم حروب تشهرونها، ومدن تملكونها، وأنهر تعبرونها، أفينا من تخونه شجاعته؟ أفينا من يؤثر العودة إلى قمة الأبينين والألب ليسمح بأناة لعنات هؤلاء العساكر العبيد ؟ لا! ليس بين منتصري مونتينوت، وميليزيمو، وديغو، وموندروفي من يقدم على ذلك، إنكم جميعا تضطرمون لتحملوا بعيدا مجد الشعب الفرنسي، إنكم جميعا ترغبون في إذلال هؤلاء الملوك المتصلفين الذين كانوا يعزمون بجسارة على إعطائنا الحديد، إنكم جميعا ترغبون في نص سلام مجيد يعوض على الوطن ضحاياه العديدة، أيها الأصدقاء! إني أعدكم بهذا الفتح، ولكن هناك شرطا يجب أن تقسموا على تتميمه: هو أن تحترموا الشعوب التي تنقذونها، وأن تقمعوا النهب المشين الذي لا يندفع إليه إلا الأشرار صنيعة أعدائكم، وإلا فلا تصبحون منقذي الشعوب بل بلاياها، لا تصبحون شرف الشعب الفرنسي وينكركم! فانتصاراتكم، وشجاعتكم وفوزكم، ودم إخوتنا الذين ماتوا في الحروب، كلها تفقد حتى الشرف والمجد، وأما أنا والقواد الذين استوت لهم ثقتكم فإننا لنخجل أن نقود جيشا لا نظام له ولا رادع، ولا يعرف قانونا إلا القوة، إلا أني، استنادا إلى السلطة الوطنية وإلى قوتي المؤسسة على العدالة والقانون، سأعرف كيف أجعل ذلك العدد القليل من الرجال الجبناء، الضعفاء القلوب، يحترمون شرائع الإنسانية والشرف التي يدوسونها بأقدامهم، إنني لن أطيق على نفسي أن أرى بعض اللصوص يلطخون أكاليل الغار المتلألئة على جباهكم، وسأنفذ تنفيذا مطلقا القانون الذي نظمته، فالناهبون يعدمون بالرصاص، ولقد جرى ذلك لكثيرين حتى الآن!
شعوب إيطاليا! إن الجيش الفرنسي قادم ليحطم قيودك: فالشعب الفرنسي هو صديق الشعوب كلها، تعالوا إليه بثقة ورجاء، وأيقنوا أن أملاككم ودينكم وعاداتكم تبقى محترمة، إننا نحارب كأعداء كرماء، ولا تنال إلا من الظالمين الذين يستعبدونكم.»
كان هذا الكلام يبشر في نابوليون بأكبر من القائد الكبير، كان يبشر برجل الأمة والسياسي الماهر الذي شعر بأن الحظ سيرفعه إلى قمة «المنتصر الشارع»، والذي يسعى إلى تهييج ميول الشعب نحوه، كما يسعى إلى استمالة إعجابهم بأن ينادي عليهم بإنقاذهم ومعاقبة الناهبين واحترام دينهم وعاداتهم.
كان نابوليون على قيد عشرة فراسخ من تورين
5
يتكلم بتلك الثقة العظيمة ساعيا إلى التمكن من إيطاليا، فريع ملك سردينيا من تلك الكلمات وحث على المخابرة، فجرت المفاوضات الأولى عند أمينه سالماتوريس الذي صار فيما بعد وكيلا لقصر بونابرت، والهدنة التي أعلنا عنها صودق عليها في شيراسك تحت هذا الشرط وهو أن يترك ملك سردينيا المؤامرة بأسرع ما يمكن، وأن يرسل رسول صلح إلى باريس ليفاوض بالصلح النهائي، وكل ذلك نفذ بدقة عاجلة، أرسل الملك السردي الكونت ريفيل إلى باريس، مزودا بتعليمات ملؤها محبة للسلام، أما نابوليون، فقد كان أرسل إلى العاصمة، رئيس الخيالة مورات مفوضا من قبله بأن يحمل خبر الانتصارات التي أعلنت فاتحة الموقعة، وكتب مخاطبا مجلس الشعب: «تستطيعون أن تنصوا بكل ما في السيادة من القوة شروط الصلح لملك سردينيا ... وإذا كان قصدكم يرمي إلى خلعه عن عرشه، فيجب أن تلهوه وتخبروني عقيب ذلك فأستولي على فالانس وأزحف إلى تورين، وعندما أنتهي من مقاتلة بوليو، أرسل اثني عشر ألف رجل إلى روما ...»
فرحب وكلاء الشعب بهذا الخبر وهللوا له، وأعلنوا للمرة الخامسة في ستة أيام أن جيش إيطاليا قد استحق ثناء الوطن استحقاقا حسنا، وجاء الصلح مع ملك سردينيا يضيف على سرور الشعب سرورا آخر، فقد عقد في الخامس عشر من شهر أيار بشروط ملائمة لمصالح فرنسا.
وإذ لم يبق على بونابرت إلا محاربة الملكيين، أخذ يتساءل عما إذا كان من الواجب أن يحرس خط تازين، أو يحمل على الأديج بتلك العجلة الجريئة التي جعلته بأيام قلائل سيدا على أجمل مقاطعات المملكة السردية.
لقد ترك لنا في مذكرة من مذكرات القديسة هيلانة الأسباب التي كانت تتنازع بين الرأي الأول والثاني، أما الأول فلم يكن يصلح، لا لموقف الجمهورية الناشئة التي كانت بحاجة إلى تخويف المؤامرة بصدمات شديدة ومعجزات متواصلة، ولا للقائد الفتى الذي كان خلقه وطمعه يدفعانه إلى النيات التي كانت تتطلب جرأة ونشاطا وتعرض نصيبا وافرا من الصعوبة والجلال، فاندفع نابوليون إلى الأمام بعد أن كتب إلى مجلس الشعب يقول: «إني زاحف غدا إلى بوليو، فسأرغمه على عبور البوثانية، وأعبره بدوري على الأثر، سأستولي على لومباردي كلها وأرجو من الآن إلى أقل من شهر أن أكون على جبال تيرول، فألقى جيش الرين وأحمل الحرب إلى البافيير.»
في التاسع من شهر أيار كتب إلى المدير كارتو يقول: «لقد عبرنا البو، وبدأنا بالموقعة الثانية وبوليو قلق جدا، إنه لا يجيد الحساب قط، فيقع دائما في الشرك الذي ينصب له، قد يريد أن يشهر حربا فهذا الرجل يملك جرأة الغضب لا جرأة الذكاء ... فوز واحد بعد ونصير أسياد إيطاليا ... إن الذي أخذناه من الأعداء لا يحصى عدده ... فأنا مرسل إليكم عشرين رسما من ريشة أكابر الرسامين، من كوريج وميكل أنج.
إنني مدين لكم بشكر خصوصي لما تبدونه من الالتفات نحو امرأتي، إنني أوصيكم بها، فهي محبة للوطن ومخلصة، وأحبها حتى الجنون.»
في اليوم الثاني تم الفوز الذي كان بونابرت يتوقعه لامتلاك إيطاليا، فجعل خالدا اسم بودي التي ربحها الجمهوريون.
جاء ربح هذه الحرب مقدمة لفتح لومباردي، وفي أيام قلائل وقعت بيزيفيتون وكرتميون وجميع مدن ميلاني الكبرى في يد الجيش الفرنسي.
في وسط الخيام، ومن خلال قرقعة السلاح، كان نابوليون الذي خيل للبعض أنه رازح تحت مشاغله الحربية والسياسية، يبدي اهتماما بالفنون ويسأل مجلس الشعب وكالة أساتذة فنانين يجمعون الأشياء الثمينة التي يضعها الفتح تحت تصرفهم، ورئي فيما بعد، يرفض كنوزا كان يستطيع أن يجعلها ملكه الخاص؛ ليحفظ رسما من كوريج كان يود أن يزين به المتحف الوطني.
لم يكن يخص بالتفاته الفنون الجميلة فحسب فيسعى إلى ترقيها وإنمائها ويتوقع منها فائدة، بل كان كل ما يتعلق أمره بالذكاء، بترويض الآداب والعلوم، بمسائل الرقي العصري يجد مكانا رحبا في مخيلته العظيمة، وبعد خمسة عشر يوما من عبور البو، بين دوي مدافع لودي ودخان معسكر مانتو، كان منتحيا جهة منفردة ليكتب إلى المهندس الشهير والعالم أورياني هذه الرسالة الشهيرة:
إلى المواطن أورياني
إن العلوم التي تشرف العقل الإنساني، والفنون التي تزين الحياة وتحول الأعمال المجيدة إلى الأجيال يجب أن تكون معززة في الحكومات الحرة، وإن رجال النبوغ جميعهم، وكل الذين أوتوا مقاما في جمهورية الآداب، إنما هم إخوة مهما اختلفت المدن التي رأتهم يولدون.
كان العلماء في ميلان لا يتمتعون بالمراعاة التي هم جديرون بها، فكانوا ينزوون في أعماق مصانعهم ويرون نفوسهم سعداء بأن الملوك والكهان لا يريدون بهم شرا، أما اليوم فقد انقلبت الحالة وأصبحت الفكرة حرة في إيطاليا، ولم يبق ديوان تفتيش، ولا ظلم، ولا عذاب، إنني أدعو العلماء إلى عقد اجتماع، فيبسطون لي نظراتهم في الوسائل التي يرونها موافقة لإحياء العلوم والفنون الجميلة حياة جديدة، كل الذين يرغبون في الذهاب إلى فرنسا ينالون هناك كل إكرام وترحيب، فالشعب الفرنسي يدفع لأجل الحصول على عالم رياضي أو رسام شهير أو رجل ممتاز، مهما كان نوع عمله، أكثر مما يدفع للحصول على أغنى مدينة في العالم.
كن دائما، أيها المواطن، عضدا لهذه الآراء إلى جنب العلماء الممتازين في الميلاني.
بونابرت
إلا أن هذا الذوق، وهذا الميل الطبيعي، وهذه الغيرة التي كانت تهتم بكل شيء وتذيع مجموع الذكاء، وإن كانت تملأ صدور أصدقاء فرنسا وأعدائها بالدهشة والإعجاب، إلا أنها لم تكن إلا لتوحي بعض الغموم إلى الحكومة الخائفة التي كانت تريد الجمهورية يومذاك.
كان مجلس الشعب يشعر بخلفه في منتصر مونتينوت ولودي، وكان يرغب في إبعاد افتتاح تلك الخلفية قدر استطاعته، فأخذ يحاول إعطاء مساعد للذي كان قد برهن بسلسلة انتصارات غير منتظرة أنه يعرف كيف يعمل وينتصر وحده، أما نابوليون فلم يخطئ قط في اعتقاده بأنهم يرغبون في ضم كيلليرمان إليه، فكتب رسالة إلى كارنو الذي كان يحترمه احتراما شديدا لما توسم فيه من الخلق الطيب والمعارف العالية يفضي إليه بعدم رضاه عن ذلك الانضمام. قال: «إنني أعتقد أن انضمام كيلليرمان إلي في إيطاليا يفقد كل شيء، إنني لا أستطيع أن أخدم مختارا مع رجل يظن نفسه أول قائد في أوروبا، ثم إني أعتقد أن قائدا سيئا أفضل من قائدين صالحين، فالحرب هي كالحكومة، إنها مسألة ذوق.»
بقي نابوليون يعمل بحسب نظرياته الخاصة وينفذ خطته، وكان قد دخل إلى ميلان دخول المنتصر في الخامس عشر من شهر أيار، في حين كان يباشر في باريس بعقد الصلح الذي كان قد طرحه بنفسه على سردينيا ومونتينوت وديغو وميلليزيمو وموندوفي.
لم يجرؤ مجلس الشعب على تحقيق الغاية من هذا الانضمام، فسمي كيلليرمان حاكما عاما للبلدان المتخلى عنها لفرنسا، بمقتضى الاتفاقية الأخيرة مع الجلالة السردية، وحفظ بونابرت لنفسه، من غير مقاسمة، القيادة العامة لجيش إيطاليا.
كان أول ما اهتم به أن يحمل مركز أعماله إلى الأديج،
6
وأن يوطد حصار مانتو، في ذلك الوقت كان الجيش الفرنسي لا يشتمل على أكثر من ثلاثين ألف رجل، ففكر في فيينا بأن ينجلي ورمسر عن شواطئ الرين، ويرسل إلى إيطاليا مع مدد من ثلاثين ألف رجل من خيرة الجند.
لم يكن نابوليون، من جهته ليجهل أن الحروب اليومية والمرض تنتهي بجعل جيشه، الذي أصبح ضعيفا، قليل العدد بالنسبة إلى الملكيين، بيد أنه لم يقف فترة عن مطالبة مجلس الشعب بإرسال عساكر جديدة إليه، وعن الإفاضة إليهم بأن جيش الرين قد عمل عملا عظيما برجوعه إلى العداوة مرة أخرى.
بعد موقعة لودي بأيام قلائل كتب نابوليون إلى كارنو يقول: «يخيل إلي أن ستنشب معركة على الرين، فإذا بقيت الهدنة لا يعتم أن ينسحق جيش إيطاليا، وتصبح الجمهورية مضطرة على التوجه إلى قلب البافيير أو النمسا المذهولة لتمضي معاهدة الصلح مع الثلاثة الجيوش المتحالفة.»
كان نابوليون مصيبا في طلب المساعدة لجيوش الرين وسامبري-موز التي وعد وعدا صريحا، عند رحيله من باريس، بأنه سينالها في منتصف نيسان، إلا أن هذه الجيوش لم تبدأ بالتحرك إلا في أواخر حزيران، عندما أتيح لورمسر أن يصل مع مدده إلى إيطاليا.
إن الذي طلبه القائد الفرنسي لم ينله بسهولة؛ فمجلس الشعب بقي أصم عن إلحاحه، إما عن تعذر وإما عن سوء طوية، وهكذا اضطر على الوقوف في وجه جيش مؤلف من مائة ألف مقاتل بجيش مؤلف من ثلاثين ألفا، إلا أن ذكاءه وحظه لا يتركانه في مثل هذا الموقف، فأخذ يتصور خطة للهجوم يستطيع بها أن يفرق الجيوش الثلاثة ويغير عليها واحدا بعد الآخر ، جاء النجاح الباهر محققا فكرة القائد الكبير، المعضود بالذكاء وبشجاعة القواد والعساكر الجمهوريين.
بينما كان ورمسر يعتقده محتلا أمام مانتو، أفلت هو من حصار هذه الجهة وزحف بسرعة البرق من بو إلى الأديج ومن شييسا إلى منسيو فكثر ونما، ورأى نفسه في الوقت نفسه مستقبلا جميع الأقسام العدوة، فقاتلها، وبددها، وقضى عليها في حروب متتالية سميت «موقعة الأيام الخمسة»، جرى كل ذلك في سالو، ولونادو، وكاستيكليون وهي أتلف تلك المواقع، جاء في خلاصة هذه الموقعة العجيبة، التي كتبها القائد المنتصر في ساحة الحرب وأرسلها إلى مجلس الشعب في التاسع عشر من ترميدور عام 4 (6 آب 1796) هذه التفاصيل الآتية: «منذ أيام كثيرة وصل المدد المؤلف من عشرين ألف رجل الذي أرسله الجيش النمسوي إلى جيش إيطاليا فضم إلى عدد كبير من الجنود وعدد كبير آخر من الجحافل جاء من داخل النمسا فجعل هذا الجيش ذا هيبة عظيمة، وكان الرأي العام أن النمسويين يصبحون قريبا في ميلان ...
عندما نزل العدو من تيرول إلى الأديج عن طريق بريسيا جعلني في الوسط، ولكن الجيش الجمهوري، وإن كان قد ظهر ضعيفا أمام أقسام العدو، إلا أنه كان يستطيع أن يقاتل كلا منها على حدة، كان من الممكن، إذا تراجعت بسرعة، أن أحيط بالقسم العدو المنحدر من بريسيا وآخذه أسيرا ثم أقاتله كله وأعود من هناك إلى المنسيو فأقاتل ورمسر وأرغمه على عبور التيرول مرة أخرى، إلا أنه كان ينبغي لإجراء ذلك، أن نستولي في مدة أربع وعشرين ساعة على حصار مانتو الذي كان على وشك أن يؤخذ، وأن نعود حالا فنعبر منسيو ثانية ولا ندع للأقسام العدوة فرصة لإحاطته، شاء الحظ أن يبتسم لهذه الخطة، ولقد جاءت مواقع ديزانزانو، وسالو، ولونادو، وكاستيكغيون نتيجة واضحة لها.
في اليوم السادس عشر، عند مطلع الصباح، وجدنا أنفسنا مهيئين؛ فلقد عهد إلى القائد غيو الذي على يسارنا أن يهاجم سالو، وإلى القائد ماسينا الذي في الوسط أن يهجم على لونادو، وإلى القائد أوجرو الذي كان إلى اليمين أن يهجم من كاستيكليون، أما العدو، فبدل أن يهجم عليه، هجم هو على حرس ماسينا الذي كان في لونادو، فأصبح الحرس محاطا والقائد أسيرا، وأخذ العدو منا ثلاثة مدافع، فلم أتردد عند ذلك أن هيأت الفرقتين الثامنة عشرة والثانية والثلاثين، وفي حين كنا نعمل على خرق العدو، كان هذا يتسع بزيادة ليحيط بنا حتى خيل إلي أن حركته هذه ستضمن له النصر المحتم.
أرسل ماسينا بعضا من الجنود إلى أجنحة العدو ليؤخروا سيرها، فعندما وصلت الفرقة الأولى إلى لونادو قهرت العدو، وأتيح للفرقة الخامسة عشرة أن تسترجع مدافعنا المأخوذة.
وما هي إلا فترة حتى كان العدو مشتتا تشتيتا عظيما، إلا أنه حاول أن يلجأ إلى المنسيو، فأمرت معاوني قائد الجند جونو بأن يستلم رئاسة قوادي ويطارد العدو ويقهره في ديزانزانو بأسرع ما يكون، فالتقى بالكولونيل باندير مع قسم من فرقته، إلا أن جونو الذي لم تكن غايته الهجوم من الوراء، عمل دورة من جهة اليمين، فجابه الفرقة، وجرح الكولونيل الذي كان بوده أن يأخذه أسيرا، وبعد أن قتل بيده ستة جنود، هوى في إحدى الحفر مصابا بست طعنات يقال: إنها غير خطرة.
كان العدو لاجئا إلى سالو؛ وبما أن سالو كانت بيدنا، قدر لنا أن نأسر تلك الفرقة التائهة في مطارح الجبال، في ذلك الوقت، زحف أوجرو إلى كاستيكليون واستولى عليها، لقد صرف النهار كله في شهر الحروب ضد قوات كانت تضاعف قواته، حتى أتيح له أن يقهر العدو قهرا تاما.
خسر العدو في ذلك النهار عشرين مدفعا، ألفين أو ثلاثة آلاف رجل بين قتيل وجريح، وأربعة آلاف أسير بينهم ثلاثة قواد ...
بقي ورمسر، طوال اليوم السابع عشر، يجمع بقايا جيشه، ويخرج من مانتو كل ما كان يستطيع إخراجه، ويعد بقايا ذلك الجيش للحرب في مطارح السهل بين قرية سكانيللو حيث عضد ميمنته والشييزا حيث عضد ميسرته.
لم يكن موقف إيطاليا قد بت بعد، فجمع فرقة خيالة من خمسة وعشرين ألف رجل، وخيل إليه أنه يستطيع أن يهز بها القدر مرة أخرى ، أما أنا فقد أعطيت الأوامر لجمع فرق الجيش كلها.
واتجهت بنفسي إلى لونادو لأقف على حالة الجنود الذين أستطيع أن أخرجهم منها، ولكن كم كانت دهشتي عظيمة عندما دخلت إلى هذا الوسط، فاستقبلت رسول صلح كان يحث قائد لونادو على الاستسلام، زاعما أنه كان محاطا من كل الجهات! كانت مراقب الحرس المختلفة تنبئني بأن كثيرا من الصفوف كانت تلحق بفرقة حرسنا الكبير، وأن طريق بريسيا إلى لونادو كانت مسدودة بجسر سان ماركر، فشعرت عندئذ بأن تلك الصفوف ليست سوى بقايا القسم المنشق الذي بعد أن تاه تجمع بعضه إلى بعض وأخذ يعمل على فتح طريق له.
كانت الظروف في أبعد ما يكون من التشويش، ولم يكن معي في لونادو إلا ألف ومائتا رجل تقريبا، فأحضرت رسول الصلح، وأشرت بإنزال العصابة عن عينيه، وقلت له: إنه إذا كان في توهم قائده أن يقبض على القائد العام لجيش إيطاليا فما عليه إلا أن يتقدم، وصرحت له بأنه إذا لم تلق فرقته السلاح في مدة ثماني دقائق، فلا أصفح بعد ذلك عن أحد مطلقا.
كان استغراب رسول الصلح لوجودي هنا شديدا جدا، وبعد فترة قصيرة ألقت الفرقة سلاحها، كانت محصنة بأربعة آلاف رجل ومدفعين وخمسين خيالا، وكانت قادمة من كافاردو تفتش عن مخرج تهرب منه، لم يقدر لها في الصباح أن تنفذ من سالو، فعالجت ذلك من لونادو.
في اليوم الثامن عشر، عند مطلع النهار، وجدنا أنفسنا مهيئين، إلا أنه صارت الساعة السادسة ولم تبد حركة بعد، فأشرت إلى الجيش بأن يعمل حركة تقهقر ليجذب العدو إلينا، في حين كان القائد سيروريه الذي كنت بانتظاره على أحر من الجمر، قادما من ماركاريو وقد حول إلينا ميسرة ورمسر كلها، فهذه الحركة حققت النتيجة التي كنا نتوقعها.
عندما أبصرنا فرقة القائد سيروريه التي كان يقودها القائد فيوريللا المعهود إليه بالهجوم على الميسرة، أمرت المساعد العام فيرديير بالهجوم على متراس كان العدو قد عمله في وسط السهل ليثبت ميمنته، وعهدت إلى مساعدي قائد الجحفل مارمون بأن يدير عشرين مدفعا من المدافع الخفيفة ويرغم العدو بنارها على التخلي لنا عن هذا المركز المهم، وبعد عدة إطلاقات نارية اضطرت ميسرة العدو على الجلاء التام.
أما أوجرو فقد هجم على مركز العدو المحصن ببرج سولفيرينو، وهجم ماسينا على ميمنته، وأما المساعد العام لوكليرك الذي كان على رأس فرقة الحرس الخامسة فقد زحف إلى نجدة فرقة الحرس الرابعة، وزحفت فرقة الخيالة بقيادة القائد بومون إلى ميمنة العدو لتعضد فرقتي المدفعية الخفيفة والمشاة، فكان النصر حليفنا في جميع هذه المواقع.
لقد غنمنا من العدو ثمانية عشر مدفعا، ومائة وعشرين صندوقا من الذخائر الحربية، وخسر قدر ألفي رجل بين قتيل وأسير، وتشتت الباقون تشتتا فظيعا، إلا أن جحافلنا، التي كان التعب قد بلغ منها مبلغا عظيما، لم تقو على اللحاق بها أكثر من ثلاثة فراسخ، ولقد قتل المساعد العام فرونتين: قتل هذا الرجل الشجاع تجاه العدو.
أما ورمسر فقد خسر في هذه الأيام الخمسة سبعين مدفعا وصناديق ذخائر مشاته جميعها، ومن اثني عشر إلى خمسة عشر ألف أسير، وستة آلاف رجل بين قتيل وجريح، وجميع الجحافل التي جاءت من الرين، وفوق ذلك، فقد تشتت قسم كبير من رجاله، سنضمهم إلينا بطريقنا في مطاردة العدو، وأما الضباط والجنود والقواد فقد أبدوا في هذه المواقف الصعبة شجاعة ما بعدها شجاعة.»
هذه الحوادث الغريبة المدهشة هيجت حماسة شعوب إيطاليا التي كانت قد جاهرت بميلها إلى الثورة الفرنسية، وصرع محازبو النمسا الذين دعاهم تغفلهم إلى إظهار غبطتهم لدى قدوم ورمسر، وإلى الاشتراك بفخفخة الملكيين الذين، استنادا إلى كثرة عددهم، كانوا يحتفلون سلفا بانكسار الفرنسيين وطردهم من شبه الجزيرة، إلا أن الدعاية الثورية، التي كانت منتشرة في بيمونت ولومباردي وغيرهما، قد صادفت عددا كبيرا من المتحزبين، وكان الميلانيون قد أظهروا تعلقا شديدا بالعلم الجمهوري، فأبدى لهم القائد العام عرفان الجميل بهذه الكلمات: «عندما كان الجيش يقاتل متقهقرا، كان بعض متحزبي النمسا وأعداء الحرية يعتقدونه مقهورا لا وسائل لديه، وعندما اتضح لكم أن هذا التقهقر ما كان سوى حيلة أظهرتم تعلقا بفرنسا، وميلا للحرية، ولقد أبديتم غيرة وخلقا استحققتم من أجلها احترام الجيش، وسيستوجبان لكم حماية الجمهورية الفرنسية.
إن جدارة شعبكم بالحرية لتزداد كل يوم، فهو في كل حين يكسب نشاطا وبأسا، وسيأتي يوم يظهر فيه على مسرح العالم محفوفا بالمجد والعظمة، تفضلوا بقبول شهادة استحساني ورضاي والدعاء الأكيد الذي يعمله الشعب الفرنسي ليراكم أحرارا وسعداء.»
لم تقتصر علاقة نابوليون بهذه الشعوب على تهنئات بسيطة، بل إنه استفاد من استعداداتهم الحسنة فأفادهم وأفاد الجمهورية الفرنسية، في حين كان ينظم الثورة ما وراء الألب بإنشاء الجمهوريات الترانسبودية والسيبودية، هذه المبدعات العظيمة، التي كان يبتدعها وهو يركض من ساحة حرب إلى أخرى، لم تكن لتمنعه عن أن يدفع الحرب إلى أبعد مراميها، فما كاد ينجو من الجيش الهائل الذي كان ديوان فيينا قد عهد إليه بطرد الفرنسيين من إيطاليا، حتى شرع ثانية بتعجيل حصار مانتو، الذي لم يتح لورمسر أن ينقض عليه ببعض جحافل وذخائر إلا في اليوم نفسه الذي سقطت فيه لينياغو (13 أيلول)، وبعد أن قهر في عشر حروب هي: 6 آب، في باشييرا؛ 11 منه، في كورونا؛ 24 منه، في بورغوفورت وكرفرنالو؛ 3 أيلول، في سيرافال؛ 4 منه، في روفيريدو؛ 5 منه، في ترانت التي سقطت؛ 7 منه، في كوفولو؛ 8 منه، في باسانو؛ 12 منه، في سيركا.
وثاني يوم دخوله إلى مانتو، تشتتت بقايا جيشه مرة أخرى في دو كاستيللي، وفي اليوم التالي أنهت موقعة سن جورج إتلاف الجيش الإمبراطوري، إلا أن حاشية رومسر لم تتخل عنه في ذلك الموقف الحرج، وكان إمبراطور النمسا يعتبره أكثر قواده خبرة وحذقا، ثم إنه كان يدرك أن مانتو إنما هي مفتاح ممالكه، فأجريت في فيينا جهود أخرى لتعويض نكبات الحملة الأولى وتهيئة ما كان الملوك والأريستوقراطيون الأوروبيون يسمونه إنقاذ إيطاليا؛ إذ ذاك نظم جيش إمبراطوري جديد مؤلف من ستين ألف رجل تحت قيادة المرشال دالفانزي وأسرع لنجدة مانتو.
لم يجد نابوليون لدى هذه الحركة الجديدة بدا من التأسف على كون نصائحه لم يعمل بها في الرين، حيث كانت القوات الجمهورية كافية لإجراء عمل نافع؛ إذ كان قد طلب نجدة ولم ترسل إليه، غير أنه وإن كان دائما يثق بنفسه وبجنوده، إلا أنه رأى من الضروري أن يوضح لمجلس الشعب عن مخاوفه من عقبى الموقعة الجديدة لكي يفهم الحكومة الفرنسية خطأها الفادح نحو جيش إيطاليا الذي أهملته في وسط انتصاراته العديدة.
قال: «أرفع إليكم علما بالأعمال التي حدثت منذ الواحد والعشرين من هذا الشهر، فإذا لم تكن مرضية فليس الخطأ على الجيش؛ إن عجزه وانحطاطه وإن كانا مدعومين برجال شجعان، إلا أنهما يدعوان إلى الخشية عليه، قد نكون على وشك فقدان إيطاليا إذ إن النجدات التي انتظرتها لم تصل إلي واحدة منها، وقد لا يفكر في أن نصيب إيطاليا وأوروبا يتوقف على هذه الظروف، لقد كانت السلطة في حركة دائمة ولما تزل، ألا إن الحماسة التي أبدتها حكومتنا في بدء الحرب لتستطيع وحدها أن تعطي فكرة عن المنهج الذي نهج في فيينا، فلم يكن يمر يوم إلا ويصل لنا فيه خمسة آلاف رجل، ومنذ شهرين ونحن في حاجة إلى نجدات، إذ لم يصل إلينا إلا جحفل من الفرقة الأربعين لم يتعود النار بعد، في حين أن جندية جيش إيطاليا القديمة تنهكها الراحة في الفرقة الثامنة، إنني أقوم بواجبي والجيش يقوم بواجبه، ونفسي مطعونة ممزقة إلا أن ضميري هادئ مطمئن، أرسلوا إلي نجدات! فجنودي اليوم لا يزيدون على ألف وخمسمائة.
إن جرحانا إنما هم صفوة الجيش؛ كل ضباطنا السامين وجميع قوادنا المنتخبين هم اليوم خارج الحرب، لا أستلم إلا العاجزين الذين لا يحملون في قلوبهم ثقة الجندي، ولقد أصبح جيش إيطاليا منهوك القوى، في أشد حالة من حالات الضنك، أما أبطال لودي، وميلليزيمو، وكاستيكليون، وباسانو فقد ماتوا في سبيل وطنهم أو هم في المستشفى، ولم يبق في الجيش إلا شهرتهم وفخرهم، لقد جرح جوبير، ولان، ولانوس، وفيكتور، ومورات، وشارلو، ودوبوي، ورامبون، وبيجون، ومينار، وشابران، أجل، إننا مهجورون في أطراف إيطاليا.
خسرت في هذه الحرب قليلا من الناس، ولكن هذا القليل إنما هو صفوة رجال لا يعوض عنهم، أما الباقون لدي من الشجعان فإنهم ليرون الموت لا يخطئ في وسط حوادث غير منقطعة وقوات ضعيفة عاجزة، وقد تكون ساعة أوجرو الشجاع، وماسينا الباسل، وبرتيه، و... على وشك أن تدق، وبعد ذلك! وبعد ذلك! ما يحل بهؤلاء البسلاء؟ هذه الفكرة تجعلني متحفظا، فلم أعد أجرؤ على مجابهة الموت! ولكن بعد أيام قلائل سنجرب عملا أخيرا، فإذا بسم لنا الحظ استولينا على مانتو وعلى إيطاليا.»
إن الأفكار الشؤمى التي كانت تخالج بونابرت لم تتحقق، وقيض للجيش الفرنسي أن يبتسم الحظ في وجهه، لم يحتج قاهر لودي إلى أكثر من أيام قلائل حتى قلب، بطنا إلى ظهر، جميع الآمال التي استطاع الحزب أن يبنيها على شهرة ألفانزي وعلى قوة جحافله العديدة، فقد انطلقت حرب، بقيت ثلاثة أيام، انتهت بفوز معركة أركول، التي أكدت تفوق الجندية الفرنسية التي ذهبت أمامها جهود قواد النمسا القدماء وجنودها الشيوخ كما تذهب الرياح، شعر نابوليون في تلك المعركة، بأن جنوده يترددون فترة أمام نار الأعداء الذين كانوا يشغلون مراكز هائلة، فقفز إلى الأرض، وأخذ علما، وانطلق به إلى جسر آركول
7
التي كانت الجثث متراكمة عليه بعضها فوق بعض، وصرخ قائلا: «أيها الجنود! ألستم شجعان لودي؟ إذن فاتبعوني!» وعمل أوجرو كما عمل بونابرت! فلم تذهب هذه القدوة الباسلة بلا تأثير على نتيجة المعركة، إذ إنها كانت السبب في خسران ألفانزي ثلاثين مدفعا وخمسة آلاف أسير وستة آلاف قتيل، أما دافيدو ويش فقد انحدر إلى التيرول ودخل ورمستر إلى مانتو.
انظروا الآن كيف أن قاهر جميع هؤلاء المحاريين الألمان كان يتناسى أتعابه وانتصاراته أمام العاطفة المتأججة التي كان يقفها لامرأته، فقد كتب إليها من فيرون يقول: «إنني عدت أخيرا إلى الحياة يا معبودتي جوزيفين، فالموت أصبح بعيدا عني ولا يزال المجد والشرف في حنايا قلبي، لقد قهر العدو في أركول، وغدا نتلافى حماقة فوبوا الذي أهمل ريفولي، وبعد ثمانية أيام تصبح مانتو بين أيدينا فيتاح لي إذ ذاك أن أعطيك ألف برهان عن الحب المضطرم الذي يجول في عروق زوجك، أشعر الآن بتعب خفيف، وساعة تعود إلي الراحة أتجه إلى ميلان، لقد استلمت كتابا من أوجين وهورتانس، فهذان الولدان هما في أبعد ما يكون من اللطف.
لقد أسرنا خمسة آلاف رجل، وقتلنا ستة آلاف من الأعداء، إلى اللقاء يا معبودتي جوزيفين، تذكريني دائما، أما إذا وقفت عن حب آخيلك،
8
او إذا برد قلبك في حبه فتكونين هائلة جدا وغير عادلة، إلا أني لا أشك قط في أنك ستبقين دائما حبيبتي، كما أني سأبقى دائما حبيبك الحنون، والموت، الموت يستطيع وحده أن يحطم اتحادنا الذي كونه الحب والعاطفة والميل، ألف وألف قبلة كلفة.»
وفي 29 برومير (19 تشرين الثاني)، أي ثالث يوم معركة أركول، قدم القائد المنتصر إلى مجلس الشعب علما عن تلك الموقعة العظيمة قال: «كنا رأينا من الموافق إخلاء قرية أركول، وقد توقعنا أن يهاجمنا العدو في مطلع الصباح، عندما برز الفجر الأول بدت طلائع الحرب في جميع الجهات، وقيض لماسينا، الذي كان إلى اليسار، أن يشتت الأعداء ويطاردهم حتى أبواب كالديرو، وأتيح للقائد روبير، الذي كان في سد الوسط مع الفرقة الخامسة والستين أن يتعجل الأعداء بالحراب ويملأ بالجثث ساحة الحرب، فأشرت إلى المعاون فيال بأن يزحف على شاطئ الأديج مع فرقة من الجند ليحول ميسرة العدو، إلا أن هذا البلد ذو حواجز منيعة، فلم يستطع المعاون الشجاع، بالرغم من وثوبه إلى وسط المياه، أن يعمل عملا كافيا، واضطررت أن أصرف ليلة 26-27 في إلقاء الجسور على القنوات والبطاح، حتى تسنى للجنرال أوجرو أن يعبرها مع فرقته، في الساعة العاشرة من الصباح كنا مهيئين: الجنرال ماسينا إلى الشمال، والجنرال روبير في الوسط، والجنرال أوجرو إلى اليمين، فقاتل العدو فرقة الوسط بشدة هائلة حتى قمعها، عند هذا، سحبت الفرقة الثانية والثلاثين ووضعتها في كمين في الغابات، وفي حين أوشك العدو أن يحول ميمنتنا، خرج القائد غارادن من كمينه فأخذ العدو من ورائه وأعمل فيه ذبحا هائلا، أما ميسرة العدو فقد كانت محصنة في بطاح إلى ميمنتنا، فأشرت إلى الضابط هرقل بأن يختار خمسة وعشرين رجلا من رفاقه ويزحف بهم نصف فرسخ على شاطئ الأديج، وبعد أن يعمل دورة البطاح التي تحصن ميسرة الأعداء يهوي بسرعة عظيمة على ظهر العدو نافخا بأبواق عديدة.
هذه الحركة نجحت نجاحا باهرا؛ وجدت فرقة المشاة في ذهول غريب فعرف القائد أوجرو أن يستفيد من هذا الموقف، إلا أن الفرقة بقيت تقاوم بالرغم من تقهقرها حتى فاجأتها فرقة من ثمانمائة رجل فشتتتها تشتتا، عند هذا، زحف الجنرال ماسينا الذي كان يرجع إلى الوسط قاصدا قرية أركول، فاستولى عليها وطارد العدو حتى قرية سان بونيفاسيو، ولكن الليل حال بيننا وبين مواصلة السير إلى الأمام ...
لقد أبدى القواد والضباط نشاطا وشجاعة لا مثيل لهما، ولقد قتل منهم بين اثني عشر وخمسة عشر رجلا، كانت المعركة هائلة جدا حتى لم تسلم ثياب أحد منهم من ثقوب الرصاص.»
إلا أن دالفانزي حاول أن ينهض من سقوطه مرة أخرى، فعاد مع بروفيرا عن طريق مضايق تيرول، على أن هذه المبادهة لم تكن إلا لتسبب انتصارات جديدة للجيش الفرنسي ولقائده؛ فإن موقعة ريقولي وموقعتي سان جورج والفافوريتا التي بقي النصر فيها أمينا للعلم الجمهوري أجبرت بروفيرا على الخضوع مع فرقته، وذلك على مرأى من ورمسر الذي سلم نفسه بعد ذلك في مانتو.
جاء في الأوراق التي ملأها بونابرت على قائده ده رووفيربلو في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من نيفوز عام 5 (17 و18 كانون الثاني 1797)، والتي تضمنت تفاصيل هذه الانتصارات الجديدة ما يلي: «في الرابع والعشرين، ألقى العدو جسرا في إنكياري ومرت عليه فرقة حرسه على مسافة فرسخ من بورتولينياغو، وفي الوقت نفسه، أعلمني القائد جوبير، أن جحفلا كثير العدد ينسل من مونتيانا ليحول وجهته إلى الكورونا، فأدركت الخطة التي اتخذها العدو، ولم أشك في أنه يريد الهجوم على فرقة ريفولي ومن ثم يصل إلى مانتو، فأرسلت في الليل القسم الكبير من فرقة القائد ماخنا، واتجهت بنفسي إلى ريفولي التي بلغتها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
لم أتردد ساعة وصلت أن أعدت القائد جوبير إلى مركزه الخطير في سان ماركو، وأشرت بتجهيز قمة ريفولي بالمدافع، ونظمت كل شيء، حتى إذا ما جاء الفجر أكون قد أعددت المعدات القاهرة فأمشي بنفسي إلى العدو.
ولما كان الفجر الأول تلاقى جناحنا الأيمن وجناح العدو الأيسر على مرتفعات سان ماركو، وكانت الموقعة في أبعد ما يكون من الهول، على أنه كان قد مر ثلاث ساعات على الموقعة، من غير أن يبرز لنا العدو جميع قواته، بعد ذلك، أبصرنا فرقة من الأعداء، كانت قد اجتازت شاطئ الأديج بعدد كبير من المدافع، تسير على خط مستقيم إلى ريفولي لتستولي عليها، فأشرت إلى قائد الخيالة لوكليرك بأن يهيئ نفسه للهجوم على العدو إذا تمكن من الاستيلاء على مرتفع ريفولي، وأرسلت قائد الكتيبة لازال مع خمسين من الخيالة ليأخذوا العدو من ورائه ويهجموا عليه هجوما شديدا، في الوقت نفسه، كان القائد جوبير قد أنزل من مرتفعات سان ماركو، بعض كتائب كانت تخوض مرتفع ريفولي، أما العدو، الذي كان قد صعد المرتفع وهوجم من جميع أطرافه، فقد ترك عددا غير قليل من الموتى وقسما من المدافع وآوى إلى وادي الأديج، وفي الوقت نفسه، كانت الكتيبة العدوة التي مضى عليها زمن طويل في الزحف إلينا لتقطع علينا خط الرجوع، قد اصطفت للحرب على رزز وراءنا، وأما أنا، فقد كنت احتفظت بالفرقة الخامسة والسبعين التي هجمت على الميسرة وشتتتها بسرعة غريبة، وما هي إلا مدة، حتى قدمت الفرقة الثامنة عشرة، في حين كان القائد قد تمكن من مركز وراء الفرقة العدوة التي حاولت أن تأخذنا، فعاجلت العدو ببعض إطلاقات من مدافع 12 وأشرت بالهجوم، وما هي إلا ربع ساعة أو أقل حتى سقطت تلك الفرقة المؤلفة من نحو أربعة آلاف رجل أسيرة في قبضة يدي.
صرفنا معظم ذلك الليل باستلام الأسراء من جميع الجهات، كان ألف وخمسمائة رجل يهربون بطريق غاردا، فأوقفهم خمسون رجلا من الفرقة الثامنة عشرة الذين ساعة أبصروهم مشوا إليهم بثقة تامة وأمروهم بإلقاء السلاح.
كان العدو لا يزال مستوليا على الكورونا إلا أنه لم يكن خطرا، وكان علينا أن نسرع بالزحف إلى كتيبة القائد بروفيرا الذي كان قد عبر الأديج في الرابع عشر من الشهر، فأرسلت إليه القائد فيكتور مع الفرقة السابعة والخمسين الباسلة، وأرجعت القائد ماسينا، الذي وصل إلى روفير بللو في الخامس والعشرين مع قسم من فرقته، وعندما رحلت، أشرت إلى القائد جوبير بأن يهاجم العدو في مطلع الصباح، إذا تجاسر هذا على البقاء في كورونا.
كان القائد مورات قد زحف طوال الليل مع فرقة من المدفعية الخفيفة حتى إذا كان الصباح بلغ أعالي مونتيبالدو التي تكتنف الكورونا، أما العدو، فبعد أن قاوم مقاومة شديدة، لم يجد بدا من الاندحار.
لقد أسرنا في موقعتي ريفولي ثلاثة عشر ألف رجل وغنمنا تسعة مدافع.»
وجاء في وصف مواقع سان جورج وأنكيازي وفافوريتا التي شهرت ضد القائد بروفيرا ما يلي: «في موقعة إنكياري الثانية تقدم قائد فرقة الرماحة النمسوية أمام فرقة الخيالة التاسعة وصرخ قائلا: «سلموا»، فأوقف المواطن دو فيفيه فرقته وصرخ في القائد العدو قائلا: «تقدم واقبض علي إذا كنت شجاعا!»
عند هذا توقفت الفرقتان، وانقض القائدان كل منهما على الآخر، فأصيب العدو بضربتي حسام، وتقاتلت الفرقتان، فأسفرت النتيجة عن انكسار فرقة الرماحة وأسرها برمتها ...
في السابع والعشرين، ساعة قبل طلوع النهار، هجم الأعداء على الفافوريتا في حين كان ورمسر يهجم على خطوط المحاصرة من سنت أنطوان، فقيض للقائد فيكتور وهو على رأس الفرقة السابعة والخمسين، أن يقهر كل من كان أمامه، واضطر ورمسر أن يعود إلى مانتو وهو يكاد يخرج منها تاركا ساحة القتال ملأى بجثث القتلة وأسراء الحرب، إذ ذاك أشار سيروريه إلى القائد فيكتور وفرقته السابعة والخمسين، بأن يتقدموا إلى الأمام لكي يحصروا بروفيرا في ضاحية سان جورج ويضربوا حلقة عليه، كانت صفوف الأعداء في بلبلة وتشويش، فالخيالة والمشاة والمدفعية كانت كلها مختلطة بعضها ببعض، فلم يثن الفرقة السابعة والخمسين حائل، فاستولت من جهة على ثلاثة مدافع، ومن جهة أخرى أنزلت خيالة العدو عن جيادها، في هذا الوقت، طلب القائد المحترم بروفيرا أن يسلم، وكان يثق بكرمنا وظل عند ثقته، فأوليناه التسليم مع شروط سأرسل إليكم تفاصيلها: ستة آلاف أسير بينهم جميع متطوعي فيينا، وعشرون مدفعا، تلك هي ثمرة هذا النهار المشهود.»
إذن فجيش الجمهورية قد ربح في مدة أربعة أيام ثماني مواقع وخمسة وعشرين ألف أسير، بينهم ملازم عام وقائدان ومن اثني عشر إلى خمسة عشر أميرالاي إلخ، وغنم عشرين علما، وستين مدفعا، وقتل أو جرح لا أقل من ستة آلاف رجل.
هذه البلايا العديدة هيأت ورمسر إلى تسليم لا مناص منه، وأفهمته أن حصار مانتو سينتهي أمره كما انتهت جميع مشاريع الجيش الجمهوري.
عندما وضعت مسألة التسليم على بساط البحث أرسل القائد كلينو معاونه الأول إلى القائد سيروريه، الذي كان في روفيربللو، والذي لم يشأ أن يصغي إلى أي طلب كان من غير أن يبلغه إلى القائد العام، فمر في خاطر نابوليون أن يحضر المفاوضة متسترا، فجاء إلى روفيربللو فالتف بمشلحه وجلس يكتب في حين كان كلينو وسيروريه يتناقشان، كان يعين شروطه التي سيقدمها إلى ورمسر، وعندما انتهى منها قال للقائد النمسوي الذي كان ولا ريب قد ظنه كاتبا بسيطا من فرقة الضباط: «لو كان لدى ورمسر مؤنة ثمانية عشر أو عشرين يوما لا غير وفاوض في أمر تسليمه لما كان استحق شرطا واحدا من الشروط المكرمة.» ثم أدى الورقة إلى سيروريه وهو يقول: «هذه هي الشروط التي أمنحه إياها، ستقرأ فيها أنني أهبه حريته الشخصية؛ لأني أحترم شيخوخته ومزاياه؛ ولأني لا أود أن يصبح ضحية أصحاب الدسائس الذين يعملون على إهلاكه في فيينا، فإذا فتح أبوابه غدا تبقى له الشروط التي كتبتها الآن، وإذا تأخر خمسة عشر يوما أو شهرا أو شهرين تبقى له أيضا الشروط نفسها، إنه يستطيع فيما بعد أن ينتظر حتى آخر قطعة من الخبز، إنني مسافر في الحال لأعبر البو، وزاحف إلى روما، لقد عرفت مقاصدي فاذهب وبلغها إلى قائدك.»
أما كلينو فإنه دهش دهشا عظيما لوجوده في حضرة القائد العام وطفح قلبه إعجابا وجميلا لما سمعه، فصرح أن ورمسر لم يبق لديه إلا مؤنة ثلاثة أيام لا غير، وأما المرشال ورمسر فإنه لم يكن أقل إحساسا من معاونه ساعة تناهى إليه ما حدث في مفاوضة روفيربللو، فأظهر معرفة جميل لنابوليون بأن أطلعه على مؤامرة تسميم كانت تعقد ضده في رومانية.
9
بعد ثلاثة أيام من تسليم مانتو اتجه نابوليون إلى إيطاليا مع فرقة من الجنود، ونشر في بولونيا في السادس من شهر شباط عام 1797 نداء نأخذ أوله: «إن الجيش الفرنسي سيدخل إلى أراضي البابا، وسيحمي الدين والشعب.
إن الجندي الفرنسي يحمل بيده حساما هو أكبر ضامن للنصر، ويرفع بالأخرى إلى مختلف المدن والقرى سلاما وحماية وأمانا ... فالويل للذين يحتقرونه أو يخدعهم بعض رجال خبثاء قتلة فيجرون إلى بيوتهم الحرب وأهوالها، وانتقام جيش قيض له في ستة أشهر أن يأسر مائة ألف رجل من أشد كتائب الإمبراطور، ويغنم أربعمائة مدفع، ومائة وعشرة أعلام، ويتلف خمسة جيوش ...»
لم تستطع مقاومة السدة الرسولية أن تكون شديدة، فأسرع بيوس السادس بطلب السلم إلى القائد الجمهوري فمنحه إياه بمعاهدة كتبت في التاسع من شهر شباط وتحت الشروط الآتية: أولا: يتخلى البابا عن جميع مطاليبه من أفينيون والكونتية الفينيسيانية، ثانيا: يتنازل إلى الأبد عن بولونيا وفيرار ورمانية للجمهورية الفرنسية، ثالثا: يتخلى عن جميع الأشياء الفنية التي يطلبها بونابرت، مثل أبولون لبيلفيدار، والتجلي لرافائيل إلخ ... رابعا: يرمم المدرسة الفرنسية في روما ويدفع ضريبة حربية قدرها ثلاثة عشر مليونا إما من فضة وإما من أشياء ثمينة، فأضاف البابا بيوس السادس على هذه الشروط، في الثاني والعشرين من شهر شباط، براءة ممتازة وهب فيها بونابرت لقب «ولدي العزيز».
إلا أن البلايا العديدة التي لحقت بالجيوش النمسوية، كانت قد أذلت وأحزنت ديوان البلاط النمسوي، من غير أن تقمع حقده على الثورة الفرنسية أو أن توحي إليه أفكارا سلمية، وبالرغم من الوهن الذي ألحقته به الحرب، بقي مصرا على خرق المقدر والهجوم ببقايا جيوشه العديدة على السلطة المنتصرة ، التي كثيرا ما شتتت كتائبه وقضت عليها أيام كانت هذه الكتائب في قمة سطوتها وآمالها، فأرسل الأرشيدوق شارل إلى إيطاليا ليستلم فيها القيادة العامة للكتائب الإمبراطورية ويعالج ترميم نكبات سلفائه.
ظن الأرشيدوق شارل أن بونابرت الذي كان مهتما بمعاقبة البابا لنقضه معاهدة بولونيا صحب معه قسما شديدا من جيشه، فأراد أن يستفيد من هذه الغيبة ليعجل هجومه، وأشار إلى القائد غيو بعبور البرنتا.
10
غير أنه انتبه بعد ذلك إلى خطئه؛ إذ إن نابوليون، الذي لم يكن قد صحب معه إلى إيطاليا إلا أربعة أو خمسة آلاف رجل، ظهر على شاطئ البرانتا، وصحب في أوائل آذار جيشه إلى باسانو التي نشر فيها النداء الآتي:
أيها الجنود
إن الاستيلاء على مانتو قد وضع أوزار موقعة أكسبتكم حقوقا خالدة على الوطن العارف الجميل.
لقد انتصرتم في أربع وثمانين موقعة، وأسرتم أكثر من مائة ألف رجل، وغنمتم من الأعداء خمسمائة مدفع وألفي بندقية وأربعة قطر جسور.
إن الضرائب التي فرضت على المدن التي غزوتموها قد أطعمت الجيش طوال الجهاد وصانته ودفعت حسابه، وفوق ذلك فقد أرسلتم ثلاثين مليونا إلى الوزارة المالية لإعانة بيت المال.
لقد زينتم متحف باريس بأكثر من ثلاثمائة رائعة من روائع إيطاليا القديمة والحديثة التي استوفت ثلاثين قرنا لإنتاجها.
لقد فتحتم في وجه الجمهورية أجمل جهات أوروبا، وجمهوريتا لومبارديا وترانسبادانيا مدينتان لكم بتحريرهما، إن الأعلام الفرنسية تخفق للمرة الأولى على شواطئ البحر الأدرياتيكي على بعد أربع وعشرين ساعة من مكدونيا القديمة، وملوك سردينيا ونابولي، والبابا والدوق ده بارم قد انفصلوا جميعهم عن عصبة أعدائنا وسعوا إلى اكتساب صداقتنا، لقد طردتم الإنكليز من ليفورن وجنوا وكورسكا ... ولكن لم تنهوا كل شيء بعد، فأمامكم قدر محفوظ، وعليكم وحدكم يلقي الوطن أعز آماله، وإنكم لتحققون تلك الآمال.
لم يبق في وجهنا من جميع الأعداء الذين اتحدوا ليخنقوا الجمهورية في مهدها إلا الإمبراطور لا غير، فهذا الأمير ينحط عن مرتبة سلطة عظمى ويستندي أكف تجار لندن، لم يبق له إرادة ولا سياسة إلا سياسة هؤلاء الجزارين الغدارين الذين، وهم غرباء عن مصائب الحرب، يبسمون بغبطة لأوجاع أوروبا.
إن المجلس التنفيذي لم يستبق شيئا ليلقي السلم في أوروبا، وإن مطاليبه المعتدلة لم تشعر بقوة جيوشه، إنه لم يستشر شجاعتكم، بل استشار الإنسانية والرغبة في إرجاعكم إلى بيوتكم، إذن، فلم يبق من أمل في السلم، إلا بالبحث عنه في قلب ممالك البلاط النمسوي الموروث، ستجدون هناك شعبا باسلا نهتكه الحرب الحالية، إن سكان فيينا وممالك النمسا يئنون من غباوة حكومتهم، فليس فيهم واحد لا يدرك أن ذهب إنكلترا قد أفسد وزراء الإمبراطور، ستحترمون دينهم وعاداتهم وتصونون أملاكهم؛ فالحرية هي التي تحملونها إلى الأمة الهونغرية الباسلة.
إن البيت النمسوي، الذي مر عليه ثلاثة قرون وهو يفقد في كل حرب قسما من سلطته، والذي يغضب شعوبه بتجريدهم من امتيازاتهم، سيرى في نهاية هذه الحملة السادسة، مضطرا على قبول السلم الذي نهبه إياه، وعلى الهبوط إلى مصاف السلطات الثانوية حيث سبق لها أن استوت بوضع نفسها تحت رهون إنكلترا ومقاصدها.
تعب نابوليون من قهره الإمبراطور في إيطاليا من غير أن يتمكن من دفعه إلى التداول، فعزم أن يحمل الحرب إلى النمسا نفسها لاعتقاده أن رؤية العلم المثلث الألوان تحت أسوار فيينا يؤثر على ديوان المهردارية النمسوية تأثيرا أشد وأعمق من التأثير الذي أحدثته النكبات العديدة التي حلت ببوليو، وبروفيرا، ودالفانزي، وورمسر، وكانت خطته أن يدخل إلى ألمانيا بطريق الكارنثي،
11
ويوطد له مركزا في الستيميرنك.
12
فأشار إلى ماسينا بأن يشغل مضايق أوزوبو ويونتيبا، أما ماسينا فبعد أن عبر البيافا والتاكليمانتو في الجبال، قاتل الأمير شارل في العاشر من شهر آذار سنة 1797، وطارده حتى استولى على الفيلترا والكادرور وبيللون وأخذ عددا كبيرا من الأسراء بينهم مهاجر فرنسي هو القائد ده لوزينيان الذي كان قد أهان مواطنيه المرضى في مستشفيات بريسيا في عهد تظاهر الجيش الجمهوري بالتقهقهر، في السادس عشر من الشهر، وقعت معركة تاكليمانتو فأفقدت الأرشيدوق تلك الآمال الجميلة التي كان قد حملها إلى إيطاليا.
عندما قهر الأمير شارل وطن النية على الرجوع، ولم يقيض له ذلك إلا بعد أن قاسى انكسارات يومية في معارك لافي، وترامين، وكلوزين، وتارفي، وكراديسا، وفيللاك، وبالمانوفا إلخ ...
وفي الواحد والثلاثين كان نابوليون في الكلاجنفور عاصمة الكارنثي، عندما دخل إلى هذه المقاطعة، وجه نداء إلى الأهلين يدعوهم فيه إلى اعتبار الفرنسيين كمنقذين لا كأعداء، قال: «إن الشعب الفرنسي إنما هو صديق الشعوب كلها وخاصة شعوب جرمانيا البسلاء ... إنني إنما لا أجهل أنكم تمقتون الإنكليز بقدر ما نمقتهم، فهم الذين يستميلون وحدهم وزارتكم التي بيعت لهم.»
كان نابوليون، في وسط هذه الانتصارات، يراقب عدوا سريا يرقب فرصة سانحة للانفجار: كان هذا العدو مشيخة البندقية، فهذا الحزب الأريستوقراطي المخلص لحزب الملوك ضد الثورة الفرنسية، كان يهيج القتل ويحث عليه في إيطاليا العليا وأراضي البندقية ضد الجيش الجمهوري، فكتب بونابرت إلى رئيس مشيخة البندقية ما يلي: «إن جمهورية البندقية لتحت السلاح، وإن صراخ الفلاحين المتحدين الذين سلحتموهم يرتفع من جميع الجهات بهاتين الكلمتين «الموت للفرنسيين»، وقد سقطت مئات عديدة من جنود جيش إيطاليا ضحية هؤلاء، إنكم تنكرون عبثا جموعا نظمتموها، أو تعتقدون أن وجودي في قلب ألمانيا يعجزني عن جعل أول شعب في العالم محترما ومكرما؟ أتعتقدون أن جوقات إيطاليا تتحمل المذبحة التي تهيجونها؟ ألا إن دم إخوتي الجنود ليؤخذ ثأره، فليس في العسكر الفرنسي من إذا عهد إليه بمثل هذه الخدمة النبيلة لا يشعر بقوته وشجاعته تتضاعفان وتثوران، لقد أجابت مشيخة البندقية بأفظع ما في نكران الجميل على المعاملات الكريمة التي كثيرا ما عاملناها بها، إنني مرسل إليكم رسالتي هذه مع معاوني الأول، فالحرب أو الصلح، وإذا لم تعجلوا في تدبير الوسائل لتبديد الجموع، وإذا لم توقفوا مسببي القتل الذي حدث وتدفعوهم إلي شهرت الحرب، إن الأتراك ليسوا على حدودكم، وما من عدو يهددكم، فلقد تعمدتم خلق حجج لتنظموا جمعا توجهونه ضد الجيش، ولكنه سينحل في أربع وعشرين ساعة، إننا لسنا اليوم في عهد شارل الثامن، أما إذا اضطررتموني على شهر الحرب، بالرغم من أمنية الحكومة الفرنسية الصريحة، فلا يخالجكم إذ ذاك أن الجنود الفرنسيين سينهجون نهج الجنود الذين سلحتموهم فيدمرون سهول شعب إيطاليا البريء التعس، بل إنني لأحميه، وسيأتي يوم يبارك فيه حتى الجرائم التي أجبرت الجيش الفرنسي أن ينفصل عن حكومتكم الطاغية.»
في السابع من شهر نيسان عقدت هدنة في جودنبرج، إن الأمير شارل عندما رأى نفسه غير قادر على إدارة الحملة، وعندما رأى أن مضايق نومارك ومركز هوندمارك يشغلها ماسينا، بدأ يفهم أن صلابة الديوان النمسوي الملكية لم تبق في أوانها، أما نابوليون، الذي كان قد اعتمد على مساعدة جيش سامبري-موز ثم علم أن هذا الجيش لم يتحرك ولن يتحرك؛ فإنه لم يكن ليجرؤ على مجاوزة سيميرنك خشية أن يتقيد وحده، من غير عضد، في داخل ألمانيا، وعندما استلم تبليغ مجلس الشعب، الذي أعلمه رسميا أن جيشي الرين وسامبري-موز لا يقومان بالعمل الذي أشعر بأهميته وضرورته، خف للكتابة إلى الأرشيدوق ليعرض له اقتسام المجد بتسكين أوروبا وإيقاف التضحيات العديدة التي تكلفها الحرب للنمسا وفرنسا، قال: «إن الجنود البسلاء يشهرون الحرب ويرغبون في السلام، أما هرقنا كثيرا من دم الناس وسببنا كثيرا من الأوجاع للإنسانية الحزينة؟ ... وأنت، أنت الذي اقترب من العرش منذ ولادته، والذي يقوم فوق صغائر الشهوات التي تنعش الوزراء والحكومات، أتراك عازما على أن تستحق لقب المحسن إلى الإنسانية جمعاء ومنقذ ألمانيا الحقيقي؟ ... أما أنا، يا حضرة القائد العام، فإذا قدر لهذه الفاتحة التي أرفعها إليك الآن أن تنقذ حياة رجل واحد، أجد نفسي أكثر فخرا بهذا الإكليل الشريف الذي أكون قد استحققته من المجد المحزن الذي يكتسب بالانتصارات العسكرية.»
هذه الطوية الساكنة التي تضمنتها الرسالة، لم تلبث أن انتشرت في فيينا، فهدأت بعض التهدئة الكآبة التي أشاعها دنو العلم الجمهوري، فأسرع الإمبراطور بإرسال السفير النابوليتاني كاللو إلى بونابرت، وكانت هدنة جودنبرج نتيجة هذا العمل.
استفاد نابوليون من خلو البال الذي قيضته له الهدنة ليتشكى إلى مجلس الشعب من نوع «السلاح الذراعي» الذي قدر للجيوش الألمانية أن تعتمد عليه، في حين كان هو يقاتل ضد القوات النمسوية جميعها بوسائل ضعيفة جدا.
أما الماضي فلم يكن ليحزنه كثيرا، فكان يهتم بالمستقبل ويطلب مساعدة مورو
13
ليحصل على شروط حسنة في مفاوضة الصلح، أو على نصيب كبير من الفوز إذا عادت الحرب، قال لمجلس الشعب: «ما من شيء يقف بنا من الدخول في الموقعة إذا شئنا ذلك، ومنذ بدأ التاريخ يرسم لنا أعمالا عسكرية لم يقف نهر حاجزا حقيقيا في وجهنا، إذا شاء مورو أن يعبر الرين فإنه يعبره، وإذا كان قد عبره فإننا سنصبح في موقف يتيح لنا أن ننص شروط الصلح بصورة فخورة، ولكن من يخشى فقدان المجد يفقده، لقد عبرت الألب جوليين
14
والألب نوريك
15
فوق ثلاث أقدام من الجليد إلخ، ولو لم أشاهد أمامي إلا اطمئنان الجيش ومصلحتي الخصوصية لكنت وقفت بعيدا عن الأيزونزو، لقد هجمت على ألمانيا لأعتق جيوش الرين وأمنع العدو عن التعرض لنا هناك، أنا الآن على أبواب فيينا، فيجب ألا يكون في عروق جيوش الرين دم: إنها إذا تركتني وحدي لا أتردد عن العودة إلى إيطاليا، وستحكم أوروبا جمعاء في تصرف الجيشين المتباين.»
في السادس والعشرين من جرمينال (نيسان 1795) فتحت المداولات في ليوبن، ووقت فيها فواتح الصلح في التاسع والعشرين، قال نابوليون للمفوضين النمسويين: «إن حكومتكم قد أرسلت ضدي أربعة جيوش من غير قواد، وهذه المرة قائدا من غير جيش»، وعندما بين له هؤلاء المفوضون في رأس المعاهدة المرسومة أن الإمبراطور كان يعترف بالجمهورية الفرنسية صرخ بشدة قائلا: «إن وجود الجمهورية لأوضح من نور الشمس، فبند كهذا لا يجوز إلا على العميان.»
كان وقت التفكر في شأن البندقية قد حان، أسرعت هذه الجمهورية إلى أمام الخطر الذي كان يهددها؛ إذ إن أشرافها المتحدين مع النمسا التي كانت تنتظر تحت ظل اتفاقية ليوبن أن يسرع إلى نجدتها بعض القتلة الجبناء وينقذوها من قاهر قيض له أن ينتصر بشجاعة جنوده القدماء، قلنا إن هؤلاء الأشراف، المتحدين مع إكليروس إيطاليا أشاعوا عاطفة الهيجان في شعوب نواحي الأدرياتيك الجهلاء، وذبحوا عددا كبيرا من الفرنسيين في فيرون، في وسط أعياد الفصح، كان رجال الدين، وقد نسوا مهمة السلام والمحبة التي نذورا لها، يعظون بغضب قائلين: إنه من المسوغ، لا بل من الحق أن يقتل الجاكوبيون.
أسرع نابوليون حالا ليوقف الهيجان والمذبحة في فيرون، ويثأر من الإكليروس الظالمين، في مساء ذلك الهيجان قال بونابرت لرفيقه القديم بوريتي، الذي كان قد جعله كاتم أسراره الخاص، والذي كان أوشك أن يقتل تحت الخناجر وهو قادم إليه: «كن مطمئنا، فهؤلاء الملاعين سيدفعون ثمن فعلتهم غاليا»، بعد أيام قلائل كتب إلى مجلس الشعب يقول: «إن العمل الوحيد هو أن تمحق هذه الحكومة الدموية المتوحشة، وأن يمحى الاسم البندقي من سطح الكرة.»
حاول رجال حكومة بريسيا وبرغام وكريمون عبثا أن يصنفوا صور دعاويهم التي انطوت على أن الفرنسيين هم الذين هيجوا التعديات التي ذهبوا ضحاياها، وقد رفع بونابرت تكذيبا علنيا في منشور كان حكم الإعدام على الأريستوقراطية البندقية، وتضمن ختامه هذه المطاليب الآتية: «إن القائد العام يأمر جميع وكلاء الجمهورية البندقية في لومباردية أن يخلوها في مدة أربع وعشرين ساعة، ويأمر جميع قواد الفرق أن يعاملوا كتائب الجمهورية البندقية معاملة أعداء، ويحطموا أسد سن مارك في جميع المدن.»
نفذ هذا الأمر تنفيذا مطلقا، فاستولى الخوف والقلق على مجلس البندقية الأعلى فاستعفى من الحكم، وأرجع الرئاسة إلى الشعب الذي عهد بتدريب السلطة إلى مجلس بلدي، وفي السادس من شهر أيار غرس العلم المثلث الألوان في ساحة سن مارك بيد القائد باراغاي ديلليه، وسرت الثورة الديموقراطية الصرفة في جميع الممالك البندقية، ولقد عهد إلى داندولو، وهو محام في البندقية نزل من نفس بونابرت منزلة سامية، بإدارة هذه الحركة، وأما أسد سن مارك وجياد كورنثيا التي زينت قوس نصر ساحة كاروزيل فقد نقلت جميعها إلى باريس.
بينما كانت المداولات تتتالى بين فرنسا والنمسا تناهى إلى نابوليون أن هوش
16
ومورو قد عبرا الرين، ومنذ أيام قلائل كان مجلس الشعب قد أعلمه أن هذا العبور لن يقع، وعندما كان رفض هذه المساعدة العظيمة قد بته وحده على إيقاف تيار العداوات والوقوف على أبواب فيينا، كان يرى نفسه محكوما عليه أن يشهد، وهو مقيد بهدنة وحسامه في قرابه، تلك الحركات العسكرية التي كان طلبها وتمناها طوال شهرين من غير جدوى، يوم كانت تستطيع أن تساعده على رفع العلم الجمهوري فوق عاصمة النمسا.
من الواضح أن فوز نابوليون السريع كان يقلق مجلس الشعب؛ إذ إنه شعر بالإمبراطور في قاهر إيطاليا، ولقد اعترف هو نفسه في سنت هيلين، أنه منذ موقعة لودي، صور له أنه يستطيع أن يكون ممثلا جازما على المسرح السياسي. قال: «عندئذ ولدت في نفسي أول شرارة من شرارات الطمع السامي.»
أما المديرون الذين بصروا بتلك الشرارة، والذين كانوا يخشون أن تحرق البناء الجمهوري الذي يشغلون قمته، فقد عاكسوا انتشارها ونموها بما أوتوه من الحسد الشخصي والفطرة الديموقراطية، لقد كانوا ينظروا بألم إلى أن عرفان الجميل العمومي وإعجاب أوروبا جمعاء سيؤديان إلى انضمامهم تحت سيطرة رجل واحد، ولم يكونوا ليرغبوا في إعطاء هذا الرجل الوسائل لتطفيح كيل هواه بدخوله إلى فيينا دخول المنتصر على رأس جيوش الجمهورية جميعها، وأما نابوليون فقد حذر كل ذلك منهم كما حذروا هم منه، وأظهر استياءه من هذا التصرف في جميع رسائله ومطارحاته، إلا أن مجلس الشعب استطاع قدر إمكانه أن يكتم الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى هذا التصرف، ما جعل الجنرال بونابرت، قائد جيش الداخلية بعد فنديميير، أن يرسم ويترك في خزانة أوراق الحرب خطة حملة تحدد نهاية المشاحنات على قمة سيميرنك، هكذا كان قد وضع بنفسه ذلك الحاجز الذي يضطرم اليوم لقطعه، إلا أن قاهر الأمير شارل وجب أن يكون ذا أفكار ونظرات أرحب وأسمى من أفكار قاهر الباريسيين ونظراته.
كان بونابرت في إحدى جزر تاكليامانتو عندما انتهى إليه أن مورو قد عبر الرين،
17
في ذلك الوقت كانت المداولات تمتد ببطء، فاستفاد القائد العام من الفراغ الذي تركته له الهدنة ليزور لومباردية وممالك البندقية وينظم حكومة فيها، كان يحتاج إلى رجال للقيام بهذا العمل، فبحث عنهم طويلا من غير فائدة، قال: «لله، كم أن الرجال قليلون! ففي إيطاليا ثمانمائة مليون من الرجال لم أقع منهم إلا على اثنين: داندولو، وملزي.»
تعب نابوليون في نهاية الأمر من القيود التي كبل بها زعماء الجمهورية تنفيذ خططه وسئم بطء مداولي النمسا، فقال: إنه سيستعفي من قيادة جيش إيطاليا ويأخذ لنفسه بعض الراحة التي زعم أنه بحاجة إليها، لم يكن ذلك سوى تهديد هو بعيد الرغبة عن تحقيقه، كان يعرف كل المعرفة أنه لا يمكنهم الاستغناء عنه بعد الخدم التي أداها، والمواهب العظمى التي أبرزها وبرهن عنها، واستمالة قلوب الشعب التي كسبها، وكان خبر استعفائه ينبئه بحادث سياسي خطير يعرض للخطر الحكومة التي دعت إليه بظلمها وقبلته بفطرة نكران الجميل والحسد.
إلا أن هذا التهديد لم يكن إلا تهديدا كاذبا، فاكتفى نابوليون بالتظلم والشكوى واسترجع موقفه الفخور وصوته العالي في مراسلاته الرسمية، وبعد أن صرح أن المداولات مع الإمبراطور إنما أصبحت عملا عسكريا، تظاهر بأنه قد تشبع من المجد ليؤكد للمعجبين به، لمزاحميه ولأعدائه، أن مصالح فرنسا لا مصالحه الخصوصية كانت المحرك الوحيد للنشاط العظيم الذي أبداه، قال في إحدى رسائله: «لقد وثبت على فيينا بعد أن ربحت من المجد فوق ما تقتضيه شروط السعادة، وبعد أن تركت ورائي سهول إيطاليا الجميلة، وأطعمت الجيش الذي عجزت الجمهورية عن إطعامه.»
قيض لمجلس الشعب، فوق ذلك، أن يعضده هيجان السياسية الداخلية في وسط حسده ومخاوفه، كانت الرجعة الترميدورية قد أنعشت الملكية التي أنهضتها الانتخابات من سقوطها في فندميير، وكان من الأمر الطبيعي أن يهاب الحزب المعاكس الثورة تفوق القائد الذي كان قد أنقذ الجمهورية بخمسين فوزا، والذي كان مجده وشهرته ووجوده متصلة جميعها بإنقاذ الثورة ورقتها، أما خطباء هذه الحرب وكتبته فقد استفادوا من حرية المنبر والصحافة، تلك الحرية اللاحد لها، لكي يذيعوا كل نوع من أنواع الضجيج ويشيعوا الظنون المعيبة عن خلق نابوليون ومقاصده، وأما مجلس الشعب فقد فسح لهم في كل ذلك، وأخذوا يكتبون في الجرائد والرسالات ويخطبون في المجالس والمجتمعات أن حكومة البندقية إنما هي ضحية خداع القائد الفرنسي ومهيجاته السرية، وأن جميع تلك المذابح لم تكن سوى حوادث مستدركة هيأها الجيش الجمهوري بغدر ومخاتلة.
بلغ نابوليون جميع تلك الحملات والمقاصد الرديئة فكتب إلى مجلس الشعب يقول: «كان يحق لي، بعد أن عقدت الصلح خمس مرات وضربت الحزب ضربة قاضية، أن أعيش هادئا مطمئنا، هذا إذا لم يكن لي حق في الانتصارات الوطنية ومساعدة حكام الجمهورية الأولين، واليوم أراني محفوفا بالوشايات من جميع أقطاري، مضطهدا، مهتوك الحرمة، تعزى إلي جميع المعائب التي في وسع السياسة أن تتهم بها من ترغب في اضطهاده ...
ماذا! ألم يعمل الخائنون فينا القتل؟ ألم يمت منا أكثر من أربعمائة رجل؟ إنني إنما أعرف أن هناك جمعيات يصرخون فيها: هل هو طاهر نقي هذا الدم؟ ... لو كان هذا الصراخ صادرا من أفواه رجال جبناء ماتت في صدورهم عاطفة المجد والوطنية لما اكترثت قط، ولما حدثتني النفس يوما بالتشكي، إلا أني أجدني جديرا بالتظلم من المهانة التي يلطخ بها حكام الجمهورية الأولون هؤلاء الذين رفعوا عاليا مجد الاسم الفرنسي.
إنني أكرر عليكم، أيها المديرون الوطنيون، طلب استعفائي، فأنا بحاجة إلى الحياة الهادئة إذا تركت لي خناجر كليشي
18
سبيلا للحياة. لقد عهدتم إلي بمداولات، ولكن لا أجدني قادرا على ذلك.»
كان نابوليون قبل مدة كتب إلى كارنو يقول: «لقد استلمت كتابك، يا عزيزي المدير، في ساحة قتال ريفولي، إنني لا أجهل ما يتشدقون عني، فكل يعزو إلي ما يسنح له في خاطره، ولكني أعتقد أنك تعرفني حق المعرفة، فلا يخطر لك أن باستطاعة أحد كائنا من كان أن يؤثر علي، إن من الرجال من يستشعر الحقد لحاجة، ومنهم من إذا عجز عن قلب الجمهورية يجد عزاء في بذر الفتن والشقاق في جميع الجهات التي في وسعه أن يبذرها فيها، أما أنا، فمهما قالوا لن يؤثر بي؛ إذ يكفيني احترام عدد صغير من الرجال أشباهك، من رفاقي المخلصين والجنود البسلاء، ولا سيما عاطفة ضميري ورقي وطني.»
ثم أخذ على نفسه أن يرد على افتراءات الحزب الكليشياني، ونشر في الجيش كلمة باسم مستعار تدحض جميع مزاعم الملكيين الكاذبة وتؤيد الحقيقة من جميع أقطارها.
قلنا: إن طلب استعفائه لم يكن طلبا صادقا، أما ذلك التواضع الذي دفعه إلى التصريح بعدم استعداده للمداولات فنستطيع أن نحكم على قيمته من النبذة الآتية التي تتعلق بمداولات كامبو-فورميو،
19
والتي ذكرها هو نفسه في القديسة هيلانة، قال: «كان السيد ده كوبنتزل
20
رجل المملكة النمسوية، روح مقاصدها ومدير مداولاتها، وكان قد شغل أولى سفارات أوروبا ووطد له مقاما قريبا من كاترين
21
التي استمال انعطافها الخصوصي، إن فخره بمقامه الرفيع وأهميته العظمى إنما كان يصور له أنه إذا أقدم على سحق قائد خرج من صفوف الثورة عالج أمرا لا شك في تحقيقه، ودنا من القائد الفرنسي بنوع من الطيش، إلا أن هيئة هذا وكلماته الأولى التي تلفظ بها كانت كافية لأن تعيده إلى مكانه الذي لم يخرج منه بعد ذلك.»
وقد زاد السيد ده لاس كاز
22
على ذلك بقوله: إن المفاوضات فترت كثيرا في بادئ الأمر؛ لأن السيد ده كوبنتزل، حسب عادة الديوان النمسوي، أظهر مهارة فائقة بإطالة الأمور إطالة بعيدة، أما القائد الفرنسي فقد عزم على إنهاء الأمر إنهاء باتا، فرفض ذلك منه، فنهض عقب ذلك بنوع من الغضب وصرخ بشدة قائلا: «إنكم تريدون الحرب؟ فليكن ما تريدون!» ثم تناول قطعة من الصيني الجميل، كان السيد ده كوبنتزل يقول عنها مرارا بشيء من عرفان الجميل: إنها هدية من كاترين، ورماها بكل قواه على الحضيض، فتحطمت تحطيما وصرخ قائلا: «انظروا! هكذا ستصبح مملكتكم النمسوية بعد ثلاثة أشهر! إنني لأعدكم بذلك وعدا!» بعد ذلك وثب إلى خارج القاعة بسرعة عظيمة، أما السيد ده كوبنتزل فقد لبث متحجرا في مكانه من شدة الذهول، ولكن السيد ده كاللو، معاونه، والذي كان أكثر تساهلا منه، رافق القائد الفرنسي حتى مركبته وهو يحاول أن يبقيه، قال نابوليون: «كان يرفع قبعته مرارا عديدة، حتى إن هيئته البشعة جعلتني، بالرغم من غضبي المنتشر على وجهي، أضحك في نفسي ضحكا شديدا.»
هذا النوع من المداولة، الذي يثبت ما قاله نابوليون عن قلة استعداده في فن المداولة، حال دون بلوغه النتيجة التي كان وعد نفسه بها، إلا أن الفظاظة في مثل هذه الظروف إنما هي حذاقة ومهارة، كان يجب أن يوضع حدا لذلك البطء والتردد الغدار اللذين كان الديوان النمسوي يستشعرهما في مواقفه، ثم إن الحدة التي أبداها بونابرت في سحقه هدية الملكة كاترين، خدمت مصالح فرنسا أكثر مما تستطيعه حيلة رجل من رجال البلاط.
بينما كان نابوليون يعاني في إيطاليا بسبب بطاءة المداولات، والبطالة التي رسمها له مجلس الشعب، والإهانات التي كانت أحزاب الداخلية تصوبها إليه من جميع جهات أوروبا على يد المهاجرين والمراسلين المأجورين، كان مجلس الشعب مهددا بأكثرية المجلسين الملكية، وكان الثامن عشر من فروكتيدور
23
على الأبواب.
كان على جيش إيطاليا الذي انتصر في مواقع عديدة تحت ظل العلم الجمهوري والقائد العظيم الذي قاده من نصر إلى نصر، كان عليه أن يوقظ انتباه الفئتين، مخاوف الأولى وآمال الأخرى، أما نابوليون، الذي اضطهد وافتري عليه قبل هنيهة، وجد نفسه مطلوبا ومملقا من جميع الجهات، حتى إن ترونسون ديكودراي، أحد خطباء الأكثرية الملكية، لم يخش أن يلقب رامي قنابل 13 فنديميير بلقب «بطل» قائلا: «إنه تفرد بالذكاء في المداولة بعد أن ضاهى في ثمانية أشهر أعظم الرجال في الفن العسكري.»
إلا أن هذا المديح، الصادر من رجل حاذق ذي غرض، لم يكن ليحجب الحقد الذي يغذيه حزبه في جرائده ومنتدياته ضد القائد العام لجيش إيطاليا، وكان أوبري، عدو بونابرت القديم، أحد مديري مجتمع كليشي، فأخذ يطلب بصراخ مرتفع عزل نابوليون وإيقافه، وقد عضده في ذلك بعض الخطباء والساخطين، كان نابوليون يحتقر مجلس الشعب الذي لم يكن يحترم فيه سوى رجل واحد وقف على خدمه الصادقة ومقدرته الصحيحة، وهذا الرجل هو كارنو الذي انفصل عن أكثرية مجلس الشعب بعد أن خالجته شكوك فيه.
كان نابوليون قد عزم على الزحف إلى باريس مارا من ليون على رأس خمسة وعشرين ألف رجل، ولكان حقق هذا العزم لو بقي الفوز حليفا للكليشيين في العاصمة، والذي دفعه إلى وضع سيفه العظيم إلى جهة المديرين ضد أكثرية الأحزاب الملكية هو اكتشاف خيانة بيشاغري الذي كان يدير تلك الأكثرية، والذي كشفت مؤامراته المجرمة مع الخارج في أوراق الكونت دانتريك، وهو ملكي ذو دسائس هائلة قبض عليه في ممالك البندقية ثم أخلي سبيله في ميلان فهرب إلى سويسرا حيث نشر رسالة فضاحة بحق نابوليون.
قال نابوليون لجنوده ساعة غضب على الحزب الخارجي: «ليست طريق باريس أكثر عقبات من طريق فيينا، فستنفتح لنا على يد الجمهوريين الذين لا يزالون أمناء على الحرية، عندما أتيح لنا النصر على أبواب فيينا، كان بعض الرجال الغادرين المشبعين بالجرائم يأتمرون علينا في باريس!
اضطربوا أيها الذين حقروا نصراء الجمهورية وتوعدوهم بالموت! فمن الأديج، إلى الرين، إلى السين خطوة واحدة، فاضطربوا! إن مظالمكم لعديدة وثمنها في أطراف حرابنا!»
أما الدراهم التي طلبها باراس على يد كاتم أسراره بوتو فقد وعده نابوليون بإرسالها إلا أنه لم يدفعها قط، وبعث معاونه لافاليت إلى باريس لما عهد فيه من الحمية والذكاء للوقوف على كل ما يجري هناك وفوق ذلك للعمل بحسب ما تقتضيه الظروف.
إن علاقة نابوليون بدوزه
24
تبتدئ من هذا العهد، كان دوزه، وهو موظف في جيش الرين، يشاهد من بعيد، وبإعجاب عظيم، تلك الانتصارات التي ربحها قائد جيش إيطاليا العام، فاغتنم فرصة الهدنة التي عقدت في ليوبن ليحضر فيشاهد القائد الكبير عن كثب، لم يطل الأمر حتى تعارف ذانك الرجلان وأحب كل منهما الآخر حبا شديدا، فبينما كانا يتحدثان أراد نابوليون أن يفضي إلى صديقه الجديد بسر خيانة بيشاغري، فقال له دوزه: ... ولكنا عرفنا ذلك ونحن على شاطئ الرين منذ ثلاثة أشهر ونيف؛ إذ إن إحدى العجلات التي أخذت من القائد كلنكلن سلمتنا المراسلات التي كانت بين بيشاغري وأعداء الجمهورية.
فقال نابوليون: ألم يفض مورو بشيء من ذلك إلى مجلس الشعب؟ - لا. - إنها لجريمة إذن! فالسكوت مشاركة في الذنب عندما يكون الأمر متعلقا بسقوط الوطن.
وبعد الثامن عشر من فروكتيدور، عندما صدر أمر بنفي بيشاغري، رفع مورو شكواه عليه وألحق به عارا فظيعا، فقال نابوليون: «إنه لقد خان الوطن بالتردد في رفع شكواه حتى الآن، وأرهق تعسا برفعها بعد حين.»
لا تسل عن الفرح الذي ملك نابوليون عندما تناهى إليه خبر انكسار الكليشيين ونفيهم، الذي أرسله إليه أوجرو في هذه الكلمات: «وأخيرا، يا قائدي، لقد انتهت خدمتي وتمت وعود جيش إيطاليا في هذه الليلة.»
إلا أن مجلس الشعب، عندما رأى نفسه قد تملص من الملكيين، رجع إلى حسده السري الجاحد الذي كان من قبل، وبالرغم من معرفته فكرة القائد فيما يتعلق ب 18 فروكتيدور، بعد أن استلم جميع البرقيات التي كانت تطالب بقلب الحكومة مطالبة شديدة جدا، لم يجد بدا من أن يذيع في باريس ومنها في الجيش أن رأي بونابرت رأي مريب، ولكي يثقل الريبة هذه، عهد إلى أوجرو بأن يحمل هو نفسه إلى جميع قواد الفرق، النشرة التي كان على القائد العام وحده أن يرسلها إليهم، أما نابوليون فعندما بلغه ذلك، أسرع بإبداء استيائه من هذا التصرف المشين، فكتب إلى مجلس الشعب يقول: «لا شك في أن الحكومة قد نهجت معي كما نهجت مع بيشاغري بعد فنديميير عام 4، فأرجو منكم أن تنيبوا أحدا عني وتمنحوني استعفائي، إنه ما من سلطة على الأرض سيتاح لها أن تبقيني في الخدمة، بعد نكران الجميل الذي أبدته الحكومة نحوي، ذلك النكران الشائن الذين لم أكن لأتوقعه قط، إن صحتي المثقلة تتطلب راحة وسكونا، ثم إن حالة نفسي لفي حاجة إلى أن تمتزج بكتلة الوطنيين، فمنذ زمن طويل وفي يدي سلطة عظمى استخدمتها في جميع المواقف حبا بالوطن وفي سبيله، ألا إن الحيف لواقع على الذين لم ينزلوا عند الفضيلة في شيء، وعلى الذين قد يتاح لهم أن يشتبهوا في فضيلتي! أما جزائي فهو في ضميري وفي آراء الأجيال ...»
أما مجلس الشعب الذي كان يشعر بأنه لا يقوى على مقاومة نابوليون مقاومة مستقيمة فإنه بقي متسترا في خداعه، وأرسل بعض الإيضاحات إليه ليسكن موجدته قال فيها: «حذار من المؤامرات الملكية أن تحاول رمي السأم والمقت في نفسك، في حين أنها قد تكون مزمعة على تسميم هوش، مخافة أن يسلخ المقت والسأم مساعي نبوغك من الوطن.»
وأما نابوليون، الذي لم يكن في الحقيقة متضجرا من القيادة العامة، فقد تظاهر بقبول تلك الإيضاحات الخداعة، وأخذ يتراسل وأعضاء مجلس الشعب ووزراءه فيما يتعلق بأغراض الحرب، وشروط الصلح، وأهم مسائل السياسة العامة، كتب إلى فرنسوا ده نوشاتو يقول: «إن مستقبل أوروبا إنما هو في الوحدة والحكمة وقوة الحكومة، فحكم من المجلس التنفيذي يهدم العروش، إذن فيجب أن تعملوا على جعل بعض الكتبة المستأجرين وبعض الطماع المتعصبين الذين يتسترون تحت أقنعة مختلفة يكفون عن إغراقنا بعد في سيول الثورة.»
في ذلك العهد بدأ تاليران،
25
وهو الرجل العظيم الذي امتدت شهرته منذ سقوط جميع القوانين التي دفعت فرنسا من رجعة إلى رجعة موقفها الحالي، بدأ تاليران في ذلك العهد يحاول فتح علاقات متتابعة مع بونابرت، فكتب إليه رسائل عديدة تتعلق ب 18 فروكتيدور، تكلم فيها بكل ما في رجل الثورة المضطرم من الحمية والشدة.
إنه لمن الغرابة أن يرى تاليران، الذي عاون بقوة عظيمة على إصعاد البوربونيين إلى العرش، والذي كانت ميوله الأخيرة جانحة نحو السلالة الأورليانية، إنه لمن الغرابة أن يرى معلنا لإمبراطوره المزمع، للصنم الذي رفع إليه البخور ثم حطمه: «إن موتا سريعا قد لفظ ضد أي رجل يفكر في إرجاع الملكية، أو شرائع الأورليانيين!»
تلقى نابوليون هذه المقدمات، من رئيس الحزب الذي كان فيما مضى يلقب بحزب الشارعين، أجل تلقاه كرجل يسعى إلى إعطاء طماعيته الكبرى دعائم مكينة ويعد لها معدات قوية، كان يشعر بأن ساعته لم تأت بعد، إلا أنها ستأتي، وكان يسعى في جذب الرجال إليه ليحركهم، كما يرغب، عندما تقتضي الظروف ذلك.
إن من يفكر في الفوضى التي كانت مالكة في فرنسا قبل 18 فروكتيدور وبعده، وفي ملاحظات أمناء السلطة وفساد البعض وسخافة البعض الآخر ، يصبح من المسوغ له أن يعتقد أن نابوليون إنما كان كثير التحفظ أو كثير المخاوف، وأنه لم يكن ليثق كل الثقة بتأثير اسمه وبملل الأحزاب، عندما تراجع في وجه الانقلاب في الحكومة الذي كان يتأمله ويفكر فيه، والذي نفذه فيما بعد بنجاح عظيم، ولكن تراءى له أنه من الواجب أن يرحب بعد شهرته بعجائب أخر، وأن يترك ملل الكتلة الشعبية يزداد وينمو في وسط زوابع الديموقراطية، قد يكون بدأ منذ ذلك الحين يفكر في غزو مصر، هذا ما ظنه كثير من الناس، بعد أن قرءوا النداء الذي وجهه إلى بحارة أسطول الأميرال بروه في السادس عشر من أيلول عام 1797، ذلك النداء الذي مجد فيه انتصار مجلس الشعب على «الخائنين والمهاجرين الذين استولوا على المنابر»، قائلا لهؤلاء البواسل: «إننا لولاكم لا نستطيع أن نحمل مجد الاسم الفرنسي إلا إلى زاوية صغيرة من زوايا أوروبا، وإننا معكم إنما يتاح لنا أن نجتاز البحار ونحمل العلم الجمهوري إلى أبعد جهات العالم.»
لكي يحقق هذا العزم، وجب أولا أن يعقد الصلح في أوروبا جمعاء، أما النمسا التي هدم 18 فروكتيدور آمالها، تلك الآمال المؤسسة على ثورة في داخل فرنسا، فلم تكن لتستطيع بعد أن تؤجل سير المداولات، إلا أن مجلس الشعب، الذي كان منتفخا بفوزه على الملكيين المتحدين مع الإمبراطور، إنما كان يظهر استعدادا حربيا، فكتب إلى بونابرت يقول: «يجب أن لا يتساهل مع النمسا بعد؛ فإن نكرانها ومساعيها مع متآمري الخارج إنما هي واضحة.» غير أن هذه الأوامر الحربية لم تكن قط لتدخل في نظريات القائد العام، ودفعه دنو الشتاء إلى الإسراع في عقد الصلح، قال لكاتم أسراره: «يقتضي لجيوش الرين أكثر من شهر لتتمكن من مساعدتي، إذا كانت متأهبة لذلك، وبعد خمسة عشر يوما تتراكم الثلوج فتسد المعابر والطرق، لقد عزمت على عقد الصلح، وستدفع البندقية كلف الحرب وحد الرين، فليقل مجلس الشعب والمحامون ما يريدون.»
وعقد الصلح في كامبو-فورميوو في السادس والعشرين من فنديميير عام 6 (17 تشرين أول عام 1797)، وكان من أولى شروط الاتفاقية إنقاذ الأسرى أولمز، ولافاييب، ولاتور موبور، وبورو ده بوزي، كان نابوليون يجري جميع ذلك بمقتضى تعليمات مجلس الشعب.
الفصل الرابع
إن نابوليون الذي لم تعد الحرب والمداولات لتبقيه على حدود النمسا أخذ يزور فتوحاته ويطوف في لومباردية التي احتفت به واستقبلته كمنقذ لها، لقد تبعته الابتهالات الشعبية حيثما حل، وعندما اضطره أمر من باريس أن يتجه إلى راستات
1
ليرأس فيها السفارة الفرنسية صادف في سويسرا الابتهال نفسه الذي صادفه في كل مكان، قبل أن يترك بونابرت ميلان، أرسل إلى مجلس الشعب على يد جوبير علم جيش إيطاليا، وقد عرض على أحد جانبيه خلاصة العجائب المدهشة التي قام بها ذلك الجيش، وعلى الجانب الآخر هذه الكلمات: «إلى جيش إيطاليا إقرار الوطن بالجميل»، وكان نابوليون، لدى مروره بمانتو في المرة الأخيرة، قد احتفل احتفالا مأتميا مهيبا على شرف هوش الذي مات، وعجل بإنجاز التمثال المشيد لذكرى فرجيل.
2
وجد بين المعجبين والمتطفلين الذين ازدحموا على طريقه في ذلك العهد، رجل نقاد ملؤه روح وذكاء أرسلت ملاحظاته إلى باريس حيث أدرجت في إحدى الجرائد في شهر كانون أول سنة 1797، جاء فيها: «لقد أبصرت بانعطاف شديد وانتباه فائق هذا الرجل العظيم الذي قام بأعمال كبرى، وهو ما زال يخيل إليه أن عمله لم ينته بعد، لقد وجدته كثير الشبه برسمه، صغيرا، نحيفا، شاحبا، تظهر عليه أمارات التعب، إلا أنه ليس مريضا كما زعموا، ولقد خيل إلي أنه يصغي بذهول أكثر مما يصغي لفائدة، وأنه أكثر اهتماما بما يفكر منه بما يقال له، إن في سيمائه لعقلا راجحا، والشاخص إلى وجهه يتبين فيه سمة تأملات اعتيادية لا تكشف شيئا مما يجري في داخلها، إنه من المستحيل أن لا يظن الناظر إلى ذلك الرأس الراجح والروح القوية، أن هناك فكرات لا تقمع ستؤثر على مستقبل أوروبا.»
عندما وصل نابوليون إلى راستات تبين له أن مركزه الجديد لا يوافقه قط، ففي باريس، في وسط الحركة السياسية، أو على رأس جيشه، أجل، هناك كان يتسع لهذا الرجل العظيم أن يجد مركزا جديرا به، إلا أنه لم يحتج إلى طلب العودة إلى العاصمة؛ لأن مجلس الشعب أرسل إليه كتابا يستدعيه فيه، لم يكن السيد بوريين، كاتم أسراره؛ ليجرؤ على مرافقته، فآثر المكث في ألمانيا، فقال له بونابرت: «تعال اعبر الرين من غير خشية فإنهم لا يسلخونك عني، وسأتكفل بك.»
كان الاحتفاء بنابوليون في باريس عظيما جدا؛ فإن مجلس الشعب الذي كان الواسطة المرغمة لإظهار عواطف الشعب لم يجد بدا من كتم مخاوفه وحسده وإقامة احتفال عظيم لقاهر إيطاليا في حظيرة لوكسانبرج، وكان تاليران هو الذي قدم البطل إلى المديرين ولفظ بهذه المناسبة خطابا تضمن روحا جمهورية صرفة، قال: «لا شك في أن البعض الأكبر منكم كان يلاحظ بشيء من الدهش جميع مساعي التي قمت بها لأحط من مجد نابوليون، إلا أنه لن يسيء إليه ذلك، أقول ... لقد خشيت عليه فترة ذلك القلق الجفول الذي كنت إخاله ضربة على المساواة في جمهورية لا تزال في نشوئها، ولكن كنت مغترا يوم ذاك؛ فإن العظمة الشخصية إنما هي بعيدة عن أن تضر بالمساواة بل هي شرف المساواة وانتصارها الجميل، وفي هذه الساعة نفسها يحق للجمهوريين الفرنسيين أن يروا نفوسهم أكبر مما كانوا عليه.»
فأجاب نابوليون، وقد أعطى للمرة الأولى لقب «الكبيرة» للأمة الفرنسية، متفوها بهذه الكلمات:
أيها المديرون الوطنيون
كان من حق الشعب الفرنسي أن يحارب الملوك ليكون حرا.
كان من حقه أن يقهر ثمانية عشر قرنا من الأوهام لينال مركزا مؤسسا على العقل.
لقد مر عشرون قرنا والدين والأشراف والملكيون يحكمون بالتتابع في أوروبا جمعاء، إلا أن الحكومات التمثيلية قد بدأ عهدها منذ الصلح الذي عقدتموه.
لقد قيض لكم اليوم أن تنظموا الأمة الكبرى التي لم تحدد أرضها إلا لأن الطبيعة قد وضعت لها الحدود بنفسها.
لقد عملتم أكثر من ذلك، فإن الجهتين اللتين هما أجمل جهات أوروبا، واللتين كانتا في الماضي مزدهرتين بالعلوم والفنون والرجال العظام الذين كانتا لهم مهدا، إن هاتين الجهتين لتريان اليوم بآمال كبيرة روح الحرية العظمى خارجة من قبور الأجداد.
لي الشرف أن أضع بين يديكم المعاهدة الممضاة في كامبو-فورميو والموقعة بإمضاء صاحب الجلالة الإمبراطور.
عندما تقوم سعادة الشعب الفرنسي على أفضل الشرائع المنظمة، تصبح أوروبا جمعاء حرة.
أظهر نابوليون بعض التواضع بهذه الكلمات التي قالها لمجلس الشعب، إنما اللياقة كانت تقتضي ذلك الإكرام الرسمي، والذين تقبلوه لم يكونوا أكثر غرورا به من الذي ظن نفسه مضطرا إلى تأديته، كان نابوليون منذ ذلك العهد قد وضع نفسه مكان حكومة الجمهورية تجاه المداولة الأوروبية، وكان يمثل الدولة بشخصه ويعير فرنسا الموقف واللغة اللذين كان طمعه الكبير وعقله السامي، وليس تعليمات مجلس الشعب، يدلانه أنهما جديران بالشعب الكبير، وموافقان كل الموافقة لنظرياته المقبلة، كان منذ دخوله إيطاليا، وخاصة منذ لودي، قد سعى لأن ينزع من السياسة الفرنسية ذلك الخلق الوحشي الذي طبعته فيها ثورة 93 الهائلة، فلم يكن يريد أن يكسب بلاده صلحا مجيدا ونفسه شهرة عظيمة باسم ثورة شعبية غضبى حقودة، ولقد تبين له أن الوقت قد حان لتسكين التعصب الثوري الذي كان فيما مضى شاعرا بضرورته.
أظهر نابوليون نفسه في مداولاته مع ملك سردينيا ومع البابا والإمبراطور، أنه مستشاط بتلك الروح المستميلة المتساهلة، التي تميز الرجال الذين هم فوق مطاليب الأحزاب وشهواتها، إلا أن سعيه في تقديم الجمهورية الفرنسية لملوك أوروبا كعدوة كريمة لا تخالجها الأحقاد العمياء ولا تحمل في مبادئها وآرائها نوعا من أنواع التهديد للحكومات الأجنبية، كان بنوع خاص في المداولات التي دعت إلى معاهدة كامبو-فورميو.
كانت العظمة الحقيقية التي روضها هذا الرجل في أن مجلس الشعب، الذي كان نابوليون ينكر عليه سلطته المطلقة ويتعدى على مقاماته، لم يكن ليجرؤ أن يحاسبه على احتقاره وجسارته، بل إنه وجه إليه، بنوع التعظيم، وبلسان رئيسه، هذا المديح الفخم، قال باراس مجيبا القائد: «إن الطبيعة التي تضن بعجائبها لا تعطي الأرض رجالا عظماء إلا في الندر، إلا أنه من واجبها أن ترغب في إظهار فجر الحرية على يد إحدى أعاجيبها، ومن حق ثورة الشعب الفرنسي العظمى، تلك الثورة الجديدة في تاريخ الشعوب، أن تظهر نابغة جديدا في تاريخ الرجال العظماء.»
هذا التمليق الذي نزل به عند رغبة الشعب، إنما هو أكبر دلالة للمقام السامي الذي كسبه نابوليون، ومن الواضح أن رئيس الجمهورية قد اعتقد نفسه مضطرا أن يخاطب قائدا بسيطا هو تحت سلطته، كما خاطبه فيما بعد، وفي المكان نفسه، رئيس مشيخته، أو الخادم الأول من بين خدمه.
أما الباريسيون فقد تظاهروا بالنسيان؛ إذ كان قاهر أركول قد محا رامي قنابل فنديميير، وكان نابوليون موضوع احتفاء الجماهير حيثما ظهر، ففي المسارح، عندما كان الحضور يشعرون بوجوده، كانوا يطلبونه بأصوات مرتفعة، حتى أصبحت هذه الدلائل تزعجه جدا، فقال ذات مرة: «لو كنت عارفا أن «اللوجات» مكشوفة لما حضرت»، رغب ذات يوم في حضور مغناة مضحكة كانت موضوع إقبال الشعب، فطلب إعادتها بهذه العبارة الوضيعة: «إذا كان لا يستحيل ذلك»، فأجابه مدير الجوقة أنه ما من مستحيل على قاهر إيطاليا الذي حذف هذه الكلمة من القاموس منذ عهد بعيد، إلا أن نابوليون، بالرغم من تهافت الشعب إليه، لم يكن ليدع للبخور المرتفع إليه سبيلا لإسكاره، فكان يخشى انقلابا فجائيا يفقده تذكار خدمه القديمة ويفتر حماسة المعجبين به، وكان كثيرا ما يقول: «إن الخلق في باريس لا يحفظون تذكار شيء، فإذا ما بقيت زمنا بدون عمل لا ألبث أن أنسى وأضيع، وتأتي شهرة أخرى فتحل محل شهرتي، فبابل هذه لا تبقي شهرة منسية من غير خلف لها»، ثم يردد كلمة كرومويل عندما يبينون له كم أن وجوده يهيج حماسة الشعب فيقول: «إن الشعب ليتهافت حولي بمثل هذا التهافت فيما لو أخذت إلى المشنقة»، ولقد رفض حضور حفلة أقامتها له إدارة «الأوبرا»، وعزم ألا يحضر مشهدا من المشاهد إلا في «لوج» مشبك بالأخشاب.
في ذلك العهد بدأت تنشأ التعصبات ضده، وذات يوم أرسلت إليه إحدى النساء تعلمه أنهم يحاولون دس السم له، فأوقف الرجل الذي جاءه بهذا الإنذار واقتيد مصحوبا بقاضي الصلح إلى منزل المرأة التي أرسلته، إلا أنه عندما أدخل المنزل كانت المرأة المسكينة مضرجة بدمها، ذلك أن القتلة، عندما تناهى إليهم أنها كشفت سرهم المشئوم، عمدوا إلى التملص من شهادتها بجريمة أخرى.
عندما تنحى بونابرت عن مجلس الشعب أراد أن يوطد له مكانا في مجلس العلماء، بالرغم من أنه كان بحاجة إلى غير المهمات العلمية والأدبية، فقبل مكان كارنو الذي كان 18 فروكتيدور قد لحقه، وانخرط في سلك العلوم والفنون. نعطي الآن الرسالة القيمة التي أرسلها إلى الرئيس كاموس:
أيها الرئيس المواطن
إن رضا الرجال الممتازين الذين يؤلفون المجلس ليشرفني.
وإنني أشعر بأن سأكون تلميذهم قبل أن أكون ندهم.
لو كان لدي عبارة أبلغ من هذه أعبر بها عن احترامي الفائق لذواتكم لما ترددت عن استعمالها.
إن الفتوحات الحقيقية، تلك التي يتاح لها وحدها أن تسبب حسرة وألما، إنما هي التي يعالج بها الجهل.
وإن أنبل عمل وأفيده للأمم إنما هو المساعدة على توسيع الأفكار البشرية.
وإن من حق عظمة الجمهورية الفرنسية أن تتوقف من الآن فصاعدا على ألا يكون هناك فكرة واحدة لا تكون هي مالكتها.
بونابرت
كان هذا الكلام جميلا في فم رجل توصل إلى قمة المجد بأعمال عسكرية صرفة، إلا أن نابوليون كان يرغب رغبة شديدة في أن يبين أن حظه وتعشقه المهنة يعميان عليه السبيل القويم، ولكي يبلغ السمو الذي شعر به نبوغه اللماع، كان بحاجة إلى أن يظهر بمظهر أكبر من القائد الكبير الكلف بانتصاراته، كان ملء نفسه أن يرى الأمة الكبرى، ملكة العالم التي كان يود أن يستولي عليها بنفسه، ناظرة إليه كما تنظر، ليس فقط إلى رجل جدير بأن يدافع عنها بالسلاح فحسب، بل إلى رجل جدير بأن يصون نمو ثروتها الأدبية والحماية العالمية التي كانت تمارسها بما أوتيت من التفوق الأدبي والنفوذ العسكري.
ولكن هل حان الوقت لإظهار المطاليب السرية التي كان يغذيها في نفسه منذ حملة إيطاليا؟ لم يفكر نابوليون في ذلك، سوى أنه كان من حقه أن يفكر في الخروج بأسرع ما يمكن من الخمول الذي يعرض شهرته الرحبة للخطر ، وما هو إلا وقت قصير حتى تقرر رحيله إلى مصر، أما مجلس الشعب فلم يرفض ذلك؛ لأنه كان يرغب في إبعاد ذلك المحارب الشهير لما في إبعاده من الخطر عليه، من غير أن يفكر في أن الانتصارات الجديدة إنما تزيد في دهشة الأمة وإعجابها، وترحب وتنمي استمالة الشعب التي كانت تخشاها وتعمل على إطفائها، وأما بونابرت، الذي كان وضع الخطة، فقد هيأ وحده المعدات اللازمة وأخذ على نفسه تنظيم الجيش لتلك الحملة، ولقد اختار هو أيضا عمدة من العلماء ورجال الفن الذين كان من واجبهم أن يرافقوا الجيش ليقوموا بخدمة الانتصارات في ترقي الحضارة. عندما سئل نابوليون عما إذا كان يرغب في البقاء طويلا في مصر قال: «بعض أشهر أو ست سنوات، ذلك يتوقف على الظروف.» وحمل معه مكتبة كاملة، تحتوي على مجلدات كثيرة في العلوم والفنون والجغرافية والأسفار والتاريخ والشعر والقصص الروائية والسياسة، كان يرى في قائمته: بلوتارك، بوليب، توسيديد، تيت ليف، تاسيت، راينال، فولتير، فريدريك الثاني، هوميرس، لوتاس، أوسيان، فرجيل، فينلون، لافونتين، روسو، مرمونتيل، لوساج، غوتي، العهد القديم، العهد الجديد، القرآن، روح الشرائع واللاهوت.
عندما أوشك بونابرت أن يترك باريس كادت توقفه مشاجرة، حدثت بين برنادوت والديوان النمسوي، تتعلق بالعلم المثلث الألوان الذي كان السفير الفرنسي قد رفعه فوق مركزه فأهانه شعب فيينا، فأراد مجلس الشعب أن ينتقم من هذه الإهانة بأن يشهر حربا جديدة يقودها قاهر إيطاليا، إلا أن هذا بين بحق صراح أن على السياسة أن تسوس العوارض وليس على العوارض أن تسوس السياسة، فلم يجد مجلس الشعب بدا من الخضوع لهذه الملاحظة الصحيحة، وزحف نابوليون إلى طولون.
في الثامن من شهر أيار عام 1799 وصل بونابرت إلى تلك المدينة التي كانت مهد شهرته ومجده، فبلغه أن الشريعة الدراكونية التي هيجتها المهاجرة، والتي نفذها 18 فروكتيدور تنفيذا شديدا لا تزال تذيع الحزن في الفرقة العسكرية التاسعة، وبما أنه لم يكن يحق له أن يصدر أوامر في مدينة ليست تحت سلطته كتب إلى مجلس الجنوب العسكري، بصفته عضو مجلس العلماء الوطني؛ ليرشده إلى استشارة الحلم والإنسانية في أحكامه، قال: «لقد تناهى إلي بألم عظيم أن هناك شيوخا تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين، ونساء بائسات حبالى يحف بهن أطفال صغار قد قتلوا قتلا فظيعا لاتهامهم بالمهاجرة.
هل انقلب جنود الحرية إلى سفاحين؟ وهل ماتت في قلوبهم تلك الشفقة التي حملوها حتى إلى ساحات القتال؟
إن شريعة 19 فروكتيدور إنما كانت حكمة السلام العام، وكان قصدها أن تنال من التعصبات المشينة وليس من النساء البائسات والشيوخ العجز.
إنني أرشدكم أيها المواطنون، كلما قدمت الشريعة إلى محكمتكم شيوخا يجاوزون الستين من أعمارهم، أو نساء أن تصرحوا علنا أنكم قد احترمتم شيوخ أعدائكم ونساءهم في وسط الحرب.
فالجندي الذي يصدر حكما بحق شخص عاجز عن حمل السلاح إنما هو جبان.»
هذا العمل الكريم أنقذ حياة مهاجر شيخ كان المجلس العسكري الطولوني قد حكم عليه بالموت، جميل أن يرى جندي تعود هرق الدم البشري في ساحات القتال يأمر جنوده بأن يحترموا ذلك الدم في ضعف الشيخوخة والمرأة، جميل أن يرى، هو، ذلك المحارب الأول بين المحاربين، داعيا رجال الحرب إلى الإنسانية، ومعتمدا بإرشاداته المخلصة، ليس على سلطته أو على شهرته العسكرية، بل على الحقوق التي نالته إياها مقدرته العقلية، ومواهبه السامية، ومعارفه الواسعة، وأعماله السلمية. إن في هذه الرسالة، التي أرسلها بونابرت وهو عضو مجلس العلماء إلى مجلس الجنوب العسكري، لعاطفة عميقة توجب على السيف أن يذعن للفكرة حين يكون العمل في سبيل الرقي العالمي.
عندما جهزت معدات السفر، ودنا وقت الرحيل، وجه نابوليون إلى جيشه هذه الخطبة الآتية:
أيها الضباط والجنود
جئت أقودكم منذ سنتين: في ذلك العهد كنتم في نهر جنوا، في أبعد ما يكون من الفقر، لا تملكون شيئا، وقد ضحيتم حتى بساعاتكم لأجل القوت الضروري، فوعدتكم بوضع حد لبؤسكم، وقدتكم إلى إيطاليا، هناك، منحتم كل شيء ... ألم أف بوعدي؟
فأجاب الجنود بصوت واحد هاتفين: أجل!
واستطرد نابوليون قائلا: «إذن فاعلموا أنكم لم تعملوا شيئا بعد في سبيل الوطن، والوطن لم يعمل شيئا بعد في سبيلكم.
إنني لأقودكم الآن إلى بلاد يقيض لكم فيها، بما تأتونه من الأعمال، أن تفوقوا على الذين يدهشون اليوم جميع المعجبين بكم، وتؤدوا إلى الوطن الخدم التي من حقه أن يتوقعها من جيش لا يقهر.
إنني لأعد كل جندي منكم بأن سيتاح له لدى عودته من تلك الحملة أن يشتري ست قطع من الأرض.
ستجتازون أخطارا جديدة يشاطركم إياها إخوتكم البحريون، فهذا لم يدب الخوف في أعدائكم حتى الآن، وأعماله لم تضارع أعمالكم؛ لأن الظروف أخطأته، إلا أن شجاعة هؤلاء البحريين إنما هي كشجاعتكم، وسيتاح لهم أن ينالوا الفوز العظيم باتحادهم معكم.
ألا فشاطروا ذلك الأمل القاهر الذي قيض لكم النصر في كل حين، عاونوهم في جهودهم، احيوا حياة إخاء بذلك الذكاء الذي يشيع خلق الرجال المخلصين الموقوفين للقيام بصالح واحد، إنهم لقد استحقوا مثلكم ثناء الشعب في فن النوتية الشاق.
عودوا نفوسكم التدربات البحرية، كونوا صاعقة أعدائكم في البحر والبر، واحذوا حذو الجنود الرومانيين الذين عرفوا أن يقاتلوا في الوقت نفسه قرطجنة في السهل وقرطجنة على مراكبها.»
كان الهتاف: «لتحي الجمهورية!» جواب الجيش على كلام القائد، كانت جوزيفين قد رافقت زوجها إلى تولون، فكان وداعهما في أبعد ما يكون من التأثير؛ إذ إن جوزيفين كانت تحبه محبة تقرب من العبادة، كان من حق الزوجين أن يخشيا على فرقتهما أن تكون أبدية إذا هما فكرا في المخاطر التي على القائد أن يجتازها، وأقلع الأسطول في التاسع عشر من شهر أيار.
عندما خرج الأسطول من تولون اتجه نحو مالطة. فذات مساء، بينما كان يمخر عباب بحر سيسيليا، خيل إلى كاتم أسرار القائد العام أنه يرى قمم الألب من خلال الشمس المنحدرة إلى المغيب، فأفضى باكتشافه هذا إلى بونابرت الذي لم يجب بسوى إشارة، إلا أن الأميرال بروه أخذ نظارته الصغيرة وصرح بأن بوريين إنما كان مصيبا في نظرته، عند هذا صرخ بونابرت قائلا: «الألب!» وبعد أن مرت عليه فترة تفكير عميق قال: «لا، إنني لا أستطيع أن أرى أرض إيطاليا من غير أن أشعر بجزع! هو ذا الشرق! فأنا ذاهب إليه! إن هناك لمشروعا خطرا يدعوني! وهذه الجبال تكتنف السهول التي قدر لي مرارا عديدة أن أقود فيها الفرنسيين إلى النصر، ومع هؤلاء سنقهر طويلا بعد.»
كان يحلو لنابوليون في وسط البحر أن يتحدث إلى العلماء والقواد الذين يرافقونه، فيخاطب كلا منهم بالمادة التي انصرف إليها، وبعد الغداء، كان يحلو له أن يقترح أسئلة صعبة في أهم المواد، فتحتك الآراء بعضها ببعض، وتحتدم المناقشة، حتى إذا استوى رأيه على ما كان أكثرهم حذقا في إثبات المستحيل والبدع الغريبة وقف عنده وقدمه على غيره، وكان يحب أيضا أن يطرح السؤال المزدوج الذي يتعلق بعمر الكون وبإبادته الممكنة؛ إذ إن مخيلته وفكرته لم تكونا ترتاحان إلا إلى الأسئلة الرحبة السامية.
بعد سفر هادئ دام عشرين يوما ظهر الأسطول الفرنسي، في العاشر من شهر حزيران، أمام مالطة التي استسلمت من غير مقاومة، ما جعل كافاريللي يقول لبونابرت بعد زيارة الحصون: «إننا لسعيدون، يا قائدي، بأن قدر لنا وجود واحد في المدينة يفتح لنا الأبواب.» لم يقف بونابرت في مالطة سوى أيام قلائل، وسار الأسطول نحو كاندي، هذه الدورة خدعت نلسون وحالت بينه وبين ملاقاة الحملة الفرنسية أمام الإسكندرية كما حسب قبلا، فكان هذا من حظ الجيش الفرنسي؛ إذ إن بروه كان قد صرح بأن الأميرال الإنكليزي لم يكن بحاجة إلى أكثر من عشرة مراكب ليتم له النصر المؤكد.
وقبل أن يبلغ بونابرت الشاطئ الإفريقي أراد أن يخاطب جنوده مرة أخرى لكي يضرم حميتهم بقوله لهم إنهم من الفتح العظيم على خطوة، ولكي يحذرهم من مخاطر خمود الهمة وحرق النظام، وهذا هو النداء المشهور الذي وجهه إليهم بهذه المناسبة:
بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني، وقائد عام
4 مسيدور عام 6
أيها الجنود
إنكم ستقدمون على فتح عظيم لا تحصى نتائجه العائدة بالخير على تجارة العالم وحضارته، إنكم ستحملون إلى إنكلترا الطعنة الواثقة حتى يتاح لكم أن تحملوا إليها الطعنة القاضية.
سنقوم ببعض أعمال شاقة ، فنشهر مواقع عديدة، ونفوز في جميع مشاريعنا، إن المستقبل إنما هو في قبضة يدنا! أما البكوات والمماليك الذين يساعدون التجارة الإنكليزية، ويتعدون على حقوق تجارنا، ويرهقون سكان النيل المساكين بالظلم؛ فإنهم سينقرضون بعد وصولنا ببضعة أيام.
إن الشعب الذي سنعيش معه لشعب مسلم، وعقيدته الأولى هي هذه: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فلا تناقضوه، وانهجوا معه كما نهجنا مع اليهود والطليان، أكرموا أئمته ومفتيه، كما أكرمتم الحاخامين والأساقفة، تساهلوا مع الشرائع التي يأمر بها القرآن والجوامع، كما تساهلتم مع الأديرة، ومحافل اليهود، وشريعة موسى والمسيح.
إن الفرق الرومانية إنما كانت تصون جميع الأديان، سترون هناك عادات تختلف عن عادات أوروبا فيجب أن تتعودوها.
ثم إن الشعب الذي سندخل عليه يعامل المرأة معاملة تختلف عن معاملتنا إياها، ولكن من يتعدى إنما هو في جميع البلدان وحش ضار.
والنهب لا يغني سوى عدد من الرجال قليل، فهو يهتك حرمتنا ويهدم وسائلنا ويجعلنا أعداء الشعوب التي من مصلحتنا أن نتخذهم أصدقاء، أما المدينة الأولى التي سننتحيها فقد شيدها الإسكندر؛ فإننا لنجد لدى كل خطوة نخطوها ذكريات كبرى جديرة بأن تهيج حماسة الفرنسيين.
عقيب هذا النداء أصدر نابوليون نشرة ضمنها الحكم بالإعدام على كل فرد من أفراد الجيش يقدم على النهب والهدم، أو يضع جزية، أو يرتكب اختلاسا ما؛ ما جعل القواد يتحملون عاقبة كل أمر مشين.
كان نابوليون يحذو حذو الرومانيين بهذه الصرامة، إلا أن الشيء الجديد الذي تضمنته تلك النشرة المشهورة، والذي كثيرا ما استوحاه بونابرت في نشراته التي أصدرها في حملة مصر، إنما هو مشهد فاتح لا يسير، في جميع المواقف التي احتاج فيها إلى مخاطبة جنوده أو الشعوب التي يخترق أراضيها، على خطى من تقدمه فيستفيد من سلطة كبرى أو هائلة تدب الذعر والهول، بل يتكلف في إظهار احترامه للشعوب بصفته عضو مجلس علماء لا ترتكز سلطته إلا على الفكرة الهادئة والعقل الإنساني.
كان الإسكندر، في مصر نفسها، قد أعلن نفسه أنه ابن جوبيتير، وكان القيصر أيضا قد شاء أن يتحدر من صلب الآلهة، كما أن أتيلا سمى نفسه ضربة الله، وكما أن الحكمة السامية نفسها، في الأجيال الوسطى للمسيحية وفي عهد الوثنيين القديم، قد اتخذت من خاصياتها ومن قبل اللاهوتيين والشعراء مستودع الصاعقة، وقيادة الجيوش، وإدارة الحروب.
كان بونابرت يفهم حق الفهم العصر الذي كان من واجبه أن يعالج فيه سلطة الذكاء ليسحر المجموع، وبما أنه كان يرغب في أن يظهر بشكل ساطع وبقدوته الخاصة أن الرقي العالمي الذي بشرت به الفلاسفة وهتفت له الشعوب إنما يناط بخضوع السيف لسلطة الفنون المهذبة، وقوة التجارة والعلوم، عمد - وهو الأول بين المحاربين في أعظم أمة حربية في العالم - إلى وضع مقامه العسكري العظيم بعد مقامه البسيط كعضو في مجلس علمي، فكتب في مقدمة رسائله ونشراته الرسمية هذه الكلمات: «بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني.»
رسا الأسطول أمام الإسكندرية في الأول من شهر تموز، كان نلسون قبل يومين في ذلك المكان، إلا أنه استغرب عدم التقائه بالحملة الفرنسية فقدر أنها اتجهت إلى شواطئ سوريا لتبحر منها إلى إسكندرونة، أما بونابرت، الذي أشعر بظهور الأميرال الإنكليزي وتوقع عودته القريبة، فقد عزم على تتميم إبحار جيشه بأسرع ما يكون، إلا أن الأميرال بروه، الذي كان يرى محذورا في ذلك، مانع تتميم الإبحار بكل قواه، فأصر نابوليون وخاطب بروه الذي كان قد طلب مهلة اثنتي عشرة ساعة قائلا: «أيها الأميرال إن الوقت ضيق لدينا فيجب ألا نتردد، ثم إن الحظ لا يهبنا إلا ثلاثة أيام لا غير فإذا لم نستفد منها فقدنا كل شيء.» فلم يجد الأميرال بدا من الإذعان لحسن حظ أسطوله؛ إذ إن نلسون، الذي لم يجده في النواحي التي بحث عنه فيها، لم يتردد أن عاد إلى الإسكندرية، إلا أن الوقت كان قد فات، فإصرار بونابرت وحدة مزاجه كانا قد أنقذا الجيش الفرنسي الذي كان جميعه على اليابسة.
أبحر الأسطول إلى مرعبو، التي هي على مسافة ثلاثة فراسخ من الإسكندرية في الليل الذي بين اليوم الأول والثاني من تموز ، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ثم زحف الجيش بعد ذلك إلى تلك المدينة واضطر أن يتسلق جدرانها، أما كليبر، الذي كان يدير القتال، فقد جرح في رأسه، لم يكلف هذا الفتح إلا جهودا قليلة، ولم يحدث في الإسكندرية من النهب والقتل شيء قط.
عندما وضع بونابرت قدمه على الأرض، كتب إلى باشا مصر هذه الرسالة الآتية: «إن المجلس التنفيذي في الجمهورية الفرنسية قد خاطب الباب العالي مرارا عديدة ليسأله معاقبة بكوات مصر الذين يرهقون التجار الفرنسيين بالظلم، إلا أن الباب العالي قد صرح أن البكوات، وهم قوم طماع يذهبون في مذاهب هواهم، يصغون إلى شرائع العدالة، ولم يكتف فقط بأن لا يمنع الإهانات التي يلحقها هؤلاء الفرنسيين أصدقاءهم القدماء، حتى عمد إلى تجريدهم من حمايته.
إذن فالجمهورية الفرنسية قد عزمت على إرسال جيش عظيم ليضع حدا لمظالم بكوات مصر، كما صنعت مرارا عديدة مع بكوات تونس والجزائر في هذا العصر.
أما وأنت سيد البكوات المطاع، وأما وهم ينهجون في القاهرة من غير سلطة ونظام، فيجب عليك أن تنظر إلى وصولي نظرة مستحسن فرح.
إنك ولا شك تعرف كل المعرفة أنني لا أقصد في مجيئي القيام بعمل يحط من قدر القرآن والسلطان، وتعرف أن الأمة الفرنسية هي السلطان الوحيد في أوروبا.
إذن فتعال إلى ملاقاتي، والعن معي نسل البكوات الجاحد.»
عندما دخل نابوليون إلى الإسكندرية أسرع بنشر نداء على السكان، وهذا هو:
بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني، قائد عام للجيش الفرنسي
منذ زمن طويل والبكوات الذين يحكمون في مصر يهينون الأمة الفرنسية ويرهقون تجارها بالمظالم، ولقد حانت ساعة العقاب.
منذ زمن طويل وهؤلاء العبيد اللقطاء الذين بيعوا في أسواق قوقاز وجيورجيا يضطهدون أجمل قسم في العالم، إلا أن الله الذي بيده كل شيء قد أمر بانقضاء سلطانهم.
شعوب مصر، سيقال: إنني جئت لأهدم دينكم، فلا تصدقوا! بل أجيبوا أنني إنما جئت لأرد عليكم حقوقكم، وأعاقب المختلسين، وأنني أحترم أكثر من المماليك الله ونبيه والقرآن، قولوا لهم: إن الرجال جميعهم سواء عند الله ، وإن الحكمة والذكاء والفضائل هي وحدها التي تميز الرجل عن الآخر، فأية حكمة أم أي ذكاء وفضيلة تميز المماليك ليحق لهم كل ما في الحياة من اللذة؟
إذا كانت مصر أرضا لهم فليبرزوا الإيجار الذي عمله لهم الله، ولكن الله عادل ومشفق على الشعب.
سيدعى المصريون جميعهم لإدارة شئون ملكهم، فالعقلاء والمتفقون والفضلاء منهم يحكمون، ويصبح الشعب سعيدا.
كان فيما مضى مدن كبرى، وقنوات واسعة، وتجارة عظيمة، فمن هدمها غير نسل المماليك وظلمهم واضطهادهم؟
أيها القضاة، والشيوخ، والأئمة قولوا للشعب: إننا أصدقاء المسلمين الحقيقيين، أما نحن الذين أهلكوا البابا الذي كان يقول إنه من الواجب أن تشهر الحرب على المسلمين؟ أما نحن الذين أهلكوا فرسان مالطة؛ لأن هؤلاء البلهاء كانوا يعتقدون أن الله يرغب في أن يحاربوا المسلمين؟ أما نحن الذين كانوا في جميع العصور أصدقاء السيد الأعظم - حقق الله أمانيه - وأعداء أعدائه؟ أما المماليك فبالعكس، ألم يتمردوا على سلطة السيد الأعظم الذي كانوا لا يزالون ينكرونه؟ إنهم لا يتبعون سوى أطماعهم.
ثلاث مرات؛ سعداء هم الذين ينضمون إلينا! فسيفلحون في ثروتهم ومقامهم.
سعداء هم الذين يكونون على الحياد، فسيتاح لهم أن يعرفونا فينضموا إلينا، ولكن! الويل، ثلاث مرات؛ الويل للذين يتقلدون السلاح مع المماليك ويقاتلون ضدنا! فإنهم لييأسون، وينقرضون!
بعد أن عهد بونابرت إلى كليبر
3
بقيادة الإسكندرية، ترك هذا المركز في السابع من شهر تموز، وأخذ طريق دمنهور من وسط الصحراء حيث الجوع والعطش والحر المرهق، جعلت الجيش يكابد أوجاعا وعذابات لا تطاق، وأماتت الكثير من عساكره، إلا أنهم وجدوا بعض الراحة في دمنهور حيث وطد بونابرت مكانا لحاشيته عند الشيخ، وهو رجل مسن كان يتظاهر بالفقر لئلا يلحقه الظلم إذا هو كشف عن غناه، ثم والى الزحف إلى القاهرة، ولم يمر أربعة أيام حتى قاتل المماليك في الرمانية وأتلف بناية البكوات وخيالتهم.
كان القائد العام في هذا القتال الأخير قد نظم فرق الجنود إلى صفوف مربعة، كانت خيالة الأعداء تتحطم عليها بالرغم من قتالهم الجسور وشجاعتهم المتقحمة.
هذه الانتصارات العديدة التي ربحها بونابرت لم تكن سوى فاتحة انتصار عظيم فتح أبواب القاهرة للجيش الفرنسي، وفي أواخر تموز كان الجيش أمام مراد بك، في سفح الأهرام، فاستوحى بونابرت تلك الآثار الشاهقة القديمة، وفي حين أوشكت الحرب أن تنطلق من بركانها صرخ نابوليون قائلا: «أيها الجنود، إنكم ستقاتلون ولاة مصر، فاذكروا أن أربعين قرنا تشخص إليكم من أعالي هذه الآثار.»
أربعون قرنا بالحقيقة كانت تشخص إلى الفرنسيين من أعالي تلك الأهرام! أربعون قرنا أبصر الأول منها أيدي الطوائف المصرية، تلك الأيدي المستعبدة، تضع أساس هذه القبور الملكية العظمى، وأبصر الأخير منها أيدي الفرنسيين الأحرار تفتح آثار الاستعباد القديم في سبيل الرقي العام، إن الخطبة الموجزة التي تلفظ بها بونابرت إنما كانت تشير إلى المسافة التي تفرق بين المؤسسين والفاتحين؛ فالأولون، إنما هم القاسطون أو العبيد منذ نشأتهم، والآخرون، إنما هم الأحرار المتساوون، قوادا أو جنودا، كل بحسب استحقاقه، إن بين الفراعنة، أسياد الطوائف الخاضعة بالإرث لأكثر الأعمال مشقة، والقائد العظيم الذي قدم ليقول للمصريين: «إن الخلق لسواء عند الله.» ويبشرهم بحكم الفضائل والذكاء، إن بين هؤلاء لسلسلة من الرقي البطيء الشاق، تتصل حلقتها الأولى بالحجر الأول من الأهرام الذي وضعه البؤس الوراثي، والحلقة الأخيرة بنداء المحارب الذي لا يعترف بسوى الحكمة والجدارة لقيادة البشر، والذي يظهر نفسه أكثر رغبة وفخرا بنفوذ معارفه النيرة من عظمة سيفه، عندما قال بونابرت لجنود الجمهورية: إن أربعين قرنا تشخص إليهم، في حين كانوا أمام الطوائف التي استعادت بقايا الاستعباد القديم، هيج حماسة كتائبه؛ ليمدوا في خيرات رقي كلف الإنسانية أربعة آلاف سنة من الجهود والتضحيات، أما هذه الشواهد المهيبة فلم تكن بدون جدوى؛ إذ إن الجيش الفرنسي أجاب بانتصار عظيم على خطاب قائده البليغ.
ونعطي هنا وصف المعركة الهائلة كما كتبها بونابرت بنفسه: «في الثالث، عند مطلع النهار، التقينا بالحرس الذين دفعناهم من قرية إلى قرية.
وفي الساعة الثانية بعد الظهر، وجدنا أنفسنا أمام متاريس الجيش العدو، فأشرت إلى فرقتي القائدين دوزه وراينر بأن تتخذ مركزا لهما في الجهة اليمنى من الجيزة بشكل أن تقطعا عن العدو مواصلات مصر العليا التي كانت ملجأه الطبيعي.
عندما شعر مراد بك بحركة القائد دوزه عزم أن يهجم عليه، فأرسل أحد بكواته البسلاء مع جيش من صفوة الجنود، أما نحن فتركناه يقترب منا حتى إذا ما أصبح على قيد خمسين خطوة قابلناه برذاذ من القنابل أسقط منه عددا كبيرا في ساحة القتال، وما هي إلا فترة حتى كسر شر كسرة.
إذ ذاك استفدت من الظرف، فأمرت فرقة القائد بون التي كانت على النيل بأن تهاجم المتاريس، وأشرت إلى القائد فيال الذي يقود فرقة القائد مينو بأن يهجم بين الفرقة التي جاءت تهاجمه والمتاريس، بشكل أن يحقق الثلاث: منع الفرقة من الرجوع، قطع خط العودة على العدو، والهجوم على المتاريس من اليسار إذا كان من موجب لذلك.
لما استعد القائدان فيال وبون الاستعداد كله أصدرا أمرهما إلى الفرقتين الأولى والثالثة من كل جحفل بأن تصطفا للقتال، وأن تبقى الثانية والرابعة على ما كانتا عليه، تؤلفان دائما الجحفل المربع فتتقدمان لتعضدا صفوف الهجوم.
أما صفوف القائد بون، التي يقودها القائد الباسل رامبون، فقد هجمت على المتاريس بشجاعتها المعهودة بالرغم من نار المماليك، وما هي إلا هنيهة حتى غطيت ساحة القتال بالقتلى والمجاريح، وقيض لكتائبنا أن تستولي على المتاريس، وأما المماليك فقد تشتت من بقي منهم، وسقط منهم عدد كبير في مياه النيل فأغرقوا جميعا.
قدر لنا أن نغنم أكثر من أربعمائة جمل محملة وخمسين مدفعا، ولقد قدرت خسارة المماليك بألفي رجل من صفوة الخيالة وعدد لا يحصى من البكوات المجاريح والقتلى، وأما مراد بك فقد جرح في خده، وقدرت خسارتنا بنحو عشرين أو ثلاثين قتيلا، ومائة وعشرين جريحا، وفي الليلة نفسها أخليت لنا مدينة القاهرة، ولقد أحرقت زوارق العدو جميعها ونقائره وباخرة، وفي الرابع من الشهر دخلت كتائبنا إلى القاهرة. في الليل، أحرق الشعب منازل البكوات وارتكب تعديات كثيرة. إن شعب القاهرة، التي تضم أكثر من ثلاثمائة ألف من السكان ، إنما هو أمقت شعب في العالم.
لم أكن لأمدح الكتائب التي أقودها لو لم تتخذ شعارها الصبر والتجلد في تلك المواقع فتستسلم لحميتها وشدتها المتهورة؛ إذ إنها لو استسلمت لفطرتها الخطرة لما قدر لنا النصر الذي من شروطه الأولى، في مثل تلك الظروف، أن يتخذ له الصبر والتجلد عدة.
لقد أبدت خيالة المماليك بسالة عظمى، فقد كانت تدافع بشدة وشجاعة عن ثروتها، ولقد وجدت عساكرنا على كل فرد من هؤلاء لا أقل من ثلاث أو أربع أو خمسمائة ليرة ذهبية.
إن ثروة هؤلاء القوم إنما هي في جيادهم وأسلحتهم، أما منازلهم فهي أبعد ما يكون من الفقر، وإنه لمن الصعب أن ترى أرض أخصب من أرضهم، وشعب أكثر بؤسا من شعبهم. إنهم ليؤثرون زرا من أزرار جنودنا على قطعة توازي ستة فرنكات، وأما في القرى فالشعب لا يعرف ما هو المقص، إن بيوتهم من الحمأ، وأثاثها فراش من القش وقربتان أو ثلاث من التراب. إنهم يعيشون عيشة مدقعة، ويجهلون طريقة الطواحين حتى إننا استولينا على كوم من القمح عظيمة من غير أن نحصل على طحين، نحن نقتات من الثمار والخضر واللحوم، وأما القليل من الحبوب المجروشة بالحجارة، ففي بعض القرى الكبيرة طواحين حجرية يديرها الفدادين.
لقد كنا في كل فترة مهددين بجماعات من العرب، هم أكبر لصوص الأرض، ولقد شاء سوء الطالع أن يقتل قائد الحرس مويرور وكثير غيره من المعاونين والضباط بيد هؤلاء الأشراء الذين كانوا يكمنون وراء الحواجز وفي الحفر ممتطين ظهور جيادهم الصغيرة الجميلة؛ ويل للذي يبتعد مائة قدم عن المعسكر. إن الجمهورية قد خسرت خسارة عظيمة بموت مويرور، فقد كان من هؤلاء القواد الذين لم أقع على أشد بسالة منهم.
لا يمكن للجمهورية أن تقع على مستعمرة أكثر غنى من مصر، فالهواء فيها نقي لأن لياليها رطبة، إننا بالرغم من الأتعاب التي كابدناها في السير والجوع وحرماننا من النبيذ لم نشعر بألم قط، ولم يمرض أحد منا.
إنني أسألكم رتبة قائد فرقة للقائد دومارثين الذي أبلى بلاء حسنا، ثم إن القائد زاينوشيك قام بخدم جديرة بالالتفات في كثير من المواقف المهمة التي عهدت بها إليه.
منذ سفرنا إلى مصر لم نتلق خبرا واحدا من فرنسا ...
أرجو منكم أن تدفعوا إنعاما قدره ألف ومائتا فرنك لامرأة المواطن لاري، جراح الجيش، فلقد خدمنا في وسط الصحراء خدما جليلة بنشاطه وغيرته، وهو الضابط الصحي الذي لا نجد أفضل منه لمستشفيات الجيش.»
في الصباح، 4 ترميدور (22 تموز) قرب بونابرت من القاهرة ونشر النداء الآتي: «شعب مصر، إنني مسرور من تصرفكم، فلقد أحسنتم برفضكم الاشتراك في مقاتلتي، لقد جئت لأمحق نسل المماليك، وأصون تجارة البلاد، فليطمئن كل من حدثته النفس بسوء، وليعد إلى مأواه كل من ابتعد عنه، عودوا إلى الصلاة كما كنتم، ولا تخشوا على عيالكم شرا، لا تخافوا على بيوتكم، وأملاككم ودين النبي الذي أحبه، لقد شكلت ديوانا من سبعة أشخاص يجتمعون في جامع هناك لحراسة الشعب، والمحافظة على الأمن العام.»
في الرابع والعشرين من تموز دخل بونابرت إلى عاصمة مصر، وفي الخامس والعشرين منه كتب إلى شقيقه جوزيف عضو مجلس الخمس المائة ما يلي: «سترى في الجرائد مذكرات مواقع مصر وفتحها، ذلك الفتح الذي أضاف صفحة بيضاء على مجد الجيش الفرنسي، إن مصر لأغنى بلدان الأرض بالقمح والأرز والخضر واللحوم على ما هي عليه من الوحشية وسوء المصير، إنما المال فيها قليل جدا، إذن فسأكون في فرنسا بعد شهرين، فكن قريبا من باريس، كن في بورغونيه التي عزمت على تمضية فصل الشتاء فيها.»
إن هذه الرسالة لتبين أن نابوليون إنما كان يعتقد كل الاعتقاد بتحقيق فتحه، ولكن فيم هذه العودة إلى فرنسا؟ أبوده أن يبحث هناك عن وسائل عسكرية جديدة وعناصر للاستعمار كما ظن البعض؟ أم إن غايته الوحيدة إنما كانت دنوه من المسرح الذي يدعوه القدر إليه ليلعب الدور الأول فيه، وقد تبينت له قريبة الحوادث التي تنبأ عنها ورغب فيها منذ أمد بعيد؟ يخيل إلينا أن القياس الأخير إنما هو الأقرب للتصديق.
الفصل الخامس
بينما كان دوزه يطارد مراد بك في مصر العليا كان نابوليون مهتما في القاهرة بوضع وكالة منظمة في المقاطعات المصرية، إلا أن إبراهيم باشا، الذي كان قد حمل على سوريا، أرغم الفاتح الشارع بما أتاه من ضروب الحركات على ترك أعماله الهادئة للعودة إلى القتال، ولقد قيض لبونابرت أن يلتقي به في الصالحية ويقاتله قتالا هائلا.
أما فرح هذا الانتصار الجديد فقد عكر صفوه بنبأ محزن. أرسل كليبر إلى بونابرت برقية يقول له فيها: إن نلسون قد أتلف الأسطول الفرنسي في أبو قير بعد قتال مقنط، عندما انتشر هذا النبأ في الجيش، أظهر الجنود والقواد استياء عظيما وأخذوا يتذمرون من تلك الحالة التي هم عليها، أما نابوليون فقد ظهر عليه القلق بادئ ذي بدء، وعندما قالوا له إن مجلس الشعب سيعوض عليه الخسائر التي كابدها قاطعهم بحدة قائلا: «إن مجلسكم هذا إنما هو جاحد؛ لأنه يمقتني ويريد بي شرا.» ثم نفض عنه جملة يأسه وصرخ بصوت تراوده نبرات البطولة قائلا: «إننا سنبقى هنا، أو نخرج كما خرج الأقدمون كبارا!» منذ ذلك الوقت أخذ بونابرت يسعى بحمية ونشاط لا يكلان إلى تنظيم مصر تنظيما وطنيا، كان يشعر بحاجة قصوى إلى التوفيق بين أهالي البلاد ليتاح له أن يوطد في مصر إقامة مستمرة، وأول ما عمله أن شيد جامعة على نسق جامعة باريس، وقسمها إلى طبقات أربع: حساب، وطبيعيات، واقتصاد سياسي، وأدب وفنون جميلة؛ وعهد بإدارتها إلى مونج، أما هو فاكتفى بأن شغل وظيفة نائب مدير.
أحب المسلمون بونابرت محبة شديدة فلقبوه بالسلطان الكبير أبي النيران، وأخذوا يدعونه إلى أعيادهم واحتفالاتهم. حضر بونابرت الاحتفال الذي أقيم بمناسبة فيضان النيل، ولكن من غير أن يتصدره كما ظن البعض، وحضر أيضا الاحتفال الذي أقيم بمناسبة عيد المولد النبوي، أما الرعاية والالتفات اللذان أظهرهما نحو دين النبي، فقد كانا أكبر عامل لاحترام اسمه وسلطته في مصر.
لم يكن بونابرت مسلما ولا مسيحيا، إنما كان هو وجنوده يمثلون في مصر الفلسفة الفرنسية، ومذهب المرتابين المتساهل، والتجرد الديني في القرن الثامن عشر، ولكنه، بدلا من الدين الوضعي، كان يتعهد في نفسه زاوية صغيرة من التدين المبهم، إلا أن هذه الطوية التي صانته من الشبهة في زمنه، وأتاحت له صداقة الأئمة والشيوخ، كما أتاحت له في الماضي صداقة رؤساء الدين المسيحي واليهودي، هذه الطوية لم تقربه من القرآن أكثر مما قربته من الإنجيل.
احتفل في القاهرة بالعيد السنوي لتأسيس الجمهورية الفرنسية في الأول من فنديميير عام 7، وتصدر بونابرت هذا الاحتفال الوطني، قال مخاطبا جنوده:
أيها الجنود
كان استقلال الشعب مهددا منذ خمس سنوات، إلا أن استيلاءكم على طولون كان دلالة على إتلاف أعدائكم. بعد سنة، قاتلتم النمسويين في ديغو، وبعد سنة أخرى، كنتم على قمة الألب، منذ سنتين قاتلتم ضد مانتو، وانتصرنا في موقعة سان جورج المشهورة، وفي العام الماضي كنتم على ينابيع دراف والأيزونزو. من قال يومذاك إنكم ستصحبون اليوم على شواطئ النيل، في وسط الأرض القديمة؟ إن أنظار العالم لشاخصة إليكم، من الإنكليز الذين اشتهروا بالفنون والتجارة إلى البدوان المتوحشين المفترسين.
أيها الجنود
إن مستقبلكم لجميل باهر؛ لأنكم جديرون بما عملتم وبما يقولون عنكم، إنكم لتموتون بشرف كهؤلاء البسلاء الأبطال المدونة أسماؤهم على هذا الهرم،
1
أو تعودون إلى وطنكم حاملين أكاليل الغار ومستقبلين إعجاب الشعوب جميعها.
لقد كنا منذ ابتعادنا عن أوروبا موضوع عناية أبناء بلادنا، وفي هذا اليوم، أربعون مليونا من المواطنين يحتفلون بعصر الحكومة التمثيلية، أربعون مليونا من المواطنين يفكرون فيكم قائلين: إننا مدينون لأعمالهم ولدمهم بالسلام العام، والسكينة، ورقي التجارة، وحسنات الحرية الوطنية.
أما المشايخ، فلكي يجازوا بونابرت على الالتفات الحسن الذي أظهره نحوهم في احتفالاتهم، عقدوا اجتماعا فيما بينهم وقرروا أن ينشدوا ألحان الفرح في الجامع الكبير؛ سائلين الله العظيم أن يبارك مصطفى النصر وينمي جيش بسلاء الغرب.
وأما زعماء المماليك المتحدون مع إنكلترا، وإبراهيم باشا ومراد بك، فقد عمدوا إلى تهييج العصيان الذي ما لبث أن انطلق في عاصمة مصر نفسها، كان بونابرت يوم ذاك في القاهرة القديمة، فلما تناهى إليه ذلك أسرع بالعودة إلى معسكره، وما هي إلا سانحة حتى كنست الكتائب الفرنسية شوارع القاهرة، واضطرت المتمردين على الالتجاء إلى الجامع الكبير حيث صعقتهم المدافع عن بكرة أبيهم، كان المتمردون قد رفضوا التسليم، إلا أن دوي الصواعق جعلهم سهلاء الجانب، أما نابوليون فرفض طلبهم المتأخر قائلا لهم: «لقد مضت ساعة الصفح، شئتم أن تبدءوا فمن حقي أن أنهي.» وما هي إلا فترة حتى اغتصبت أبواب الجامع وتدفقت دماء الأتراك كالسيل الجارف، كان على بونابرت، فضلا عن ذلك، أن يثأر لموت القائدين دوبوي وسولكوسكي الباسل الذي كان يعطف عليه بقدر ما كان يحترمه.
قدر للسلطة الإنكليزية التي كانت قد هيجت فتنة القاهرة وعصيان مصر جميعها أن تغري ديوان القسطنطينية على معاداة فرنسا. فأصدر الصدر الأعظم منشورا مملوءا سبابا وشتائم وقف أعلام الجمهورية للخزي والعار وجهودها للانقراض، فأجاب بونابرت على هذه الإهانات والتحريضات الدموية بنداء جاء في نهايته: «إن أكبر الأنبياء المتدينين قد قال: إن العصيان لنائم، فملعون هو الذي يوقظه!»
بعد مدة قصيرة اتجه نابوليون إلى السويس ليزور آثار القتال القديم الذي كان يجمع مياه النيل بالبحر الأحمر، وقد رافقه مونج وبرتولله، وكان بوده أن يشاهد مصادر موسى، إلا أنه كان أوشك أن يذهب ضحية تطفله بتيهانه في الليل بين المد والجزر، قال: «لقد خاطرت بنفسي كما خاطر فرعون؛ ما جعل مبشري المسيحية جميعهم أن يؤدوا نصا معظما ضدي.»
عندما عرف قسوس جبل سينا بوجوده في جوارهم أرسلوا إليه وفدا ليسأله أن يدون اسمه في سجلهم عقيب علي وصلاح الدين وإبراهيم ... إلخ، فلم يرفض نابوليون سؤالهم هذا ونزل عنده بطيبة خاطر، في أثناء ذلك كان الجزار باشا قد استولى على قلعة العريش في سوريا، إلا أن نابوليون الذي كان فكر منذ زمن في حملة على تلك المقاطعة عزم عند ذلك على تنفيذ مقصده، كان نبأ فوز الجزار قد تناهى إليه في السويس، فأسرع بالعودة إلى القاهرة ليأخذ الكتائب التي يحتاج إليها في غزوته، وبعد أن وثق من خضوع هذه العاصمة، ترك مصر ودخل إلى آسيا، كانت الصحراء تمتد على مدى بصره، فاجتازها على جمل؛ لأن الجمال تتحمل الحر والتعب أكثر من الجياد، إلا أن الجنود كانوا قد ضلوا في مطارح تلك الصحراء، وأضناهم العطش والتعب حتى أوشكوا أن يموتوا في وسط الطريق، فقال لهم بونابرت: «لا يحق لكم أن تتذمروا وتقنطوا. أيها الجنود، تعلموا أن تموتوا بشرف.»
على أن الشظف والأوجاع الجسدية أوشكت أحيانا أن تدب الفوضى والتمرد في الجنود، ولقد حدث لأحد الجنود الفرنسيين على رمال الصحراء المحرقة؛ أن يتخلى لقواده بألم عن بعض نقاط من الماء الموحل أو عن ظلال بعض الجدران القديمة، كما أنه نازعهم بعد ذلك، في وسط الجليد في روسيا، زاوية موقد مشئوم أو فلذا مبعثرة من جواد. ذات يوم، وقد شعر القائد العام حرارة الشمس تنهكه نهكا، قيض له بنعمة وافرة أن يضع رأسه في الظل تحت بقايا باب محطم، قال: «لقد منحت هناك منحة عظمى.» وفيما كان يزحل برجله بعض الحجارة، اكتشف جوهرة علق عليها العلماء أهمية كبرى، وسلمها نابوليون إلى أندريوسي، ثم استرجعها منه لينعم بها على جوزيفين. جرى ذلك الاكتشاف الجميل بين خرائب بلوز.
2
بينما كان نابوليون زاحفا إلى سوريا للبحث عن الجيش التركي عزم على دفع هجماته ضد السلطة الإنكليزية إلى أبعد من ذلك، فقد قصد أن يحمل على الهند عن طريق فارس، ولقد كتب إلى تيبو سائيب
3
هذه الرسالة: «إنك ولا ريب علمت بوصولي إلى شواطئ البحر الأحمر مع جيش كثير العدد شديد البطش، ملء رغبته أن ينقذكم من نير إنكلترا.
إنني أرغب إليك أن تحيطني علما بالموقف السياسي الذي يحيط بكم، وأرغب أيضا أن ترسل إلى السويس أو إلى القاهرة الكبرى رجلا ماهرا اكتسب ثقتك يتاح لي أن أتفاوض معه.»
بقيت هذه الرسالة من غير جواب؛ ذلك لأنها كتبت في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني عام 1799، وبعد مدة قصيرة سقطت سلطة تيبو سائيب.
وصل بونابرت إلى أمام العريش في منتصف شهر شباط، وسلمت هذه القلعة في السادس عشر من هذا الشهر بعد انكسار المماليك انكسارا تاما، وبعد ستة أيام فتحت غزة أبوابها. عندما وصل بونابرت قرب القدس سئل عما إذا كان يرغب في المرور بتلك المدينة، فأجاب بحدة: «لا! إن القدس لم تنزل في قائمة أعمالي، لا شأن لي مع قوم من الجبليين في طرق صعبة المسالك، فلا أريد أن أثير علي خيالة كثيرة العدد، ولا أطمع في بخت كاسيوس.»
4
في السادس من شهر آذار هوجمت يافا واستسلمت للنهب والمذبحة، فأرسل بونابرت معاونيه بوهارنه وكروازيه ليسكنا غضب الجند، ولقد أتيح لهما أن يصلا في الوقت المعين فأنقذا حياة أربعة آلاف من الأرناءوط أو الألبان الذين قيض لهم أن يفلتوا من المذبحة ويلجئوا إلى فنادق وسيعة.
عندما أبصر نابوليون هؤلاء الأسراء الذين جيء بهم إليه صرخ بشفقة: «ماذا تريدون أن أعمل بهم؟ ألدي مؤنة لأقوتهم، ومراكب لأقلهم إلى فرنسا أو إلى مصر؟» إلا أن معاونيه ذكراه بالإنسانية التي أوصاهما بها في معاملة الأعداء، فأجابهما بحدة: «أجل، بدون شك، ولكني أوصيتكما بها في معاملة النساء والأولاد والشيوخ وليس في معاملة الجنود المسلحين، كان أحرى بكم أن تموتوا جميعا من أن تجيئوني بهؤلاء المساكين، ماذا تريدون أن أعمل بهم؟» بقي نابوليون ثلاثة أيام يشاور نفسه في مصير هؤلاء المساكين، إلا أن تذمر الجيش لم يترك له سبيلا لأن يتردد أكثر من ذلك في أمر كان يوحي إليه كراهة شديدة، فأصدر أمره بإعدام الأرناءوط والألبان في العاشر من شهر آذار.
أما الاستيلاء على حيفا فقد أعلن على مصر بما يلي: «باسم الله الرحمن الرحيم، سيد العالم القدوس، الحاكم بملكه كما يشاء، المتصرف بالنصر تصرفا مطلقا، هذا نبأ الإنعامات التي منحها الله العلي للجمهورية الفرنسية، ثم إننا استولينا على حيفا في سوريا.
كان الجزار عزم على دخول مصر، مأوى البائسين، مع شرذمة من أشقياء العرب، إلا أن أحكام الله تهدم حيل الرجال، كان يرغب في هرق الدم حسب عادته الوحشية، وبسبب كبريائه والمبادئ الرديئة التي أخذها عن المماليك، ولم يعلم أن كل شيء إنما هو آت من الله.
في السادس والعشرين من رمضان أحاط الجيش الفرنسي يافا، وفي السابع والعشرين منه أشار القائد العام بأن تركز فيها المدافع، وتصوب الفوهات إلى جهة البحر لمنع الخروج منه.
وفي نهار الخميس، آخر أيام رمضان، أشفق القائد العام على سكان يافا، فنبه الحاكم، إلا أن التنبيه بقي من غير جواب بالرغم من شرائع الحرب ومحمد، عند هذا انطلق غضب بونابرت، فأمر بإطلاق القنابل، وما هي إلا بعض ساعة حتى هجم الجند من الصور المهدوم واستولوا على المدينة وحصونها، وبدئ القتال بين الجيشين، فانتصر الفرنسيون، ودام النهب طوال الليل. ونهار الجمعة أشفق القائد على المصريين الذين في يافا، من فقراء وأغنياء، ومنحهم السماح وأعادهم إلى بلادهم بشرف، ولقد نهج النهج نفسه مع الدمشقيين والحلبيين.
قتل في المعركة أكثر من أربعة آلاف رجل من رجال الجزار رميا بالرصاص وبالسلاح الأبيض، ولم يخسر الفرنسيون إلا قليلا من الجند. يا عباد الله، اخضعوا لأحكامه، لا تخالفوا مشيئته، واحفظوا وصاياه، واعلموا أن العالم إنما هو ملكه، وأنه يعطي هذا الملك لمن يشاء.»
كان الجيش الفرنسي قد صحب جراثيم الطاعون إلى سوريا فانتشرت في حصار يافا وصارت تشتد يوما بعد يوم، قال بونابرت عن القائد غريزيو الذي أبى أن يلمس أحدا خشية انتقال العدوى إليه: «إنه إذا خشي الطاعون مات فيه.» هذه النبوءة تمت في حصار عكا.
في السادس عشر من آذار وصل بونابرت أمام عكا، فلاقى هناك مقاومة أشد مما كان يتوقع، قيض للجيش الفرنسي، في ذلك الحصار، أن يربح موقعة جبل ثابور المشهورة، حيث أتيح لكليبر أن يقاوم بثلاثة آلاف عسكري جيشا مؤلفا من أربعة وعشرين ألف رجل بين فرسان ومشاة، عندما علم بونابرت بقوة العدو أسرع إلى مساعدة كليبر مع فيلق من الجند، فلما وصل إلى ساحة القتال قسم فيلقه إلى قسمين مربعين ونظمهما بشكل أن جعلهما، مع مربع كليبر، زاوية مثلثة متساوية، وإذا بالعدو في وسط تلك الزاوية. أما النار الهائلة التي انطلقت من أطراف تلك الزاوية فقد أهلكت المماليك وتركت الساحة ملأى بالجثث. كان الفرنسيون الذين أهلكوا ذلك الجيش، الذي قال عنه الأهالي إنه يربو على عدد نجوم السماء ورمال البحر، لا يجاوزون ستة آلاف.
وبعد حصار دام شهرين، عزم بونابرت أن يعود إلى مصر وقد اتضح له أن جيشه الصغير يضعف من يوم إلى يوم بانتشار الطاعون والمواقع العديدة، في تلك الساعة، تضاءلت تلك النوايا العظيمة التي رسمتها مخيلته الطماعة للزحف طورا إلى الهند وتارة إلى البوسفور؛ ما جعله يقول فيما بعد: «لو سقطت عكا لقلب سقوطها وجه العالم، لقد كان مستقبل الشرق مرتكزا على تلك المحلة الصغيرة.»
نورد هنا النداء الذي نشره على معسكره في عكا ليعلن عودته إلى مصر، قال:
أيها الجنود
لقد اجتزتم الصحراء التي تفصل أفريقيا عن آسيا بسرعة أعظم من سرعة جيش عربي.
لقد هلك الجيش العربي الذي كان زاحفا ليشن الغارة على مصر، وقدر لكم أن تقبضوا على قائده، ونوتييه، وأمتعته وقربه، وجماله.
لقد استوليتم على جميع القلاع القوية التي تحرس آبار الصحراء.
لقد شتتم في سهول جبل ثابور هؤلاء الرجال الذين أسرعوا من جميع جهات آسيا على أمل أن يدمروا مصر.
إن الثلاثين مركبا التي أبصرتموها قادمة إلى عكا، منذ اثني عشر يوما، كانت تقل الجيش الذي أمر بمحاصرة الإسكندرية، إلا أنه اضطر إلى الإسراع إلى عكا حيث لقي أجله، وسيزين قسم من أعلامه دخولكم إلى مصر.
وأخيرا، بعد أن غذيتم الحرب ثلاثة أشهر في قلب سوريا، بعدد من الرجال قليل، وبعد أن غنمتم أربعين مدفعا حربيا، وخمسين علما، وأسرتم ستة آلاف، ودرستم حصون غزة وحيفا ويافا وعكا، بعد كل هذا نعود إلى مصر.
قد لا تمضي أيام قلائل حتى تستولوا على الباشا نفسه في وسط قصره، إلا أن الاستيلاء على قصر عكا في هذا الموسم لا يوازي خسارة بعض أيام؛ إن البسلاء الذين أخسرهم إنما هم اليوم ضروريون للقيام بأعمال أكثر أهمية وجوهرا.
أعطيت علامة الرجوع في العشرين من شهر أيار. أراد بونابرت أن يزحف الجميع على الأقدام ليتركوا الجياد تحت تصرف الأسراء والمرضى، وعندما دخل عليه سائسه الخاص وسأله أي جواد يستبقيه لنفسه انتهره بغضب صارخا فيه: «ليذهب الجميع على الأقدام! ... وأنا في الأول، ألا تعرف النظام؟ اخرج.»
وصلوا إلى يافا في الرابع والعشرين فوجدوا المستشفيات غاصة بالمرضى، والحمى تشتد اشتدادا عظيما، فأخذ القائد العام يزور هؤلاء المساكين ويتشفق على أوجاعهم مظهرا لهم الحزن الشديد، وكان بينهم عدد يحتضر، فسأل بونابرت ماذا نعمل بهؤلاء المشرفين على الموت، فأجيب أن الكثيرين منهم يطلبون الموت عاجلا، وأن ملازمتهم إنما هي خطرة على الجيش، وزيد على ذلك أنه من الرحمة والحكمة أن يقدم موتهم بعض ساعات. إن من المؤكد تقريبا أنهم أعطوا شرابا مخدرا في تلك الساعة.
عندما اقتربوا من القاهرة أشار بونابرت بأن يهيأ له استقبال عظيم في تلك العاصمة لينفي ما قد تكون عاقبة حملة سوريا قد أثرت تأثيرا مشئوما على الأهالي والجنود، فنزل ديوان القاهرة عند مشيئة بونابرت، وأمر بأن تقام الاحتفالات البهجة، وأصدر نشرة ننقل منها الفقرة الآتية: «لقد وصل بونابرت الذي يحب دين محمد ... لقد دخل إلى القاهرة من باب النصر ... فهذا اليوم يوم كبير لم يشاهد مثيل له ... كان في غزة ويافا. لقد حمى سكان غزة، ولكن سكان يافا أبوا أن يسلموا فأعمل فيهم النهب والموت. ولقد هدم جميع الحصون وأهلك كل من كان فيها.»
انصرف بونابرت، عهد إقامته بالقاهرة، إلى القيام بأعمال المساحة. إلا أنه ما لبث أن انقطع عن أعماله الهادئة بسبب غزوات مراد بك في مصر السفلى، فترك القاهرة في الرابع عشر من تموز وزحف إلى الأهرام.
إلا أن مارمون الذي كان يقود فرقة في الإسكندرية، أرسل إليه رسولا يبلغه أن الأتراك أتيح لهم بمساعدة الإنكليز أن يهجموا على أبو قير من البحر في الحادي عشر نهارا، فلم يتردد بونابرت أن طار إلى الجيش المسلم الذي يقوده مصطفى باشا، وانتقم لنكبة أبو قير في أبو قير نفسها، أما الانتقام هذا فقد كان هائلا؛ سقط عشرة آلاف رجل في البحر وما بقي منهم قبض عليه أو ذهب قتيلا، كتب بونابرت إلى مجلس الشعب يصف له المعركة: «لقد أخبرتكم ببرقية 21 فلوريال
5
أن موسم الإبحار يجزم أن أترك سوريا. في الثالث والعشرين من مسيدور
6
وصل أمام الإسكندرية مائة مركب أكثرها حربية ورست في أبو قير، في السابع والعشرين منه نزل العدو إلى البر وهجم على أبو قير وأحاطها من جميع أطرافها، فلم تجد القلعة بدا من التسليم، وفي اليوم نفسه تركت معسكر الأهرام، وبلغت الرمانية في الواحد من ترميدور، وفي السابع منه، الساعة السابعة صباحا، كنت في وجه العدو.
مشى القائد لان على طول بحيرة معدية حيث كانت ميسرة العدو، واصطف للقتال تجاه تلك الميسرة، في حين كان القائد مورات الذي يقود الصف الأول يقاتل الميمنة على يد القائد ديستنغ، وكان يعضده القائد لانوس.
هناك سهل جميل يبلغ ألفين وأربعمائة قدم يفرق أجنحة الجيش العدو؛ فولجته خيالتنا، وبأسرع من الفكر وصلت إلى وراء ميسرة العدو وميمنته اللتين أغرقتا في البحر بعد أن أعمل فيهما الضرب، لم ينج منهما أحد قط.
وكان صف العدو الثاني يشغل مركزا هائلا على بعد ثلاثة آلاف أو ثلاثة آلاف وخمسمائة قدم؛ إذ إن البرزخ ضيق جدا هناك، وهو مقوى بالمتاريس بعناية كبيرة، ومحصن بثلاثين زورقا مدفعيا، وكان العدو مستوليا أمام هذا المركز على قرية أبو قير التي سدها بالمتاريس.
أقدم القائد مورات على اغتصاب القرية، وهجم القائد لان على ميسرة العدو بالفرقة الثانية والعشرين وقسم من التاسعة والستين، وأما الميمنة فقد قاتلها القائد فوجيير بصفوف ملصقة بعضها إزاء بعض، كان الدفاع والقتال شديدين جدا، إلا أن خيالة القائد مورات الباسلة عزمت أن تنال القسم الأكبر من شرف هذا النهار، فهجمت على ميسرة العدو ووثبت على الميمنة من ورائها وفاجأتها من ممر مشئوم فأعملت فيها ذبحا هائلا.
كان من أمر الصف الثاني أن أصيب بما أصيب به الصف الأول؛ فإنه بقي بعضه في ساحة القتال وأغرق البعض الآخر.
بقي للعدو ثلاثة آلاف رجل لوقت الحاجة وضعوا في قلعة أبو قير على بعد ألفين وأربعمائة قدم من الصف الثاني، فحاصر القائد لانوس القلعة وأطلق عليها قنابل ستة مدافع، لم ينج من الأعداء أحد قط.
إن مصطفى باشا، قائد الجيش العام، وابن عم السفير التركي في باريس، قد أسر مع جميع ضباطه.
وربح هذه المعركة عائد خاصة إلى القائد مورات؛ إني أسألكم رتبة قائد فرقة لهذا القائد النشيط لأن خيالته عملت المستحيل ...
لقد أهديت إلى القائد برتيه من قبل المجلس التنفيذي خنجرا جميل الصنع لما قام به من الأعمال المجيدة طوال وقت الموقعة ...»
استفاد نابوليون من هذا النجاح ليرسل مداولا إلى الأميرال الإنكليزي، إلا أن هذا بعث إليه بجريدة فرنسية، فقرأها نابوليون بلهف؛ لأنه لم يأخذ منذ زمن طويل خبرا عن أوروبا، فوقف منها على موقف فرنسا المحزن ونكبات الجيوش الفرنسية، فصرخ قائلا: «أجل إن دلالة قلبي لم تخدعني قط، فقد خسرت إيطاليا! وتوارت ثمرة انتصاراتنا! إذن فيجب أن أرحل.»
أفضى بعزمه هذا إلى برتيه والأميرال غانتوم الذي عهد إليه بتهيئة باخرتين وسفينتين صغيرتين لإقلال القائد وحاشيته إلى فرنسا.
كان من الواجب أن تسلم قيادة الجيش العامة إلى الأيدي الأكثر جدارة، فاختار بونابرت بين دوزه وكليبر، إلا أنه رغب في أن يصحب الأول معه وصحت عزيمته على تعيين الآخر خلفا له بالرغم مما هما عليه من النفور، فكتب ليطلعه على قصده ويسلمه السلطة التي عهد بها إليه، جاء في التعليمات التي أدلى بها هذه العبارة: «سيبقى المسيحيون أصدقاءنا دائما، فيجب أن تمنعوهم من التطاول لئلا يغذي الأتراك فطرة التعصب ضدنا.»
أترى رغب مجلس الشعب في عودة بونابرت إلى فرنسا بعد أن أبصره ذاهبا منها بغبطة سرية لم يجهلها المحارب نفسه؟ إن من الصعب أن يدرك سبب هذا الرجوع الفجائي بعد أن تناقضت الآراء فيه، إلا أن الحقيقة التي نراها هي أنه بعد أن سئم الشرق لما لقيه من المعاكسات في سوريا، وبعد أن تناهت إليه الحالة الفكرية في فرنسا شخص إليه أن الوقت قد حان ليظهر أفكاره الطماعة ويحولها إلى الغرب، قال في نشرة أصدرها في الإسكندرية ما يلي: «إن أنباء أوروبا حتمت علي الذهاب إلى فرنسا؛ فإني أترك قيادة الجيش إلى الجنرال كليبر، سيطلع الجيش على أخباري عما قريب، إنني آسف جدا على تركي جنودا أجدني كثير التعلق بهم، ولكن لن يطول غيابي، والقائد الذي أتركه يحمل ثقتي وثقة الحكومة.»
أبحر نابوليون في أواخر آب صاحبا معه برتيه، ومارمون، ومورات، ولان، وأندريوسي، ومونج، وبرتولله، وغيرهم، وتحايد مراقبي الإنكليز الذين يجولون في البحر؛ إذ كانوا قد ابتعدوا على الشواطئ الأفريقية واتجهوا إلى مرفأ في قبرص ليذخروا مؤنة لهم، وصل بونابرت إلى فريجوس في السادس من شهر تشرين الأول.
لقد تخلل السفر من الإسكندرية إلى فريجوس أخطار وعوائق عديدة؛ فإن المراكب اضطرت لتخرج من مياه مصر، أن تقاوم رياحا معاكسة أجبرت الأميرال أن يلجأ إلى المرفأ، ولولا عزم بونابرت الراسخ الذي وطن النفس على اقتحام جميع المخاطر لتحقيق حظوظه العلياء التي تنتظره في أوروبا، لما وجد الجنود مفيضا من البقاء في المرفأ، ولقد صادف عند رحيله من أجاكسيو عوائق شديدة كالتي صادفها بين الإسكندرية وفريجوس إلا أنه أصر على مواصلة السير كما أصر هناك، هذا العزم الثابت القوي والدليل الرهيب الذي رسمه بونابرت للأميرال غانتوم، على طول شواطئ أفريقيا؛ ليجيء عقيب ذلك فيدخل إلى رأس سردينيا، كانا السبب في تملصه من رقباء الإنكليز.
كان منظر المحجوزين «المكرتنين» يكدره جدا، كما أنه إنما كان يحزن لرؤية أصغر مركب في البحر. تناهى إليه وهو في أجاكسيو خبر عاقبة موقعة نوفي المشئومة، فكان لا يفتأ يردد قوله: «لولا هذا الحجر الملعون لما ترددت عن قيادة جيش إيطاليا، فهناك وسائل لا أزال أراها.»
كان بونابرت يشعر بحاجة إلى إضعاف التأثيرات المؤسفة التي قد يسببها سفره من مصر، ذلك السفر الفجائي الشاذ الذي سيعرض القائد للتوبيخ على هجر جيشه، ولكن، عندما أدرك مدى النكبات التي قاساها الجند الفرنسي ما وراء الجبال، فقد الأمل بتحقيق الانتصارات السريعة التي حلم بها، وأسقط في يده، حتى إن حزنه جعل القائلين يقولون: إنه يحمل حزن إيطاليا. عدا عن ذلك؛ فإن تهافت سكان فريجوس إليه وقاه من غموم الحجر وضجره، لم يكد هؤلاء يعلمون بدخول القائد بونابرت إلى مرفئهم، حتى ملئوا البحر بالمراكب، واتجهوا جماعات حول المركب الكبير الذي يقل الرجل العظيم وهم يصرخون: «إننا لنؤثر الطاعون على النمسويين.» عند هذا أصبحت الاحتياطات الصحية صعبة مراعاتها، فاغتنم بونابرت هذه الفرصة لتعجيل عودته إلى باريس.
كان قد بشر إخوته وامرأته بوصوله، فأسرعوا لملاقاته على طريق بورغونيا حسب الدليل الذي أرسله إليهم، إلا أنه ما وصل إلى ليون، حتى غير فكرته وأخذ طريق البوربونه، أما جوزيفين وأسلافها، فعندما لم يجدوه في ليون عادوا بسرعة إلى باريس، إلا أن السواد الأعظم من الشعب، بالرغم من تضارب الآراء في عودة القائد العام الذي ترك جيشه ما وراء البحار، تحت سماء محرقة وفي أرض وبائية، لم يجدوا بدا من استقباله كرجل منقذ. كانت الديموقراطية، بعد أن أعطت فرنسا طرقها العظيمة ضد الخارج، قد أتيح لها أن تسبب في الداخل مللا عموميا من فرط التقلبات والمعاكسات، ولم يبق للثورة التي قيض لها وجود أعضاء جديرين في المجلس الشرعي، والاتفاقية، وجمعية السلام العام، أن تنتظر نظما وولاة من هذا العصر؛ لأنهم أضاعوا احترام السلطة فأفقدوا الحرية منفعتها، واستبدلوا بمظالم الأحزاب المتوالية سلطة الشعب المطلقة، إذا أضفنا على ذلك أن الجمهورية لم تستطع في الشكل الذي اتخذته، أن تبقي النصر تحت الأعلام الفرنسية، وأن النكبات المتتالية قد أضاعت ثمرة أولى الفتوحات الخالدة، يدرك بسهولة أن الأفكار قد أصبحت جميعها مهيأة لانقلاب سياسي كبير، ولكن، من يحقق هذا الانقلاب، وفي أي شكل يكون؟ هذا ما كان الجميع يتساءلون عنه، وهم في تيار من الظنون والآمال والمخاوف. أما الانقلاب في الحكومة فلم يكن من صالح الجمهورية التي تحمل أثقال الذكريات والظنون، تلك الأثقال التي لم تنج منها بعد والتي كان يتذمر منها ويتوقع نهايتها بفارغ صبر. ولم يكن ذلك الانقلاب أيضا ليستطيع أن يتحول إلى جهة الملكية؛ لأن الكتلة الشعبية لم تقف عن رغبتها في نتائج الثورة على ما هي عليه من التعب في تيار السياسة الجمهورية.
كان الرأي العام يظهر ميله نحو التئام السلطات الشعبية في أيد قوية جبارة، ولكن دائما لفائدة الثورة وليس ضدها، في مثل هذا الموقف كانت الضرورة تدعو إلى تولي زمام الأعمال رجلا يستطيع أن يصون تنظيم ثورة 89 الذي حال دون تهيئة الأفكار لفائدة الحزب الملكي من الخطر الذي جشمه إياه فتور مراجع السلطة، فهذا الرجل وجب أن يكون ثوريا صادقا، غيورا على المنافع الجديدة، متشربا روح العصر الذي هو فيه، جالسا على مجد كسبه من وراء الخدم التي أداها إلى فرنسا المجددة، وجديرا بأن يجذب إليه عطف الشعب وثقته بما في دماغه من النبوغ وما له من الشهرة، ووجب أن يكون أيضا ذا ذراع قوية تضمن لفرنسا الدفاع عنها ضد هجمات الدول، وأن لا يكون اسمه بين أسماء رجال الأمة القساة الذين لعبوا دورهم في عهد الهول
7
الذي أنقذ الوطن من غير أن يدع للمنقذين مجازاة سوى عار اسمهم.
إن الذي يتاح له وحده أن يقمع الأسد الشعبي ويقلب القاعدة الجمهورية من غير أن يمس البدع الثورية التي كانت عزيزة على فرنسا، إنما هو جندي من جنود الثورة، كان هذا الجندي منذ زمن طويل يحدث نفسه بهذا العمل العظيم، ويرقب الوقت للاستيلاء عليه؛ لأن فطرته ومركزه وقواه كانت تقول له إنه إنما يستطيع أن يحقق جميع الشروط بنجاح وفوز عظيمين.
إن الذي تنبأ بونابرت عنه ورغب فيه إنما كان يتفق اتفاقا عظيما مع تمنيات الجمهور وحاجاته، فعندما شعر القوم بعودته، فكرت الأحزاب جميعها في أن تتألب حوله وتتخذ شهرته ونبوغه عضدا لها مكينا، وأن تستخدمه لتحقيق خططها وتدبيراتها.
أرادت أكثرية مجلس الشعب المؤلفة من باراس وكوهيه ومولين أن تحتفظ بنظام عام 3 لأن باراس كان يجد فيه وسيلة تضمن له استمراره في رئاسة السلطة؛ ولأن كوهيه ومولين كانا يثقان ثقة أكيدة بالقبض على زمام القاعدة الجمهورية بشكلها الحالي، أما سياييس الذي كان دائما يغذي في أعماق قلبه ميلا ملكيا وكراهة للصيغ الشعبية، فقد كان ينتظر بفارغ صبر فرصة سانحة ليظهر ميله السري، حتى شكي أنه فكر في خيانة الجمهورية لفائدة أمير من أمراء برونسويك، كما اتهموا باراس بأنه فتح علاقات مع البوربونيين.
كان سياييس موقوفا لكل من يجرؤ على تسويل انقلاب ضد الجمهوريين ونظمهم، وكان روجير ديكو، رفيقه لا يفكر ولا يعمل إلا على يده، على أن بونابرت أنكر بادئ ذي بدء هذه المشاركة في الجريمة، حتى إنه أظهر نحو سياييس احتقارا مهينا في وليمة له أقامها كوهيه ثاني يوم المقابلة التي جرت بين القائد ومجلس الشعب، قال سياييس بشراسة عقيب تلك الوليمة: «انظروا كيف أن هذا المتغطرس يعامل عضوا في سلطة كان من حقها أن تعدمه رميا بالرصاص!»
إلا أن هذا التباعد الذي تبادله العالم الطبيعي
8
والمحارب أذعن فيما بعد للرغبة المشتركة في إبدال النظام السياسي في فرنسا، قال أحدهم أمام بونابرت ذات يوم: «فتشوا عن مساعد في الأشخاص الذين يعاملون أصدقاء الجمهورية معاملة الجاكوبيين، وثقوا بأن سياييس إنما هو في مقدمة هؤلاء.» فشعر القائد بأن مقته يضعف أو أنه عمل على تبديده ليتاح له أن يشرك في تنفيذ نواياه الرجل الذي احتقره بادئ ذي بدء والذي - بدون شك - لم يكن يحبه، أما مجلس الشعب، فلكي يتملص من جوار خطر، أراد أن ينفي بونابرت إلى قيادة الجيش التي تصلح له أكثر من غيرها، إلا أن هذا العرض وإن كان يستهوي أي قائد كان، إلا أنه لم يكن ليستهوي سيد فرنسا المزمع، قال: «لم أكن أريد أن أرفض، إلا أني سألتهم أن يفسحوا لي في الوقت لتعود إلي صحتي، ولكي أتجنب عرضا آخر كهذا العرض آثرت الانزواء. إنني لن أعود إلى مجالسهم، ولقد وقفت نفسي لحزب سياييس؛ إنه لينطوي على آراء أفضل مما ينطوي عليها حزب باراس الفاسد.»
إن التدبيرات التي سببت 18 برومير إنما دبرت في المجالس على يد لوسيان بونابرت وسياييس، وتالليران، وفوشه، وريال، ورينيول ده سن جان دانجلي وغيرهم. أما فوشه، فقد أظهر خاصة، فراغ صبر في إتلاف القاعدة الجمهورية التي خدم في الماضي مطاليبها الصارمة، قال لكاتم أسرار بونابرت: «قل لقائدك ليسرع؛ فإذا تأخر هلك!» وأما كامباسيريس ولوبرون فقد كانا بطيئين في عزمهما؛ فإن دور المتآمر لم يتفق مع احتراس الأول واعتدال الآخر. فلما أخبر بونابرت بترددهما، صرخ كمن ملك التصرف في مقدرات فرنسا قائلا: «لا أريد ترددا ومحاولة، ألا فليعلما أنني لست بحاجة إليهما، وليعزما اليوم إذا شاءا وإلا فغدا يفوت الحين؛ إنني لأشعر بقوة في نفسي تسمح لي أن أعمل وحدي!»
إن جميع القواد المشهورين الذين كانوا في باريس وافقوا على نظريات بونابرت، حتى إن مورو نفسه انضم تحت لوائه، وسنرى فيما بعد أي عمل رضي القيام به في الموقعة التي كانت تتهيأ، ولكن هذا المتآمر العظيم إنما كان بحاجة إلى مساعدة ذلك الرفيق المحارب الذي كان يخشى مقاومته وذكاءه؛ كان بونادوت يصر على الدفاع عن الجمهورية وتنظيمات عام 3. عند هذا ذهب به جوزيف بونابرت، وهو قريب له، إلى أخيه في صبيحة 18 برومير، كان هناك جميع القواد بلباسهم الرسمي، أما برنادوت فقد حضر بلباسه المدني، فتكدر بونابرت من ذلك وأظهر له دهشته، ثم انحدر به إلى غرفة منفردة حيث تكلم عن مقاصده بأبعد ما يكون من الحرية، قال: «إن مجلسك الشعبي هذا لمجلس ممقوت، ومجلسك التشريعي بال، فيجب أن يعزل هؤلاء الموظفون وينتخب مجلس آخر للحكومة. اذهب وارتد لباسك الرسمي، فلا أستطيع أن أنتظرك أكثر من ذلك؛ ستجدني في التويلري بين رفاقنا جميعهم، لا تعتمد لا على مورو ولا على بورنونفيل، ولا على القواد الذين هم من رأيك، وعندما تختبر الرجال أكثر من ذلك يتضح لك أنهم يعدون كثيرا ويفون قليلا.» فأجابه برنادوت أنه لا يريد أن يسبب عصيانا، فطلب منه نابوليون أن يعده إذن بتجرد تام، فقال له الجمهوري الصارم الذي صار ملكا فيما بعد:
9 «إنني سأبقى هادئا كمواطن، ولكن إذا فوض إلي مجلس الشعب الأوامر للعمل فإني أمشى ضد المقلقين جميعهم.» أما بونابرت فبدل أن يستسلم لصاعقة طبعه لدى هذه الكلمات، اجتهد في قمع غضبه عله يتوصل بالمداهنات والوعود إلى اكتساب تداخل رجل ذي ذكاء وشجاعة قد يستطيع أن يحبط مؤامراته.
بينما كان كل ذلك يجري في بيت صغير في شارع النصر، حيث يسكن قاهر أركول والأهرام، كان مجلس القدماء مرسلا مع ساع هذا الأمر الآتي: (1)
إن الفرقة التشريعية قد نقلت إلى مديرية سن كلود. (2)
ستتجه المجالس إلى سن كلود غدا 19 عند الظهر. (3)
إن القائد بونابرت مكلف بتنفيذ هذا الأمر، سيتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لتأمين التمثيل الوطني. إن الفرقة العسكرية السابعة عشرة، وحرس الفرقة التشريعية، والحرس الوطني المستقر، والكتائب في مديرية باريس موضوعة كلها تحت أوامره، إلخ. (4)
يدعى القائد بونابرت إلى وسط المجلس ليقسم اليمين على القيام بهذه الأعمال، وسيتداول مع مفوضي المجلسين.
كان بونابرت يتوقع هذا الأمر بعد أن جرى اتفاق بينه وبين محازبيه في المجلس، وبعد أن قرأه على الجنود زاد عليه بقوله:
أيها الجنود
إن أمر مجلس القدماء هذا إنما هو مطابق لبند 102 و103 من الحكم الشرعي، إنه يلقي إلي قيادة المدينة والجيش.
لقد رضيت به لمساعدة الاحتياطات التي سيتخذها، والتي هي بكاملها لفائدة الشعب.
لقد فسد حكم الجمهورية منذ عامين، فأملتم أن عودتي تضع حدا لآلام كثيرة، ولقد احتفلتم بي احتفالا يكلفني ذمة لكم سأفيها، وإنكم ستفون ذمتكم أيضا فتعضدون قائدكم بذلك النشاط، والثبات، والثقة التي كثيرا ما عرفتها فيكم.
إن الحرية والنصر، والسلام ستعيد الجمهورية الفرنسية إلى المقام الذي شغلته في أوروبا، والذي أفقدها إياه القصور والخيانة.
ثم بعد ذلك أعلن بونابرت النداء الآتي: «إن مجلس القدماء، مستودع الحكمة الوطنية، قد أصدر هذا الأمر، ولقد فوض إليه ذلك البند 102 و103 من الحكم الشرعي.
إنني آخذ على نفسي احتياطات لازمة لتأمين التمثيل الوطني، وإن الفرقة التشريعية لفي حاجة إلى اتحاد الوطنيين وثقتهم، فالتئموا حولها، تلك هي الوسيلة الوحيدة لإجلاس الجمهورية على أسس الحرية المدنية، والنصر والسلام.»
بينما كان بونابرت محاطا بالأعمال في سبيل قيادة العاصمة، كان مجلس الشعب متوانيا، متراخيا، لا يقوم بعمل، وبعبارة أجلى، كان لا يستطيع أن يعمل شيئا لإبطال الدسائس المحاطة به من جميع أطرافه، كان كوهيه ينتظر في منزله في لوكسنبرج زعيم المتعصبين الذي دعا نفسه إلى الغداء عنده من غير كلفة، وكان مولين يطلق سخطه وحقده تضادات ملؤها العجز والقصور، ولقد تناهى إلى باراس أن الانقلاب الذي وعد به قد تم بدونه، وقد أصبح مرغما على احتمال العجز الذي كاد يوقعه. أما سياييس وروجير دوكر فقد كانا مصممين النية على الاستعفاء من وظيفتهما، في حين كانا يمثلان، لا سيما الأول منهما، دورا مهما بين زعماء المؤامرة، وأما العوائق التي كان بونابرت مهددا بها، فلم يبق لها وجود إلا في المجلس.
في الساعة الواحدة بعد ظهر 19 اتجه بونابرت إلى مجلس القدماء بعد أن أشغل جميع المراكز المهمة بكتائبه تحت أوامر القواد المخلصين، وصحب معه برتيه ولوفيفر، ومورات ولان وغيرهم. أما مورو فقد جعله سجانا على المديرين المتمردين وكوهيه ومولين اللذين أعطي استعفاؤهما بحيلة من تلك الحيل الجائزة في مثل تلك الظروف، وأما سياييس وروجيرديكو فقد أرسلا استعفاءهما؛ كان سياييس يعتني كثيرا بإيجاد مخرج له في كل حادث، فاحتاط لذلك بأن أوقف نفسه في منزله ليزيل كل شبهة، ثم إن باراس، بعد أن أعلمه تالليران بزيارة يوريين له، استعفى على يد المداول العظيم وذهب على الفور إلى كروسبو تاركا رسالة إلى رئيس مجلس القدماء صرح فيها، بعد أن أقسم بنزاهته وتجرده في سبيل الوطن والحرية، أنه ينضم بغبطة إلى صفوف المواطنين، سعيدا بأن يسلم بعد تلك العواصف مقدرات الجمهورية التي اقتسم ودائعها.
صادف بونابرت في ذلك المجتمع، بالرغم من أن المتحزبين كانوا يعتقدون أنهم أسياد مجلس القدماء؛ عراقيل ومضادات فوق ما كان يتوقع، فإن وجوده كان سببا لهيجان الأفكار وإضرام وطيس الجدل، وبما أنه تعود أن يخاطب جماهير مصغية مذعنة لما يقول، سبب له موقف بعض الجمهوريين المتغطرسين القساة الذين ألقي عليهم لقب ممثل شعب؛ حزنا عميقا وقلقا شديدا، كادا يعرضان للخطر نجاح تلك الجلسة. عبارات متقطعة، كلمات مبتورة، صراخ يقاطعه تذمر السامعين، هذا كل ما استطاع أن يسمعه في وسط الديوان. كان تارة يوجه توبيخات وشكايات إلى الحزب الديموقراطي، وتارة يأخذ طور المديح فيسعى إلى تبريد موقفه باستعراض خدمه الماضية، وفي نهاية الأمر استغاث بالحرية والمساواة، فاغتنم لانكله هذه السانحة ليذكره بالقاعدة الأساسية، فصرخ صرخة الواثق بنفسه قائلا: «القاعدة الأساسية! لقد نقضتموها في 18 فروكتيدور، و22 فلوريال، و30 براريال.
10
القاعدة الأساسية! لقد استغاثتها جميع الأحزاب ونقضها جميعهم ... وإنهم ليتخزبون باسمها اليوم أيضا. وإذا اقتضى الأمر أن أذكر الرجال لزيادة الإيضاح فأنا فاعل. إن المديرين باراس ومولين قد عرضا علي أن أكون على رأس حزب من شأنه أن ينكس كل من يحمل فكرة حرة.»
هذه الكلمات الأخيرة هيجت جميع الأهواء التي كانت تضطرب في المجلس، فطلبت الجمعية السرية، إلا أن الأكثرية خالفت ذلك، وأمر بونابرت بأن يتكلم بصراحة أمام الأمة، فأسقط في يده عند ذلك، وختم كلامه بهذا الصراخ الذي لفظه وهو منسحب: «من يحبني فليتبعني!»
كانت العاصفة تقصف بأشد من ذلك في مجلس الخمس المائة الذي بقيت أكثريته راسخة في إخلاصها للجمهورية وللقاعدة الأساسية، وكانت رسالة باراس التي قرئت في المجلس، مثبتة كل ما أشارت إليه حوادث الأمس، قد حركت القضايا الشديدة ضد أي رجل يتعدى على النظام الحالي. وعندما كان الممثلون يجددون قسمهم تبعا لرأي ديلبرل، ظهر بونابرت في المجلس يصحبه موكب من الحرس. عند هذا شاع سخط كاد يكون عموميا في القاعة، وعلا الصراخ من جميع الجهات: «ليسقط الديكتاتور! ليسقط الكرومويل!
11
بونابرت خارج الشريعة!» ووثب بعض النواب من كراسيهم واندفعوا لملاقاة القائد ليوبخوه على تدنيسه مجمع الشرائع، وقال له بيكونه: «ماذا تفعل أيها المتهور؟ انسحب من هنا!» وبما أن هذه المظاهرة كانت عمومية، وجد بونابرت نفسه، وهو لا يزال متأثرا من المقاومة غير المنتظرة التي صادفها في مجلس القدماء، عاجزا عن مصادمة هذه الضوضاء الجديدة الأكثر إهانة من الأولى، فعاد إلى موكبه بسرعة واتجه به إلى وسط الكتائب حيث رأى نفسه في حرز أمين، وعادت إليه ثقته وجسارته ساعة رأى لوسيان بونابرت الذي اضطر إلى ترك الرئاسة لرفضه التصويت لأجل نفي أخيه حاملا إليه ليس مساعدة السلطة التي تجرد منها في وسط المجلس والتي استمر على دعمها في الخارج فحسب، بل نجدة فصاحته الخطابية، وشجاعته ونشاطه.
صعد لوسيان على جواده فجال بين صفوف الجنود، وصرخ بنبرات رجل لا يزال أمام عينيه مشهد الخناجر والقتلة قائلا:
أيها المواطنون والجنود
إن رئيس مجلس الخمس المائة يصرح لكم أن أكثرية هذا المجلس إنما هي الآن مهددة بهول بعض ممثلي الشعب القتلة الذين يحاصرون المنابر، يعرضون الموت على رفاقهم، ويتعمدون أشياء فظيعة!
إنني أصرح لكم أن هؤلاء القتلة الجسورين الذين هم ولا شك أجراء إنكلترا يتمردون على مجلس القدماء، ويتجاسرون أن يقولوا بوضع القائد المكلف بتنفيذ الأمر الذي بيده خارج الشريعة، كأننا لا نزال في عهد حكمهم الفظيع الذي تكفي فيه كلمة «خارج الشريعة» لأن تسقط رءوس أعز أبناء الوطن.
إنني أصرح لكم أن هذا العدد القليل من الساخطين إنما هو الذي وضع نفسه خارج الشريعة بتعديه على حرية هذا المجلس.
فباسم الشعب الذي هو منذ سنوات عديدة لعبة أبناء عهد الهول المساكين، أفوض إلى المحاربين إنقاذ أكثرية ممثليهم، حتى إذا ما تملصت من الخناجر بالحراب يتاح لها أن تتشاور في مستقبل الجمهورية.
أيها القائد، وأنتم أيها الجنود، وأنتم أيها المواطنون أما أنكم لن تعرفوا شارعين لفرنسا غير الذين يتألفون حولي، أما الذين يلبثون في الأورنجري فلتخرجهم القوة! فهؤلاء القتلة لم يبقوا ممثلي الشعب، بل هم ممثلو الخنجر! ألا فليلصق بهم هذا اللقب، وليتبعهم حيث ذهبوا! وعندما يتجاسرون على الظهور أمام الشعب فلتشر إليهم الأصابع جميعها تحت هذا اللقب المستحق: ممثلو الخنجر! ... لتحي الجمهورية!
بقي الجنود متمردين أمام هذا الكلام، فلكي يبتهم لوسيان زاد على قوله: «أقسم أن أبقر بطن أخي إذا تجاسر يوما أن يثلم حرية فرنسا!»
هذا القسم الذي لفظ بشدة فاز على تردد الجنود، لكن بونابرت لم يشر إلى مورات بأن يمشي على رأس الحرس ويشتت التمثيل الوطني من غير قلق ملك عليه. إلا أنه، وقد خاب أمله بالحصول على رغباته من وراء نفوذه وخطبه، صحت عزيمته على حل المجلس بالقوة، وما هي إلا هنيهة حتى أخليت القاعة.
على أن مسببي 18 برومير، أرادوا، لكي يعيروا أعمالهم ظاهر المشروعية، أن يستخدموا مرة أخرى صيغا شرعية يكادون يتلفونها، وأخذوا يجمعون لذلك، من جميع الجهات، بعض بقايا المجلس الذين كانوا طردوهم بشدة لكي يؤلفوا هيئة للتمثيل الوطني. وقد أتيح للوسيان أن يجمع في سن كلود ثلاثين نائبا أخذوا على أنفسهم مباشرة السلطة السامية التي قدر لبونابرت أن يملكها ملكا صحيحا، وحكموا بالتعاقب، فضلا عن طرد الواحد والستين من رفاقهم، بحل مجلس الشعب وتشكيل جمعية قنصلية مؤلفة من ثلاثة أعضاء هم سياييس وروجرديكو، وبونابرت. تمم هذا الانقلاب الكبير في الساعة التاسعة مساء. أما بونابرت فبقي حتى الساعة الحادية عشرة من غير أن يأخذ طعاما، وعوضا عن أن يهتم بحاجاته الجسدية، لم يفكر وهو داخل إلى منزله في ساعة متأخرة من الليل، في غير إتمام ذلك اليوم المشهود بإعلانه إلى الشعب الفرنسي، فأصدر هذه النشرة التالية: «لدى عودتي إلى باريس، وجدت الانقسام في جميع السلطات، والرأي العام متوطنا على هذه الحقيقة الوحيدة وهي أن قوانين المملكة المتلفة لا تستطيع أن تنقذ الحرية.
ولقد انضمت إلي جميع الأحزاب، وأفضت إلي بمقاصدها، كاشفة لي أسرارها، وطلبت مني يد المساعدة، فرفضت أن أكون رجل حزب.
وطلبني مجلس القدماء فلبيت طلبه، ولقد دبرت خطة ترمي إلى تجديد عام على يد رجال تعودت الأمة أن ترى فيهم محامين عن الحرية والمساواة والتملك. كانت هذه الخطة بحاجة إلى تدقيق هادئ، حر منزه عن كل تأثير وكل خوف. وفي الخلاصة عزم مجلس القدماء على نقل الفرقة التشريعية إلى سن كلود، وعهد إلي بتهيئة القوة اللازمة للحراسة على حريته، فنزلت عند رغبته في سبيل مواطني، والجنود الذين ذهبوا ضحية جهادهم، والمجد الوطني المشترى بدمهم.»
وبعد أن سرد بونابرت ما جرى في سن كلود، وأثبت بشهادته العظيمة الإفك الجسور الذي حاكه لوسيان عن الخناجر، ختم كلامه هكذا: «أيها الفرنسيون، إنكم ستكافئون بدون شك غيرة جندي من جنود الحرية، غيرة مواطن مخلص للجمهورية. إن الأفكار المحافظة، الحارسة، الحرة، قد دخلت إلى مأوى حقوقها بتشتيت المتحزبين العصاة الذين كانوا يتعدون على حقوق المجالس.»
الفصل السادس
إن الرجال الصارمين في مبادئهم، الجمهوريين العتاة المعتقدين أن القضية الشعبية قد سقطت تحت الحسام والنميمة مع صيغ قوانين عام 3 الديموقراطية؛ إن هؤلاء الرجال قد اتخذوا انقلاب برومير كجريمة بحق السلطة العظمى. أما كتلة الشعب، وهي الأكثرية بين جميع الأحزاب، تلك الكتلة التي تضم الفئة العاملة والوسطى والتي تعلق على رقي فرنسا وسكينتها وأمانها الخارجي أهمية أكبر من التي تعلقها على مسألة القوانين الدولية فإنها، مع استثناء عدد قليل من الأفكار الجموحة، قد عملت على تبرير بونابرت من تعديات سن كلود التي اعتبرت اليوم عملا مصلحا مفيدا.
قال نابوليون في سنت هيلين: «لقد تناقشوا تناقشا نظريا وسيتناقشون طويلا بعد في ما إذا كنا لم ننقض القوانين، أو لم نكن مجرمين، إلا أن الوطن لولانا لما نجا من الهلاك، وما أنقذه إلا نحن، ثم إن الرجال الذين مثلوا دورا في ذلك الانقلاب المشهود لأحرى بهم، بدل أن يلجئوا إلى النكران، أن يسعوا إلى تبرير نفوسهم، أن يحذوا حذو ذلك الروماني فيكتفوا بأن يجيبوا الشاكين بهذه العبارة الفخورة: إننا نعترض بأنا أنقذنا بلادنا، فتعالوا معنا نحمد الآلهة.
إنني لقد مثلت دوري في ذلك المسرح السياسي بمساعدة المعتدلين، وإن ختام الفوضى الفجائي، وعودة النظام، والاتحاد، والقوة، والمجد، إنما كانت جميعها نتيجة ذلك النور.»
لم يجئ بونابرت والحساب في يده ليضع فكرته وإرادته موضع القوانين التي نظمها الشعب والقضاة الذين انتخبهم، إلا لأن القوانين والقضاة إنما كانوا عاجزين عن الدفاع عن قضيته ضد أعدائه في داخل فرنسا وخارجها؛ ولأن الحكم المطلق كان يهدد البلاد بدفعها إلى أهواء الأحزاب الفوضوية؛ وأخيرا لأن المهاجرين وتمرد النورمنديين والفنديين والبرتونيين الذين يعضدهم حزب ملوك أوروبا كانوا ينازعون بأمل كبير الجاكوبيين في شيخوختهم تلك الفتوحات السياسية الكبرى، التي قيض للجاكوبيين وحدهم في عهد فتوتهم أن يقدموا عليها فيحققوها ويؤيدوها.
لم يقدم نابوليون في سن كلود على خلع الشعب عن عرشه، بل إنه أبدل تمثيله وجعله فردا بعد أن كان جمعا، ورضي الشعب بذلك هاتفا لظهوره بينهم بذلك الشكل الموافق.
لم يكد بونابرت يصل إلى ذلك المركز العظيم حتى قدر له أن يتملص من سياييس الذي ترك نفسه ينهمك بإمهار وطني، وأتيح له أيضا أن يعزل روجرديكو الذي وجد لنفسه ملجأ في مجلس الشيوخ، واتخذ له رفيقين جديدين هما لوبرون وكمباسيريس.
كانت أولى أعمال القنصلية أعمالا إصلاحية. فإن قانون الرهائن والقرض الجبري أبطل، ناب التساهل عن الاضطهاد، وسمحت الفلسفة المتربعة على قمة السلطة أن يسترجع المؤمنون كهنتهم ويرفعوا معابدهم، وعاد المهاجرون والمضطهدون جميعهم إلى وطنهم، وقدر لكارنو أن ينتقل من المنفى إلى جمعية العلماء فالوزارة.
بقي بونابرت في عهد حكمه الأول، في حين كان لا يزال ساكنا في لوكسانبرج، محتفظا بذوقه البسيط وعاداته الفطرية التي لم تستطع ساحات الحروب أن تفقده إياها. كان زاهدا في الأكل، إلا أنه كان يشعر بأنه سيصبح أكولا كبيرا ويزول سقمه ليحل محله السمن. ربما كان للاستحمام بالماء الساخن الذي كان يستعمله كثيرا تأثيره على هذا التغيير الأخير. أما النوم فلم يكن يأخذ منه غير سبع ساعات في اليوم، وكان يوصي دائما بأن لا يوقظه أحد إلا إذا كان هناك أمر مكدر، قال: «إذا كان هناك أمر مفرح فلا حاجة للعجلة، وأما إذا كان الأمر مكدرا فيجب أن لا تضيع دقيقة واحدة.»
كان يستقبل جميع كبراء العصر، بالرغم من الحياة المدنية المتوسطة التي كان يسلكها في قصره القنصلي، وكانت جوزيفين تقوم بالواجبات التشريفية بظرافة سيدة كبيرة من سيدت تلك المجتمعات الفرنسية القديمة.
كان القنصل الأول كثيرا ما يرى مستغرقا في تأملاته وأحلامه فلا يشترك إلا نادرا بالمطارحات اللطيفة في تلك الحلقة اللامعة التي بدأت تتألف في قصره إلا أنه كان أحيانا ينفض عنه ثوب التفكير فيبرهن بعذوبة عباراته، وطلاقة لسانه، وجاذبية بيانه أنه لا ينقصه ليكون رجلا لطيفا، قريبا من القلب إلا أن يريد. ولكن كان يريد ذلك نادرا؛ ما جعل النساء يأسفن لهذا النقص في الإرادة، وكان بونابرت مع حدة مزاجه وسرعة غضبه يخفي نفسا تتدلف بسرعة إلى أرق العواطف وأعذب التأثيرات؛ فبقدر ما هو عبوس وصارم غضوب وفظ، لا يعرف الرحمة قلبه في مشاغله السياسية، وبقدر ما هو وديع وألوف حنون وساذج في العلائق الودية في حياته الساكنة. وبرهانا على ما سردناه الآن من صفات قلبه ننقل فقرة من كتاب أرسله في عام 2 إلى أخيه جوزيف، قال: «إنك تعرف جيدا يا صديقي في أي موقف كنت. إنك لا تستطيع أن تقع على محب أخلص مني يتمنى لك سعادة أكثر من السعادة التي أتمناها لك ...
إن الحياة إنما هي حلم خفيف يتبدد بسرعة، فإذا كنت عازما على السفر وتعتقد أن سفرك يطول فأرسل إلي رسمك. إننا عشنا سنوات عديدة جنبا إلى جنب، حتى إن قلبينا اتحدا معا فأصبحا قلبا واحدا. إني أشعر وأنا أكتب إليك بعاطفة لم أشعر بمثلها من قبل، ويخيل إلي أن فراقنا سيطول، وأحس أني لا أقوى على إنجاز رسالتي ...»
كان نابوليون يقول، وهو منهمك في أشغاله السياسية، إنه لا يحب أحدا؛ ذلك لأنه لم يكن منحازا بعاطفة لكائن من كان، إلا أنه إنما كان يترك الطبيعة تستعيد حقوقها في خارج السياسة، ولقد رئي يلطف غبطة النصر وسكرته في ساحات الحروب نفسها، بالرجوع إلى عواطف كان من حق المهنة الحربية أن تخنقها. ذات يوم، بعد موقعة هائلة من مواقع إيطاليا، كان مارا مع معسكره بين القتلى والمجاريح، فأبصر فجأة كلبا ينوح بالقرب من جثة جندي نمسوي، فقال نابوليون لجنوده: «انظروا أيها الأسياد، فهذا الكلب يعطينا مثلا في الإنسانية.» ولكن، مهما كانت العاطفات التي تمكنت من نفس بونابرت والتي هي أساس الفضائل والسعادة، ومهما كان الجزاء الذي علقه على تلك السعادة؛ فإنه مدين بتضحيته لمجد الشعب الذي جعل نفسه ممثله الوحيد، وإننا لنكرر قولنا: إنه، بالرغم من أن التنظيم الجديد قد عهد بالسلطة التنفيذية إلى ثلاثة قناصل فإن الجميع يدركون أن الحاكم إنما هو واحد لا غير، وأن كمباسيريس ولوبرون إنما هما أقرب إلى شاهدين منهما إلى رفيقين لبونابرت، كان من حق القنصل الأول أن يقوم بأي عمل كان، وكان تالليران قد شعر بذلك قبلا، فعندما رقي إلى منصب وزير للأشغال الخارجية قال له: «أيها القنصل المواطن، لقد عهدت إلي بوزارة الأشغال الخارجية وسأحقق ثقتك، إلا أني أعتقد أنه من الواجب علي أن أصرح لك من الآن بأني لا أريد أن أعمل إلا معك، ليس هناك تشامخ باطل مني، فأنا أكلمك لفائدة فرنسا، فلكي يكون حكمها عادلا، لكي يكون العمل موحدا، يجب أن تكون القنصل الأول، وأن يكون في يد القنصل الأول كل ما من شأنه أن يتعلق رأسا بالسياسة، يعني وزارتي الداخلية، والشرطة للأشغال الداخلية، ووزارتي للأشغال الخارجية، وبعد ذلك الوسيلتان الكبريان للتنفيذ؛ الحربية والبحرية. ويجب إذن أن تعمل هذه الوزارات الخمس معك وحدك. أما إذا شئت، يا حضرة القائد، أن أقول فإني أضيف أنه يصلح أن يعطى القنصل الثاني حق وضع يده على العدلية، وأن يعطى الثالث حق وضع يده على المالية؛ عند ذلك يتاح لك، يا حضرة القائد، أن تصل إلى الغاية النبيلة التي تقصدها وهي تجديد فرنسا.»
وبعد أن خرج الوزير من عنده التفت بونابرت إلى كاتم أسراره قائلا له: «أتعرف أن تالليران حسن الرأي؟ إنه لرجل كبير الإحساس ... ولقد أثر بي، وإني لأرغب في عمل ما نصحني به، لقد أصاب في قوله: إن من يمشي وحده يمشي بسرعة. إن لوبرون رجل شريف ولكنه لا يحمل سياسة في رأسه؛ فهو يجيد تأليف الكتب. وكمباسيريس مفعم رأسه بسنن الثورة. فيجب أن يكون حكمي حكما جديدا.»
كان يجب أن يفهم الجميع هذا الخلق المجدد؛ لأن أصدقاء الثورة من جهة كانوا يهتفون بصوت واحد للحكومة القنصلية بالرغم من أنها شيدت على أنقاض نظام عام 3 الجمهوري؛ ولأن الشعب المائل إلى القاعدة القديمة كان يرفض اتحاده بالسلطة الجديدة بالرغم من أنها وسمت استقرارها بسمة الحكمة والإصلاح.
خشي القنصل الأول أن يضرم هذا الإصرار الحرب الأهلية في الجهة الغربية؛ فوجه أولا إلى سكان تلك الجهات نداء ليحذرهم من تحريض عملاء إنكلترا. فصادفت هذه التنبيهات المدعومة بجيش مؤلف من ستين ألف رجل نتائج حسنة واستدركت انفجارا عموميا. على أن الزعماء الملكيين الراسخين في استمرارهم وحججهم الشخصية وتنشيط المداولة الأوروبية بقوا مستعدين على إعادة القتال. أما بونابرت الذي لم يكن يستطيع أن يتخذ من هذا القبيل لهجة عدم التعصب التي اتخذها في كل خطبه، فقد وصف بحماسته المعهودة المعاندين الذين حركوا التمرد الملكي، وذلك في منشور أذاعه فيهم وقفهم فيه لاحتقار الأمة وانتقام الجيش. ففهم الملكيون أن وقت الحروب الأهلية قد فات، وأنه لم يبق سبيل لشهر الوقائع ضد ممثل الثورة الجديد فاضطروا أن يذعنوا إلى إغلاق تاريخ الفانده.
إن التضييق على أعداء الجمهورية المعاندين أو معاقبتهم، ومجازاة من يدافع عنها دفاعا شديدا كان العمل المزدوج الذي واصله بونابرت بأشد ما يكون من الحزم وأبعد ما يكون من العدالة. وكما أنه يعرف أن الاستحقاق إنما يرغب في أن يجازى، وزع مائة حسام شرف على الجنود الذين امتازوا بالأعمال المجيدة، فما كان من الشعب، الذي أبصر الشجاعة تمنح سمات الشرف التي كانت في الماضي مخصصة للنبلاء في الوراثة، إلا أن هتف لهذا التوزيع الذي، بعيدا عن أن يمس المساواة التي من أجلها انطلقت الثورة، قرر على أساس العدل الخالد ومكافأة الخدم والفضائل. والأجمل من ذلك أن يرى بونابرت مثنيا على الشجاعة ومكافئا إياها بإقامة المهرجانات على شرف الرجال الذين ظن أنهم حافظوا عليه في سن كلود من أخطار لم يقتحمها.
إذا كان صحيحا أن بونابرت كان يطلب الشهرة رغبة في تحقيق الأفكار الطماعة التي يغذيها في نفسه، وإذا كان حقا أن عظمته الشخصية، وكبره، وشهرته كانت جميعها تدخل في سائر أعماله الحربية والسياسية، فيجب أن يعرف أيضا أن عظمته وكبره إنما هما عظمة فرنسا وكبرها، وأنه إذا عمل في سبيل مجده الذاتي وفوز أطماعه، وخلوده؛ فإنما هو يعمل لرفعة الشعب ورقيه ومستقبله . أجل، إن السلطة اللا حد لها التي تمتع بها، لم تكن غير واسطة لإعطاء روح المساواة والرقي الحديث فلاحا جديدا لم تكن روح الحرية المقيدة وقتيا بأشكالها الخارجية لتستطيع بعد أن تحققه بنفسها. أما العلماء ورجال الفن فقد نالوا جميع أنواع التنشيط، ونالت الصنائع الوطنية رقيا لم تعهده من قبل، بعد أن كانت الفتن الأهلية قد عرقلت سيرها، ونظم بنك فرنسا، وصدق على عيار الأثقال والقياسات تصديقا قانونيا، وبكلمة واحدة حقق بونابرت بصفته رأس الحكومة الفرنسية كل ما فكر به قبلا، لم يكن سوى قائد جمهوري يرغب في تزيين المتحف الوطني، واستشارة المعلمين، ووضع العلماء على رأس معسكره، ويسعى إلى اكتساب ثقة الشعوب واحترامها بأن يؤثر لقب عضو في المجمع العلمي على لقب قائد للجيوش عظيم.
كان القنصل يرى نفسه سعيدا جدا بأن يرأس الفتوحات العقلية، وينشط رقي العلوم التي حلم بها وهو فتى. كان بونابرت في حداثته يفكر في أن يتفوق على نيوتن، قال: «كنت وأنا فتى أحدث نفسي بأن أصبح مخترعا كنيوتن.» وحدث السيد جوفروا ده سنت هيلير أنه سمع بونابرت يقول: «لقد أصبحت مهنة العسكرية حرفتي من غير أن أختارها.»
بقي نابوليون وفيا لميوله تحت أثقال مشاغله الحربية وفي وسط الانتصارات اليومية التي وسمت مواقعه في إيطاليا؛ ولم يقف عن ترحيب فرنسا ترحيبا سياسيا وعلميا في سبيل الرقي العام. ففي بافي استشار العالم سكاربا، وفي عام 1801 جرت له مباحثات مع العالم الطبيعي فولتا الذي أغدق عليه العطايا والمراتب العليا، وفي عام 1802 وضع جائزة قدرها ستون ألف فرنك لمن يتمكن باختباراته واكتشافاته أن يدفع الكهرباء قدما إلى الأمام كالتي دفعها فرنكلين وفولتا. وطلب أيضا من المجمع العلمي خلاصة الأعمال القيمة التي عالجتها الثورة في الفنون والآداب والعلوم.
لم يكن اهتمام القنصل الأول منحصرا في تنظيم داخل الجمهورية فحسب، بل كان يفكر في السلام الخارجي الذي أراد أن يجعله حسنة من الحسنات التي وسمت ظهوره في السلطة؛ فجعل سبيلا للمداولات مع ديوان لوندن على يد تالليران، وكتب هو نفسه الرسالة التالية إلى ملك إنكلترا في السادس والعشرين من شهر كانون أول عام 1799، منذ الأيام الأولى التي صعد بها إلى القنصلية مع كمباسيريس ولوبرون:
بونابرت، القنصل الأول في الجمهورية، إلى جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا
أمن حق الحرب التي تتلف جهات العالم الأربع منذ ثماني سنوات أن لا تقف؟ أليس هناك سبيل للتفاهم؟
كيف تستطيع الأمتان، وهما أعظم أمم أوروبا وأكثرها تنورا، أن تضحيا لأجل فكرة من المجد باطلة بخيرات التجارة، والرقي الداخلي، وهناء العيال؟ كيف لا تشعر بأن السلام إنما هو من الضروريات الأولى كما هو أول المجد؟
هذه الميول غريبة عن قلب جلالتك التي تسوس أمة حرة وترغب في إسعادها.
إن جلالتك لترى في مفاتحتي هذه رغبتي الأكيدة في العمل للمرة الثانية على الهدوء العام، بخطة سريعة ملؤها الثقة والإخلاص.
إن فرنسا وإنكلترا لتستطيعان، بما لهما من القوة، أن تبقيا طويلا بعد، ذلك الشقاق المؤسف العائد بالويل على الشعوب جميعها؛ ولكني، لا أجد بدا من القول إن مستقبل جميع الأمم الراقية متعلق بنهاية حرب تكتنف جميع العالم.
بونابرت
كانت لهجة بونابرت صادقة؛ إذ إنه لو شاء مواصلة الحرب، لو لم يكن يحب إلا الحرب كما قيل عنه، لما أرغمه مرغم على اتخاذ تلك الخطة المستقيمة بجانب ملك إنكلترا. إنه إنما كان يعلم أن السلم مفيد لحكمه، ولكنه لم يعمل على توطيد حكومته وجعلها حكومة محبوبة إلا في سبيل فرنسا والرقي الأوروبي. كانت لهجة بونابرت لهجة ديموقراطي أمين على مصالح الثورة، ثم إن الملك المسن رفض البدعة التي حاول القنصل الجمهوري أن يدخلها في المداولة، وأجابه على يد اللورد كرنفيل أن المراسلة التي بدأ بها لا تتفق مع رأيه وكلف اللورد نفسه بأن ينشئ مذكرة ملؤها الشكوى على فرنسا. ففهم بونابرت أنه بحاجة إلى غير مخاطبة العقل والكرم لإرغام هذا العدو العنيد على السلم. إلا أنه لم يشأ أن يبقي على كتفيه خصمين عظيمين كلوندن وفيينا، فحاول أيضا أن يفاتحهما بالسلم إلا أن مساعيه ذهبت أدراج الرياح.
كان قصر لوكسانبرج مقر سلطة ضعيفة خرجت من العصابات الثورية، وسقطت في وسط هتاف فرنسا تحت أثقال المضادات الشعبية التي خلقها امتداد الفوضى ولا يزال يجعلها أشد وأرسخ من يوم إلى يوم. فرأى بونابرت نفسه غير مرتاح إلى سكن كهذا، تحف به ذكريات مؤلمة فظيعة لا تنطبق على موقف حكومة تشعر بالقوة والاتحاد في نفسها وتعمل على توطيد مجدها وبقائها، فكان من الضروري إذن أن يمهد القنصل قصر الملوك مقرا له؛ لأنه إنما كان يعالج سلطة الملوك معالجة حقة، كان من الضروري إذن أن يجعل مقره التويلري المختص برؤساء الأمة، ففي التاسع عشر من شهر كانون الثاني عام 1800 قر رأي القنصل على الانتقال إلى مقره الجديد، فقال لكاتم أسراره: «إذن سننام الليلة في التويلري ... فيجب أن نذهب إليه بموكب، وهذا يضجرني جدا، ولكن أرى من الضروري أن نبهر العيون.»
في الساعة الواحدة تماما ترك بونابرت لوكسنبرج يتبعه موكب فخم من الجنود، فكان الشعب يتهافت إليه في الطرق ليشاهد عن قرب بطل المواقع العديدة الذي سار صيته سير الشمس في مذاهب السماء. كانت العيون كلها شاخصة إلى القنصل الأول تقله مركبة يقودها ستة من الجياد البيض قدمها إليه إمبراطور ألمانيا بعد معاهدة كمبوفورميو، أما كمباسيريس ولوبرون فقد كانا جالسين في مقدم المركبة كأنهما ليسا إلا حاجبين لرفيقهما، اجتاز الموكب قسما كبيرا من باريس، فكان الشعب يستقبله بالهتاف والدعاء حتى إن السيد ده برويين لم يتمالك أن قال: «إنه لم يكن بحاجة إلى حراسة الشرطة.»
عندما وصل القنصل إلى باحة القصر مر بين الجنود مرور مستعرض إلى جانبه مورات ولان. وساعة اصطفت أمامه الفرق 96 و43 و30، رفع قبعته وانحنى باحترام لدى مشاهدته أعلامها المحرقة بنار العدو والمسودة من البارود، وبعد أن انتهى الاستعراض حل من غير أبهة في المقر الملكي القديم.
على أنه لكي يبعد شبهة تجديد ملوكي فجائي أراد أن يطلق على المقر الملكي اسم قصر الحكومة، ولكي يراعي أكثر من ذلك نزاقة الجمهوريين، أدخل معه إلى مقره الجديد رسوم عظماء رجال العهد القديم الذين كان تذكارهم عزيزا عند أصدقاء الحرية .
إن كل هذه الاحتياطات التي اتخذها القنصل الأول إنما كانت تعلن، مع ميل ملكي، عن ميول منشئه العميقة ومركزه الثوري.
إن الأعمال المصلحة والتنظيمات الكبرى التي قام بها بونابرت كتنظيم بنك فرنسا، وإعادة المهاجرين إلى بلادهم وغير ذلك ... إنما تبتدئ من عهد إقامته في التويلري.
مات واشنطون، فأصدر بونابرت أمرا نشره على الجيش جاء فيه: «إن هذا الرجل قد قاتل ضد الظلم، لقد مكن دعائم الحرية في وطنه؛ فتذكاره يبقى عزيزا عند جميع الشعوب الحرة ولا سيما الشعب الفرنسي الذي حاربت جنوده وتحارب في سبيل الحرية والمساواة. إذن فالقنصل الأول يأمر بأن تعلق الشرائط السود مدة عشرة أيام على أعلام الجمهورية وبيارقها.» في اليوم نفسه أعلن القناصل نتيجة التصويت للحكم الشرعي الجديد، فكان عدد الذين رفضوا الحكم ألفا وخمسمائة واثنين وستين من ثلاثة ملايين واثني عشر ألفا وخمس مائة وتسعة وستين مصوتا.
في أثناء ذلك وصلت إلى الحكومة أخبار عن جيش مصر، وجهها كليبر إلى مجلس الشعب، من غير أن يراعي فيها بونابرت الذي شكاه بأنه هجر جيشه في وسط الضيقة والفاقة، أما القنصل الأول الذي فتح تلك البرقيات بنفسه فقد اغتبط لوقوعها بين يديه، وأجاب كليبر عليها جواب رجل يعرف أن يملك نفسه ويبرهن عن جدارته بإدارة الغير، فكان جوابه نداء موجها إلى جيش الشرق، وهذا هو:
أيها الجنود
إن قناصل الجمهورية ليهتمون غالبا بجيش الشرق.
إن فرنسا لتعرف كل المعرفة تأثير فتوحاتكم على إحياء تجارتها ورقي العالم، ثم إن أوروبا جميعها شاخصة إليكم، وإني معكم بالفكر دائما.
كونوا دائما جنود ريفوليو وأبو قير فلا تقهروا قط.
احملوا إلى كليبر تلك الثقة اللا حد لها التي حملتموها إلي فإنه يستحقها.
أيها الجنود، فكروا باليوم الذي تدخلون فيه منتصرين إلى الأرض المباركة؛ فإنه سيكون يوما مجيدا للأمة جميعها.
على أن بلاط فيينا، العائد من الانحطاط الذي أوقعته به انكساراته العديدة في مواقع إيطاليا المشهودة، كان قد أذعن مرة أخرى لحقده المزمن ضد الجمهورية الفرنسية، وهرول للانضمام إلى سياسة الديوان الإنكليزي دافعا إلى الوراء جميع مطاليب بونابرت الهادئة. عند هذا أمر القنصل الأول بتأليف جيش احتياطي في ديجون مؤلف من ستين ألف رجل عهد بقيادته إلى برتيه الذي ناب عنه كارنو في وزارة الحربية، إلا أنه ما لبث أن ذهب هو نفسه فاستلم قيادة ذلك الجيش وألف منه جيش إيطاليا الجديد.
خرج من باريس في السادس من أيار فوصل في الخامس عشر منه إلى جبل سن برنار الذي اجتازه بثلاثة أيام. في اليوم الثامن عشر كتب بونابرت من معسكره في مارتيني إلى وزير الداخلية ليبشره بأن ذلك الممر الصعب قد عبر، وأن الجيش يدخل الأرض الإيطالية في الواحد والعشرين. قال: «أيها الوزير المواطن، إنني على أقدام جبال الألب الكبرى في وسط الفاله.
1
إن الكران سن برنار
2
قد عرض لنا عوائق كثيرة اخترقت جميعها بتلك الشجاعة النادرة التي تميز الكتائب الفرنسية عن سواها في جميع المواقف، إن ثلث المدفعية قد أصبح الآن في إيطاليا، وبرتيه هو في بييمونت. كل يعبر بعد ثلاثة أيام.»
وبالحقيقة جرى كل شيء بنظام وسرعة كما توقعه القنصل الأول، وبعد أن استولوا على مدينة أوست، رأى الجيش نفسه أمام قلعة بار المنيعة بسبب وجودها على صخر عمودي يسد واديا عميقا لا بد من اجتيازه.
كان لا سبيل إلى خرق هذا الحاجز إلا بحفر مسلك في الصخر تعبر منه الخيالة والمشاة، وبعد أن أجرى ذلك غلفت دواليب العجلات والمدافع بالقش، في ليلة حالكة، وهكذا أتيح لهم أن يتجاوزوا القلعة عابرين مدينة بار الصغيرة تحت نار اثنين وعشرين مدفعا كان ضررها طفيفا على الجمهوريين.
في أوائل حزيران زحف المعسكر إلى ميلان حيث وجه بونابرت إلى الجيش النداء التالي بعد أن أمر بتجديد الجمهورية السيزاليينية:
3
أيها الجنود
كانت إحدى مقاطعاتنا تحت سلطة العدو، كان الحزن شاملا شمال فرنسا جميعه، كما أن القسم الأكبر من الأرض الليكورينية،
4
وهي الأرض الأمينة على صداقة الجمهورية، إنما كانت عرضة للغزوات والمظالم.
إن الجمهورية السيزاليينية التي تلاشت منذ الحملة الماضية كانت قد أصبحت ألعوبة السياسة الإقطاعية المسخة. أيها الجنود، إنكم تزحفون، ولقد نجت الأرض الفرنسية، وأتيح للأمل في وطننا أن ينوب عن الكآبة والمخاوف، إنكم ستعيدون الحرية والاستقلال إلى شعب جنوا، وسينجو إلى الأبد من أعدائه الأبديين.
إنكم الآن لفي عاصمة السيزاليين، ولم يبق للعدو الخائف أمل بسوى العودة إلى حدوده، فلقد جردتموه من مستشفياته ومخازنه وحظائر مؤنته.
لقد انتهى أول عمل من أعمال الحملة، وإنكم لتسمعون كل يوم الملايين من الرجال يوجهون إليكم عبارات الثناء. ولكن أتدعون الجيش الذي حمل الحزن إلى عيالكم يعود إلى مآويه؟ بل تزحفون إليه!
أسرعوا إلى مطاردته، وانزعوا منه أكاليل الغار التي تزين بها، وأفهموا العالم أن اللعنة إنما تقع على الأغبياء الذين يجرءون على إهانة أرض الشعب الكبير.
إن نتيجة جهودنا ستكون مجدا من غير غيوم وسلاما مكينا.
إن المجد الساطع الذي لا غيوم عليه إنما كان منذ زمن طويل حليف الجيش الفرنسي وقائده، غير أن السلام المكين كان صعب المنال، في التاسع من حزيران عبر بونابرت البو وقاتل الإمبراطوريين في مونتيبللو حيث قدر لأحد ملازميه الجنرال لان أن يجعل اسمه خالدا. في الرابع عشر منه قاتل الإمبراطوريين مرة أخرى في سهول مارنغو وانتصر عليهم انتصارا أكسب الجيش الجمهوري مجدا لم يكسبه مثله في جميع المواقع التي امتاز بها. لنترك المنتصر نفسه يسرد تفصيل تلك الموقعة المشهودة، قال: «بعد موقعة مونتيبللو، زحف الجيش ليعبر السييرا. في الرابع والعشرين من الشهر التقت فرقة الحرس التي يقودها الجنرال غاردان بالعدو فقهرته وغنمت منه مدفعين ومائة أسير.
وفي الوقت نفسه وصلت فرقة القائد شابران عن طريق البو، تجاه فالنس، لتمنع العدو من عبور هذا النهر؛ وهكذا أصبح ميلاس محصورا بين البورميدا والبو. في الخامس والعشرين صباحا عبر العدو البورميدا على الجسور الثلاثة التي تخصه بالقرب من ألكسندري وعزم أن يجعل له منفذا، ثم فاجأ فرقة الحرس وبدأ بكل ما أوتيه من الشدة بموقعة مارنغو المشهودة التي تصرفت أخيرا بمستقبل إيطاليا والجيش النمسوي.
تقهقرنا في الموقعة أربع مرات وتقدمنا أربعا، وغنمنا ستين مدفعا في مواقف مختلفة وساعات متفاوتة، ثم خسرناها ثم استرجعت.
كانت الساعة الثالثة بعد الظهر عندما تجاوز ميمنتنا عشرة آلاف من المشاة في سبل سن جوليان الجميل؛ كان يعضدهم صف من الخيالة وكثير من المدافع، عند هذا وضعت رماحة الحرس في وسط ذلك السهل الفسيح كمتراس من الصوان فلم يستطع أحد سبيلا إلى خرقها، بالرغم من اتجاه الخيالة والمشاة والمدفعية ضدها.
هذه المقاومة الشديدة قمعت ميسرة العدو، وأتاحت لميمنتنا أن تثبت حتى وصول القائد مونيه الذي أخذ بالحراب قرية كاستيل سيريولو.
كان العدو يتقدم على طول الخط مطلقا قنابل مائة مدفع ونيف، وكانت الطرق ملأى بالهاربين والجرحى والجثث. في تلك الساعة خيل لنا أننا سنخسر الموقعة، ولكننا تركنا العدو يتقدم حتى مسافة رصاصة بندقية من قرية سن جوليان، حيث كانت فرقة دوزه مهيأة للقتال بثمانية مدافع خفيفة إلى الأمام وكتيبتين لعضد الجانحين. وكان الهاربون جميعهم يتجمعون وراءنا. إلا أن العدو كان يرتكب هفوات تشير إلى قرب نكبته؛ إذ إنه إنما كان يبسط أجنحته أكثر من اللازم.
في تلك الساعة التفت القنصل إلى الكتائب، وقال لها: «أيها الأبناء، تذكروا أني تعودت النوم في ساحات القتال!» عند هذا هجم دوزه على العدو بين صراخ: «لتحي الجمهورية! ليحي القنصل الأول!» وما هي إلا هنيهة حتى تضعضع العدو، وهجم الجنرال كيلليرمان هجوما شديدا نجم عنه أن أسر ستة آلاف رجل والقائد زاخ وقتل كثير من قواد العدو، وهكذا دب الذعر والحزن في صفوف الأعداء.
أما الخيالة النمسوية فقد كانت هجمت إلى الوسط لتحمي المندحرين، فلاقاها قائد الفرقة يسيير على رأس رماحة الحرس وعالج في الهجوم نشاطا عظيما حتى خرق صف خيالة العدو وتم له بذلك أن شتت الجيش جميعه.
غنمنا خمسة عشر علما، وأربعين مدفعا، ومن ستة إلى ثمانية ألف أسير، وبقي في ساحة القتال أكثر من ستة آلاف عدو.
لقد استحقت المدفعية الخفيفة التاسعة لقب «بلا مثيل»، وفرقتا الخيالة الجسيمة، و«الدراغون» الثامنة نالتا من المجد قسطا عظيما، أما خسارتنا فهي فادحة أيضا؛ لقد قتل منا ستمائة رجل، وجرح ألف وخمسمائة، وأسر تسع مائة.
جرح القواد شالبو، ومارمون، وبوده.
إلا أن خسارة فادحة، أثرت في الجيش تأثيرا عظيما وستؤثر في الجمهورية أيضا، أغلقت قلبنا في وجه الغبطة؛ أصيب دوزه برصاصة لدى أول هجوم فرقته فمات على الأثر، من غير أن يترك له القدر فرصة يقول فيها إلا هذه العبارة التي قالها للوبرون الفتى الذي كان معه: «اذهب وقل للقنصل الأول: إنني أموت آسفا على عدم تمكني من القيام بعمل يذكر لأعيش في صدور الأجيال.»
لقد أصيب القائد دوزه بثلاثة جراح في مدة حياته، وسقط تحته أربعة جياد، لم يلحق بمعسكره إلا منذ ثلاثة أيام، وكان مشتاقا للقتال اشتياقا عظيما، حتى إنه قال مرارا لمعاونيه: «لقد مضى وقت طويل من غير أن أحارب في أوروبا، حتى أصبحت القنابل لا تعرفني.» وعندما بلغ القنصل الأول نبأ مقتل دوزه لم يفه بسوى هذه العبارة: «لم لم يسمح لي بأن أبكي؟» نقلت جثته إلى ميلان لتحنط هناك.»
سلمت معركة مارنغو البييمونت ولمومباردي إلى فرنسا، بقي القنصل الأول بعض أيام في إيطاليا، وجرى له في ميلان استقبال حافل حتى إن القسوس أنفسهم اشتركوا بهذا الاحتفال العمومي، أما نابوليون فلكي يحظى بعضدهم خاطب قسوس تلك العاصمة بهذه الكلمات: «رؤساء دين هو ديني، إني أعتبركم كأعز أصدقائي، وأصرح لكم بأنني أعد مقلقا الراحة العمومية، وأعاقب عقابا شديدا وإذا اقتضى الأمر أعدم كل من يوجه إهانة ولو صغيرة إلى ديننا، أو يجرؤ على هتك حرمة ذواتكم المقدسة.
إن الفلاسفة العصريين سعوا كثيرا ليحققوا لفرنسا أن الدين الكاثوليكي إنما هو عدو لكل قاعدة ديموقراطية وكل حكومة جمهورية، ومن هنا نجمت تلك الاضطهادات التي عالجتها الجمهورية الفرنسية ضد الدين ورؤسائه، أنا أيضا فيلسوف، وأعرف أن لا رجل في العالم يتاح له أن يكون فضيلا وحكيما إذا جهل من أين جاء وإلى أين يذهب. إن العقل البسيط لا يستطيع أن يوفر لنا نورا كافيا لمعرفة ذلك، ولولا الدين لمشى الإنسان طوال حياته في الظلمات، ثم إن الدين الكاثوليكي هو الدين الوحيد الذي يهب الرجل أنوارا لا تضل تهديه إلى الصراط القويم» ... كان بونابرت يقول: «إني لا أرى في الدين سر التجسد بل أرى فيه سر النظام العالمي، إنه ينيط بالسماء فكرة مساواة تحفظ الغني من تعديات الفقير ... وإننا عرفنا جمهوريات وديموقراطيات، ولم نعرف أمة من غير دين وعبادة وكهنة.»
بعد أن مر بضعة أيام على فتح بونابرت إيطاليا للمرة الثانية أسرع بالعودة إلى فرنسا، في السادس والعشرين من حزيران أشار بنقل جثة دوزه إلى جبل سن برنار، وأمر برفع تمثال في ذلك المكان لذكرى هذا البطل الفتى. في الثلاثين منه وصل إلى ليون حيث أراد أن يقوم بعمل مصلح يكافئ به هذه المدينة الصناعية على ثباتها في التعلق به ومحبتها إياه، فأمر بترميم جهات بيللكور الأمامية ووضع هو نفسه الحجر الأول لها.
في الثالث من شهر تموز، أي قبل سفره من باريس بشهرين، دخل منتصرا إلى هذه العاصمة بين هتاف شعب غفير. وأول عمل شرع به هو مكافأة شجاعة رفاقه الحربيين. وكان قد منح لاتور دوفرني الباسل لقب «جندي الجمهورية الأول» على أقدام جبل سن برنار، فرفض هذا كل تقدم. وعند عودته، بعد حملة سريعة كللت بنصر باهر، أراد أن يقوم بمنح رتب عديدة وتوزيع شهادات شرف.
بينما كان القنصل الأول يستعيد ببعض أيام أجمل قسمة من إيطاليا، كان برون وبرنادوت قد سكنا بريطانيا، وقرر عيد عظيم بمناسبة اتحاد الفرنسيين جميعهم، أما هذا العيد فقد عين في الرابع عشر من تموز، ولكيلا يفوت هذا المهرجان شيء من مجالي الأبهة والعظمة عين في النهار نفسه وضع الحجارة الأولى من الأعمدة الإقليمية والعمود الوطني؛ الأولى ترفع في كل قصبة من الأقاليم، والآخر في باريس، ساحة فاندوم، وجميعها لمجد البسلاء الذين ماتوا في سبيل الوطن والحرية. والشان ده مرس
5
الذي استقبل جميع نواب حرس فرنسا الوطنيين، يوم احتفل للمرة الأولى بعيد تموز، في ذلك اليوم المشهود، يوم المعاهدة الذي سعي في جعله يوما دينيا، والذي مثل فيه لافاييت الوطنية المولودة ومثل تالليران الإيمان المحتضر؛ قلنا: إن الشان ده مرس أبصر بعد عشر سنوات مرت بالاضطرابات الأهلية والحروب الخارجية المحامين عن الثورة مجتمعين في باحته الفسيحة، لا ليقسموا - هذه المرة - على الانتصار أو الموت، بل ليروا نواب الجيش يشهدون علنا أن قسم نواب الحرس الوطني قد تمم بمجد عظيم وأن فرنسا الحديثة قد قهرت أوروبا المسنة، وعندما قدمت فرقة من الضباط أرسلها جيشا الرين وإيطاليا فنشرت أمام القناصل الأعلام التي غنمتها من الأعداء لترفعها إلى الحكومة كتحية للوطن نهض بونابرت ووجه إليها هذه الكلمات النبيلة: «إن الأعلام المرفوعة إلى الحكومة أمام شعب هذه العاصمة الكبرى لتشهد بنبوغ القواد مورو وماسينا وبرتيه، ومناقب القواد العسكرية وملازميهم وشجاعة الجندي الفرنسي.
عندما تعودون إلى المعسكر بلغوا الجنود أن الشعب الفرنسي ينتظر في الأول من فنديميير يوم الاحتفال بعيد الجمهورية، إما عقد الصلح وإما، إذا أقدم العدو على إقامة حواجز دونه، أعلاما جديدة ثمرة انتصارات أخر.»
وختم هذا اليوم المشهود بوليمة أقامها القنصل الأول لأصحاب المراتب العليا في الجمهورية شرب فيها نخب الشعب الفرنسي قائلا: «أشرب نخب 14 تموز والشعب الفرنسي، صاحب السلطة.»
الفصل السابع
بعد مرور شهر اهتم بونابرت بتنظيم شورى الدولة وتعيين أعضائه، وفي الثالث من أيلول عقد معاهدة حبية تجارية بين فرنسا والولايات المتحدة، وفي العشرين منه عين مؤتمرا آخر في لونيفيل مثل فيه الجمهورية بالقائد كلارك، وذلك عند رفض الإمبراطور توقيع شروط الصلح.
لم يكن عيد أول فنديميير أقل أبهة من عيد 14 تموز، فقد حضره نواب المقاطعات جميعها، ووضع فيه الحجر الأول للتمثال الوطني في ساحة النصر لذكرى دوزه وكليبر اللذين سقطا معا في يوم واحد، الأول في مارنغو تحت نار العدو، والآخر في القاهرة تحت خنجر أحد القتلة المماليك، ثم إن نقل رفات تورين
1
إلى هيكل مرس زاد على أبهة عيد تأسيس الجمهورية؛ فقد لفظ وزير الحربية كارنو خطبة بليغة بهذه المناسبة مدح فيها المحارب الخالد الذي تحتفل فرنسا بنقل رفاته . كانت الخطبة تفصح عن العلوم العسكرية، والنبوغ الوديع ، والفضائل المجردة التي كان ينطوي عليها قائد الملكية العظيم. ولقد عرف كارنو أن يمزج مع اسمي كليبر ودوزه اسم لاتور دوفرني الباسل العالم الذي يكاد يقتل في ألمانيا. على أنه، بالرغم من أبهة الأعياد الأهلية والجهود المتوالية التي قام بها القنصل ليخفي أفكاره العميقة، كانت الطريقة التي استولى بها على السلطة والاستعدادات التي أظهرها بعد ذلك، تشير إلى عدم رغبته في بقاء النظم الجمهورية؛ ما جعل القدماء في خدمة الجمهورية أن يسخطوا سخطا شديدا وينقلب البعض منهم على بونابرت فيحاولوا قتله كما يجب أن يقتل المختلس القاتل. كان بين هؤلاء النائب السابق أرنيا، والنحات سيراكشي، وتوبينو لوبرون، تلميذ دافيد، ودامرفيل، فاستغل أحد البائسين واسمه هريل حقدهم على بونابرت وأدخلهم في مؤامرة ثم وشى بهم إلى الشرطة، وهكذا كانت نجاة القنصل الأول من هؤلاء المؤامرين.
أما المحازبون البوربونيون الذين خيل لهم بادئ ذي بدء أن سيروا في بونابرت «مونك»
2
آخر وانتهوا بأن قطعوا الأمل من هذه الفكرة، فقد أخذوا يتحزبون ضده، وما لبثت العداوة الأجنبية أن انضمت إليهم وانطلقت عند ذلك الآلة الجهنمية. جرى ذلك في الثالث من نيفوز.
3
كان القنصل الأول متجها إلى الأوبرا يصحبه لان وبرتيه ولوريستون، فعندما بلغ شارع سن نيكيز دهش لانفجار برميل بارود موضوع على عجلة، ولو تأخر عشر ثوان لقضي عليه وعلى حاشيته، إلا أن سائق مركبته الذي كان سكران سوط على الجياد بأشد من العادة، فأنقذت هذه السرعة العظيمة الرجل الذي لو مات لقلب موته مقدرات فرنسا وأوروبا جميعا. صرخ القنصل الأول قائلا: «لقد لغمنا!» وألح لان وبرتيه بالعودة إلى التويلري، فقال بونابرت: «لا، بل إلى الأوبرا!» وحقا ظهر بونابرت في الأوبرا وجلس في مقدم لوجه حيث أبرز جبينه صافيا هادئا كما لو كان الاطمئنان كله حالا في نفسه، وبعد مرور مدة قصيرة استسلم لتأثراته الشديدة فأسرع إلى التويلري حيث كانت تزدحم ذاتيات العصر لترى ماذا جرى وما سيجري، ولم يكد يتوسط هؤلاء الكبراء حتى استسلم لصاعقة خلقه فقال لهم بصوت شديد: «هذا هو عمل الجاكوبيين! ... إن الجاكوبيين هم الذين أرادوا أن يقتلوني! ... ليس هناك أشراف ولا كهنة! ... بل هناك أيلوليون
4
وقتلة تغمرهم الوحول لم يكن شأنهم إلا التمرد على جميع الحكومات التي تعاقبت. إنهم فنانون ومصورون!
5
هم قتلة فرسايل، ولصوص 31 أيار، ومسببو الجرائم المقترفة ضد الحكومات، يجب أن يسحقوا جميعهم، يجب أن تطهر فرنسا من هؤلاء الأسافل القذرين، يجب أن لا يشفق على قتلة كهؤلاء! ...»
هذه الكلمات أعيدت مرة أخرى في جواب لفظه القنصل الأول على مسمع وفد مقاطعة السين، إلا أن الأمر الفظيع هو أنها أتبعت أيضا بتعذيب الضحايا التي سلمها هريل إلى الشرطة، وبنفي مائة وثلاثين مواطنا اشتبه بهم لاستمرارهم في وطنيتهم الحقة ومحافظتهم عليها محافظة شديدة. أما فوشه وزير الشرطة الذي كان يسعى إلى تبرئة ساحته من الاشتراك في الجريمة، فقد أظهر غيرة لم يظهر مثلها أحد في معاقبة المجرمين؛ والاستعدادت التي طرحها على القنصل الأول نالت موافقته، ولكن بعد شهر ثبت له أن الجريمة كانت تخص الملكيين، وتأكد أن الجاسوسيين كاربون وسن ريجن هما مسببان هذا التعدي فحكم عليهما بالموت ونفذ الحكم، إلا أن هذا العقاب العادل لم يلغ الخطة التي اتخذتها الحكومة ضد الديموقراطيين الأبرياء الذين أوشكوا أن يذهبوا ضحية السخط العمومي لدى مرورهم في نانت.
هذه العدالة صادفت عددا قليلا من المخالفين؛ لأنها كانت من جهة بونابرت، ولقد خاطر الأميرال تروكه ببعض ملاحظات مرجعها لصالح الحزب الذي يذهب في مذهبه، وتشكى من أن الروح العمومية قد أفسدتها نشرات من شأنها ترويج العودة إلى الحكم الملكي الوراثي. هذه المخاطرة كانت ترمز إلى كتابة عنوانها «مقابلة بين القيصر، وكرومويل، وبونابرت» نشرت تحت رعاية وزير الداخلية وأعدت لسبر استعدادات الشعب الفرنسي للثورة التي كان بونابرت عازما على إطلاقها.
إن الكتابات والمناشير التي خصصت لتهيئة الأفكار إلى ثورة جديدة في شكل حكومة، لم تنل قبولا من الشعب الذي كان القنصل الأول يعلق آمالا على تعلقه به ومحبته إياه. إلا أن الآلة الجهنمية فتحت سبيلا لإيجاد محاكم استثنائية لم تلبث أن أصبحت آلات سريعة في يد السلطة المطلقة التي كان القنصل الأول يتمتع بها - حقا - في فرنسا. هذا التنظيم الرهيب هيج في «التريبونه»
6
المعارضة الباسلة التي قام بها بانجمين كونستان،
7
ودونو، وجنكنه، وشينيه، وإسنار، وغيرهم. وهيج في مجلس الشيوخ أربعة أصوات كريمة هي أصوات لامبريك، ولانجونيه، وكارا، ولونوار لاروش. إلا أن المحامين عن الحرية الوطنية كانوا الأقلية، فأتيح للقنصل أن يحقق رغائبه بسهولة تامة.
كان يرى إلى جنب هذه الخطط الرجعية أعمال مجيدة من حقها أن ترفع عاليا مجد فرنسا وعظمتها. كانت الطرق والترع تنفتح من جميع الجهات؛ والفنون الجميلة تكسب عزة ورونقا من يوم إلى يوم، ولقد نشطت الاكتشافات العلمية، ودخلت التجارة والصناعة في طرق كانت لا تزال مجهولة.
في السابع عشر من كانون الثاني عام 1801 أمر بتنظيم شركة أفريقيا، وشخص القنصل الأول إلى جبال أتلاس
8
ساعيا إلى احتضان فوائد الرقي عند الشعوب المهذبة والهمجية فعهد إلى القائد تورو بأن يرأس تخطيط طريق سنبلون الجميلة.
9
في التاسع من شباط وقع الصلح البري في لونيفيل. عند هذا اغتنم بونابرت الفرصة ليشكو الديوان الإنكليزي بأنه الحاجز الوحيد دون السلام العالمي. فقال للفرقة التشريعية والتريبونه: «فيم هذه المعاهدة ليست معاهدة السلام العمومي؟ إن السلام العمومي، إنما هو أمنية فرنسا، هو الغاية الكبرى من جهود الحكومة، إلا أن هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح. وإن أوروبا جمعاء لتعرف حق المعرفة مساعي الوزارة البريطانية في سبيل إسقاط مداولات لونيفيل.» ثم بعد ذلك قال مجيبا على التهنئات التي وجهتها إليه الفرقة التشريعية: «إن جميع السلطات ستنفق على إدخال إنكلترا في طريق الاعتدال والإنصاف والعقل.»
أما معاهدة لونيفيل التي عقدت خصيصى مع بلاط فيينا فقد أتبعت بمعاهدات خصوصية مع نابولي ومدريد وبارم. في ذلك الوقت أوجد بونابرت مقاطعات روبر، والسار، والرين وموزيل، والمون تونير، وبما أن توسيع الجمهورية وتهدئتها كان من حقهما أن يساعدا على إفلاحه المادي فقد أجاز لنفسه تنظيم بنايات تجارية، وأمر بأن يقام كل عام من 17 إلى 22 أيلول معرض عمومي لحاصلات الصناعة الفرنسية، على أنه لم يكف القنصل الأول أنه قهر أوروبا، وهدأ فرنسا، وأحيا التجارة والصناعة، ونشط الفنون الجميلة والعلوم، بل كان يشعر في وسط أعماله المجيدة بأن خطته في تجديد التنظيمات إنما كانت غير كاملة وأنه لا يزال ينقصه شيء بعد لإكمال بنائه وهو مركز للدين. لم يكن بونابرت قد احتقره، بدون شك، ولكن لم يدبر شيء لأجله، لا في المعاهدات ولا في القوانين، فلكي يعين القنصل ذلك المركز الجديد على أساس شرعي دخل في مداولة مع روما وعقد اتفاقا مع بيوس السابع، أما الفلاسفة الذين كانوا رضوا بثورة برومير؛ لأنها أثبتت حظهم الفجائي فقد شرعوا يصرخون ضد تلك الرجعة الدينية، وربما رغبوا في أن يعلن بونابرت نفسه رئيسا للكنيسة الفرنسية ويقطع بينه وبين السدة الرسولية. إلا أن القنصل الأول كان يفهم تطلبات دين الأكثرية بشكل آخر، ويخشى أن يجرح الأشخاص البارزين في الأمة.
في مدة الثورة، وعلى عهد حكم الفلسفة الظالم، كان الفراغ الذي تركه في الدولة غياب الدين قد أثر ببعض رجال، فحاولوا أن يشيدوه بإقامة الاحتفالات الدينية في المعابد وغيرها. قال روبسبيير يوم ذاك: «إن الذي يستطيع أن يملأ فراغ الألوهة يعد في نظري أعجوبة في النبوغ، وأما الذي يحاول أن ينفيها من روح الرجال من غير أن يسد ذلك الفراغ فهو أعجوبة في الحماقة والفساد!»
أما بونابرت فلم تكن المعتقدات الدينية في نظره سوى أوهام باطلة نسجها الزمن، أو خيالات نشأت في أذهان الشعوب منذ مدرجها وقد حاربها العقل طويلا لأنها حالت دون رقيه. وكان يقول عن الدين المسيحي نفسه، الذي سماه الدين الحقيقي: إن العلم والتاريخ إنما هما عدوان شديدان له.
لقد نسي بونابرت، وهو يعزو هذه العداوة إلى المسيحية من غير أن يبين الوقت والمكان، العلاقة المكينة التي كانت بين الدين والعلم بين الدين والسياسة، عهد نشأة المجتمعات العصرية، وفي منازعات المعتقدات المسيحية والعادات الشريفة ضد تقاليد العالم الهرطوقي الممقوتة ومعتقدات الأمم الوثنية السمجة. ولو اعتقد بونابرت بتفوق الدين في المستقبل لفكر في أن هذا الدين لم يبق بإمكانه، بعد أن مر عليه ثلاثة قرون من الاعتراضات والشكوك الفلسفية، بعد أن مر عليه باكون وديكارت، فولتير وروسو؛ لم يبق بإمكانه أن يعود إلى ما كان عليه في القرون الوسطى، ولكان أتيح له أن يضيف على الفاتح الشارع ورجل الثورة السياسي لقب مصلح ديني. إلا أن بونابرت - نكرر القول - لم يكن يرى في الأديان الوضعية، كفيلسوف، غير أعداء أبديين للدين والمعارف، وكرجل سياسي، غير وسائل للضغط على الشعب، غير أنه عندما رأى أن أكثرية الشعب الفرنسي متمسكة بالكثلكة تمسكا مكينا لم يجد بدا من مساعدة البابا على تنظيم مصالح المذهب الكاثوليكي، ومن الظهور بمظهر راغب في أن يرجع إلى الكنيسة والأسقفية جلالهما القديم، ولقد عزم أن يخفي آراءه الخصوصية تحت مظاهر إيمان علني فاقتحم سخرية بلاطه الفولتيري وحضر قداسا في نوتردام بمناسبة اتفاقية الصلح مع إنكلترا التي عقدت في أميان. حضر الاحتفال الديني جميع الأشخاص البارزين في العصر، وعندما أدرك لان وأجرو، وهما ذاهبان مع الموكب القنصلي، أنهما يتجهان إلى القداس حاولا أن يرجعا، فأشار إليهما بونابرت بالبقاء، وفي اليوم التالي سأل بونابرت أوجرو، مازحا، كيف رأى الاحتفال، فأجابه جندي أركول ولودي الباسل: «جميلا جدا، لم يكن ينقصه إلا المليون رجل الذين قتلوا ليهدموا ما نجدده.»
كان جواب أوجرو مرا، فالمليون رجل لم يموتوا ليلاشوا الدين، بل ليمنعوا رجوع تطرفات الدين، رجوع العشور، والتبرئات، والامتيازات الإكليريكية، إن الثورة إنما محقت التقاليد المسيحية لتنيب عنها العقل، لم تكن غايتها أن تنصر حزبا على آخر، وتحرر العبيد لتستعبد الأسياد، أو أن تجعل للفلسفة سبيلا تصل منها إلى إماتة الدين، وأن لا تهب العالم إلا عار الأعياد الزحلية،
10
بل كانت غايتها أن تخلق حقا جديدا يصون أعضاء الأمة من أي مذهب كانوا. وبقدر ما كانت شديدة الوطء على الكهنة عندما اقتضى الأمر أن تنزع منهم القسمة الفنية التي وهبها إياها النظام القديم في توزيع الامتيازات الاجتماعية كانت تسعى في أن تبرهن أن شدتها لم تقصد إلا عدم المساواة التي مهدت لصالح الإكليروس ، ولم تطبق إلا على عداوة أصحاب الامتيازات المختلسين، وإذا كانت هذه العداوة قد أدت إلى إغلاق المعابد، وتهييج رسل العقل، وجعل الكنائس منتديات طوال مدة القتال، فمن الضروري أن تبرهن الثورة المنتصرة بصوت رنان لدى استتباب السلام أنها لم تكن عدوة الإكليروس إلا اضطرارا، وأنه لم يكن بينها وبين الدين تنافر قط، بل هي مستعدة لأن تمارس الاعتقادات الدينية التي هي غذاء الشعوب. تلك هي المظاهرة الضرورية التي قامت بها الثورة في تداولها مع روما ونشرها الاتفاقية، وذهابها إلى الكنيسة بعظمة احتفالية في شخص أعظم أبنائها وأشهر ترجمان فيها. قال بونابرت في مذكراته: «إن اتفاق 1801 الكنسي إنما كان ضروريا للدين وللجمهورية وللحكومة ... لقد أوقف الانقلابات عند حدها، وبدد جميع شكوك مشتري الأملاك الوطنية، وقطع الخيط الأخير الذي كان يربط السلالة الملكية القديمة بالبلاد.» وقال في إحدى خطبه: «إن كان البابا غير موجود فمن الضروري إيجاده في مثل هذه الظروف كما كان القناصل الرومانيون يعملون ديكتاتورا في المواقف الحرجة.»
عندما وفق بين البابا وبونابرت، أعطي هذا ضمانا جديدا لتثبيت تلك العلاقة الجديدة بأن أسس ممالك في الأرض الإيطالية التي كان يرغب في الماضي أن يملأها جمهوريات، فأصبحت التوسكان مملكة صغيرة أعطي عرشها إلى دوق ده بارم الذي سلخت عنه ممالكه لتضاف إلى لومباردي.
11
زار هذا الأمير عاصمة فرنسا تحت اسم الكونت ده ليفورن فأقيمت له احتفالات باهرة ظهرت فيها للمرة الثانية العظمة الأريستوقراطية القديمة. إلا أن تلك الاحتفالات لم تستطع أن تخفي قصور ذلك الأمير وعدم كفاءته، وعندما سئل بونابرت سؤال دهشة عن السبب الذي دعا إلى رفع رجل كهذا إلى المقام السامي أجاب: «هكذا شاءت السياسة، ثم لا بأس بأن يرى الشباب الذين لم يروا ملوكا بعد كيف يكون الملوك.»
ألا يعني هذا الكلام أن أفكاره الخفية في إعادة الملكية إنما كانت دائما تحمل الطابع الثوري، وأنه إذا كانت الجمعية الشارعة والاتفاقية قد حاربا الملكية في الملك، فهو يكمل عملهما بأن يمحق الملكية بإقامة ملوك؟
الفصل الثامن
إن الفراغ الذي تركته الثورة الفرنسية في القاعدة الأوروبية القديمة كان بعيدا عن أن يملأ، بل إنه، بالعكس، أخذ يتسع شمالا وشرقا بالفتوحات الفرنسية في ألمانيا وإيطاليا حتى صار من حقه أن يخيف الدواوين الأجنبية خوفا لا حد له، ثم إن نفاد المال، وتعب الشعوب، والحاجة إلى استدراك النكبات التي سببتها الحملات المحزنة والمواقع الخاسرة، والخوف من بلايا جديدة، كل هذا أخضع أوروبا المسيحية والإقطاعية إلى نفوذ فرنسا القاهر، ولقد توصل الشعب الحر، الذي كثيرا ما كان عرضة لهجوم الأمم المستعبدة، والذي عزي إليه الكفر والإلحاد، إلى التفاهم مع البابا والملكية.
يا لمقام الجمهورية الفرنسية من مقام باهر! فإنها بعد أن تحملت ببسالة مدة عشر سنوات أثقال حرب طويلة في سبيل التملص من سطوة الامتيازات رأت نفسها أخيرا على قمة العظمة، متمتعة وهي في أبهى مجالي الحرية والفخر بخيرات المساواة، وقادرة على إدهاش العالم بعجائب السلام كما أدهشته بعجائب الحرب. وإذا كانت جيوشها تضم أشد جنود الزمن وأفضل قواده فإن ولاياتها لتضم أيضا في أحضانها جميع العظماء الذين امتازوا بإدارة الأمة، ففي جمعياتها السياسية صفوة خطباء أوروبا والمحامين فيها، وجمعيتها العلمية أفضل جمعية بين جمعيات العالم كله، وعلماؤها، وأدباؤها، وشعراؤها، ورساموها، والنحاتون يحملون الصولجان في مملكة الفن، أما تجارتها والصناعة فيها فقد مهرتا بالطرق والجسور والترع التي تربو على العدد، وجاءتا تبسطان غناهما تحت شرفات اللوفر، كأنما شاءتا أن تنخسف فخفخة الملكية القديمة، تلك الفخفخة القاحلة، أمام تبرج فرنسا الجديدة، ذلك التبرج المثمر، وأما الشباب، فلكي يكون جديرا بذلك العصر الكبير، رأى المدارس تنفتح في وجهه، ووجد في الخزينة عضدا يساعده على ولوج المعاهدات العلمية. وفي النهاية، مجد عسكري، ومجد سياسي، ومجد أدبي وانتصار الرقي على يد السلاح، والعلوم، والفنون، والصناعة، ثم هدوء تام في الداخل، وسلام عام في الخارج، وفوق كل ذلك وجود بونابرت حاكما في الجمهورية، هكذا كانت حالة الجمهورية بعد معاهدة إميان!
لم يكن ينقص عظمة فرنسا وفلاحها شيء قط، إلا أن هذه الدولة الزاهرة التي كانت توحي الحسد إلى أوروبا إنما كانت تجد في قاعدة الشرائع نفسها تقلبات لا مناص لها منها. كان الجميع معتقدين أن انتصارات الجمهورية، وهدوءها، وتألقها إنما كانت جميعها عمل الرجل العظيم الذي أرسلته الحكمة العلياء لنجدة الثورة، وكانوا معتقدين أيضا أن بقاء ذلك التألق وتلك العظمة يتوقف دائما على نبوغ ذلك الرجل. أفيجوز إذن أن يبعد ذلك العقل المولد عن تولي الحكم ويجرد من مهماته العظمى بلعب الشرائع ومداخلة الدسائس والفتن؟ أمن الحق أن يفترض أن الأول في أداء الخدم، والمجد، والذكاء، والإرادة، وجميع الصفات المجيدة التي يزدان بها رجل الحرب والأمة، يجوز أنه يلقى في مقام متوسط غير ضرورة شرعية؟
كان مجلس الشيوخ قد ظن نفسه أنه قام بما وجب عليه عندما اقترح عليه «التريبونه» مجازاة القنصل الأول بما تستحقه جهوده وإخلاصه فسمى بونابرت قنصلا لعشر سنوات. إلا أن هذه المجازاة لم تقنع بونابرت الذي خدم فرنسا خدما كثيرة وجعلها في الأوج التي هي فيه؛ إذ إن رجلا مثله لا يستطيع بعد عشر سنوات أو خمس أن يعود مواطنا بسيطا أو أن يصبح الثاني في الأمة. فعندما ازدرى بالتصويت الذي جزم به مجلس الشيوخ تمديد القنصلية إلى عشر سنوات نادى الشعب وطرح عليه هذا السؤال: «أيقدر لبونابرت أن يكون قنصلا مدة حياته؟» فأسرع الشعب جماعات إلى الانتخاب وأجاب بأكثر من ثلاثة ملايين صوت: «نعم»، أما مجلس الشيوخ فأسرع لإعلان أمنية الشعب مضيفا إليها إنعاما جديدا للقنصل الأول وهو حق انتحاب خلفه، فأجاب بونابرت بهذه الكلمات:
حضرات أعضاء مجلس الشيوخ
إن حياة المواطن إنما هي لوطنه، والشعب الفرنسي يريد أن تكون حياتي وقفا له ... وإني لمذعن إلى إرادته ...
إن الشعب الفرنسي يتقاضاني واجب إسناد قاعدة شرائعه بتنظيمات حسنة العواقب بتسليمه إلي هذا الضمان الدائم وهو ثقته بي.
إن حرية فرنسا، ومساواتها، وإفلاحها ستكون في أمن من ريب المستقبل بما آتيه من الجهود وما تعلقونه علي من الثقة.
على أن أمنية الشعب، التي أكدت له التمتع بالقنصلية السامية تمتعا مؤبدا، صادفت بعض اعتراضات لم ينتج منها سوى إبراز أخلاق نبيلة من غير أن تنقص من التصويت الوطني العام. لم يكن ممكنا القيام بعمل غير هذا. وكانت القنصلية المؤبدة تتراءى أنها تعلق مقدرات الجمهورية بمقدرات رجل واحد، وترسم شبه ملكية دائمة تضع الجمهورية على حدود الملكية الوراثية، إلا أن الاتفاقية والجمعية التأسيسية وجدتا من يعترض باسمهما على اندفاع الأفكار نحو الحكم المطلق، فظهرت الجمعية التأسيسية للمرة الثانية في لافاييت لتحتج على مسألة القنصلية المؤبدة في حين أن شبح الاتفاقية أعطى رأيا سلبيا بفم كارنو.
كان القنصل الأول قد توقع مصادمة لافاييت الذي لعب دورا مهما تارة إلى جنب واشنطون وطورا إلى جنب ميرابو، وتمكن من الوصول إلى المقام الأول بين السياسيين. وكانت أمنية لافاييت أن يمثل عصرا كاملا، وأن يكون علما حيا لمواطني ثورة 89؛ وعندما كان هذا الرجل يمثل نفسه بتلك الصورة الطافحة بمجد الباستيل «والجو ده بوم»
1
ذاكرا بفخر تلك القسمة المجيدة التي جازاه بها اعتراف الأمة على عهد الجمعية التأسيسية الزاهر، كيف يستطيع إذ ذاك أن يرضى بالنزول من الأوج الذي رفعه منتصر 14 تموز ليترامى ويحتجب بين الخدم الذين يحيطون بمنتصر 18 برومير؟ ثم إن مواطن المعاهدة الأولى الحريص على ثباته لم يستطع أن يتفاهم مع ديكتاتور سنة 1802، فكان من حق لافاييت أن يرفض عضوية مجلس الشيوخ ويحتجب بنبل وشرف في عزلته في لاغرانغ بدل أن يضيع في عالم التويلري الزاهر. في ذلك الحين أنشأ القنصل الأول مرسوم جوقة الشرف. قال لتراجمينه أمام الفرقة التشريعية: «إن هذا المرسوم يمحو التمييزات الشرفية التي تضع المجد الموروث قبل المجد المكتسب، وحفدة الرجال العظام قبل الرجال العظام.» كان هذا إكراما جديدا لمبادئ الفلسفة العصرية، ورمزا للمساواة الصحيحة على أساس المكافأة حسب الاستحقاق، إلا أن بونابرت قد ألغى هذه البدعة الكبرى في وسط شعب لا يزال يضم عددا من المتحزبين للتمييز الوراثي وبعضا من الذين يتوقعون عودة الأريستوقراطية القديمة أو إنشاء أريستوقراطية جديدة، فصادفت اعتراضات شديدة من رجال لا هم أريستوقراطيون متعصبون ولا ديموقراطيون؛ ما أشاع الدهشة في بونابرت فألقى التبعة على الخطباء الذين دافعوا عن تلك الطوية قائلا: «إن كان تباين رتب الشرف وخاصية مجازاتها مخصصين للنبلاء فإن وسام جوقة الشرف إنما هو رمز المساواة.» على أن صلح إميان ترك جميع وسائل فرنسا العسكرية متعطلة في يد بونابرت؛ إذ ذاك فكر القنصل الأول في الاستفادة من سكينة أوروبا ليحمل الحرب إلى أميركا ويستولي على سان دومنغو. فأعطى قيادة الحملة إلى صهره لوكليرك. إلا أن النتيجة لم تكن حسنة؛ إذ إن صهره مات آسفا على قبوله القيام بمشروع متلف منكب، وأضاع روشامبو، خلفه، المستعمرة بما أتاه من ضروب القساوة وسوء الإدارة.
كانت إيطاليا وهي مهد عظمة بونابرت ومجده تشغل فكره شغلا كبيرا. كان بونابرت قد استلم من الشورى، التي اجتمعت في ليون في مطلع عام 1802، رئاسة الجمهورية السيزالبينية التي لم يكن أحد من الإيطاليين جديرا بتحمل مسئوليتها. قال بونابرت يوم ذاك لنواب هذه الأمة: «إنكم لا تملكون غير شرائع خصوصية فيقتضي لكم شرائع عامة. وإن شعبكم لا يملك غير عادات محلية فيقتضي له عادات وطنية.» وفي السنة نفسها أضاف بونابرت البييمونت إلى فرنسا وقسمها إلى ست مقاطعات: البو، والدور، والسيزيا، والستورا، والتانارو، ومارنغو.
أما أوائل أيام سنة 1803 فقد وسمت بتنظيم جديد في مجلس العلماء الوطني قسم إلى أربع طبقات؛ الأولى: العلوم، الثانية: اللغة والأدب، الثالثة: التاريخ والأدب القديم، والرابعة: الفنون الجميلة. واجتزأ هذا الترتيب العلوم السياسية من مجلس العلماء. وأسس القنصل الأول في ذلك العهد تأسيسات مختلفة ذات أهمية كبرى منها المدرسة العسكرية في فونتينبلو، ومدرسة الصناعة والفنون في كومبياني. وأراد أيضا أن يضيف إلى لقبي قاهر الممالك الأوروبية ومسكن الجمهورية الفرنسية لقب وسيط المعاهدة الهلفتيكية
2
فأعطى سويسرا تنظيما جديدا ختم المنازعات التي قامت بها الأقاليم القديمة. عند هذا تم لتسع عشرة دولة أن تؤلف الهلفتي الجديدة تحت حماية فرنسا، فوجه إليها بونابرت نداء نقتطف منه ما يلي: «ما من رجل عاقل لا يرى إلا التوسط الذي أقوم به هو للهلفتي من حسنات الحكمة التي سهرت في وسط تلك الانقلابات على حياة أمتكم واستقلالها، وأن هذا التوسط إنما هو الوسيلة الوحيدة الباقية لكم لإنقاذ تلك الحياة وذلك الاستقلال.»
كانت الدواوين الأجنبية تنظر بغيظ ممزوج بنكاية إلى النفوذ العجيب والتفوق العام اللذين اتخذتهما فرنسا ورئيسها الفتى في مسائل أوروبا جميعها، وكان الصلح محتملا بفارغ صبر خصوصا في مجلس سن جمس في لوندن، حيث ألفت الأريستوقراطية الأوروبية كثيرا من الأحزاب ضد الجمهورية الفرنسية. كيف يستطيع رجال الدولة الذين هللوا لمنشور برونسويك
3
أن يتحملوا، والسلاح على أذرعهم، مشهد عظمة شعب كانوا في الماضي يتوقعون أن يلقوه إلى جنودهم غنيمة باردة. عند هذا شرع الكتبة يحملون على الجمهورية الفرنسية حملات عنيفة فلم يجب بونابرت أولا بسوى هذه الكلمة التي نشرها في المونيتور:
4 «إن بعضا من الصحفيين الإنكليز باقون فريسة للفتن، وإن جميع الأسطر التي ينشرونها إنما هي أسطر من دم. إنهم ينادون الحرب الأهلية بأصوات مرتفعة، ويحاولون إضرامها في قلب الأمة الغربية الهادئة.
إنه من الأهون على أمواج المحيط أن تقتلع الصخرة التي تعقل غضبها منذ أربعين قرنا من أن تضرم الأحزاب المعادية أوروبا والبشر الحرب وغضبها في وسط الغرب، ولا سيما أن تشحب كوكب الشعب الفرنسي.»
ثم نشر بونابرت في الجريدة الرسمية ما يلي: «إن «التيمس» التي يقال إنها تحت مراقبة الوزارة تنشر شتائم فظيعة ضد فرنسا ... وإنها تعزو إلى الحكومة الفرنسية كل ما تستطيع المخيلة أن تتصوره من ضروب الحطة والدناءة واللؤم، ما هو غرضها؟ ... ومن يدفعها؟ ...
وهناك جريدة أخرى يديرها بعض المهاجرين الأشقياء، وهم بقية فاسدة، لا وطن لهم ولا شرف، يحملون لطخة جرائم لا يستطيع أي عفو كان أن يغسلها، تزيد أيضا على تهجم «التيمس».
وهناك أحد عشر أسقفا، يرأسهم أسقف أراس الفاحش، يتمردون على الوطن والكنيسة ويجتمعون في لوندن، إنهم ينشرون رسائل ملؤها الشتائم ضد أساقفة فرنسا، ويشتمون الحكومة والبابا؛ لأن الحكومة والبابا وطدا الأمن والإنجيل بين أربعين مليونا من المسيحيين.
إن جزيرة جرسي ملأى بالأشقياء المحكوم عليهم بالموت لاقترافهم جرائم من شأنها أن تعكر الأمن كالقتل والهتك والحرائق! وإن اتفاقية إميان تشترط أن يسلم الأشخاص المتهمون بالجرائم، أما القتلة الذين في جرسي فإنهم بالعكس يتمتعون براحة وسلام ...
إن جورج
5
يصحب إلى لوندن شريطته الحمراء على رءوس الأشهاد مكافأة للذين عملوا الآلة الجهنمية التي هدمت شارعا من شوارع باريس وأماتت ثلاثين امرأة وطفلا.»
ما حل باتفاقية إميان بعد هذه الأعمال الفظيعة؟
كانت الوحدة الأوروبية التي خلقتها المسيحية والفتح في الأول، ووضعت منذ ذلك الحين تحت حماية مداولة الدول، قد انفسخت بشدة على يد الثورة الفرنسية، وكانت الحكومات القديمة جميعها قد حزنت حزنا شديدا من جراء ذلك، وتظاهر الديوان البريطاني، بالرغم من إعطاء إنكلترا لقب أرض الحرية الأولى، بشهر العداء الشديد على فرنسا؛ لأنه إنما كان يمثل الأريستوقراطية الفخورة الحقودة، والإقطاعية الأشد رسوخا في أوروبا. فلم يكن من سبيل إلى التفاهم بين فرنسا وذلك الديوان. لم يحتج بلاط لوندن إلى أكثر من سنتين ليشعر بتعبه من السلام الوهمي الذي عقده في إميان، ويدفع الأمتين بعضهما على بعض في معركة فظيعة، تينك الأمتين اللتين كان الأولى بهما أن تسيرا معا إلى مطارح السلام والرقي العالمي.
في العشرين من شهر أيار 1803 أرسل القناصل إلى مجلس الشيوخ والفرقة التشريعية والتريبونه يخبرونهم باستعدادت الديوان الإنكليزي للخصومة وطلائع الحرب، فأجابت هذه الفرق المختلفة قائلة بوجوب اتخاذ التدابير اللازمة لاحترام المعاهدات وأهلية الشعب الفرنسي. وعندما انتهى عزمها إلى الحكومة أجاب عليه القنصل الأول بهذه الكلمات العلنية: «إننا مضطرون إلى شهر الحرب لدفع مبادهة غير عادلة، وإننا لنشهرها بمجد عظيم!
إذا كان ملك إنكلترا عازما على جعل بريطانيا العظمى في موقف حرب حتى تعترف له فرنسا بحق التعدي على المعاهدات كما يشاء، وحق رذل الحكومة الفرنسية بالمناشير الرسمية من غير أن نستطيع سبيلا إلى التشكي، إذن فيجب أن يؤسف على حظوظ البشر.
إننا نود بدون شك أن نترك للأعقاب الاسم الفرنسي شريفا مكرما لا لطخة عليه ...
وإننا لنترك دائما لإنكلترا مبادأة السلوك الغضوب ضد سلام الأمم واستقلالها، وستنال منا مثلا في الاعتدال الذي يستطيع وحده أن يثبت النظام العام.»
إن امتلاك جزيرتي لامبيدوز ومالطة وإخلاء هولنده كانا الحجة التي استند إليها ملك إنكلترا ليخرق معاهدة إميان، ولكن الحقيقة هي أن السبب نفسه الذي هيأ الحزب الأول هيأ بريطانيا العظمى مرة أخرى ضد فرنسا؛ إذن فحرب المبادئ ضد الثورة الفرنسية هي التي كانت تضطرم عند ذاك. عبثا حاول إمبراطور روسيا وملك بروسيا أن يتوسطا في الأمر، وستبرهن حوادث السنين المقبلة أنهما كانا متحدين مع أعداء فرنسا اتحادا سريا. ولكن بما أن إنكلترا لم تقاس ما قاسته السلطات البرية في الحروب الأولى، وبما أنها لم تحتج إلى وقت طويل لتستعيد أنفاسها، كان من الطبيعي أن تقف في مقدمة الأحزاب الجديدة التي ستهاجم فرنسا زمنا طويلا بعد.
كانت نتيجة هذا الشقاق سيئة على الديوان الذي هيجه. استولت الكتائب الفرنسية على الهانوفر،
6
وبقي الجيش الأنكلوهانوفري سجينا حربيا وقد تخلى عنه قائده الدوق ده كامبريدج.
ترك بونابرت باريس ليزور بلجيكا، فاستقبلته بروكسيل استقبال منتصر عظيم، أما هو فأجاب على هذا الاستقبال بأن مهر البلد بتنظيمات وتشييدات مفيدة؛ إذ إنه أمر بضم الرين، والموز، والأيسكو بترعة مواصلات كبيرة.
ولما عاد إلى باريس فتح جسر الفنون للشعب، وحول البريتانه إلى ليسه.
7
وكانت الأشغال الخارجية تشغله كثيرا فعقد معاهدة مع سويسرا، ومنح سفير الباب العالي العثماني مواجهة فوق العادة، وأعلن تخلية اللويزيانا إلى الولايات المتحدة بتعويض قدره ستون مليونا من الفرنكات. إلا أن الأمر المهم الذي كان يشغله إنما كان الحرب مع بريطانيا العظمى. ترك باريس في أوائل تشرين الثاني وقام بدورة على الشواطئ ليتفقد الأعمال العظيمة التي أمر بها لأجل تلك الغاية، وشاهد موقعة حصلت في بولونيا بين فرقة إنكليزية وباخرة فرنسية صغيرة، وعندما رجع إلى عاصمته وجد في البرلمان (مجلس النواب) تبليغا من قبل ملك إنكلترا جورج الثالث يوعز به أنه يود أن يزحف على رأس شعبه، وأن فرنسا لن تنال من خطتها إلا الانكسار والويل؛ فملك السخط على بونابرت وأسرع بإذاعة هذه الكلمات في الجريدة الرسمية: «أهو ملك إنكلترا رأس أمة هي سيدة البحار ومليكة الهند ذلك الذي يتلفظ بهذا الكلام؟ ... أيجهل الذين يملون عليه هذه الكلمات الطائشة أن هرولد المزور
8
زحف أيضا على رأس شعبه؟ أيجهلون أن فخفخة النسب، وخاصيات السلطة العظمى، والوشاح البرفيري الذي يستر الملوك، إنما هي تروس سريعة العطب في هذه الظروف التي يتمشى فيها الموت من جيش إلى آخر مترقبا طرفة عين النبوغ ليختار القسمة التي من حقها أن تؤدي إليه ضحاياه؟ ألا إن جميع الرجال لسواء في يوم القتال!
إن من دأب المواقع، والتفوق في الفن العسكري، واطمئنان القيادة أن يوجد القاهرين والمقهورين. وإن ملكا في الثالثة والستين من عمره يضع نفسه للمرة الأولى على رأس كتائبه سيكون عثرة لذويه فوق ما عندهم من العثرات، وضربا جديدا من ضروب النجاح لأعدائه.
ليس من شأن الحكمة البشرية أن تعرف ما تخبئه الحكمة العلياء لمعاقبة المزورين الذين يهيجون الحرب ويعملون على هرق الدم البشري، ولكننا نستطيع أن نتفاءل بثقة فنقول إنكم لن تأخذوا مالطة ولا لامبيدوز، وإنكم ستوقعون معاهدة أقل نفعا من معاهدة إميان.
أما الانكسار والويل! ... فهما غير جديرين بشعب كبير وبرجل عاقل، ثم إنه من الفجور أن يؤكد أن الجيش الفرنسي الذي لم يلحقه الحيف حتى الآن لن يجد في أرض بريطانيا العظمى إلا الانكسار والويل.»
أظهرت الحرب أن بونابرت إنما هو أعظم قائد وجد في العالم، وأما الحكومة فقد بينت فيه نبوغ رجل الأمة، إلا أن الذي بقي غير حاصل عليه هو تأديته البراهين للظهور بمظهر كاتب في زمن كانت الطباعة فيه قوة سياسية عظمى. أجل، إن مناشيره، وأوامره، ونبذه العسكرية، وخطبه الرسمية كان يحق لها أن تعطي صورة عن نبل إنشائه ونموه، ولكن ذلك لم يكن كافيا لإظهار رحابة مزاياه وأنواعها. كانت فطرة الرجل العظيم تقول له إنه من الواجب عليه أن يمارس جميع أسلحة العصر الغلابة: السيف، والكلام، والقلم، وأن لا تغرب عنه وسيلة من الوسائل المهمة التي تحتاج إليها السلطة للتأثير على الشعب في الداخل والدفاع عن حقوقه في الخارج. وكانت الصحافة يوم ذاك لها سطوتها العظمى، ما جعل بونابرت يفتخر بأن يجمع لقب صحافي إلى لقب فاتح وشارع. إننا نعتقد كل الاعتقاد أن قاهر مارنغو لم يكن يحترم القلم محاربا به أعداءه فرنسا في السطور البليغة بأجلى ما يكون من قوة الحجة أقل من احترامه السيف في ساحات القتال. وبعبارة أجلى: لقد قال أكثر من مرة: إنه إذا اختير بين الصفات الأهلية والصفات العسكرية فلا يتردد أن يمنح الأولى الأفضلية، ولقد رأيناه قبل هنيهة، في مصر وإيطاليا، يضع لقب عضو في المجلس العلمي قبل لقب قائد عام.
لم يكن في ذلك تصنع من بونابرت؛ لا، إنه إنما كان يدرك بأية حالة يستطاع أن يحكم شعب أثارته الفلسفة على ملكية لويس الرابع عشر العسكرية. كان يدرك أن الثورة الفرنسية لم تكن إلا كفاح الذكاء ضد الطرق الاقطاعية التي وضعتها القوة الوحشية الفظة، وأنه إذا أقدمت تلك الثورة بعض الأحيان على الالتجاء إلى القوة الوحشية لتدافع عن كيانها فليس ذلك عن تعمد منها بل عن اضطرار أرغمها على معالجة تلك الطريقة في القتال. كان بونابرت إذن يؤثر أن يخدم الثورة بسلاحه الطبيعي: المنطق، الذي ينير الأرواح فتذعن للعقل، على أن يخدمها بالوسائل القاتلة التي تعالج في الحرب لهرق الدم البشري، والتي لا تعطي إلا نتيجة إخضاع العقل للقوة، ثم إنه في جميع الحروب التي قام بها وهو قائد وقنصل وإمبراطور إنما كان يهتم دائما بأن يؤكد - كما فعل في شقاق معاهدة إميان - أنه لم يخضع إلا لضرورة دفع تهجم غير عادل، وأنه يلقي على أعداء فرنسا تبعة الآلام والمصائب التي ستنزل بالإنسانية.
كان القنصل الأول يهتم في الوقت نفسه بتنظيم داخل الجمهورية. ففي العشرين من شهر كانون الأول عام 1803 دعا بونابرت إلى مرسوم ديوان أعيان نوع قاعدة الفرقة التشريعية كان فاتحة أعماله في السادس من كانون الثاني وعام 1804، وانتخب السيد ده فونتان رئيسا لتلك الفرقة. أما بيان موقف الجمهورية فقد جرى في الفرقة التشريعية في جلسة السادس عشر من كانون الثاني. وتكلم السيد ده فونتان وهو على رأس وفد معبرا عن تمنيات هذه الفرقة للقنصل الأول، قال: «إن الفرقة التشريعية تشكرك باسم الشعب الفرنسي على الأعمال القيمة التي بدأت بها لفائدة الزراعة والصناعة والتي لم تكن الحرب لتوقفها يوما. إن من عادات الأفكار السامية أن تهمل التدابير أحيانا، إلا أن الأجيال لن توجه إليك هذا اللوم؛ لأن فكرة حكومتك وعملها يمشيان في كل مكان جنبا إلى جنب.
كل يتكمل، الأحقاد تنطفئ، والمصادمات تمحى، والمهمات، والقواعد، والرجال الذين خيل لنا أنهم بعيدون يقتربون ويمتزجون ثم يؤلفون كتلة واحدة للمجد والوطن تحت تأثير روح منتصرة تجر كل شيء وراءها. أما العادات القديمة والحديثة فإنها تتكاتف، وكل ما من شأنه أن يؤيد مساواة الحقوق الأهلية والسياسية فهو محفوظ، ولقد استرجع كل ما يئول إلى إنماء عظمة الملك الكبير وجدارته.
إن هذه الخيرات أيها القنصل الأول المواطن، إنما هي عمل أربع سنوات، وإن أشعة المجد الوطني التي كانت تخبو منذ خمسة أعوام استعادت اليوم نورا لم تره قط قبلك.»
هذا الإعجاب العمومي الذي تمتع به القنصل المؤبد في قلب فرنسا أضعف روح الأحزاب وأجبرها على عدم الإتيان بعمل؛ أما زعماء الحزب المهاجرون فقد ظلوا مستمرين في أحقادهم ودسائسهم ضد القاعدة الجديدة؛ إذ إنهم كانوا يثقون بمساعدة الممالك الأوروبية لا سيما مملكة إنكلترا التي نكثت عهدها في إميان. ولقد خيل إليهم أن استمرار الأمن الداخلي لا يلبث أن يجعل التمرد صعبا، وأنه من الضروري أن يشرع بمنازعة القنصل قبل أن تستحكم سلطته استحكاما أقوى مما هي عليه، وما هو إلا وقت قصير حتى دبرت مؤامرة على الحكومة وحياة بونابرت.
تفاهم المتآمرون، من الرين إلى التاميز، تحت عناية الديوان الإنكليزي، المنطلق في غضبه وأحقاده. ولقد اشترك بيشاغري في المؤامرة حاذيا حذو من تقدمه من الخائنين، من دون أن يخشى أن يكون شريكا لجورج كادودال في الذنب. ومورو! مورو الذي قاتل الأرشيدوق جان دوتريش في هوانلندن، سود صحيفة ذلك المجد ومشى في تيار هذه الدسيسة الفظيعة. لا تسل عن غضب بونابرت وأسفه عندما تناهى إليه هذا الخبر المشئوم فصرخ قائلا: «كيف رضي مورو أن ينضم إلى عصبة كهذه؟ إنني لا آسف إلا على مورو أن يضل على الطريق القويم!»
لم تلبث المؤامرة أن كشفت فأعلنت الحكومة شكواها إلى أوروبا جمعاء بنشرها الخبر في جميع الصحف التي تملكها. عند ذلك خفت فرق الدولة كلها إلى القنصل الأول تبدي له استياءها الشديد من ذلك التصرف وتؤكد له ثانية اتحادها في العمل على ردع تلك التعديات، فأجابها بونابرت: «لقد تألفت مؤامرات عديدة علي حياتي منذ اليوم الذي بلغت فيه قمة الحكم. إلا أني، وقد نشأت في ساحات الحروب، لم أكترث يوما بالمخاطر ولم توح إلي الخوف شدة.
ولكنني لا أستطيع أن أطرد عني عاطفة عميقة مؤلمة ساعة يتراءى لي موقف هذا الشعب الكبير لو استطاع التعدي الأخير سبيلا إلي؛ أما إنهم لقد تآمروا على مجد الشعب الفرنسي وحريته ومقدراته.
لقد رفضت طويلا حلاوة الصفة الخصوصية؛ فإن جميع أوقاتي، وحياتي كلها، إنما هي موقوفة للقيام بالواجب الذي يكلفني إياه الشعب الفرنسي.
إن السماء تحرس فرنسا وتتلف مؤامرات الأردياء، فعلى المواطنين أن لا يحزنوا، وأن يتأكدوا أن حياتي ستبقى ما زالت ضرورية للأمة. إلا أن الذي أرغب في أن يعرفه الشعب الفرنسي هو أن وجودي مجردا من ثقته وحبه لا عزاء لي به، ولا ينتج فائدة قط.»
إن بونابرت، بإناطته مجد فرنسا وحريتها ومقدراتها بوجوده، إنما أشار إشارة واضحة إلى أن الحكم الدائم الذي عهد به الشعب إليه لا يكفي في نظره لضمان مستقبل البلاد، وأنه يفكر في تنظيم جديد يتاح له بعده أن يدافع عن المصالح الجديدة، وسنرى فيما بعد فكرته هذه تظهر فتتحقق.
كان بين المهاجرين الذين كانوا متحفزين لاجتياز الحدود لدى الإشارة الأولى من المتآمرين الدوق دانكيان آخر عقب من دم كونده. فأشار القنصل الأول بالقبض عليه في ولايات باد، وسيق إلى فنسين حيث حوكم وأعدم رميا بالرصاص بسرعة عظيمة. هذا التنفيذ سبب لبونابرت لوما كبيرا؛ إذ إنه اعتبر جبنا يلحق باسمه لطخة لا تمحى. ولكن لو كان الأمير الفتى الذي يحمل اسما من أعظم أسماء فرنسا القديمة لم يشهر الحرب على الأفكار والتنظيمات التي لم يستقم لها رأيه إلا كما كان يشهرها أجداده؛ أي بشهامة البواسل، حسب قوانين الشرف وحقوق البشر، لدخل إيقافه وقتله في حوزة تلك السياسة الشديدة التي استعملت الهول والمشنقة كسلاح حربي. وإذا كان الأمر بالعكس، إذا كان الدوق دانكيان لم يعمد إلى محاربة الجمهورية كجندي، وإذا كان قد رضي حقيقة الانضمام إلى الرجال الذين لم يكونوا ليتهيبوا الإقدام على قتل القنصل الأول ليقلبوا البلاد ويستعبدوها، فليس هو إذن حفيد قاهر روكروا
9
الذي قتل في خنادق فنسين بل هو شريك جورج وبيشاغري في الجريمة. قال نابوليون في وصيته ما يلي: «لقد أوقفت الدوق دانكيان وحاكمته؛ لأن ذلك كان ضروريا لأمن الشعب الفرنسي وصالحه وشرفه في حين أن الكونت دارتوا كان يحمي، حسب اعترافه، ستين قاتلا في باريس.» وقال في مكان آخر: «لو لم يكن لدي شرائع البلاد ضد الدوق دانكيان لبقيت لي حقوق الشريعة الطبيعية وهي حقوق الدفاع عن النفس. لم يكن له ولذويه قصد سوى أخذ حياتي؛ ولقد كنت مهددا من جميع الجهات وفي كل دقيقة تارة بالبنادق وطورا بالآلات الجهنمية، حينا بالمؤامرات وحينا بالمكايد، حتى تعبت من كل ذلك، وغنمت السانحة فأطلقت الهول حتى في لوندن، وتم لي النجاح ... من يحتج علي؟ إن الدم يستدعي الدم! ويجب أن أكون مجردا من الإحساس لأعتقد أن على الأرض أسرة يحق لها أن تهاجم حياتي كل يوم من غير أن يحق لي أن أقابلها بمثل ما تصنع ... ثم إني لم أسئ شخصيا إلى أحد من هؤلاء، ولكن الأمة الكبيرة وضعتني على رأسها، ونزلت أكثرية أوروبا عند هذه النخبة، وبعد كل ذلك فإن دمي ليوازي دمهم ولا مرية.»
أجل، إن دم الرجل العظيم، الذي كان موضوع إعجاب أوروبا وسعادة فرنسا، إنما يوازي، من غير شك، دم الأمراء الذين كانوا يعملون على تكدير صفو فرنسا وأوروبا ليرجعوا إلى عجزهم وقصورهم المتجبر سلطة هيأتها الحكمة السامية بصوت الشعب لإكرام النبوغ. ولكن، من لا يدرك أن دم الأبطال الذي لا تصونه الفخفخة الملكية لا ثمن له لدى الرءوس الشريفة والأريستوقراطيات التي تتكاتف حولها؟ من لا يدرك أن الرجال الذين يتظاهرون بالشفقة والغضب عندما يشهدون الشرف الوراثي يسقط تحت منجل الرجعات السياسية يرقصون رقصة المتوحشين في مقربة من مكان العذاب ساعة يرون الرصاص القاتل مصوبا على صدر الشرف الشخصي؟ اسألوا روح ذلك المرشال المنكود الذي لم يكن من سلاسة البسلاء، بل باسل البسلاء، والذي لم يلطخ هذا اللقب بمسارة القتلة الجبناء. إن من كان إنسانا حقيقيا يتألم لضحايا الثورات جميعها من غير ما نظر إلى الأحزاب، وإن من كان فرنسيا حقيقيا يميل إلى مجد فرنسا كيف كان.
لقد خيل إلى البعض أن بونابرت دفع إلى قتل الدوق دانكيان رغبة في إعطاء ضمان ضد عودة البوربونيين، أما المتآمرون، الذين حاولوا أن يعيدوا عرش البوربون بقتل بونابرت، فقد شاهدوا من سجونهم بعد ذلك أنهم لم يعملوا إلا على إعطاء تاج للذي توقعوا أن يروه ميتا.
الفصل التاسع
لو لم يرغب بونابرت في سوى سلطة كبرى لتوطيد النظام في الدولة وإعطاء الثورة النمو المنظم الذي جعلته تشنجات الديموقراطية مستحيلا مدة طويلة لكفاه الحكم السامي الدائم، لا سيما مع إعطائه حق اختيار خلفه بنفسه، إلا أنه كان يطمح في الحصول على سلطة وراثية اعتقادا منه أنه إنما يعالج في ذلك دوام النظام الجديد، سليل الثورة. قال: «إن الوراثة تستطيع وحدها أن تمنع ثورة جديدة تنقض مجريات الأولى. لا يخشى على شيء في مدة حياتي، إلا أن كل رئيس انتخابي سيكون بعدي عاجزا عن الوقوف في وجه محاربي البوربون ... إن فرنسا مدينة بكثير لقواد فرقها العشرين الذين قاتلوا ببسالة في سبيلها، إلا أن هؤلاء القواد لم تتوفر في أحد منهم شروط القائد العام، أو رئيس الحكومة.» إلام استند بونابرت بهذا الرأي الصارم الذي أعطاه عن قواد الفرق الممتازين؟ ألم يكذب أحد من هؤلاء، فيما بعد، ما عزاه إليهم من عدم الأهلية للحكم؟ أو ليس أحد هؤلاء القواد الذين قيل عنهم باحتقار، سنة 1804، إنه لم تتوفر في أحد منهم شروط الحكم، هو الذي بقي حتى عام 1839 يشغل عرش «وازا» الذي صعد إليه في سنة 1810 من غير أن يتاح لحزب السلالة الملكية القديمة، التي حطمت صولجان نابوليون، أن تجد في هفوات ذلك القائد الفرنسي القديم وسيلة لترميم الحق في السويد، كما أتيح لها أن تعمل في فرنسا، وإنقاذ أوروبا من عار السرقة الملكية؟ وإذا كان حقيقة أن القواد العظام يعجزون عن إدارة الدولة أفليس في هؤلاء الرجال السياسيين الممتازين الذين يحيطون بالقنصل الأول من هو جدير بذلك المنصب؟
إننا لا نوافقه على ذلك، ولا شك في أن طمع بونابرت هذه المرة غره غرورا واضحا. قيل إنه وهو يبحث عن ضمان ثابت في تأسيس الوراثة الحاكمة إنما كان يتكل على أهمية المبدأ الوراثي؛ فهذا الأمل يبرهن برهانا أكيدا أن للنبوغ مهما تسامى أوقات رقاد، وللحذاقة مهما روضت ساعات غباوة.
لقد استند إلى عظمة المبدأ الوراثي في القرون الوسطى، ولم تكن الوراثة يوم ذاك ممكنة فقط بل ضرورية أيضا. كانت ممكنة لأنه كان يكفي أن يقفها الدين لتصبح حرما في نظر الأمراء والشعوب، التي كان إيمانهم الحي المتحد بذاته له السلطة على كل تنظيم وكل سنة تحمل الطابع الإلهي. كانت ممكنة لأن دهن الملوك في تلك الأوقات، التي كان الإيمان فيها عاما وحقيقيا، لم يكن احتفالا باطلا؛ ولأن الزيت المقدس كان ينطوي على فضيلة سياسية، ولم يكن الختم الشرعي إلا ملك مسيح الإله وسلالته. وكانت ضرورية لأن أمان المملكة ووحدتها، لولا «التكريس» الديني لتلك العقيدة السياسية، لعرضا للخطر، لدى نهاية كل ملك، على يد مزاحمات التوابع العظام الذين قد يجد بعضهم في طلب التاج عن طريق السلاح، والبعض الآخر عن طريق القوة لينالوا استقلالهم ويحطموا نير كل سيادة. عندما انتهى ريشاليوه ولويس الرابع عشر من قمع الأريستوقراطية القديمة ورسما خطة الوحدة والانضمام التي حققتها الثورة الفرنسية فيما بعد، قدر للشدة والجور اللذين عالجاهما ضد الكبراء أن ينجحا لصالح السلطة الملكية بدل أن يكونا شؤما عليها؛ لأن السلطة الملكية كانت يوم ذاك تمثل الحق الإلهي المصان بإيمان الشعب. ما حل بالحق الإلهي صائن الوراثة في سنة 1804؟ لقد تاب عنه الحق الإلهي للأهلية والنبوغ!
أكان حول الكرسي القنصلي توابع مهيبون، أسياد على أجمل مقاطعات الملك، يترصدون الفرصة لشهر الحرب وإطلاق الفوضى في الدولة ليستولوا على السلطة السامية أو يستقلوا في زاوية من زوايا المملكة؟ لا، لم يكن يخشى من ذلك شيء؛ إذ إن الطغراء كانت ممزقة! وكانت فرنسا ترى بدل السلطات الإقطاعية سلطة جديدة تتدفق من جميع الجهات، من الزراعة والتجارة والفنون والعلوم، وترتفع فوق السلطات القديمة بكل ما في السيادة الحقة من الأهلية الشخصية التي هي فوق أعراض النسب، والتي لا تستطيع أن تبقى وتنشأ إلا بالسلام.
لقد أخطأ بونابرت بطلبه تحقيق الحكم الوراثي على يد قواعد وأعمال هي من شأن حالة اجتماعية مختلفة، والذي كان ممكنا وضروريا في وسط مجتمع عسكري مؤمن، لم يكن ممكنا ولا ضروريا في مجتمع صناعي مرتاب لا تحيط به عربدة إقطاعية يخشاها، ولا يطلب من حظوظ المواقع نفسها ثمنا للانتصارات الحربية اللامعة إلا الحق في الاستسلام بطمأنينة إلى أعماله الهادئة. كان القنصل الأول، في الأيام المجاورة للثامن عشر من برومير، قد أعطى بنفسه أسبابا عظيمة ضد الوراثة، وصرح أن هذا التنظيم، الذي كان صالحا لفرنسا في القرون الوسطى، أصبح مستحيلا على فرنسا في القرن التاسع عشر، قال: «إن الوراثة منافية للعقل ليس لأنها لا تضمن ثبات الدولة فحسب بل لأنها مستحيلة في فرنسا. لقد وطدت زمنا طويلا في فرنسا، ولكن بتنظيمات جعلتها ممكنة. تلك التنظيمات لم تبق، ويجب أن لا توطد بعد، إن الوراثة تشتق من الحق المدني؛ إنها وجدت لتثبيت تقلبات الملكية. كيف يوفق بين وراثة الحكم الأول ومبدأ سيادة الشعب؟ كيف يعتقد أن هذا الحكم ملك. عندما كان التاج وراثيا كان هناك عدد كبير من الولايات الوراثية أيضا، تلك الفرية كانت قاعدة كادت تكون عمومية ، ولكن لم يبق منها شيء اليوم.» (عن كتاب القنصلية والإمبراطورية للكاتب تيبودو).
إلا أن بونابرت ما لبث أن قلب مجرى أفكاره فلم تبق السلطة السامية الدائمة لتكفيه، ولقد وجدت الفكرة الطماعة بتأسيس دولة وراثية وإعطاء أسرته تاجا ملكيا رغبة شديدة في نفسه، ثم إن سياسته الوطنية الفلسفية الرحبة كذكائه أصبحت معرضة للطخات وانحطت على أقيسة الكبرياء والتدابير السلالية، قال شاتوبريان:
1 «إن هذا الجبار المفرط لم يكن يقرن مقدراته بمقدرات معاصريه، وكان نبوغه ينتسب إلى العصر الحالي، وطمعه إلى العصور القديمة، إنه لم يشعر بأن عجائب حياته إنما كانت تفوق التيجان بمراحل.»
إن من الحق أن نقول إن بونابرت، وهو يذعن لانتساب طمعه إلى العصور القديمة، قد احتفظ بميله إلى ضروريات «العصر الحالي» لكيلا يعزو إلى الوراثة التي يؤسسها الطابع المطلق ونتائج الحق الإلهي القديم. وكان يرغب في التوفيق بين الوراثة وسيادة الشعب بقدر ما يستطيع؛ فعندما توجه إليه مجلس الشيوخ في الثامن عشر من شهر أيار سنة 1804 ليرفع إليه المرسوم الذي به دعي القنصل الأول إلى العرش وبه أعلن المقام الإمبراطوري وراثيا في أسرته قال في جوابه متكلفا: «إنني أذعن إلى تثبيت الشعب شريعة الوراثة، وآمل أن فرنسا لن تندم على المراتب العليا التي ستشمل بها أسرتي.»
إلا أن المبدأ الوراثي لم ينسب إلى أعضاء الأسرة الإمبراطورية إلا نوعا من الطلب الشرعي من غير أن يحرم الشعب حق خلع الخلف الذي لا يستحق محبته وثقته أو يقف عن استحقاقها. هكذا اتفق على الوراثة في فرنسا منذ مطلع القرن التاسع عشر.
ما كان تأثير الحاكمية المطلقة والسلطة الوراثية في فرنسا على عقلية الشعوب الأوروبية؟ وهل نجحت الملكية والوراثة نجاحا حقيقيا، وأصبحت العروش أدعم مما كانت عليه؟
لا بل بالعكس، لقد فسد مبدأ الوراثة عندما نابت الأسر الشعبية عن أنبل السلالات في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، واستقرت بين أعقاب كارلوس الخامس وبطرس الكبير وفريدريك. في الثامن عشر من أيار سنة 1804، عندما عهد إلى القنصل كمباسيريس بوضع المرسوم العلني على أقدام زميله، الذي أصبح سيده، تلفظ بهذه الكلمات التالية: «لقد تذوق الشعب الفرنسي مدة عصور عديدة الفوائد المنتمية إلى وراثة السلطة، لقد اختبر الطريقة المعاكسة اختبارا قصيرا ولكن متعبا. وإنه ليدخل في سبيل موافق لروحه، ويتصرف بحقوقه تصرفا حرا ليفوض إلى جلالتك الإمبراطورية سلطة لا يسمح له صالحه أن يعالجها بنفسه، ثم إنه يفوض سعادة ذريته - بمعاهدة علنية - إلى أعقاب هم من نسلك. وهؤلاء الأعقاب سينهجون نهجك في الفضيلة، ويرثون حبنا ووفاءنا.»
فأجاب نابوليون: «إن كل ما يئول إلى خير الوطن إنما هو متعلق بسعادتنا جميعا.
وإنني لأرضى بالمقام الذي تعتقدون أنه عائد بالخير إلى مجد الأمة.»
وفي ذلك الوقت تلفظ بونابرت بتلك العبارة المشهورة التي سبق لنا أن ذكرناها وهي: «إنني أذعن إلى تثبيت الشعب شريعة الوراثة، وآمل أن فرنسا لن تندم على المراتب العليا التي ستشمل بها أسرتي.»
عندما خرج مجلس الشيوخ من مقابلة الإمبراطور اتجه إلى جوزيفين ليحييها بلقب إمبراطورة، قال لها كمباسيريس: «مولاتي، إن الشهرة تذيع عمل الخير الذي لم تقفي فترة عن القيام به، ولقد قالت: إنك لم تتصرفي بنفوذك بالقرب من رئيس الدولة إلا لتخففي من مصائب المساكين. هذا الاستعداد يا مولاتي، يشير إلى أن اسم الإمبراطورة جوزيفين سيكون علامة التعزية والأمل ... إذن فمجلس الشيوخ يفتخر بأن يكون في مقدمة من يحيي جلالتك الإمبراطورية.»
فجوزي كمباسيريس على غيرته هذه بأن منح مقام مهردار كبير، ومنح لويرون مقام كبير وكلاء الخزينة.
لم يجتهد نابوليون بمراعاة النزاقة الجمهورية في جوابه إلى مجلس الشيوخ فحسب، بل إنه راعى ذلك في القسم الذي أعطاه ساعة ملك زمام العرش. لقد أراد أن تدرك فرنسا كل الإدراك أن الإمبراطور كالقنصل ليس إلا ممثل الثورة الأول، والعضد الأقوى للمسألة الشعبية، والمحامي السامي عن الجمهورية نفسها، وهذا هو القسم: «إنني أقسم أن أؤيد حقوق أرض الجمهورية؛ أن أحترم وأدعو إلى احترام شرائع الاتفاقية المقدسة وحرية العبادات، أن أحترم وأدعو إلى احترام مساواة الحقوق، والحرية السياسية والمدنية، ورواج المصالح الوطنية، أن لا أفرض ضريبة قط، أن لا أقرر تسعيرا إلا بموجب القانون، أن أؤيد نظام جوقة الشرف، وأن أسلك في الحكم بمقتضى صالح الشعب الفرنسي وسعادته ومجده.»
بالرغم من الجهود التي عملت لتعتقد الأمة أن تأسيس الإمبراطورية لا يحول دون بقاء الجمهورية فإن تأسيس النسب الجديد أيقظ مخاوف الجمهوريين الثابتين وخلق بعض اعتراضات جديدة. وكان كارنو العضو الأشد بين هؤلاء المعترضين؛ فإنه قاوم فكرة تأسيس السلطة الوراثية لصالح نابوليون وأسرته منذ ظهرت تلك الفكرة في التريبونه. قال: «منذ الثامن عشر من برومير، كان عهد فريد في تاريخ سني العالم لتأسيس الحرية على أسس مكينة اعترف بها الاختبار والعقل. وبعد معاهدة إميان أتيح لبونابرت أن يختار بين القاعدة الجمهورية وقاعدة الحكم المطلق؛ لقد عمل كل ما أراد من غير أن يعترض عليه. عهد إليه بأمانة الحرية، فأقسم على المدافعة عنها، ولقد ملأ - ببره بالقسم - رجاء الأمة التي لم تجد سواه أهلا لحل مشكل الحرية الكبير في ولاياته الرحبة؛ إنه لقد غمر بمجد لا مثيل له ...»
ذهب صوت كارنو أدراج الرياح، واندفعت مجالس الدولة الكبرى نحو الحكم المطلق،
2
حتى إن قدماء مجلس الشعب استحالوا جميعهم إلى متملقين، وقد ضربوا بمبادئهم عرض الحائط، وتناسوا اللهجة التي اتخذوها قبلا. أما القواد الجمهوريون فقد أذعنوا إلى سلطان الظروف كما أذعن ممثلو الشعب القدماء ... وظلوا أوفياء للثورة، وقد آلوا على نفوسهم أن يخدموها بشكلها الجديد؛ لأنهم رأوا فيه ضمانا ثابتا يؤكد لهم ثبات رقيهم. وثاني يوم صعود بونابرت إلى عرش الإمبراطورية دعا إليه رفاق الحرب الممتازين وأسبغ على كل منهم لقب مرشال وهم: برتيه، مورا، مونسي، جوردانس، ماسينا، أوجرو، برنادوت، سول، برون، لان، مورتيه، ناي، دافو، بيسيير، كلليرمان، لوفيبفر، بارينيون وسيروريه. أما الشعب فلم يعز الجحود إلى هؤلاء الجنود الجمهوريين عندما رآهم يقبلون لقبا يذكر بالحكم الإقطاعي، بل إن، بالعكس، اعتبر ذلك إكراما جديدا لمبادئ المساواة التي كانت عزيزة عليه. وأما نابوليون فلم يلبث أن كلل فاتحة أعماله بالصفح عن السيد ده ريفيير والسيد ده برلينياك اللذين اتهما بالخيانة وحكم عليهما حكما صارما. وبدل بحكم النفي المؤبد، الذي صدر بحق الجنرال مورو، سنتي حبس لا غير لاشتراكه في مؤامرة جورج كادودال، الذي نفذ فيه وفي أتباعه حكم الموت الصادر في العاشر من حزيران سنة 1804. ولم يقف كرم نابوليون عند هذا الحد بل شمل لاجوله، وبوفه ده لوزيير، وروشيل، وغايار، وروسيون، وشارل دوزيير وهم من أتباع جورج كادودال. أما بيشاغري فقد توقع الحكم بالإعدام وهو في سجنه فخنق نفسه بربطة قميصه. ولقد ظن البعض أن الإمبراطور هو الذي أصدر أمره بتعجيل موت بيشاغري. قال نابوليون: «إن رجلا مثلي لا ينهج منهجا كهذا بلا سبب هام. أرآني أحد أهرق الدم عن رغبة في النفس؟ لا، إنما بيشاغري وجد نفسه بلا نصير، ولم تقو روحه القوية على تحمل فضيحة العذاب، وكأنه يئس من صفحي أو عف عنه فمنح نفسه الموت.» (عن المذكرات).
ولكن بينما كان الأمراء الذين سلحوا ذراع جورج كادوداك وجروا بيشاغري إلى خيانة جديدة يكظمون، في الأرض البريطانية الخجل لإعطاء الصولجان للرجل الذي حاولوا اغتياله بالخناجر، كان الوهم يصور لزعيم أسرة البوربون، المعتزل في فارسوفيا، أن الواجب يقضي عليه بإذاعة نشرة يحمل بها على فتوى مجلس الشيوخ التي أسست سلالة رابعة. كان فوشه
3
أول من اطلع على هذه النشرة فخف بحملها إلى الإمبراطور معتقدا أن نابوليون يكافئه على غيرته وعنايته ويفوض إليه الأمر الصارم بمنع انتشارها في فرنسا. كان الأمر على غير ما ظن فوشه؛ إذ إن نابوليون أخذ النشرة فقرأها وأرجعها إلى الوزير قائلا ببرودة: «إن حقي إنما هو في إرادة الشعب، وما زال السيف في يدي لا أعدم سبيلا إلى تأييده. يجب على البوربونيين أن يتأكدوا أني لا أخشاهم؛ إذن فليدعوني هادئا. تقول إن بلهاء ضاحية سن جرمان يريدون أن يدوروا بنسخ احتجاج الكونت ده ليل؟ وأي بأس في ذلك؟ فليقرءوها كما يشاءون. فوشه، أرسل هذه إلى الجريدة الرسمية، أريد أن تصدر غدا.» ولما كان غد، أول تموز، نشر المونيتور احتجاج لويس الثامن عشر.
بعد بضعة أيام جاء عيد الاستيلاء على الباستيل، فعرف نابوليون أن يستولي على ذكريات 14 تموز ليربطها بالتنظيمات التي أسسها، واختار هذا اليوم نفسه لتوزيع أوسمة جوقة الشرف وسماع قسم أصحاب الأوسمة. جرى الاحتفال في الأنفليد.
4
اتجه الكردينال ده بللوي أسقف باريس، على رأس إكليروسه؛ ليستقبل الإمبراطور على باب الكنيسة. وكان نابوليون مصحوبا بكبراء الأمة وموظفيها العظام. وبعد الاحتفال الإلهي قام لاسيبيد، كبير مهردارية جوقة الشرف، ولفظ خطبة نجتزئ منها هذا المقطع: «لقد نال الشعب اليوم بإرادته كل ما تمناه في الرابع عشر من تموز عام 1786، إنه فتح حريته، وهي مؤسسة على قوانين ثابتة، إنه رغب في المساواة، وهي مصانة بحكومة هي أساس لها ... رددوا هذه الكلمات التي سبق لها أن قيلت في هذه الحظيرة وستدوي حتى أطراف الإمبراطورية! كل ما وطد في 14 تموز هو راسخ لا يتزعزع، وكل ما هدمته الإمبراطورية لا يعود.»
وعندما انتهى لاسيبيد من خطبته دعا ضباط الجوقة العظام كلا باسمه وكان بينهم الكردينال كابرارا. أما الإمبراطور فقد تزيا بزي ملوك فرنسا، وفي وسط السكون العميق، وتأمل الجمع الديني، رفع صوته وقال: «أيها القواد، والضباط، وأعضاء جوقة الشرف، أيها المواطنون والجنود، إنكم تقسمون على شرفكم أن تتفانوا في خدمة الإمبراطورية والمحافظة على أرضها، إنكم تقسمون أن تدافعوا عن الإمبراطور، وشرائع الجمهورية والمزايا التي أثبتتها، إنكم تقسمون أن تحاربوا كل مشروع يحاول إعادة السياسة الإقطاعية بجميع الوسائل التي يسوغها الحق والعقل والشرائع، وأخيرا تقسمون أن تبادروا بكل قواكم إلى صيانة الحرية والمساواة اللتين هما الأساس لتنظيماتنا، إنكم تقسمون.»
فهتف أعضاء الجوقة جميعهم قائلين: «أقسم!» ودوى الهتاف «ليحي الإمبراطور!» تحت شرفات الهيكل. وفي اليوم التالي استلمت المدرسة الحربية نظاما جديدا. وبعد يومين ذهب نابوليون من باريس ليزور شواطئ المانش ويستكشف المعسكرات التي أنشأها هناك. وكان قد أذاع أن الغاية من هذا السفر إنما هي توزيع أوسمة الشرف على البسلاء الذين لم يحضروا حفلة الأنفليد، إلا أن الحقيقة هي أن هذا التوزيع لم يكن سوى حجة، وأن نابوليون إنما كان يرمي إلى تحقيق خطته المنشودة وهي الزحف إلى إنكلترا.
كانت الكتائب في الشواطئ تمتد من الأيتابل حتى أوستاند، وكان دافو يقود فرقة في دونكرك، وناي في كاله، وأودينو في سنت أومار، ومارمون على حدود هولاندا، وسول في معسكر بولونيا العام.
عندما وصل الإمبراطور إلى هذه المدينة الأخيرة وجد الجيش طافحا نشاطا وغيرة؛ إذ إن الجنود والقواد كانوا يخالون نفوسهم على وشك أن يجتازوا المضيق. وكان هناك خمسمائة مركب يقودها الأميرال فرهويل تتراءى أنها لا تنتظر إلا إشارة لتتجه إلى مرافئ بريطانيا العظمى. كان نابوليون وحده يعرف سر تعيين هذه المعسكرت الهائلة. وكان يرى صواعق جديدة تتأهب على البر، وفي حين كان يظهر مستغرقا في تجهيزات حملة بحرية هائلة كان يعد العدة لحرب برية لم يكن بد من انطلاقها.
تجمع ثمانون ألف رجل من معسكري بولونيا ومونترويل تحت أوامر المرشال سول، في سهل واسع، على مقربة من برج القيصر. وظهر الإمبراطور بينهم محاطا بفرقة من الضباط تضم خيرة قواد هذا العصر الكبير، ثم استقر على مرتفع كأن الطبيعة جعلته له عرشا، وكرر بصوت قوي الخطبة التي وجهها إلى أعضاء جوقة الشرف في حفلة الأنفليد، لم يكن كلامه في باريس أقل منه عظمة في بولونيا؛ فإنه هيج هيجانا عموميا أدب الغبطة في قلب بونابرت حتى إن القائد راب صرح بعد ذلك أنه لم ير نابوليون في تلك الحالة من الفرح.
هذا النهار المشهود عكرت صفوه في المساء عاصفة هائلة خشي منها خطر على قسم من المراكب، فأسرع الإمبراطور في الحال إلى المرفأ ليعطي أوامره باتخاذ الاحتياطات والوقوف على تنفيذها، ولكن عندما وصل هدأت العاصفة كأن العناصر أذعنت أيضا إلى نفوذ الرجل العظيم وسحر نظراته القاهرة. دخلت المراكب سالمة إلى المرفأ، وعاد نابوليون إلى المعسكر حيث استسلمت الكتائب للغبطة والطرب، وختم المهرجان بنيران اصطناعية أرسلت على الشاطئ وشوهدت أشعتها من شواطئ إنكلترا نفسها. بينما كان نابوليون مقيما بمعسكر بولونيا هرب بحريان إنكليزيان، كانا أسيرين في مستودع فردون، وبلغا إلى بولونيا حيث بنيا مركبا صغيرا ببعض أخشاب سمراها بعضها على بعض سولت لهما نفسهما ركوبه إلى إنكلترا. عندما أنجز عملهما ركب النوتيان البحر وحاولا اللحاق ببارجة إنكليزية كانت تجول بمرأى من الشواطئ، إلا أنهما ما كادا يسيران قليلا حتى ألقي القبض عليهما وسيقا إلى المرفأ، ثم مثلا أمام الإمبراطور الذي طلب أن يراهما مع المركب لما أحدثاه من الضجة بجرأتهما النادرة على اقتحام الخطر.
تأملهما الإمبراطور هنيهة وسألهما قائلا: أحقيقة أنكما تحاولان عبور البحر بهذا المركب؟ فأجاباه: إن كنت تشك في ذلك يا صاحب الجلالة، فإيذن لنا ترنا نذهب. - بطيبة خاطر، إنكما لجسوران، وإني لأعجب بالشجاعة حيثما كانت، ولكني لا أريد أن تخاطرا بروحيكما؛ أنتما حران، إلا أني أود أن أقودكما إلى مركب إنكليزي. ستقولان في لوندن أي احترام أحفظه للبسلاء حتى ولو كانوا أعدائي.
هذان الرجلان اللذان كانا أعدما كجاسوسيين لو لم يحضرهما الإمبراطور إليه لم ينالا حريتهما فحسب، بل إن نابوليون أعطاهما فوق ذلك كثيرا من القطع الذهبية، ولقد شعر بلذة فيما بعد أن يطلع رفاقه المنفيين في سنت هيلين على هذا الصنيع.
قلنا إن الإمبراطور كان يتوقع حربا برية قريبة؛ لأنه أدرك أن مداولة أوروبا الملوكية، وإن غيرت لهجتها وأطماعها تحت ضغط القوى الفرنسية المنتصرة، إلا أنها لم تغير ميولها ومبادئها، وإن دسائس الديوان الإنكليزي سيقدر لها من يوم إلى يوم أن تجر بلاط فيينا وبطرسبرج وبرلين إلى مؤامرة جديدة ضد فرنسا. ولقد شعر بهذه الاستعدادت العدوة كل من أدرك تنافر دولة فرنسا الثورية مع باقي الدول أصحاب الملكية القديمة. إلا أن نابوليون كان يدرك أيضا، وبنوع أكيد، ميل الدواوين النمسوية والروسية والبروسية للحرب، والثمانون ألف الرجل الذين كانوا أمامه في معسكر بولونيا إنما وجدوا هناك ليساعدوه على ملافاة ما قد يحدثه ذلك الميل الحزبي، ثم إنه أخذ ينشئ ببقايا جنود الجمهورية نواة الجحافل الإمبراطورية الذين قدرت لهم الحكمة أن يمروا بجميع عواصم أوروبا. كان هؤلاء دائما جنود الماضي وقواده نفوسهم، كانوا رجال القرن الثامن وصفوة روحه، كانوا أبناء الثورة البررة! كان معسكر بولونيا مهد ذلك الجيش الكبير الفاتح المجدد الذي، بعد أن مر عليه عشر سنوات من الانتصارات المدهشة الغريبة، وجد في ساحة واترلو قبرا حفرته الخيانة والقدر عززه بشجاعته مؤثرا الموت على الاستسلام.
إن الاستعدادات العسكرية التي كانت تشغل الإمبراطور لم تمنعه عند ذلك من الاهتمام بالتنظيمات المدنية. فلقد وضع في وسط استعراضات معسكر بولونيا جوائز مهمة كما يلي:
نابوليون، إمبراطور الفرنسيين
سلام على كل من يقرأ هذه الأسطر.
بما أننا عزمنا على تشجيع العلوم والآداب والفنون التي تساعد مساعدة عظمى على شرف الأمم ومجدها.
وبما أننا نرغب ليس في أن تحافظ فرنسا على السيادة التي اكتسبتها في العلوم والفنون فحسب، بل في أن يفوق القرن الناشئ القرون التي تقدمته.
وبما أننا نريد أيضا أن نعرف الرجال الذين يمتازون بالاشتراك في ازدهار العلوم والآداب والفنون.
أصدرنا أمرنا بما يلي:
البند الأول:
سيجري كل عشرة أعوام في مهرجان 18 برومير توزيع جوائز كبرى تعطى بيدنا في المكان والاحتفال اللذين سيعينان لها.
البند الثاني:
ستتبارى للجائزة الكبرى جميع المؤلفات العلمية، والأدبية، والفنية؛ جميع المخترعات القيمة، والإنشاءات المخصصة لترقية الزراعة أو الصناعة الوطنية التي تنشر أو تؤلف في خلال عشر سنوات، وتقدم سنة قبل أوان التوزيع.
البند الثالث:
سيكون التوزيع الأول للجوائز الكبرى في الثامن عشر من برومير سنة 18، وبموجب البند السابق ستشمل المباراة جميع المؤلفات والاختراعات والإنشاءات المنشورة أو المعروفة من 18 برومير عام 7 إلى 18 برومير عام 17.
البند الرابع:
ستمنح تسع جوائز قيمة الواحدة عشرة آلاف فرنك.
أولا:
لمصنفي أفضل تأليفين في العلوم: الأول في العلوم الطبيعية، والثاني في العلوم الرياضية.
ثانيا:
لمصنف أفضل تأليف في التاريخ، قديما كان أو حديثا.
ثالثا:
لمخترع الآلة الأكثر فائدة للفنون والصناعة.
رابعا:
لمؤسس أفضل نظام للزراعة والصناعة الوطنية.
خامسا:
لمصنف أفضل تأليف «دراماتيكي»، مضحكا كان أو محزنا، مثل على المسارح الفرنسية.
سادسا:
لصانعي أفضل مثالين في الرسم والحفر، يمثلان حوادث مهمة مستقاة من تاريخنا.
سابعا:
لمؤلف أفضل «أوبرا» مثلت على مسرح أكاديمية الموسيقى الإمبراطورية.
البند الخامس:
ستمنح ثلاث عشرة جائزة قيمة الواحدة خمسة آلاف فرنك.
أولا:
لمترجمي عشرة كتب خطية من المكتبة الإمبراطورية أو غيرها من مكاتب باريس، كتبت بلغات قديمة أو لغات شرقية قيمة إن في العلوم وإن في التاريخ أو في الآداب والفنون.
ثانيا:
لناظمي ثلاث قطع شعرية صغيرة موضوعها حوادث مهمة مستقاة من تاريخنا، أو أعمال من شأنها أن تشرف الخلق الفرنسي.
البند السادس:
تمنح هذه الجوائز بشهادة لجنة محكمة مؤلفة من أربعة كتبة من المجمع العلمي، وأربعة رؤساء.
بينما كانت أوروبا تعتقد أن نابوليون سينقض على إنكلترا إذا ببروكسيل تراه بين جدرانها. كان نابوليون قد أعطى موعدا لجوزيفين في بروكسيل، واجتمعا في قصر لاكن الذي تأهب لاستقبالهما. هناك، في ذلك القصر، لفظ بونابرت، بعد قراءة رواية لمدام ده ستال، كلمات مشهورة عن تلك المرأة الشهيرة التي ستحمل على الإمبراطور فيما بعد حملات قوية. قال الإمبراطور عن مؤلفة كورين:
5 «إني أكره النساء المترجلات بقدر ما أكره الرجال المخنثين، لكل من هذين دوره في الحياة، ما معنى هذا التيهان الروحي؟ إن هو إلا اضطراب في الأفكار، لا أستطيع أن أتحمل هذه المرأة؛ أولا لأني لا أحب النساء اللواتي ينطرحن على رأسي، والله يعلم كم تملقت لي هذه المرأة!»
لم يلبث تباعد بونابرت عن مدام ده ستال أن أصبح خصما شديدا له، جاء في الميموريال
6 «مذكرات سنت هيلين» أن نابوليون إنما كان يكره النساء جميعا؛ لأنه تشكى شخصيا من واحدة منهن. كان الإمبراطور يقول: «إن المرأة لا تصلح إلا لعمل الأولاد.» ولقد قال للسيدتين برتران ومنتولون: «إنكن تطلبن المساواة بالرجل، ولكن هذا جنون! لأن المرأة ملكنا ولسنا ملكها.»
لم تطل إقامة الإمبراطور في لاكن، فإنه غادر هذا القصر الجميل ليتجه إلى إكس لاشابيل، حيث بقي بضعة أيام. وقد أمسكته رغبة سرية في البقاء في عاصمة الفاتح الشارع والوقوف أمام قبره، ذلك الفاتح الذي شيد الإمبراطورية قبل ألف سنة، والذي فوضت إليه السماء - كما فوضت إليه هو - ترقية أوروبا بعظمة نبوغه وجنوده.
7
ترك نابوليون مدينة شرلمان ومشى إلى مايانس مجتازا كولونيه وكوبلن، فخف إليه أمراء الإمبراطورية، فاغتنم ساعة تهافتهم ليؤسس معاهدة الرين التي فكر في جعلها حائلا لفرنسا دون سلطات الشمال الكبرى.
إلا أن الإكرام الأكيد والمتصنع الذي أبداه الأمراء ورضا الشعب لم يكف مجدد إمبراطورية شرلمان العظيم. كان بطل القرون الوسطى قد وقف سلطته للدين، وشاء نابوليون أن يحيط عرشه بجميع المساعدات التي أحيط بها عرش شرلمان. ولكي تكون المشابهة قريبة، بقدر ما يستطاع، رغب في المسحة الحبرية وأرسل لهذه الغاية من مايانس إلى روما وسيطا يدعى كافاريللي ليقنع بيوس السابع بالمجيء إلى باريس ليمسح إمبراطور الفرنسيين. وفي حين كان هذا التوسط جاريا في روما، كان نابوليون مهتما في شواطئ الرين بتسفير الأسطولين أحدهما من روشفور والآخر من طولون، تحت قيادة الأميرالين ميسبيسي وفيللنوف.
وبعد غياب طال ثلاثة أشهر أخذ بونابرت طريق عاصمته، ووصل إلى سن كلود في أواخر تشرين الأول.
كان التتويج من عهده على أيام. أرسل كافاريللي من روما يقول إن بعثته قد نجحت، إذن فسيتم لنابوليون أن يجلس على عرش أبناء الكنيسة الأبكار برضا الشعب العلني وتحت عناية رأس الكنيسة المعصوم، ولكن كان من الواجب أن تشترك فخفخة التمثيل السياسي بأبهة الدين، وكان مجلس الشيوخ، والتريبونه، ومجلس شورى الدولة معتبرين في حالة استمرار؛ أما الفرقة التشريعية فقد كانت وحدها بحاجة إلى استدعائها قبل زمن طويل، ولقد جرى ذلك بأمر صدر في 17 تشرين الأول.
كان أعضاء مجلس الشيوخ قد أقسموا قسما شخصيا للإمبراطور، حتى إن رئيس تلك الفرقة، فرنسوا ده نوشاتو، لفظ خطبة ننقل منها الجملة التالية: «مولاي، في المستقبل البعيد، عندما يجيء أبناء أبنائنا، بمثل هذا الموكب، ليعترفوا بأحد أحفادك إمبراطوارا عليهم، بأحد أحفادك الذي من حقه أن يسمع قسم وفائهم، عندما يجيئون ليظهروا له دعاء الشعب وحاجاته، ويرسموا له واجباته، لا يجدون غير كلمة يقولونها له وهي: إنك تدعى بونابرت، أنت رجل فرنسا، أيها الأمير، تذكر نابوليون الكبير.»
عندما جمعت أصوات الشعب لمرسوم الشيوخ الصادر في 28 فلوريال عام 12، وأكد رودورير ، عضو لجنة الإحصاء، أن ثلاثة ملايين وخمسمائة واثنين وسبعين ألفا وثلاث مائة وتسعة وعشرين مواطنا قد صرحوا بأنهم يريدون وراثة الحق الإمبراطوري لسلالة نابوليون بونابرت الطبيعية، والشرعية، والمتبناة، ولسلالة جوزيف بونابرت ولويس بونابرت الطبيعية والشرعية، عهد أيضا إلى فرانسوا ده نوشاتو بأن يهنئ نابوليون على شهادة الثقة وعرفان الجميل الجديدة التي منحه إياها الشعب الفرنسي، فأجاب نابوليون: «إنني أصعد إلى العرش الذي دعتني إليه أماني مجلس الشيوخ والشعب والجيش، وملء قلبي عاطفة هذا الشعب الذي كنت أول من حياه باسم كبير في وسط الحروب.
لقد حقت له جميع أفكاري منذ نعومة أظفاري، وأراني مضطرا إلى القول إن أفراحي وأحزاني لم تعد تتألف اليوم إلا من سعادة شعبي وشقائه.
سيحافظ أعقابي طويلا على هذا العرش، الأول في العالم.
وسيكونون في الحروب الجنود الأولين في الجيش فيضحون بحياتهم لأجل بلادهم.
وأنتم أيها الشيوخ الذين لم يفتني عضدهم ومشورتهم في أشد المواقف صعوبة، كونوا دائما سند هذا العرش الضروري لخير هذه الإمبراطورية الرحبة.»
في أوائل تشرين الثاني سافر بيوس السابع من روما فوصل إلى فونتينبلو في الخامس والعشرين منه، فاتجه نابوليون إلى ملاقاته على طريق نمور، وكان قد دبر نزهة صيد ليصادف وجوده على طريق البابا. عندما وقع نظر بونابرت على البابا ترجل، وعمل الخليفة مثله، وبعد أن تعاقنا صعدا إلى المركبة معا واتجها إلى قصر فونتينبلو الإمبراطوري حيث جرت بينهما محادثات عديدة، وفي الثامن والعشرين دخلا منه إلى باريس.
كان المسح قد عين في اليوم الثاني من كانون الأول. إلا أنهم ترددوا أولا في اختيار المكان. قال بعضهم في شان ده مرس، وقال البعض الآخر في كنيسة الأنفليد، سوى أن نابوليون فضل نوتردام. كان شان ده مرس طافحا بالذكريات الثورية فلم يصلح لاحتفال أرادت الثورة أن تظهر فيه أوروبا أنها تستطيع أن توفق بين وحدة السلطة والدين، وقد عملت على أن تنسي ابتداءاتها الهائجة وأحقادها الأولى على الملوك والكهنة.
في اليوم المعين اتجه بيوس السابع إلى نوتردام يتبعه عدد غفير من الإكليروس ، وتتقدمه، حسب العادة الرومانية، بغلة أضحكت الباريسين كثيرا ، مما أفسد مدة قصيرة جلال الموكب الحبري. أما الإمبراطور فقد جاء بعد البابا، لم يحط أمير من أمراء العالم بموكب أعظم وأفخم من الموكب الذي أحاط بنابوليون. كان هناك جميع العظماء العسكريين والملكيين؛ وكانت عظمة المجد الشخصي تمتزج بعظمة المقامات والجدارة. أما فخفخة الأشعرة والأزياء، وزين المركبات والجياد، وازدحام المتفرجين الذين أقبلوا من جميع أطراف الإمبراطورية فقد اشتركوا كلهم في إعارة ذلك المهرجان مشهدا من العظمة لم تر العصور مثله قط. وأما الأمة فقد مثلها في نوترادم رؤساء الأقاليم، والمدارس المنتخبة، ونواب وكالات الجيش، والفرقة التشريعية وباقي الفرق الكبرى في الدولة.
عندما انتهى البابا من الذبيحة تقدم الإمبراطور من الهيكل، ولكنه لم ينتظر حتى يتوجه البابا، بل أخذ التاج من يدي الحبر ووضعه على رأسه، ثم توج الإمبراطورة. وفي اليوم التالي جرى استعراض في شان ده مرس تبعه توزيع النسور الإمبراطورية على فرق الجيش. ولقد وزع الإمبراطور بنفسه هذه الأعلام على كل فرقة بمفردها، ثم أشار إلى الكتائب فاقتربت منه، فقال لها: «أيها الجنود، هذه هي أعلامكم، إن هذه النسور إنما هي عنوان التئامكم؛ ستكون دائما حيث يرى إمبراطوركم أنها ضرورية للدفاع عن عرشه وشعبه.
إنكم لتقسمون أن تضحوا بحياتكم في سبيل الدفاع عنهما، وأن تؤيدوهما بشجاعتكم في طريق الشرف والنصر؟»
فأجاب الجنود بهتاف واحد: «نقسم!»
أراد مجلس الشيوخ ومدينة باريس، عقيب ذلك، أن يثبتا عهد التتويج بمهرجانات أقامها للإمبراطور والإمبراطورة، ولقد رفع مجلس العاصمة البلدي، بهذه المناسبة، كتاب تهنئة إلى الإمبراطور، الذي أجابه بما يلي: «حضرات أعضاء المجلس البلدي، لقد مثلت بينكم لأعطي مدينتي الطيبة باريس ضمان حمايتي الخاصة، وإني لأجد لذة وواجبا في كل سانحة أن أبرهن لها عن حسن التفاني؛ إذ إني أريد أن تعرفوا أنني، في المواقع، في أصعب المواقف الخطرة، في البحار، في وسط الصحاري نفسها، لم أحول نظري فترة عن مذهب عاصمة أوروبا هذه.»
كان بيوس السابع قد بقي في باريس مدة تلك المهرجانات كلها؛ فإنه لم يحضر إلى فرنسا إلا على أمل أن يستفيد من تنازله ليس لصالح الدين فسحب، بل لسلطته الزمنية أيضا. إذن كان من الطبيعي أن يمدد إقامته بالقرب من نابوليون بقدر ما أوجبته الضرورة لتحقيق آماله. وسنرى فيما بعد هل تحققت هذه الآمال، وهل خطر يوما للإمبراطور، الذي بذل للحبر الروماني تلك الإكرامات وذلك الاحترام لقاء المسحة المقدسة التي أخذها منه، أن يضحي له بمبادئ السياسة الفرنسية في إيطاليا وفوائدها؟
الفصل العاشر
بعد مرور خمسة وعشرين يوما من التتويج افتتح الإمبراطور جلسة الفرقة التشريعية، قال: «أيها الأمراء، والحكام، والجنود والمواطنون، ليس لنا جميعا في حياتنا إلا غاية واحدة، هي صالح الوطن، وإن كان هذا العرش الذي أصعدتني إليه الحكمة العلياء وإرادة الأمة عزيزا في نظري؛ فذلك لأنه يستطيع وحده أن يدافع عن مصالح الشعب الفرنسي المقدسة.
إن ضعف السلطة السامية إنما هو بلية الشعوب. لم يكن لي وأنا جندي أو قنصل أول إلا فكرة واحدة، أما وأنا إمبراطور فلم يبق لي غيرها وهي سعادة فرنسا. لقد أتيح لي حظ كبير بتمجيدها بالانتصارات وتثبيتها بالمعاهدات، وإنقاذها من الفتن الأهلية، وتنشيط العادات والمجتمع والدين فيها. وإني لعلى يقين، إذا لم يدهمني الموت في وسط أعمالي، أن أترك للأجيال ذكرا يكون مثلا أو تأنيبا لخلفائي.
سيفصح لكم وزير داخليتي عن بيان موقف الإمبراطور.»
عند هذا أخذ السيد ده شانيانيي الكلام فتكلم عن الأمن في فرنسا، وعن عظمتها وفلاحها بعد تلك الاضطرابات العديدة التي مرت عليها، وتكلم أيضا عن الكهنة والرعاة الصالحين من مختلف المذاهب الذين اتحدوا جميعا في محبة الوطن والإعجاب بنابوليون، وعن وضع الشرائع الجديدة التي اشتهرت كعمل جميل في كل مكان، وعن مدارس الحقوق التي قرب عهد افتتاحها، والمدرسة الحربية، ومدرسة الفنون والصنائع في كومبياني التي تترقى من يوم إلى يوم، وعن النبوغ الفرنسي المستعد لتوليد الروائع في جميع فروع العلوم والآداب والفنون وقد وضعت له جوائز لدفعه إلى الأمام وتنشطيه، وعن إنشاء الجسور والطرق، وتكلم أيضا عن مدينة جديدة شيدت في الفانده (نابوليون فانده) لتكون مهد الأنوار، ومركزا لحراسة نشيطة أكيدة، وعن التجارة التي أعيدت إلى شاطئ الرين الأيسر فأعطت مايانس وكولونيه جميع عائدات المخازن، وعن الصناعة الفرنسية التي تمد أصولها من يوم إلى يوم وتدفع الصناعة الإنكليزية بعيدا عن الحدود الفرنسية بعد أن قدر لها أن تضارعها في كل ما يئول إلى مجدها ونشاطها، وعن الزراعة الناشئة من يوم إلى يوم، وتكلم أخيرا عن الثروة الحقيقية النامية في جهات الإمبراطورية جميعها، ثم بعد ذلك حقق الوزير أن عدد المحتاجين في العاصمة إنما هو أقل باثنين وثلاثين ألفا مما كان عليه عام 1791.
أما حالة مستعمرات فرنسا فقد كانت أقل فلاحا بسبب الحرب البحرية، وأما علاقاتها الدولية مع سلطات البر فقد كانت ودية في الظاهر فقط؛ لأن ذلك الصلح إنما كان يحضن الحرب دائما.
في اليوم الثاني من شهر كانون الثاني عام 1805 اتجهت الفرقة التشريعية بلباسها الرسمي إلى مقابلة الإمبراطور لترفع إليه عرض حال دس فيه الرئيس السيد ده فولتان، بالرغم من تذمر أكثرية رفاقه، هذا الاصطلاح القديم: «الأشخاص المطيعون»، وبعد أيام قلائل جرى تدشين تمثال نابوليون الذي صنعه الحفار شوده، في مكان جلسات النواب، وفي تلك الحفلة ألقى السيد ده فوبلان، أمين صندوق هذه الفرقة، أمام الإمبراطور والإمبراطورة وكبراء الإمبراطورية، خطبة ابتدأها هكذا: «أيها الأسياد، لقد كللتم إنجاز مجموعة القوانين الملكية بعمل يدل على الإعجاب ومعرفة الجميل؛ إذ إنكم رفعتم تمثالا للأمير العظيم الذي أنجزت إرادته الصلبة هذا العمل الكبير، في الوقت نفسه الذي نشر فيه ذكاؤه الواسع أسمى شعاع من النور على هذا الجزء من التنظيمات البشرية النبيلة. إنه ليبرز في هياكل الشرائع مزين الرأس بهذا الإكليل الظفري الذي منطقه به النصر متفائلا له بعصابة الملوك ...
إن كان الثناء يفسد ضعفاء النفوس فإنه غذاء النفوس الكبيرة ...
من يستحق أكثر من نابوليون الشرف السامي الذي تخصصونه له اليوم وستخصصه له الأجيال فيما بعد؟»
ثم جاء دور السيد ده فونتان فلم يكن ثناؤه أقل جمالا؛ إذ قال: «إن المجد لينال دائما أحق جزاء، وتنال السلطة في الوقت نفسه أنبل تثقيف . إن هذا التمثال لم يشيد للقائد الكبير، ولا لقاهر الشعوب العديدة؛ فإن الفرقة التشريعية قد وقفته لمصلح الشرائع، وإن العبيد المضطربين، والأمم المقيدة لا يخشعون على أقدام هذا التمثال، ولكن الأمة الكريمة ترى فيه بغبطة ملامح منقذها. ألا فلتبل التماثيل المشيدة بالكبرياء والتملق! ولتكرم معرفة الجميل تلك التي تكون جزاء البطولة والحسنات.» وبعد وقت قصير ختمت الفرقة التشريعية جلستها. أما الاختتام فقد لفظه السيد ده سيغور، مستشار الدولة، الذي بعد أن ذكر في خطبته، ولكن بشكل مختلف، تلك العجائب التي تكلم عنها لاسيبيد، وفرنسوا ده نوشاتو، وفوبلان، وفونتان وغيرهم، ردد على مسمع النواب الكلمات التي فاه بها الإمبراطور عند افتتاح هذه الجلسة: «أيها الأمراء، والحكام، والجنود، والمواطنون، ليس لنا جميعا إلا غاية واحدة، هي صالح الوطن.»
إلا أن نابوليون كان يعلم أن هذا الصالح، إنما يتطلب قبل كل شيء سلاما مكينا مستديما، سلاما أوروبيا حقيقيا لا تستثنى إنكلترا منه، فتناسى عند ذلك الخيبة التي لقيتها رسالة القنصل الأول إلى الملك جورج الثالث، وعالج تجربة أخرى بصفته إمبراطورا. فكتب إلى هذا الملك في الثاني من كانون الثاني عام 1805 ما يلي: «أخي، دعتني إلى العرش الحكمة السامية، وتصويت الشيوخ والشعب والجيش، فإذا بميلي الأول رغبة في السلام. إن فرنسا وإنكلترا تتصرفان بسلاحهما تصرفا مطلقا فهما تستطيعان أن تتخاصما قرونا طوالا. ولكن، أتقوم حكومتاهما بالواجب المقدس قياما صحيحا؟ أو لا يبكتهما ضميرهما على ذلك الدم المهروق من غير فائدة وغاية؟ إنني لا أتهيب عارا، ولقد برهنت للعالم طويلا أنني لا أخشى عاقبة حرب؛ إذ إن الحروب لم تخيب أملي حتى الآن فأخشاها. إن السلام إنما هو أمنية قلبي، ولكن الحرب لم تعاكس مجدي بعد ...»
لم يستلم نابوليون جوابا من الملك، الذي اكتفى بالإيعاز إلى اللورد ملكراف بأن يكتب إلى السيد ده تالليران رسالة مبهمة، ألقاها الإمبراطور تحت نظر مجلس الشيوخ مع نسخة من الرسالة التي وجهها هو نفسه إلى جورج الثالث. قال اللورد ملكراف: «إن جلالته استلم الرسالة التي وجهها إليه رئيس الحكومة الفرنسية.
فجلالته يرى من المستحيل أن يجيب على تلك المفاتحة، حتى يتاح له أن يتفاهم مع سلطات البر التي ارتبط معها بعلاقات سرية، وخصوصا مع إمبراطور روسيا الذي برهن بشدة وإخلاص عن حكمة وسمو نفس صحيحين، وعن اهتمامه بكل ما يدعو إلى سلامة أوروبا واستقلالها.»
إن هذا الجواب، بالرغم من جهود المداول الإنكليزي في أن يخفي استعدادت ديوان لوندن تجاه فرنسا، إنما يدل دلالة واضحة على أن تلك الاستعدادات ليست سليمة هادئة. ما معنى ذلك الرفض المتكلف عدم إعطاء نابوليون المقام الذي منحه إياه الشعب الفرنسي، والذي كرسه البابا، واعترفت به جميع أوروبا البرية؟ وما هي تلك العلاقات السرية مع سلطات البر، وخصوصا مع إمبراطور روسيا، ولأية غاية وجدت وضد من؟ أجل، إن كل ما جاء في تلك الرسالة ليشير إلى استعداد ديوان سن جمس للخصومة، وشهر الحرب على فرنسا مباشرة أو بدسائس سرية حتى تضطر فرنسا على قلب تنظيماتها الجديدة والرجوع إلى سياستها القديمة. لم يخف ذلك على نابوليون فأذاع هذا الأمر في أوروبا جمعاء مظهرا أن شهر الحرب على الإمبراطور إنما هو شهر الحرب على الثورة.
كان بيوس السابع باقيا في باريس، فشهد وصول نواب المجامع المنتخبة وفرق الجمهورية الإيطالية وقد جاءوا إلى باريس ليضعوا على أقدام الإمبراطور أمنية أمتهم وينادوا بنابوليون ملكا على إيطاليا. وكان ملزي، نائب رئيس الجمهورية، عضو هذا الوفد، فمثل أمام الإمبراطور في السابع عشر من شهر أيار عام 1805، وألقى خطبة بمحضر من مجلس الشيوخ ختمها بهذه العبارة: «مولاي، أردت أن توجد الجمهورية الإيطالية فوجدت، فتكرم بأن تكون المملكة الإيطالية سعيدة فتكون.» فأجاب نابوليون: «كانت مشيئتنا الأولى التي لا تزال ملطخة بدم الحروب وغبارها تنظم الوطن الإيطالي مرة أخرى.
ولقد رأيتم ضروريا لمصالحكم يوم ذاك أن نكون رئيسا لحكومتكم، واليوم تريدون أن نكون أول ملك لكم؛ إن انفصال تاجي فرنسا وإيطاليا، الذي قد يكون مفيدا لتوثيق استقلال أبنائكم، إنما هو في الحال الحاضرة شؤم على كيانكم وراحتكم. أما إنني لأبقي هذا التاج، ولكن طالما تقتضيه مصالحكم، وإنني لعلى يقين أن سيحين الوقت عما قريب لوضعه على رأس تشرب روحي ليكمل عملي ويكون مستعدا دائما للتضحية بذاته ومصالحه في سبيل سعادة الشعب.»
كان البابا يرى بأسف عميق سري تشكيل مملكة إيطاليا الجديدة وامتداد سلطة بونابرت حتى أبواب روما. وكان للسفر من فرنسا، الذي بتته أسباب زمنية، مأرب غير ذلك الجوار المخيف. على أن بيوس السابع أخفى استياءه في الظاهر؛ لأنه عزم مرة أخرى أن يمنح الأسرة الإمبراطورية واسطته الحبرية.
ولد للويس بونابرت ابن ثان، فوضع الإمبراطور في خزانة مجلس الشيوخ تذكرة ولادة هذا الأمير الذي أوتي الإمبراطور عرابا له، وعمده البابا في قصر سن كلود في الرابع والعشرين من شهر آذار سنة 1805.
ترك الإمبراطور باريس في أول نيسان ليتجه مع الإمبراطورة إلى ميلان. فبقي ثلاثة أسابيع في تورين حيث سكن في قصر ستوبينيس الملقب بسن كلود ملوك سردينيا. فزاره البابا في ذلك القصر وهو عائد إلى روما، وجرت بينهما محادثات عديدة لم يمنح نابوليون فيها بيوس السابع حق التخلي له عن حد من الحدود لقاء الزيت المقدس الذي تقبله منه.
وفي الثامن من أيار أراد نابوليون، وهو زاحف إلى ميلان، أن يزور ساحة قتال مارنغو، حيث وضع الحجر الأول للتمثال الموقوف للبسلاء الذين ماتوا في تلك الساحة، ووالى سيره إلى ميلان.
إن المؤرخين، الأشد كرها لنابوليون، صرحوا أن هذه العاصمة قد احتفلت به احتفالا لا يقل فخفخة عن تلك الاحتفالات التي أقيمت له في فرنسا بعد ليوبن ومارنغو.
نزل نابوليون في قصر مونزا حيث جاء آخر رؤساء مشيخة جنوا المدعو دورازو يسأله ضم الجمهورية الليغورية إلى الإمبراطورية الفرنسية، فأجاب نابوليون:
حضرة الرئيس، وحضرات نواب مجلس شيوخ جنوا وشعبها
إن الأفكار الحرة قد تكون أتيح لها وحدها أن تخلع على حكومتكم تلك العظمة التي كانت لها منذ قرون عديدة، ولكني لم ألبث أن تحققت تعذركم عن القيام بعمل ما. أما اليوم فقد تغير كل شيء؛ فإن أصول وضع القوانين البحرية الجديدة الذي اتخذه الإنكليز، والذي أرغم القسم الأكبر من أوروبا على الاعتراف به، وحق المحاصرة، التي يستطيعون أن يمدوها إلى الأمكنة غير المحاصرة والتي ليست إلا حق ملاشاة تجارة الشعوب كما يشاءون، والنكبات الفظيعة التي تتزايد من يوم إلى يوم، كل ذلك كان يوحي إليكم وحشة في استقلالكم. إن الأجيال ستحمدني وتثني علي لما أقوم به من الجهود في سبيل جعل البحار حرة وإرغام البربريين على العدول عن شهر الحرب ضد الأعلام الضعيفة. لقد رفضت إنكلترا، في معاهدة إميان، أن تساعد هذه الأفكار الحرة.
حيثما لا يوجد استقلال بحري لشعب تجاري تولد الحاجة إلى الانضمام تحت ظل علم أقوى. إنني سأحقق أمنتيكم، وسأضمكم إلى شعبي الكبير.
وجرى ذلك الاتحاد بأسرع ما يكون، وأصبح رئيس مشيخة جنوا عضوا في مجلس الشيوخ الفرنسي.
في السادس والعشرين من شهر أيار جرى مسح نابوليون ملكا على إيطاليا في كاتدرائية ميلان، ولقد قام بالذبيحة الكردينال كابرارا أسقف هذه العاصمة، فسلم التاج الحديدي القديم للإمبراطور الذي كرر ما عمله في باريس فوضعه بيده على رأسه صارخا: «إن الله هو الذي سلمني إياه فويل لمن يمسه!»
إلا أن بلاط فيينا كان من حقه أن يكون أكثر من السدة الرسولية استياء من توطيد السلطة الفرنسية في إيطاليا. أما نابوليون، الذي توقع انفجار الأحقاد في صدور أعداء الثورة الفرنسية القدماء، فقد شرع يهتم منذ ذلك الحين بتثبيت حمية الشعب المذعن إلى سلطته، فطاف مملكة إيطاليا مع جوزيفين، وكانا يحركان هتاف الشعب حيثما يمران، وأما جنوا فقد أقامت للمسافرين العظيمين عيدا جميلا، وبر نابوليون قبل تركه ميلان بالوعد الذي عمله للإيطاليين، فأعطاهم نائب ملك، ووقع اختياره على أوجين بوهارنه،
1
ثم وضع بعد ذلك نظام التاج الحديدي، ونظم جامعة تورين.
أخذ نابوليون وجوزيفين طريق فرنسا فوصلا إلى فونتينبلو في الحادي عشر من شهر تموز، واتجها من هناك إلى باريس فسن كلود. إلا أن الظروف لم تسمح للإمبراطور بأن يتمتع بمجده رخي البال هادئ النفس، فلقد قضى عليه الحظ أن يشتري عظمته ببذل راحته.
الفصل الحادي عشر
قرب الوقت الذي تنبأ عنه نابوليون، وأوشكت الخصومة المتسترة أن تستحيل إلى حرب علنية، فترك الإمبراطور عاصمته في أوائل شهر آب ليتجه إلى معسكر بولونيا ويشرف على الجيش المستحكم على الشواطئ.
لم يطل هذا السفر أكثر من شهر، في هذه المدة أصدر الإمبراطور أمرا بجمع ثمانين ألف رجل على حدود النمسا. ولدى عودته إلى باريس فكر في وسط مشاغله الحربية، بإعادة تنظيم الرزنامة الغريغورية؛ إذ إن «الطقس» الجمهوري إنما كان منافيا لمجموع التنظيمات الدولية التي كان يحاط بها في كل مكان ولجت إليه سلطته. على أن تقسيم السنة التي اعتمدت عليه الاتفاقية إنما كان مؤسسا على حساب علمي، ولكن العلم أيضا سيظهر ضرورة العودة إلى الرزنامة القديمة ويعهد إلى لابلاس بتجديد عمل روما.
بعد مرور عشرة أيام من صدور المرسوم القاضي باستبدال الرزنامة القديمة بالرزنامة الجمهورية رأى نابوليون نفسه مضطرا أن يبين، لمجلس الشيوخ، سلوك النمسا وروسيا العدائي ويعلن سفره القريب إلى الجيش، قال: «حضرات الشيوخ، إن ظروف أوروبا الحالية أحوجتني إلى أن أكون بينكم لأطلعكم على ميولي.
سأترك عاصمتي لأضع نفسي على رأس الجيش، وأحمل إلى حلفائي نجدة سريعة، وأدافع عن أعز مصالح شعوبي.
إن أماني الأعداء البريين قد تمت؛ إذ قد بدأت الحرب في قلب ألمانيا، إن النمسا وروسيا قد اتحدتا مع إنكلترا، واندفع جيلنا من جديد في جميع كوارث الحرب. كنت منذ أيام لم أزل أعلل النفس بالسلام، ولكن الجيش النمسوي عبر الأين، وهوجمت مونيخ، وطرد منتخب بافيير من عاصمته. إذن فجميع آمالي قد تلاشت.
لقد انكشفت اليوم رداءة الأعداء البريين. إنهم خافوا أن تعود النمسا إلى ميول عادلة معتدلة فجروها إلى الحرب. أما إنني لآسف على الدم الذي سيهرق في أوروبا، ولكن الاسم الفرنسي سيلمع لمعانا جديدا.
أيها الشيوخ، عندما وضعت على رأسي التاج الإمبراطوري تقبلت منكم ومن المواطنين جميعهم عهدا بتأييده سالما لا لطخة عليه. لقد أعطاني شعبي في جميع المواقف براهين عن ثقته وحبه، وسيطير تحت أعلام إمبراطوره وجيشه التي لا يمر وقت قصير حتى تجتاز الحدود.
إن الحكام والجنود المواطنين جميعهم يرغبون في توطيد الوطن بعيدا عن نفوذ إنكلترا التي، إذا انتصرت، لا تمنحنا إلا صلحا محاطا بالذل والعار، وتكون شروطها الأولى إحراق بواخرنا، وإتلاف مرافئنا، وملاشاة صناعتنا.
لقد حققت جميع الوعود التي أعطيتها للشعب الفرنسي، وسيظل الشعب الفرنسي، في هذه الظروف الحرجة، عاملا على استحقاق لقب الشعب الكبير الذي حييته به في وسط ساحات القتال.
أيها الفرنسيون، سيقوم إمبراطوركم بواجبه، ويقوم جنودي بواجبهم، وأنتم تقومون به أيضا.»
فأجاب مجلس الشعب على نداء الإمبراطور بأن ارتأى جمع ثمانين ألف رجل وإعادة تنظيم الحرس الوطني. وأراد التريبونه كذلك أن يبرهن عن غيرته وإخلاصه فخف حاملا، إلى أقدام العرش، عبارات السخط الشديد على سلوك روسيا والنمسا العدائي، ثم إن سلطات العاصمة لم تجد لائقا بها أن تبقى صامتة في مثل تلك الأحوال الحرجة، فجاء حاكم السين، فروشو، على رأس المجلس البلدي ليسلم إلى الإمبراطور مفاتيح باريس رمزا لخضوع المدينة وإخلاصها. قال: «إن كانوا حقا يريدون النيل منك ومن استقلال الأمة وحريتنا وتنظيماتنا فمر بأن نشترك جميعا في الدفاع، وتأكد أنه إذا كان موجب للزحف فإننا مستعدون إلى اللحاق بك، إلى خدمتك والثأر لك.»
ترك نابوليون باريس في الرابع والعشرين من شهر أيلول، بعد أن وثق من اتحاد فرنسا على محبته والإخلاص له، ووطد معسكره في ستراسبورج حيث نشر في التاسع والعشرين النداء التالي الموجه إلى الجيش:
أيها الجنود
لقد بدأت حرب العصبة الثالثة، وعبر الجيش النمسوي الأين، وخرق المعاهدات، وهاجم حليفنا وطرده من عاصمته ... ألا إنكم قد عبرتم الرين ولن نقف ما لم يحقق استقلال الفرقة الجرمانية، ما لم ننقذ حلفاءنا، ونخز كبرياء المعتدين البغاة، ولن نعقد صلحا بعد من غير ضمان، ولن يخدع كرمنا سياستنا مرة أخرى.
أيها الجنود، إن إمبراطوركم بينكم ولستم إلا الصف الأول في الشعب الكبير، وإذا كان هناك داع؛ فإن هذا الشعب لينهض كله، لدى نداء مني، فيخزي ويشتت تلك العصبة الجديدة التي نسجتها أحقاد إنكلترا وذهبها.
ولكن، أيها الجنود، أمامنا زحف شاق وأتعاب، ومقاساة حرمان مختلف الوجوه، إلا أننا سنقهر جميع تلك الحوائل، ولا نأخذ راحة لنا ما لم نغرس نسورنا في أراضي الأعداء.
نابوليون
بعد أن عبر الإمبراطور الرين إلى كهل بات في أتلنجن في الواحد من تشرين الأول حيث استقبل منتخب باد وأمراءها، واتجه إلى لويسبورج حيث سكن في قصر منتخب ورتنبرج.
في السادس منه دخل الجيش الفرنسي إلى بافيير بعد أن تجنب الجبال السوداء وخط الأنهر المتوازية التي تنصب في وادي الدانوب. في ذلك الحين وجد النمسويون نفوسهم مهددين من الوراء بعد أن حاولوا الزحف حتى منافذ الغاب الأسود ليحولوا دون مرور الجيش الفرنسي.
وفي اليوم نفسه وجه الإمبراطور نداء إلى الجنود البافاريين، قال: «لقد وضعت نفسي على رأس جيشي لأنقذ وطنكم من الظالمين المغتصبين ... إنني أعرف بسالتكم، وأراني فخورا بأن سيتاح لي، بعد المعركة الأولى، أن أقول لأميركم ولشعبي إنكم أهل لأن تقاتلوا في صفوف الجيش الكبير.»
وفي اليوم التالي استولى مائتا جندي من فرقة مورات على جسر ليك الذي دافع عنه الأعداء من غير جدوى. ولقد هاجم الكولونيل واتيير على رأس هؤلاء البواسل.
وفي اليوم الثامن، هجم المرشال سول على أوجسبورج. في أثناء ذلك كان مورات يحاول أن يقطع طريق أولم على أوجسبورج وهو على رأس ثلاث فرق من الخيالة. وعندما التقى بالعدو في ورتنجن قاتله بشدة وقدر له، بمعاضدة المرشال لان الذي أقبل مع فرقة أودينو، أن يجبر الفرقة النمسوية المؤلفة من اثني عشر فيلقا من الرماحة على إنزال السلاح. أراد الإمبراطور أن يطلع حاكم مدينة باريس وشيوخ الصلح فيها على تلك الواقعة اللامعة فأرسل إليهم الأعلام والمدفعين التي أخذت من العدو لتوضع في أوتيل ده فيل. وكان المرشال سول قد دخل في الليلة الماضية إلى مدينة أوجسبورج مع فرق فاندام وسنت هيلير ولوكران.
بينما كان الإمبراطور يستعرض الرماحة في قرية زومر هوسن أمر بأن يمثل لديه المدعو مارنت الذي أنقذ قائده في ممر ليك، بالرغم من أن هذا كان قبل أيام نزع عنه رتبة ملازم ثان، وأعطاه نسر جوقة الشرق جزاء بسالته، فقال هذا: «إنني لم أعمل إلا واجبي. كان قائدي قد نزع عني رتبتي لبعض ذنوب اقترفتها إلا أنه يعلم جيدا أنني كنت دائما جنديا مخلصا.»
لم يكن سلوك الرماحة في موقعة جسر ليك أقل منه بسالة في ورتنجن؛ فوزع عليهم الإمبراطور نسر جوقة الشرف كما عمل مع مارنت. وعندما جاء أكسلمان، قائد الخيالة ومعاون مورات، الذي قتل جوادان تحته في تلك المعركة، حاملا إلى المعسكر الأعلام التي أخذت من النمسويين، قال له نابوليون: «إنني أعلم أنه لا يمكن أحدا أن يكون أكثر بسالة منك، فأنا أجعلك ضابطا في جوقة الشرف.»
بعد مرور أربع وعشرين ساعة على موقعة ورتنجن، أتيح للكتيبة التاسعة والخمسين من فرقة المرشال ناي أن تأخذ بالسلاح الأبيض جسر غنزبورج الذي دافع عنه الأرشيدوق فردينند بنفسه. أما الكولونيل لاكوي الذي قاتل ببسالة فقد بقي في ساحة القتال.
تشتت النمسويون في جميع الجهات، وأتيح للجيش الفرنسي، وهو يطاردهم، أن يجري أعمالا حاذقة حتى قطع عليهم جميع مواصلاتهم. جاء في المذكرة اليومية الخامسة ما يلي: «عندما عبرت فرقة جيش القائد مارمون المضيق كان الإمبراطور على جسر ليك، فشكل كل كتيبة بشكل دائرة وأطلعها على موقف العدو وعلى قرب حدوث موقعة كبرى، ثم عبر عن ثقته الأكيدة بها، في تلك الآونة كان الثلج يهطل بغزارة، والأوحال تغمر الكتائب حتى الركب، والبرد القارس يلج منافذ الأبدان، إلا أن كلمات الإمبراطور كانت شعلة مضطرمة ينسى الجندي، لدى سماعها، أتعابه وحرمانه ويرقب ساعة القتال بفارغ صبر.»
في الرابع عشر من شهر تشرين الأول كانت عاصمة البافيير قد سلمت، فدخلها المرشال برنادوت في الساعة السادسة من الصباح بعد أن طرد منها الأمير فردينند الذي ترك ثماني مائة أسير تحت تصرف المنتصر. وفي الوقت نفسه كانت فرقة فرنسية، تحت قيادة الجنرال ديبون، مؤلفة من ستة آلاف رجل لا غير، تقاوم عساكر محافظة أولم المؤلفة من خمسة وعشرين ألفا مقاومة شديدة، حتى أتيح لها أن تستولي على ألف وخمس مائة أسير منهم في معركة البيك.
جاء الإمبراطور بنفسه إلى الفرقة المعسكرة أمام أولم في الثالث عشر من شهر تشرين الأول، وأمر بالاستيلاء على الجسر ومكان الشنجن لتسهيل محاصرة الجيش العدو. وفي الرابع عشر منه عبر المرشال ناي هذا الجسر، واستولى على مكان الشنجن بالرغم من المقاومة الشديدة. وفي اليوم التالي، ظهر الإمبراطور أمام أولم مرة ثانية، واصطف مورات ولان وناي للقتال ليشرعوا بالمهاجمة، في حين كان سول مستوليا على بيبراك، وبرنادوت ينجز هزيمة الجنرال كيينماير. أما الوحل في معسكر أولم فكان يغمر الجنود حتى ركبهم، وكان مضى على الإمبراطور ثمانية أيام لم يغير فيها حذاءه، وفي السابع عشر منه استدرك ماك الهجوم فسلم، وبقي الجنود المحافظون أسراء جميعهم.
كان نابوليون يعتبر موقعة ألشنجن كألمع موقعة حربية تذكر. وفي الثامن عشر منه كتب إلى مجلس الشيوخ، من المعسكر العام المقيم بتلك الساحة الحربية المجيدة، يقول: «لقد شتت منذ دخولي إلى الموقعة جيشا مؤلفا من مائة ألف جندي أسرت نصفهم وقتلت وجرحت النصف الآخر ... إذن فلقد تممت الواجب الحربي الأول. إن منتخب بافيير قد عاد إلى عرشه، وصعقت الصاعقة المغتصبين الظالمين، وإني لآمل بعون الله أن أنتصر على أعدائي الباقين بوقت قصير.» وفي اليوم نفسه رفع كتابا إلى أساقفة الإمبراطورية يدعوهم به إلى إقامة الذبيحة قال: «إن الانتصارات العظيمة التي ربحتها جيوشنا من العصبة الظالمة، التي ألفتها أحقاد إنكلترا وذهبها، شاءت أن أرفع وشعبي الحمد إلى إله الجيوش، ونتوسل إليه أن يبقى معنا في كل حين.»
تمت شروط تسليم أولم في العشرين من شهر تشرين الأول. مر خمسة وعشرون ألفا من الجنود النمسويين، وستون مدفعا، وثمانية عشر قائدا، أمام الإمبراطور الذي كان واقفا على مرتفعات دير الشنجن المطلة على الدانوب. فعندما أبصر نابوليون ذلك الجيش الأسير مارا أمامه، قال للقواد النمسويين الذين دعاهم إلى الدنو منه: «أيها الأسياد، إن مولاكم شهر علي حربا غير عادلة، وإني لأصرح بكل صدق أنني لا أعلم فيم أحارب، وماذا يريدون مني.» فأجابه ماك أن إمبراطور ألمانيا لم يرغب في الحرب لو لم تضطره روسيا. فقال نابوليون: «إذن فلستم سلطة أنتم؟»
وفي الواحد والعشرين من شهر تشرين الأول أذيع نداء آخر على الجيش من المعسكر العام في ألشنجن، وهذا هو:
يا جنود الجيش الكبير
لقد أنجزنا موقعة في خمسة عشر يوما، وتم لنا كل ما رغبنا فيه؛ لقد طردنا كتائب البلاط النمسوي من بافيير، وأعدنا حليفنا إلى ولاياته. وأما الجيش الذي تعدى على حدودنا بجسارة وتهور فقد تلاشى جميعه، ولكن ما هم إنكلترا ألم تبلغ أمنيتها؟
إن من المائة الألف الذي يؤلفون هذا الجيش، ستين ألفا من الأسراء، سينوبون عن المطلوبين للجندية من شعبنا في إشغال المواقع. وإن مائتي مدفع، وتسعين علما، وجميع القواد هم تحت سلطتنا، ولم يهرب من ذلك الجيش أكثر من خمسة عشر ألفا. أيها الجنود، كنت أعلنت لكم عن موقعة كبرى، ولكن سوء نظام العدو أتاح لي أن أنتصر انتصارا باهرا من غير مشقات عظيمة؛ ومن الغريب من تاريخ الأمم، أن نتيجة كبرى كهذه، لم تضعف قوانا بأكثر من ألف وخمس مائة رجل.
أيها الجنود، إن هذا النجاح الباهر مرجعه ثقتكم اللا حد لها بإمبراطوركم، وصبركم على تحمل الأتعاب والحرمان من كل شيء، وشجاعتكم العظيمة النادرة.
ولكننا لا نقف هنا. فإني أراكم تتوقون إلى الشروع بموقعة أخرى. إذن فسينال الجيش الروسي الذي جاء به ذهب إنكلترا من أطراف الأرض ما نال الجيش النمسوي منا.
إن شرف العساكر المشاة متعلق بهذه الموقعة. إذن فستعالجون النصر مرة أخرى كما عالجتموه مرات عديدة، وتثبتون للأمم أن العساكر المشاة الفرنسيين إنما هم الأولون في أوروبا، وسأجتهد في أن أوفر دما في اكتساب ذلك النصر؛ ألا إن جنودي إنما هم أولادي.
وترك الإمبراطور ألشنجن وأخذ طريق مونيخ التي دخلها في الرابع والعشرين من أيلول.
وفي نهاية الأمر، بعد مسيرة منتصرة، وصل الجيش الكبير أمام فيينا. وفي العاشر من شهر تشرين الثاني حمل الإمبراطور معسكره العام إلى مولك حيث سكن في دير من أجمل أديرة أوروبا، وهو فضلا عن ذلك مركز محصن يشرف على الدانوب، كان الرومانيون قد اتخذوه مركزا قويا لهم وأطلقوا عليه لقب «البيت الحديدي».
وقبل أن يدخل الجيش الفرنسي إلى عاصمة النمسا كان من حقه أن يضيف نصرا جديدا على انتصاراته اليومية. ففي الحادي عشر من تشرين الثاني التقت كتيبة فرنسية مؤلفة من أربعة آلاف رجل يقودهم المرشال مورتيه بالجيش الروسي في قرية دييرنستن، فجرت بينهما موقعة دامت من الساعة السادسة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر قيض فيها للكتيبة الفرنسية الباسلة أن تشتت الجيش الروسي الكثير العدد وتقتل منه أربعة آلاف وتأسر ألفا وثلاث مائة. وبعد يومين من هذه الموقعة المشهودة دخل الجيش الكبير إلى عاصمة فيينا، وعبر المرشال لان والقائد برتران في الأول الجسر الذي لم يتمكن الأعداء من إحراقه.
أما الإمبراطور فلم يشأ أن يدخل إلى النمسا؛ فوطن معسكره العام في قصر شنبرن الذي بنته ماري تيريز. وأما البلاط النمسوي فقد كان هجر العاصمة ولحق ببقايا الجيش. عند هذا اتجهت السلطة التي بقيت في فيينا، وعلى رأسها السيد ده بوبنا، إلى شنبرن لترفع واجبات الإكرام إلى الإمبراطور. فرحب نابوليون بهذا الوفد ونشر إذاعة أمر بها جنوده بالمحافظة على النظام التام واحترام الأهالي وحقوقهم.
إن الاستيلاء على فيينا لم يوقف المجريات العسكرية؛ فإن مورات ولان، اللذين بقيا يطاردان الجيش النمسوي الروسي في انهزامه نحو المورافي، أتيح لهما أن يقاتلاه يومين كاملين، 15 و16 تشرين الثاني، في هوللنبرن وجونتروف. ولقد لعب المرشال سول دوره في تلك الواقعة الأخيرة.
في تلك الأثناء كان المرشال ناي، الذي عهد إليه بالإغارة على التيرول، يقوم بواجبه بما فطر عليه من الذكاء والبسالة حسب تعبير المذكرة الخامسة والعشرين؛ فبعد أن استولى على قلعتي شارنيز ونوستارك دخل إلى أنسبروك في السادس عشر من شهر تشرين الثاني فوجد فيها ستة عشر ألف بندقية وكمية وافرة من البارود.
وفي اليوم التالي من موقعة جونتردف حمل الإمبراطور معسكره العام إلى زنائيم ومن ثم إلى بورليز فبرون . وكان الروسيون في انهزامهم يقاسون كل يوم انكسارا جديدا . في نهاية الأمر خدعوا بحركة تقهقهر عالجها نابوليون ليوهمهم أنه في موقف خطر عليه وعلى جيشه فوقفوا، واتخذوا موقف القتال، جاهلين أن رئيس الجيش الفرنسي إنما عالج ذلك ليوقفهم في المكان الذي اختاره لمقاتلتهم. عند هذا جمع نابوليون مرشالييه وأشار إلى صفوف الأعداء صارخا: «هذا الجيش لي.» وبعد ذلك نشر نداء من معسكر أوسترلتز يقول فيه: «أيها الجنود، إن الجيش الروسي يتأهب للأخذ بثأر الجيش النمسوي، فسترون الكتائب نفسها التي قاتلتموها في هوللابرون وطاردتموها حتى هذا المكان.
إن المراكز التي نشغلها لمراكز هائلة. أيها الجنود، سأدير بنفسي جميع كتائبكم، وسأبقى بعيدا عن النار إذا ألقيتم التشويش وسوء النظام في صفوف الأعداء بما فطرتم عليه من البسالة والذكاء. وأما إذا تبين لي أن النصر بعيد المنال؛ فإنكم لترون إمبراطوركم معرضا نفسه للضربات الأولى؛ إذ إن النصر لا ينبغي أن يتردد فترة في تلك الواقعة العصيبة التي يتوقف عليها شرف المشاة الفرنسيين.
ويجب على كل منكم أن يضع أمام عينيه هذه الفكرة وهي قهر هؤلاء المأجورين، الذين أدبت فيهم إنكلترا الأحقاد على أمتنا.
ثم إن هذا النصر يضع حدا للحرب، فيتاح لنا إذ ذاك أن نعود إلى معسكرنا الشتوي، الذي سنجتمع فيه بالجيوش الجديدة التي تتألف في فرنسا، ويكون السلام جديرا بشعبي، بكم وبي.»
كانت فرنسا من عيد التتويج السنوي على يوم واحد، فجرت في المساء تنويرات في المعسكر احتفالا بتلك الذكرى. وفي اليوم التالي تحققت آمال نابوليون؛ إذ إن نظرياته العسكرية، التي عضدها ذكاء قواده وبسالتهم وشجاعة جنوده، قد حملت إليه في أوسترلتز انتصارا من تلك الانتصارات الجازمة التي لا تذكر في تاريخ حياة القواد العظام إلا في الندر. وهذه هي تفاصيل الموقعة الكبرى كما وردت في المذكرة الثلاثين.
موقعة أوسترلتز «في السادس من فريمير،
1
أعطى الإمبراطور هدنة ليوفر الدم فيما إذا رضي العدو بعقد صلح نهائي، إلا أنه ما لبث أن شعر بأن للعدو فكرة أخرى، وأن المداولات ليست إلا حيلة حربية لإرقاد انتباهه.
في السابع منه، الساعة التاسعة صباحا ، أتيح لجحفل من الكوزاك عضدته كتيبة من الخيالة الروسيين أن تثني الصفوف الأولى من جيش الأمير مورات، وتحدق بفيشو، وتأخذ خمسين رجلا من مشاة الفرقة السادسة، في ذلك النهار اتجه إمبراطور روسيا إلى فيشو، واتخذ الجيش الروسي مركزا له وراء هذه المدينة.
كان الإمبراطور قد أرسل معاونه الجنرال سافاري ليهنئ إمبراطور روسيا عند وصوله إلى الجيش. وفي حين كان الإمبراطور يستطلع عن عدد الأعداء المعسكرين في فيشو، عاد إليه الجنرال سافاري شاكرا إمبراطور روسيا على ما أبداه نحوه من الحفاوة والإكرام، ومثنيا على الغرندوق قسطنطين لحسن اعتنائه به، ولكن كان من السهل عليه أن يدرك، من المباحثات التي جرت بينه وبين الحاشية المحيطة بإمبراطور روسيا، أن الشكوك والتهور والطيش ستسود في الديوان العسكري كما سادت في الديوان السياسي.
إن جيشا تلك إدارته لا يلبث أن يرتكب هفوات. أما الإمبراطور فأعطى في الحال أمرا للجيش بالتقهقر، كم ينهزم، واتخذ مركزا حسنا على مسافة ثلاثة فراسخ إلى الوراء، وشرع يجتهد في تحصينه وتنظيم الكتائب فيه.
ثم بعث إلى إمبراطور روسيا يطلب مقابلة، فأرسل إليه هذا معاونه دولكوروكي، الذي استطاع أن يلاحظ تحفظ العسكر الفرنسي وضعفه؛ إذ إن موقف الحرس الكبير والتحصينات التي كانت تجرى بسرعة أرت الضابط الروسي جيشا نصف مغلوب.
إن الإمبراطور، الذي لم يكن من عادته أن يستقبل المداولين في معسكره العام بتحزر واحتراس، اتجه بنفسه إلى مكان الجيش حيث اجتمع بالضابط الروسي الذي، بعد أن حياه، أراد أن يلج معه مسائل سياسية. إلا أن الإمبراطور لم يلبث أن تبين له أن الضابط يخبط خبط عشواء في كلامه المجرد من أية معرفة بمصالح أوروبا وموقف البر. كان الضابط، بكلمة واحدة، بوقا صغيرا تنفخ إنكلترا به. فأخذ يخاطب الإمبراطور مخاطبته لضابط روسي دونه مقاما وقدرا، ثم عاد إلى الإمبراطور إسكندر، وملء زعمه أن الجيش الفرنسي على وشك الانكسار. ولقد يدرك، كم تحمل الإمبراطور من ذلك الضابط، من علم، أن هذا عرض عليه في نهاية الحديث، أن يتخلى عن بلجيكا ويضع التاج الحديدي على رأس ألد أعداء فرنسا.
في العاشر من الشهر أبصر الإمبراطور بفرح عظيم من أعلى معسكره الجيش الروسي يحاول على قيد رميتي مدفع أن يحول ميمنته، وتبين له إذ ذاك إلى أي حد ضلل جهل الفن الحربي عمدة ذلك الجيش، ولقد قال مرارا: «سيصبح هذا الجيش في قبضتي قبل غد مساء.»
على أن شعور العدو كان يختلف اختلافا بينا، فكان يدنو من حرسنا الكبير إلى مسافة رمية غدارة، غير خائف إلا من أمر واحد وهو أن يفلت منه الجيش الفرنسي. أما الجيش الفرنسي فكان يعالج إبقاء هذه الفكرة في مخيلة العدو. وبعد هنيهة زحف الأمير مورات، مع فرقة قليلة من الخيالة، إلى السهل وما لبث أن عاد بسرعة مظهرا استغرابه من قوى العدو الهائلة. كان كل ذلك يرمي إلى إضلال القائد الروسي وإثباته في وهمه. وفي المساء أراد الإمبراطور أن يزور الجيش مقنعا، إلا أنه لم يكد يخطو بضع خطوات حتى كشف أمره. لا يمكن وصف الفرح الذي استولى على الجنود لدى رؤية الإمبراطور. رفعت فوانيس من القش على ألوف من الخشبات الطويلة، ومثل ثمانون ألف رجل أمام الإمبراطور يحيونه بالهتاف الشديد، وما هي إلا ثوان قلائل حتى دنا منه أحد الجنود القدماء وقال له: «مولاي، إنك لن تعرض نفسك، وإني لأعدك باسم الجيش، بألا تحتاج إلى القتال بسوى العيون، وإننا سنحمل إليك غدا أعلام الجيش الروسي لنحتفل بمهرجان تتويجك.» وعندما دخل الإمبراطور إلى معرسه، وهو كوخ بناه له الجند من القش، قال: «هذه أجمل ليلة في حياتي، ولكني أفكر بأسف أني سأفقد عددا كبيرا من هؤلاء البواسل.» لو قدر للعدو أن يرى هذا المشهد لقطع به، ولكنه بقي مستمرا في الإسراع إلى حتفه.
قام الإمبراطور باستعداداته الحربية بأسرع ما يكون، فأرسل المرشال دافو إلى دير رايجرن مع فرقة من فرقه وأخرى من الرماحة ليحجز الجناح الأيسر من العدو، وأعطى المرشال لان قيادة الميسرة، والميمنة إلى المرشال سول، والوسط إلى المرشال برنادوت، والخيالة جميعها إلى الأمير مورات. كانت ميسرة المرشال لان مستحكمة في سانتون، وهي مركز عظيم حصنه الإمبراطور ووضع فيه ثمانية عشر مدفعا، وعهد بحراسته إلى فيلق المدفعية الخفيفة السابعة عشرة. وكانت فرقة القائد سوشه تؤلف ميسرة المرشال لان، وفرقة القائد كافاريللي تؤلف ميمنته المدعمة بخيالة الأمير مورات. وكان أمام هذه فرقتا الهوسار
2
والقناصة تحت قيادة الجنرال كيلليرمان، وفرق رماحة والتر وبومون، وفرق القائدين نانسوتي وهوتبول المدرعة مع أربعة وعشرين مدفعا خفيفا تحت الطلب.
وكان إلى يسار المرشال برنادوت، أي الوسط، فرقة القائد ريفو تدعمها ميمنة الأمير مورات، وإلى يمينها فرقة القائد دروه.
وكان إلى يسار المرشال سول قائد ميمنة الجيش فرقة الجيش فاندام، وفي وسطه فرقة القائد سنت هيلير، وإلى يمينه فرقة القائد الباسل لوكران.
وكان المرشال دافو منفصلا إلى يمين القائد لوكران الذي يحرس منافذ حياض سوكولنيز وسلنيز وقراهما، ومعه فرقة فريان ورماحة فرقة الجنرال بورسيه. أما فرقة كودن فكان عليها أن تزحف في الصباح إلى نيكولسبورج لتحجز فرقة العدو وتمنعها من تجاوز الميمنة.
في ذلك الوقت كان الإمبراطور ومعه رفيقه الأمين المرشال برتيه، ومعاونه الأول القائد جونو، وجميع أركان حربه، تحت الطلب مع كتائب حرسه العشرة، وكتائب الجنرال أودينو العشرة التي يقود الجنرال دوروك قسما منها.
وكانت هذه الكتائب الاحتياطية مصطفة على خطين يتخللها أربعون مدفعا تستخدمها فرقة مدفعية الحرس، وكان في نية الإمبراطور أن يهجم بهذه الكتائب حيثما يرى ضرورة للهجوم. لقد كان هذا الاحتياط يوازي جيشا كاملا.
في الساعة الواحدة من الصباح، امتطى الإمبراطور جواده ليطوف المراكز ويتفقد مكان نيران العدو، فانتهى إليه أن الروسيين صرفوا الليل بالسكر والهتاف، وأن فرقة من المشاة الروس اتجهت إلى قرية سوكولنيز التي تشغلها كتيبة من فرقة القائد لوكران.
في الحادي عشر من شهر فريمير صعدت الشمس ساطعة النور، وإذا بعيد ذكرى التتويج، الذي ستحدث فيه أجمل موقعة حربية في العصر، أجمل نهار من أيام الخريف.
إن هذه الموقعة، التي أصر الجنود على إعطائها لقب يوم الأباطرة الثلاثة ، والتي لقبها غيرهم بيوم المهرجان، وسماها الإمبراطور يوم أوسترلتز ، لتبقى خالدة في مفاخر الأمة الكبرى.
كان الإمبراطور محاطا بمرشاليته جميعهم ساعة أشرقت الشمس وظهر الأفق جليا، فأعطى أمره إلى كل من المرشالية بأن يتجه إلى فرقته، ثم عبر بين الجنود وقال لهم: «أيها الجنود، يجب أن ننهي هذه المعركة بصاعقة تقضي على كبرياء العدو.» وما كاد يتلفظ بهذه العبارة حتى رفعت القبعات على رءوس الحراب، وهتف الجميع «ليحي الإمبراطور.» وبعد فترة قصيرة سمع دوي المدافع من أطراف الميمنة واشتبك القتال.
في تلك الساعة اهتز المرشال سول، كمن أصيب بسكرة شديدة، ووثب إلى مرتفعات قرية برنجن بفرقتي القائدين فاندام وسنت هيلير، وبتر ميمنة العدو، ووثب مورات بخيالته، ومشت الميسرة التي يقودها المرشال لان. عند هذا دوت المدافع على طول الصف، فإذا هي مائتا مدفع تتخلل مائتي ألف جندي؛ موقعة هائلة من مواقع الجبابرة! لم يمر ساعة على القتال حتى انشقت ميسرة العدو، وأما الميمنة فوصلت إلى أوسترلتز معسكر الإمبراطورين العام اللذين أشارا إلى حرس إمبراطور روسيا بالزحف ليتفق لهما اجتماع الوسط بالميسرة. وما هي إلا مدة قصيرة حتى هاجم الحرس الإمبراطوري الروسي كتيبة من الفرقة الرابعة وقلبتها بطنا لظهر؛ إلا أن الإمبراطور لم يكن بعيدا، فعندما انتبه إلى هذه الحركة، أمر المرشال باسيير بأن يهجم لنجدة ميمنته بجنوده القاهرين.
أما النجاح فكان مضمونا؛ إذ إن الحرس الروسي تشتت تشتتا فظيعا، واستولي على القائد والمدفعية والأعلام جميعهم، وأما جحفل الغراندوق قسطنطين، فقد سحق سحقا، ولولا سرعة جواده لما استطاع هو نفسه سبيلا إلى النجاة.
أبصر الإمبراطوران هزيمة الحرس الروسي من مرتفعات أوسترلتز. في تلك الساعة تقدم وسط الجيش الذي يقوده المرشال برنادوت، وأتيح لثلاث من كتائبه أن تحمل حملة باهرة، وقيض للميسرة، التي يقودها المرشال لان، أن تحمل ثلاث حملات انتصرت جميعها. أما فرقة القائد كافريللي فقد امتازت أيضا بما قامت به من الجهود، وقدر للكتائب المدرعة أن تستولي على مدافع العدو.
في الساعة الواحدة بعد الظهر كان النصر محتما من غير أن نحتاج إلى رجل واحد من الجيش الاحتياطي، أما الجيش العدو، الذي أحيط به من جميع أطرافه، فقد وجد نفسه محاصرا في بحيرة. عند هذا انقض عليه الإمبراطور بعشرين مدفعا وطارده من مركز إلى آخر؛ في ذلك الحين رأينا مشهدا فظيعا كمشهد أبو قير، حين ترامى عشرون ألفا من الأعداء في المياه وأغرقوا في البحيرات.
ألقت السلاح فرقتان من الروس تعد الواحدة أربعة آلاف وسلمتا أسيرتين. أما نتيجة هذا النهار فهي: أربعون علما روسيا بينهما أعلام الحرس الإمبراطوري، عدد من الأسراء كبير لم تتمكن أركان الجيش بعد من معرفتهم جميعهم، اثنا أو خمسة عشر قائدا، خمسة عشر ألفا من الروسيين بقوا في ساحة القتال وتقدر خسائرنا بثماني مائة قتيل وألف وخمس مائة أو ألف وست مائة جريح. إن هذا لا يدهش العسكريين الذين يعرفون أن الهزيمة إنما هي وحدها التي تسبب خسارة الرجال، ولم ينكسر من فرقنا إلا كتيبة من الفرقة الرابعة لا غير. بين الأسراء: القائد سنت هيلير الذي أصيب في بدء المعركة فبقي طوال النهار في ساحة القتال، لقد أفرغ عليه المجد، والقواد كيلليرمان، والتر، فالهوبر، تييبو، كومبان، سباستياني وراب معاون الإمبراطور. هذا الأخير هو الذي قبض على الأمير ريبنان، قائد خيالة الحرس الإمبراطوري الروسي، في حين كان يهاجم تلك الخيالة وهو على رأس رماحة الحرس. أما الرجال الذين امتازوا، فهم الجيش الذي أفرغ عليه المجد. لقد كانوا يثبون إلى القتال هاتفين: ليحي الإمبراطور! وكانت فكرة الاحتفال بعيد التتويج الإمبراطوري تدب في الجند روح الحماس والاستبسال.
كان الجيش الفرنسي، على ما هو عليه من كثرة العدد، أقل عددا من الجيش العدو، الذي كان يعد خمسة آلاف رجل بعد المائة، بينهم ثمانون ألف روسي وخمسة وعشرون ألف نمسوي. لقد أتلف نصف هذا الجيش وانهزم بعضه انهزاما تاما، وألقى البعض الآخر السلاح.
إن هذه الموقعة لتكلف بطرسبرج دموعا من دم! أتراها تنبذ ذهب إنكلترا بسخط شديد؟ وذلك الأمير الفتى، الذي تؤهله فضائله العديدة لأن يكون أبا لشعبه، أتراه ينفض عنه نفوذ حاشيته المأجورة التي تفقده محبة شعبه له وتوقعه في أشد النكبات؟ إن الطبيعة، التي منحته الخصال الشريفة، أعدته ليكون مؤاسيا لأوروبا، ولكن الآراء الجاحدة، التي جعلته حليفا لإنكلترا، ستفسح له في التاريخ مكان الرجال الذين يعملون على تعاسة هذا الجيل. إن كانت فرنسا لا تستطيع أن تبلغ السلام إلا بالشروط التي عرضها دولكوروكي على الإمبراطور والتي عهد بحملها إلى السيد ده نوفوزيلزوف، فلتثق روسيا بأنها لن تنال ذلك وإن كان جيشها معسكرا على مرتفعات مونمارتر.
في الثاني عشر صباحا قدم الأمير جان ده ليكتنستن، قائد الجيش النمسوي، إلى الإمبراطور في معسكره العام وجرت بينهما مقابلة طويلة. على أننا نتابع نجاحنا. لجأ العدو إلى كودنج على طريق أوسترلتز، فلحق به الجيش الفرنسي وأعمل فيه القتل.
لم يسطر التاريخ بعد موقعة أفظع من هذه؛ لا يزال صراخ الألوف من الرجال صاعدا من وسط البحيرات. إن القلب ليتفطر شفقة وحزنا! ألا إن الدم المهروق والآلام الشديدة لتقع على رءوس الجبناء من الإنكليز.»
إن الملكية والأريستوقراطية الأوروبيتين، اللتين أذلتا في شخص إمبراطوري ألمانيا وروسيا، ملكهما الغم الشديد والانكسار الفظيع ساعة تناهى إليهما أن العصبة الجديدة قد صادفت في أوسترلتز الأمة نفسها التي صادفتها في زوريخ ومارنغو. ويظهر أن الحكمة العلياء أرادت أن تدبر تقاربا في العهود فعينت بنفسها، لعيد ذكرى التتويج، أول انتصار جازم للإمبراطور نابوليون، كأنما أرادت بذلك أن تثبت للعالم أن جنود الإمبراطورية إنما هم يكملون بجدارة واستحقاق واجب الجحافل الجمهورية، وأن أبهات الحكم المطلق لم تظمئ عقلية الشعب والجيش أكثر مما أظمأتها روح القائد الكبير، وأن الثورة الفرنسية التي لن تغلب ما زالت تسود في فرنسا. إلا أن هذه النكبة، التي لم تصب إلا روسيا والنمسا ولكنها أثرت في برلين ولوندن تأثيرا شديدا، لم تؤدب محركي الحرب.
بقي ديوان سن جمس مستمرا في خططه العدائية ضد فرنسا بالرغم من انكسار حلفائه انكسارا تاما. ولقد جاءت عاقبة موقعة ترافالغار تمنحه تعويضا عظيما؛ إذ إن المراكب الفرنسية والإسبانية المتحالفة قد أتلفها نلسون على شواطئ إسبانيا الجنوبية، على أنه دفع حياته ثمنا لهذا الفوز الإنكليزي الجازم. تناهى هذا النبأ إلى نابوليون، وهو في وسط انتصاراته السريعة الباخرة على النمسويين والروس، فقال: «لقد صرفت معظم وقتي في البحث عن رجل النوتية من غير أن أوفق إلى وجوده. إن في هذه الحرفة خاصية ووضعية تقفان بي موقف الضائع ... لو اتفق لي أن وجدت ذلك الرجل فأية نتيجة كانت أفلتت منا؟ ولكن ملكي لم يوفر لي رجلا تمكن من ناصية النوتية فخلق فيها شيئا جديدا.»
إن إتلاف الأسطول الفرنسي أحزن الإمبراطور حزنا شديدا؛ إذ إنه أراه السلطان البحري راسخا في يد الإنكليز. ولكن لنعد الآن إلى أوسترلتز. في اليوم التالي لهذه المعركة قدم الأمير جان ده ليكتنستن، قائد الجيش النمسوي في مورافي، إلى معسكر الإمبراطور نابوليون. جاء يتوسل إليه بأن يسمح بمقابلة لسيده، الذي كان بحاجة إلى كرم المنتصر وإنصافه؛ لينقذ تاجه وولاياته من تطبيق حقوق الفتح، فمنحه نابوليون ما أراد، وجرت المقابلة التي رغب فيها الأمير المغلوب، في اليوم نفسه، في مقر البطل المنتصر.
عندما دخل الإمبراطور فرنسوا على نابوليون في كوخه قال له هذا: «إنني أستقبلك في القصر الوحيد الذي أسكنه منذ شهرين.» فأجابه الإمبراطور بتبسمة مغلوبة: «إنك لتستفيد جدا من سكنك هذا، وإنه ليحلو لك.» وما هي إلا بضع ساعات حتى اتفق على هدنة وأجلت شروط الصلح. نزل إمبراطور ألمانيا عند الظروف فأخذ يلطف غضب القاهر على الإنكليز، فقال له بتكلف: «إنهم لتجار، يضعون البر في بركان من النار ليضمنوا لهم تجارة العالم.» ثم تكلم باسم إمبراطور روسيا فقال: «إنه ينفصل عن إنكلترا ويرغب في عقد الصلح على حدة.» ثم استطرد قائلا: «إن فرنسا لمحقة في خصامها مع إنكلترا.» فرنسا محقة! أليس من الغرابة أن يرى الأمراء، الذين هيجوا ضد فرنسا كتائب من الجند لا تحصى، يعترفون بحق أعدائهم ويضعون المسئولية على كاهل حلفائهم؟ أليس من الفظاعة أيضا أن لا يأتي هذا الاعتراف الفجائي إلا بعد عشرين موقعة تدفقت فيها دماء البشر كالسيل الجارف؟
لم يسئ نابوليون التصرف بالتفوق الذي أنالته إياه حوادث الأمس، بل وعد أن يوقف زحف كتائبه ويترك الجيش الروسي في سبيله، بشرط أن يتعهد إسكندر بالعودة إلى ولاياته ويتخلى عن بولونيا النمسوية والروسية، فوعده الإمبراطور فرنسوا بذلك باسم إسكندر وانصرف، يتبعه الأميران ده ليكتنستن وده شوارتزنبرج، فشيعه نابوليون حتى مركبته وعاد ينام في أوسترلتز. قال نابوليون وهو عائد من تشييع الإمبراطور: «لقد أجبرني هذا الرجل على اقتراف هفوة؛ إذ كنت أستطيع أن أتابع انتصاري فأستولي على الجيش الروسي والنمسوي بأجمعه، ولكن لا بأس، فقد وفرت بذلك بعض قطرات من الدموع.»
كان نابوليون قد خاطب جنوده قبل المعركة ليضرم فيهم الحماس ويتنبأ لهم عن النصر، ولم ينس أن يخاطبهم أيضا بعد المعركة ليهنئهم بالبسالة النبيلة التي أظهروها في تحقيق نبوءته، قال: «أيها الجنود، إنني لمسرور بكم! لقد حققتم في يوم أوسترلتز كل ما توقعته من بسالتكم. لقد زينتم نسوركم بمجد خالد ... وإني لأحملكم إلى فرنسا عندما يتم لنا كل ما هو ضروري لسعادة الوطن ونجاحه. أيها الجنود، سيراكم شعبي بفرح عظيم، ويكفيكم أن تقولوا إذ ذاك: كنت في موقعة أوسترلتز؛ ليجيبكم السامع: هو ذا بطل.»
كان الجنرال سافاري، معاون نابوليون، قد رافق إمبراطور ألمانيا ليعلم هل يرضى إسكندر بالعهود التي اتخذت باسمه؟ أما القيصر فبادر إلى تأييد الوعد الذي أعطاه حليفه العظيم، ثم قال للمرسل الفرنسي: «لقد كنتم دوني عددا إلا أنكم فقتموني في جميع خطط القتال.» فأجابه سافاري: «هذا فن الحرب وثمرة خمس عشرة سنة من المجد، هي الموقعة الأربعون التي يشهرها الإمبراطور.» فقال القيصر: «صحيح، إنه لرجل حرب عظيم، أما أنا فهي المرة الأولى التي أرى فيها النار، ثم إني لم أحدث نفسي قط بمضارعته. لقد جئت لنجدة إمبراطور ألمانيا وها أنذا عائد إلى عاصمتي.»
وقعت الهدنة المتفق عليها بين نابوليون وإمبراطور ألمانيا في السادس من شهر كانون الأول، ووقعت بإمضاء المرشال برتيه والأمير ده ليكتنستن. إن توقيف العداوات هذا أتبع بأمرين، قضى الأول بمنح مرتبات تصرف لأرامل الجنود الذين قتلوا في أوسترلتز وأولادهم، وقضى الثاني بتذويب المدافع الروسية والنمسوية التي غنمت في ساحة القتال لينصب بها في ساحة فاندوم عمود نصر تخليدا لمجد الجيش الفرنسي. وأصدر الإمبراطور أمرا ثالثا يقضي، أولا بأن يثقف أولاد القوات والضباط والجنود الذين ماتوا في موقعة أوسترلتز على نفقة الدولة، وثانيا بأن يجمع اسم نابوليون إلى أسمائهم المعطاة لهم عند عمادهم.
نقل المعسكر العام من أوسترلتز إلى برون
3
حيث طلب الإمبراطور الأمير ريبنان، أميرالاي الحرس، وقال له إنه لا يريد أن يحرم إمبراطور روسيا من جنوده البواسل، وإنه يستطيع أن يجمع أسراء الحرس الإمبراطوري الروسي جميعهم ويعود بهم إلى وطنهم.
وفي الثالث عشر من كانون الأول عاد نابوليون إلى شنبرن،
4
حيث استقبل وفد شيوخ صلح باريس وبشرهم بعقد الصلح القريب، وعهد إليهم بأن يحملوا إلى باريس الأعلام التي غنمت في أوسترلتز وخصصت لكنيسة نوتردام. وفي الوقت نفسه كتب إلى الكردينال الأسقفي ليفوض إليه حراسة تلك الوديعة المجيدة، ويذكره بتلاوة الذبيحة الاحتفالية التي تقام كل سنة في كرسي الأسقفية لذكرى البسلاء الذين ماتوا في سبيل الوطن.
بينما كان الإمبراطور يستعرض الجنود في مدة إقامته بشنبرن وصل إلى الكتيبة الرابعة، التي قهرت في أوسترلتز وفقدت نسرها، فصرخ قائلا: «أيها الجنود، ماذا صنعتم بالنسر الذي أنلتكم إياه؟ ألم تقسموا أن تدافعوا عنه بأرواحكم؟ فكيف نكثتم بقسمكم إذن؟» فأجابه الضابط: «إن حامل العلم قتل في المعركة من غير أن يتبينه أحد في وسط الدخان، إلا أن الفرقة قامت بواجبها حق القيام؛ لأنها قهرت كتيبتين من الروسيين وغنمت منهما علمين.» عند هذا تردد نابوليون فترة ثم طلب من الضباط والجنود أن يقسموا أنهم لم ينتبهوا إلى فقدان نسرهم، فأقسم الجميع على ذلك، فقال لهم الإمبراطور مبتسما: «إذن فأنا أرد عليكم نسركم.»
جرت المداولات في سبيل السلام بنشاط كلي، فنجم عنها معاهدة برسبورج التي وقعت في السادس والعشرين من كانون الأول، واتحاد الولايات البندقية بمملكة إيطاليا، ورفع منتخبي البافيير وويرتنبرغ إلى المقام الملوكي، ولقد بشر نابوليون جيشه بهذا الحادث السعيد في نشرة أصدرها في السابع والعشرين منه قال لهم فيها: إنهم بعد أن رأوا إمبراطورهم يقاسمهم الأخطار والمشقات، سيجيئون ليروه محاطا بالعظمة والمجد، اللذين هما ملك شرعي لرأس أول شعب في العالم، وزاد على ذلك بقوله: «إنني لأحيي مهرجانا كبيرا في أوائل أيار، في باريس، وستحضرونه جميعكم، ثم نذهب بعد ذلك إلى حيث تنادينا سعادة الوطن وخيرات المجد. أيها الجنود، إن الفكرة التي تمثلكم متألبين حول قصري، قبل ستة أشهر، تبسم في قلبي وأحس لها حنوا شديدا. سنحيي ذكرى الذين ماتوا في ساحة الشرف، وسيرانا العالم مستعدين لأن نحذو حذوهم ونصنع بعد أكثر مما صنعنا - إذا اضطررنا إلى ذلك - ضد الذين يحاولون النيل من شرفنا، أو الذين يستسلمون للذهب الفاسد الذي يبذله أعداء البر الأبديين.»
هذه اللهجة الفتانة الساحرة الساطية على أرواح الجنود، تلك النداءات الشخصية في مواقف الاستعراض، تلك اللهجة العسكرية الحميمة التي كان نابوليون يحسن معالجتها، هي التي جعلت البعض يقولون عنه إنه إنما كان يسطو بها على الجنود في ساحات القتال، وقد سماها البعض نوعا من الشعوذة. إلا أن الكتبة الذين عزوا إليه ذلك لم يدركوا أن صنعة مثل هذه، إذا انطبقت على الحذاقة التي يبديها رجل كبير ليجعل الأمة أو الجيش جديرا بتوليد أمور عظيمة لا يستفاد منها أن الرجل الكبير ينحط إلى مستوى ما يسمونه مشعوذا، بل إن هذه الشعبذة قد ترتفع إلى مستوى الوطنية والذكاء السياسي، وأحيانا إلى عظمة النبوغ. ألا فليتصفحوا التاريخ يتضح لهم أن جميع المحسنين إلى الإنسانية، جميع المصلحين العظام، إن بوضع الشرائع، وإن بالدين أو بالفتوحات، إنما عالجوا الطريقة نفسها التي عالجها نابوليون في السيادة على الرجال والسير بهم إلى المقدرات العظمى. وإذا كانت الطريقة السامية التي اتخذوها في سبيل سعادة الأمم ومجدها تسمى شعبذة، كما أن نفوذ المرشال دانكر على ماري ده ميديسيس سمي سحرا، فلا ينبغي، في عصرنا هذا، أن تنصب كوم الحطب لمثل هؤلاء المشعبذين، بل الأجدر أن يقال: «المجد لشعبذتهم!»
إن وداع نابوليون لعاصمة النمسا لجدير بأن تحضنه صفحات التاريخ كما حضنت آخر نداء وجهه إلى جيشه، قال: «سكان فيينا، إنني لم أظهر بينكم إلا قليلا، ليس ذلك عن ترفع أو عن كبرياء، ولكني لم أشأ أن أحول فيكم أقل ميل حقيق بأميركم الذي اتفقت معه على عقد صلح جازم. تفضلوا باستلام خزانة السلاح السليمة، التي جعلتها قوانين الحرب ملكا لي، هدية مني تبرهن عن احترامي الشديد لكم، واستخدموها دائما في سبيل المحافظة على النظام، أما الآلام التي كابدتموها فاعزوها إلى نكبات الحرب، وأما الرعاية التي حملها جيشي إلى نواحيكم فأنتم مدينون بها للكرامة التي استحققتموها.»
لم يكد هذا النداء يوقع، ويعلن الصلح لشعب فيينا والجيش الفرنسي، حتى أصدر نابوليون نداء جديدا أشهر فيه للعالم جحود بلاط نابولي الذي جاء يفتح مرافئه للإنكليز مزدريا بمعاهدة عقدت قبل شهرين. إن بعض البوربونيين اتحدوا مع إنكلترا وخانوا فرنسا؛ ما أثار كره الأمة ومقتها وأدى إلى خلع بوربونيي نابولي عن العرش. نعطي أولا النداء الذي وجهه نابوليون إلى الجيش الكبير:
من معسكر شنبرن الإمبراطوري في 26 كانون الأول 1805
أيها الجنود
منذ عامين، عملت كل ما بوسعي لإنقاذ ملك، وعمل كل ما بوسعه لهلاكه.
لم يستطع أن يقاومني إلا مقاومة ضعيفة، بعد معارك ديغو، وموندوفي، ولودي. ولقد وثقت بكلام هذا الأمير وكنت كريما نحوه.
عندما انحلت العصبة الثانية في مارنغو بقي ملك نابولي، الذي كان أول من شهر تلك الحرب الجائرة، وحيدا لا عضد لديه وقد تخلى عنه جميع حلفائه في لونيفل، وتوسل إلي فغفرت له للمرة الثانية.
منذ أشهر قليلة كنتم على أبواب نابولي. وكان لدي إذ ذاك حجج شرعية في الاشتباه بالخيانة والثأر من الإهانة التي لحقت بي. إلا أني صفحت مرة أخرى، واعترفت بتجرد نابولي، وأمرتكم بالجلاء عن هذه المملكة وأنقذ بلاط نابولي للمرة الثالثة!
أنغفر مرة رابعة؟ أنثق مرة رابعة ببلاط لا وفاء له ولا شرف ولا رشد؟ لا، لا! لقد نزع السلطان من سلالة نابولي؛ فإن بقاءه لا يتفق مع راحة أوروبا وشرف تاجي .
أيها الجنود، ازحفوا، وأسقطوا بين الأمواج تلك الكتائب الضعيفة من طغاة البحار! وليشهد العالم كيف نعاقب المزورين الخائنين العهود! لا تبطئوا بإنبائي أن إيطاليا قد أصبحت جميعها راضخة لشرائعي، أو لشرائع حلفائي، وأن أجمل بلاد على الأرض قد حررت من رق الرجال الجاحدين، وأن المعاهدات المقدسة قد انتقم لها، وهدأت أرواح جنودي البسلاء الذين قتلوا خنقا في مرافئ سيسيليا لدى عودتهم من مصر، بعد أن تملصوا من أخطار الغرق، والصحاري، ومائة موقعة!
إن جيش إيطاليا، الذي قادته انتصارات ماسينا إلى حدود النمسا فأصبح الفرقة الثامنة من جيش ألمانيا، حقق بجدارة أمنية نابوليون باستيلائه على مملكة نابولي. أما هذا الفتح السريع فقد أعلن في المذكرة السابعة والثلاثين للجيش الكبير بهذه الكلمات: «مشى الجنرال سن سير إلى نابولي ليعاقب ويسقط عن العرش الملكة المجرمة التي تعدت على كل ما هو مقدس بين الرجال بما أوتيت من قلة الحياء. ولما توسط لها البعض أمام الإمبراطور قال: إن امرأة تحاول إلقاء الأمة في بحر من الدم لا تستحق الصفح ولا الشفقة، لقد نزع السلطان من ملكة نابولي، وحققت تلك الجريمة الأخيرة قدرها. فلتذهب إلى لوندن تضاعف عدد الدسائس وتؤلف جمعية مع دراك، سبنسر، سميث، تايلور، وويكهام، وتستطيع أن تدعو إليها، إذا رأت موافقا، البارون دارمفلد، ده فرزن، دانتريك، والراهب موروس.»
أراد نابوليون، قبل أن يغادر فيينا، أن يتفاهم بوضوح مع مرسل من قبل ملك بروسيا هو السيد ده هو كويز، الذي لم يجئ إلى مسرح الحرب إلا ليرقب حركاتها ويتسنى له أن يسرع بشهر اتحاد سيده مع بلاطي النمسا وروسيا لدى أول انكسار يصدر من الجيش الفرنسي. إلا أن معركة أوسترلتز أجلت هذه الحركة، ولم يبق لدى الوزير البروسي إلا أن يهتم بعقد معاهدة جديدة مع السيد ده تالليران، فلما مثل أمام الإمبراطور قال له هذا بلهجة صارمة مع ترفع عظيم: «أهو تصرف شريف ذلك الذي ينهجه معي سيدك؟ كان أجدر به أن يشهر علي الحرب مباشرة، ولو لم يكن هناك سبب لشهرها ... إنني لأؤثر الأعداء الأحرار على الأصدقاء المراوغين. ما معنى ذلك العمل؟ تقولون: إنكم حلفائي، ثم تعدون في مانوفر فرقة من ثلاثين ألف رجل لتلحقوها بجيش روسيا الكبير. لا أرى مسوغا لهذا التصرف، إن هو إلا مظاهر العداء! إذا كانت سلطتكم عاجزة عن معالجة هذه المسائل كلها فأخلدوا إلى النظام، أما أنا فسأزحف إلى أعدائي حيثما يكونون.» لم يستطع السيد ده هوكويز أن ينكر على نابوليون هذه التوبيخات الشرعية التي تلقاها منه، ولكي ينسي موقفه الملتبس أظهر نفسه مستعدا لأن يداول مع فرنسا على الأسس التي عرضها السيد ده تالليران، فأمضى معاهدة علنية أبدلت فيها الهانوفر ضد زعامة بروت وانساخ، في حين كان السيد ده هردنبرج يداول في برلين مع ديوان لوندن على مرأى من ملك بروسيا نفسه. وسنرى قريبا نتائج هذه المداولة المزدوجة.
بينما كان الإمبراطور عائدا إلى باريس مر بمونيخ حيث بقي بعض أيام ليحضر زفاف الأمير أوجين
5
إلى ابنة ملك البافيير. كتب الإمبراطور، من هذه العاصمة، في السادس من شهر كانون الثاني سنة 1806، إلى مجلس الشيوخ المحافظ ليطلعه على أن معاهدة برسبورج ستخضع له عما قريب. قال: «أردت أن أطلعكم بنفسي على شروط المعاهدة، في جلسة علنية، ولكن زفاف ولدي الأمير أوجين إلى الأميرة أوغستا ابنة ملك البافيير سيؤخرني عن المجيء إلى باريس بضعة أيام، يخيل إلي أن هذه الأيام طويلة على قلبي، ولكني، بعد أن استسلمت طويلا لواجباتي العسكرية، أشعر براحة عذبة في الاهتمام بواجبات رب عائلة. ولكن، لكيلا أؤخر نشر معاهدة الصلح، أصدرت أمري بأن تطلعوا عليها من غير مهلة.»
ثم أرسل الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ كتابا آخر يطلعهم فيه أنه تبنى أوجين، وأعطاه حق الصعود بعده إلى عرش إيطاليا لعدم وجود أبناء شرعيين غيره.
جرى زفاف هذا الأمير الشاب في الخامس عشر من كانون الثاني سنة 1806، في مونيخ. وحضره نابوليون وجوزيفين اللذان ازدانت بوجودهما الأعياد التي أحياها بلاط البافيير بمناسبة هذا الاتحاد. كان أوجين قد رفض بادئ ذي بدء النزول عند رغبة الإمبراطور في تزويجه من تلك الابنة؛ لأنه كان يمقت أن يتزوج زواجا سياسيا ، إلا أنه لم يكد يرى ويختبر الأميرة الشابة التي قدرت له حتى وافق نابوليون على نظرياته.
بينما كان الإمبراطور يمد إقامته بالبافيير، كانت فرق الدولة الكبرى والشعب الباريسي تستعد لاستقبال قاهر أوسترلتز استقبالا فخما.
في الواحد من شهر كانون الثاني سنة 1806 حمل التريبونه إلى لوكسانبرج تتبعه الموسيقى العسكرية وقسم من عساكر محافظة باريس، الأعلام الأربعة والخمسين التي سلمها الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ، وكان المهردار الكبير وجميع الوزراء حاضرين في تلك الجلسة، في ذلك الحين، أصدر مجلس الشيوخ أمرا باسم الشعب الفرنسي يقضي:
أولا:
بتشييد تمثال نصر لنابوليون الكبير.
ثانيا:
بأن يمثل مجلس الشيوخ أمام جلالته الإمبراطورية والملكية ويرفع إليها واجب إعجاب الشعب الفرنسي ومحبته وإخلاصه.
ثالثا:
بأن تحفر رسالة الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ المؤرخة في السادس والعشرين من فنديميير عام 14، والصادرة من ألشنجن على صفائح من الرخام توضع في قاعة جلسات المجلس.
رابعا:
بأن تحفر في ذيل هذه الرسالة الكلمات التالية: «إن الأعلام الأربعين، والأربعة عشر علما التي أضافتها إليها جلالته قد حملها التريبونه إلى مجلس الشيوخ وركزت في هذه القاعة يوم الأربعاء في الواحد من شهر كانون الثاني سنة 1806.»
ولقد نالت كاتدرائية باريس حصتها في توزيع غنائم تلك المعركة الخالدة. علمنا قبلا أن الأعلام التي خصصت لها أرسلت إلى المجلس البلدي في باريس من معسكر شنبرن الإمبراطوري. في التاسع عشر من كانون الثاني قدم إكليروس الأسقفية ليستلمها بأبهة عظيمة على باب كنيسته التي ركزت على قبابها العالية.
الفصل الثاني عشر
في السادس والعشرين من كانون الثاني سنة 1806 دخل نابوليون وجوزيفين إلى باريس، فسبب وجودهما في العاصمة حركة حماس عمومي، وأقيم لهما مهرجان حافل اشترك فيه مجلس الشيوخ والتريبونه في الثامن والعشرين، في التويلري.
وقف فرنسوا ده نوشاتو، رئيس مجلس الشيوخ، وقال للإمبراطور: «مولاي، إن تواضعك ليتكلم ببساطة عن العجائب العديدة التي ولدها نبوغك الذي فاق نبوغ جميع الأبطال الذين تقدموك، فاسمح بأن ننفذ أمر مجلس الشيوخ الذي يمنح منقذ فرنسا لقب «كبير»، وهو لقب عادل فوض إلينا الشعب أن نمنحك إياه، وصوت الشعب هو صوت الله.»
فأجاب الإمبراطور إنه يشكر مجلس الشيوخ على الشعور الأكيد الذي عبر عنه رئيسه، وإنه يضع مجده الوحيد لتأييد مقدرات فرنسا بنوع أن تبقى الأجيال المتأخرة معترفة بالشعب الكبير.
أما هذه الإكرامات الاحتفالية فقد عقبها الشعب بإقامة مهرجانات عديدة على شرف الإمبراطور.
كان نابوليون يرغب رغبة شديدة في أن يجعل حكومات أوروبا جميعها تعترف بلقبه الإمبراطوري الذي منحته إياه الأمة الفرنسية. كان إسكندر قد أغاظ نابوليون إغاظة شديدة لما أرسل إليه كتابا بهذا العنوان البسيط «رئيس الحكومة الفرنسية» كما فعل ملك إنكلترا الذي تكلف أيضا أن لا يكتب إليه إلا على يد كاتم أسرار الدولة. ولكن الإمبراطور لما تناهى إليه أن السلطان سليم الثالث اعترف به علنا إمبراطورا على الفرنسيين، شعر بنوع من التعويض لتلك الإهانة المزدوجة التي ألحقها به إسكندر وجورج الثالث.
إن رغبة نابوليون في أن تعترف به الملوك إمبراطورا ستكون شؤما عليه بدفعها إياه إلى أعمال منافية للسياسة إن بمداولته وإن بإدارته الداخلية. ففي أوسترلتز أظهر كرما حتى التغفل تجاه أعداء أقوياء غير مسالمين، كان بوسعه أن يلاشيهم، ثم عد ذلك هفوة. ولدى عودته من تلك المعركة المشهودة أرجع البانتيون
1
إلى الدين الكاثوليكي وأمر بترميم مدفن سن دنيس الملوكي من غير أن يخشى الإساءة إلى العواطف الفلسفية والديموقراطية في الشعب، تلك العواطف التي هي وحدها سبب قوته وعظمته.
في العشرين من شهر شباط عام 1806 قال السيد ده شانبانيي، وزير الداخلية، للإمبراطور ما يلي: «مولاي، كانت كنيسة القديسة جنفياف، وهي أجمل معبد بين معابد العاصمة، تكلل بنبل عظيم مجموع الروائع التي تزين هذه العاصمة، وتعلن للأجانب من بعيد سلطنة الدين العظمى على هذا الشعب الغفير، تلك السلطنة التي نزعت من أماني التقوى يوم أوشكت أن تعتز بها، وخصصت بعد ذلك لغاية أخرى، ثم غودرت فارغة! إن الشوق المثلج، عندما يزور ذلك المعبد، ليستغرب أن يشاهد رهبة الخرائب في بناية يكاد الباني ينفض منها يده، وإن روح الفن ليأسف أن يرى ذلك المعبد لا وسم له ولا حياة، والدين الذي يرى آماله قد خدعت يحول نظره عن معبد لا يتم جلاله إلا بدين العلي العظيم.
ولقد تعظمت سن دنيس ببناية أخرى، يرجع تاريخها إلى تاريخ نشأة الأمة، قدمها داغوبير
2
إلى نصير فرنسا وشيدها الأب سوجر،
3
وهي تضم في حضنها تاريخ هذه الأمة بأجمعه. هناك ترقد ثلاث سلالات تعاقبت على عرش فرنسا، أما إنه لمشهد يدعو الأمراء والشعوب إلى تأملات عميقة، ويذكر في الوقت نفسه بعظمة الأشياء البشرية وسرعة زوالها، ضريح وقفته القرون والدين، تابوت عظيم ملؤه رماد الملوك، قائم وحده، بعيدا عن ضجيج العاصمة، كأنما هو مشهد حي من مشاهد الهول والاحترام ...
مولاي، إن فكرتك إنما هي وحدها التي أحيت، أو بالأحرى أعادت خلق هاتين البنايتين، وإنها لترجع إليهما جميع عظمتهما الأولى.»
لم يعبر عن العودة إلى الأفكار الدينية والملكية بأبلغ من ذلك. لما أعاد القنصل الأول فتح أبواب المعابد الكاثوليكية في بلاد تعتنق الأكثرية فيها الدين الكاثوليكي إنما كان ينهج نهج رجل الأمة، كان يذعن إلى سلطان الظروف وتطلبات المبادئ. وكانت أماني الشعب، والدين والفلسفة الصرفة مغتبطة جميعها؛ إذ إن ذلك لم يكن سوى التساهل والحرية اللذين لا ينفيان الحماية عندما لا تكون معادية لغيرها من المصالح والمعتقدات. ولكن عندما أقدم الإمبراطور على إرجاع الكنائس المهجورة إلى الإكليروس، ووضع الكاهن الكاثوليكي تحت حماية الشريعة وبيت مال الأمة طرد الفلسفة من هياكلها لينيب عنها الكثلكة. عندما أفسح السبيل لأن تلقى كلمات الاحتقار على الضريح العظيم الذي وقفه الوطن العارف الجميل لعظام رجاله العظماء، وأصغى بانتباه إلى عبارات فخمة عن رماد الملوك في سن دنيس، تلك العبارات التي من شأنها أن تسقط العظمة الفلسفية عن عرشها، وتنفي ذكر الرجال العظماء من أقبية البانتيون، وأن تجعل رماد فولتير وروسو مداسا بأقدام الكهنة، وتضمن للرماد الإمبراطوري حراسة الكهنة في سن دنيس ممتزجا برماد الملوك، لم يكن ذلك مظهرا من مظاهر التساهل والحرية من قبل الإمبراطور، وإنما كان تهجما على المبادئ التي وقفت البانتيون لعظام الرجال العظماء ، كان قضاء على الحاضر ورجوعا إلى الماضي، كان تحريكا لثورة جديدة في قلب الأمة، وسيبرهن المستقبل عن ذلك.
في أواخر شباط افتتحت جلسة الفرقة التشريعية فلم يفكر أحد من نواب فرنسا في أن يعترض على التخلية عن المعبد الوطني للإكليروس الروماني، عند ذلك لم يبق من حق فرنسا أن تعالج ثورتها في أوروبا على المنابر أو في الصحف.
لفظ نابوليون بنفسه خطبة الافتتاح، فاعترف بالكرم الرحب الذي سبق لنا أن لمناه عليه، قال: «إن روسيا لمدانة بعودة بقايا جيشها لشروط التسليم التي منحتها إياها، ولقد أيدت عرش النمسا الإمبراطوري في حين كنت قادرا على قلبه، أترى يعمل سلوك ديوان فيينا على جعل الأجيال المقبلة تلومني على تقصيري في الحكمة والتبصر؟»
ثم شرحت الوزارات موقف الإمبراطورية التي كان فلاحها ينمو من يوم إلى يوم، فالطرق، والترع، والجسور، والبنايات، والتماثيل الفنية كانت جميعها تنتهي أو تبتدئ في جميع جهات تلك الإمبراطورية الرحبة التي كانت تتألف من مائة وعشر مقاطعات عدا هولانده، والولايات البندقية، ومملكة إيطاليا (راجع المقدمة).
قال وزير الداخلية: «كثير من الطرق الجديدة التي رغب الشعب في إيجادها قد نالت التفات الحكومة. فطريق فالونيه إلى الهوك قد أنجزت، وطريق كاين إلى هونفلور على وشك الانتهاء، وطريق أجاكسيو إلى بستيا أنجز نصفها، وطريق ألكسندري إلى سافون قد خططت، وصدر الأمر بإيجاد الطرق بين باريس ومايانس، وبين أكس لاشابيل ومونجوا. وهناك جسور ترمم، في الرين، وكهل، وبريساك، والموز، وجيفه، والشير، وتور، واللوار، ونيفر، وروان، والسون، وأكسون، وغيرها، وسيسخر للمرور تحت الجسور سيلان جارفان هما الدورانس والإيزير.
وهناك أيضا ست ترع كبرى على وشك الإنجاز: ترعة نابوليون الواصلة بين الرين والرون، ترعة بورغونيا، وترعتا بلافه والإيلليرانس، وترعة أرل، وترعة ملتقى بلجكا.
وبعض الترع قد بوشر بها، وهي ترع سن فاليري وبوكير إلى أيك مورت، وسيدان ونيور إلى الروشيل، ونانت إلى برست، وكثير غيرها على وشك المباشرة وهي ترع سنسه، وشارلروي، وإيبر وبربار.
وإذا ألقيتم النظر على مرافئنا ترون أن قد بوشر بجعلها أكثر سهولة وتوطيدا مما هي عليه.»
ثم جاء دور السيد ده شانبانيي فتكلم عن بنايات باريس الكبرى وزخرفتها قال: «لقد دهش نظرك من رؤية العاصمة لدى عودتك إليها أكثر جمالا مما كانت عليه قبل سنة الحرب. فالأرصفة الجديدة قد امتدت إلى شواطئ السين. والجسران اللذان أنجزا في السنين الماضية عقبهما اليوم جسر أكثر أهمية وأوسع نطاقا. ولقد خطط في جواره حي جديد حملت شوارعه أسماء المحاربين الذين ماتوا في ساحات الشرف، وأما الجسر الثالث فقد حمل اسم أوسترلتز.
وهناك على مقربة من شواطئ السين يقوم قوس نصر جعل تمثالا جديدا لذكرى تلك الحوادث التي سيظل تذكارها أبقى من جميع ما يتاح لنا تخليده. ألا فلتثبت هذه الأعمال للأعقاب أننا كنا منصفين كما سيكونون، وأن معرفتنا الجميل قد ضارعت إعجابنا.»
ثم نهض ده فونتان وقال للإمبراطور: «إن السنين التي تعاقبت في عهد ملكك إنما هي أكثر خصابة في الأعمال المجيدة من القرون التي توالت على السلالات الأخرى.»
وفي هذه الجلسة صادقت الفرقة التشريعية على مجموعة القوانين المدنية التي قال عنها وزير الداخلية: «إنها لن تكون عملا كاملا فحسب بل ستكون أفضل من جميع ما تقدمها حتى الآن.»
أما تأسيس الكلية الإمبراطورية فيرجع تاريخه إلى هذا العهد، وأما أسباب هذا التأسيس المهم فقد بينها فور كروي
4
الشهير، الذي كان من حق معارفه ووطنيته أن تحمله إلى شغل المقام الأول فيها، والذي أخطأ نابوليون بأن يؤثر عليه كاهنا من بقايا السياسة القديمة هو السيد ده فونتان.
ونال تنظيم بنك فرنسا التصديق الشرعي لدى موافقة مستشار الدولة رينيول ده سان جان دانجلي.
في الواحد والثلاثين من شهر آذار عام 1806 قدمت نظم إمبراطورية إلى مجلس الشيوخ تقرر مصير أمراء الأسرة الإمبراطورية وأميراتها، وتدعو جوزيف نابوليون بونابرت إلى عرش نابولي، وتمنح مورات، صهر الإمبراطور، سلطة دوقيتي برج وكليف، والأميرة بولين إمارة كاستاللا، وتمنح برتيه إمارة نوشاتيل وغيرهم.
إلا أن إصعاد جوزيف بونابرت إلى عرش نابولي بعد نفي البوربونيين إلى سيسيليا سيحرك الأفكار الفرنسية ويهيئها إلى ثورة جديدة، وسترمي يد خفية بذور الثورات الحرة على أقدام الفيزوف ولا تلبث هذه البذور أن تنمو وتثمر.
وكان لنابوليون شقيق آخر وهو لويس بونابرت فولاه عرشا آخر. طلب نواب الشعب الباتافي من الإمبراطور أن يمنحهم الأمير لويس نابوليون رئيسا مطلقا لجمهوريتهم تحت لقب ملك هولانده، فحقق الإمبراطور أمنيتهم هذه بسهولة. وفي الخامس من حزيران سنة 1806 سمى نابوليون شقيقه ملكا على هولانده في جلسة علنية عقدت في التويلري، وقال له: «احكم أيها الأمير على هذه الشعوب؛ فإن آباءهم لم يجنوا استقلالهم إلا بمعاضدة فرنسا، إذن فقد حق لك عليهم ملوك يحامون عن حريتهم وشرائعهم ودينهم، ولكن ابق دائما فرنسيا.»
هذه الكلمات الأخيرة تلخص سياسة نابوليون في الإغارة على العروش المجاورة. لم تكن غايته عند تتويجه إخوته أن يعطي أسرته مقاما ساميا جديرا بمقامه فحسب، بل كان يود قبل كل شيء أن تصبح الممالك المجاورة المذعنة إلى شرائعه مقاطعات تابعة للإمبراطورية الفرنسية، ولكي تكون ملاءمتها للإمبراطورية أكثر رسوخا وتأييدا وضعها تحت سلطة دمه.
لم يكن الإمبراطور يتقدم من غايته بوضع أقربائه على عروش السلالات القديمة فحسب، بل بإنشاء معاهدات عظيمة ترأسها هو نفسه تحت لقب محام أو وسيط. فإنه، بعد أن رفع منتخبي البافيير وويرتنبرغ إلى مقام الملوك، أراد أن يربطهم ربطا محكما بمقدرات إمبراطوريته على يد اتفاق علني نجمت عنه معاهدة الرين، وكانت نتيجته جعل أجمل نواحي ألمانيا شبه فرنسية.
كانت الحرب يوم ذاك منحصرة بين فرنسا وروسيا وإنكلترا المتحالفتين. وكانت فرنسا قد عقدت اتفاقا مهما مع الباب العالي العثماني بفضل ذكاء سفيرها في القسطنطينية الجنرال سبستياني. ولقد منح نابوليون مقابلة أولى لمحيي الدين أفندي، سفير الباب العالي، في اليوم نفسه الذي جرى فيه استقبال نواب هولانده في التويلري، وصدور الأمر بتهيئة إمارتي بنيفان وبونت كورفو تحت رعاية تالليران وبرنادوت.
إلا أن العداء، وإن كان لم يزل مستحكما بين الحكومة الفرنسية وديواني لوندن وبطرسبورج؛ فإنه لم يكن مجردا من الميل إلى السلام. كان موت بيت الذي طرأ في كانون الثاني سنة 1806 قد أدخل فوكس
5
إلى الوزارة، فهذه المناسبة كانت كافية وحدها لأن تجعل بعض الانقلاب في السياسة الإنكليزية لجهة فرنسا.
كان فوكس ونابوليون يحترمان بعضهما بعضا؛ ففي حين كان فوكس يشغل مركز وزير عهد إليه بأن يشترك في التعدي على حياة الإمبراطور، إلا أنه أسرع بإيقاف تلك الجناية على حدها، وكتب إلى وزارة العلاقات الخارجية في باريس يطلعها على ذلك، ويحرص نابوليون على تجنب ذلك الخطر واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
إن وجود وزير كهذا كاف لأن يجعل العداء القديم بين فرنسا وإنكلترا أقل خطرا مما هو عليه، وأن يفسح سبيلا للسلام. إلا أن الثورة الفرنسية لم تكن بعد قد زارت إلا عاصمة واحدة من عواصم أوروبا الكبرى. في الخامس عشر من أيلول سنة 1809 مات فوكس، في حين كانت المداولات جارية بين فرنسا وإنكلترا، عند هذا قدر لطيف بيت أن يمكن الإصرار الحربي في المجالس البريطانية.
الفصل الثالث عشر
كان وزير روسيا قد أمضى معاهدة سلم في باريس، في العشرين من شهر تموز سنة 1809 تحت نفوذ الوزارة الإنكليزية، التي كانت يوم ذاك ترمي إلى غاية سلمية. إلا أن موت فوكس أرجع لذلك النفوذ خلقه العدائي، فرفض إسكندر أن يصادق على عمل سفيره، وارتبط مع الديوان الإنكليزي الجديد وبلاط برلين لإضرام الحرب في البر. وكان إمبراطور روسيا وملك بروسيا وزوجته قد أمضوا قبل سنة معاهدة بوتسدام المشهورة، وأقسموا بضريح فريدريك الكبير أن يجمعوا كل جهودهم ضد فرنسا.
لما تناهت إلى نابوليون استعدادات ممالك الشمال أعلنها إلى خلفائه في معاهدة الرين. وفي الواحد والعشرين من شهر أيلول سنة 1806 كتب إلى ملك البافيير ليطلعه على تجهيز بروسيا للحرب ويطلب النصيب الموعود به في اتفاقية 12 تموز، وبعد مرور ثلاثة أيام غادر سن كلود وزحف إلى ألمانيا تصحبه جوزيفين. وفي الثامن والعشرين منه وصل إلى مايانس حيث افترق عن الإمبراطورة. وفي الثلاثين منه استلم عهد منتخب ورتزبورج بالانضمام إلى معاهدة الرين، وعبر هذا النهر في الواحد من شهر تشرين الأول. وفي السادس منه كان معسكره في ينبرج، فأصدر منه نداء إلى جيشه يطلعه فيه على موقف العدو، قال: «أيها الجنود، إن صراخ الحرب قد سمع من برلين، وها قد مضى شهران ونحن نتلقى كل يوم خبرا جديدا.
منذ أربع عشرة سنة قادت الأحزاب الشرسة البروسيين إلى وسط سهول شمبانية حيث لقوا الانكسار والموت والعار ...
فلنزحف إذن ... وليلق الجيش البروسي ما لقيه منذ أربع عشرة سنة، وليعلم أنه إن كان من السهل اكتساب العظمة والقوة مع محبة الشعب الكبير فإن بغضه الذي لا يهيج إلا بمثله إنما هو أشد هولا من عواصف البحار!»
إن من السهل أن يلاحظ أن الإمبراطور إنما هو أكثر حماسا عندما يخرج السنن الثورية من قبرها منه عندما يستدعي الذكريات الدينية والملكية من ظلمات القديسة جنفياف وسن دنيس.
على أن نابوليون دخل في الموقعة وسينقض على أعدائه من غير أن يعلم «فيم يقاتل وماذا يريدون منه.» في السابع من شهر تشرين الأول كتب من ينبرج إلى مجلس الشيوخ المحافظ يقول: «إننا نعتمد على معاضدة الشرائع والشعوب التي تدعوها الظروف إلى اختيارات جديدة عن غيرتها وشجاعتها في حرب عادلة لا نتقلد فيها السلاح إلا للدفاع عن حياضنا.»
لقد بينا نحن الحقيقة الصريحة بمناسبة الحروب السابقة، ولقد تراءى لنا أن نابوليون، منذ وضع التاج الإمبراطوري على رأسه، إنما خشي أن يعترف بأن الملوك سيشهرون عليه فيما بعد حرب مبادئ.
أرسل تالليران من مايانس إلى نابوليون، في اليوم نفسه الذي أرسل فيه هذا كتابه إلى مجلس الشيوخ، ساعيا يحمل إليه كتابا من ملك بروسيا، ضمنه هذا الأمير جميع الشكاوى العمومية التي ما فتئ أعداء الثورة منذ خمسة عشر عاما يحدثونها - تحت أشكال مختلفة - ضد فرنسا. لم يستطع الإمبراطور أن يكمل قراءة الكتاب المتضمن عشرين صفحة والتفت إلى الأشخاص المتألبين حوله وقال لهم: «إنني أشفق على أخي ملك بروسيا؛ فإنه لا يفقه الفرنسية، وإخاله لم يقرأ هذه القطعة الركيكة.» وبما أن كتاب الملك كان مصحوبا بحاشية السيد ده كنوبلسدروف المشهورة، التفت الإمبراطور إلى برتيه واستطرد قائلا: «مرشال، إنهم يضربون لنا ميعاد شرف في الثامن من هذا الشهر، وإن الفرنسيين لا يتخلفون عن ميعاد، ولكن بما أنهم يقولون إن هناك ملكة جميلة ترغب في مشاهدة القتال فلنكن لطفاء متأدبين، ولنزحف إلى سكس من غير أن ننام.»
كان نابوليون يشير إلى ملكة بروسيا التي كانت في الجيش مرتدية لباس خيالة وحاملة على كتفيها شارة فرقتها الرسمية، والتي كانت كل يوم تكتب عشرين كتابا - كما جاء في المذكرة الأولى - لتهيج الحريق في جميع الجهات.
بر الإمبراطور بكلامه، ففي الثامن من تشرين الأول الساعة الثالثة صباحا ترك بنبرج فعبر غاب فرانكوني، وفي التاسع منه حضر بدء المعركة في شليز. استولى المرشال برنادوت على هذه القرية بعد أن قاتل عشرة آلاف من البروسيين الذين أسر القسم الأكبر منهم.
وفي العاشر منه، حصلت موقعة أخرى في سآلفد، كان الفوز فيها حليف الجناح الأيسر من الجيش الفرنسي الذي يقوده المرشال لان. كانت نتيجة هذه الموقعة تشتت صفوف الأمير هوهنلوه، التي يقودها الأمير لويس ده بروس، الذي بقي في ساحة القتال. كان هذا الأمير مكتسبا محبة الجيش، وكان يرغب رغبة شديدة في أن يعيد إليه مجده القديم إلا أن جرأته لم تلبث أن أودت بحياته؛ فإنه شهر القتال على قوات أكثر عددا من فرقته لكيلا يترك بين يدي عدوه المركز الذي عهد به إليه، وبعد مقاومة شديدة تشتتت فرقته، فشرع يعالج جمع الهاربين ليعاود القتال وما هي إلا طرفة عين حتى أدركه قائد من قواد الهوسار، يدعى كنده، وأمره بأن يسلم سيفه فأبى الأمير ووقف موقف الدفاع، عند هذا عالجه القائد بطعنة قتالة نفذت من ظهره إلى بطنه.
في الثاني عشر منه كان الجيش الفرنسي على أبواب لبزيك ومعسكر الإمبراطور في جيرا. إلا أن نابوليون، الذي كان يعمل على أن يبعد عنه مسئولية الحرب ويثبت لفرنسا وأوروبا أنه لم يفتأ يعمل على حفظ السلام، كتب من جيرا جوابا على رسالة ملك بروسيا لم يلبث أن شاع في أوروبا. نأخذ منه هذه المقاطع المهمة: «أخي، تلقيت في السابع من هذا الشهر كتاب جلالتك المؤرخ في الخامس والعشرين من شهر أيلول. لا يمكن جلالتك أن تتصور الأسف الذي استولى علي ساعة قرأت توقيعها لتلك الرسالة القادحة. أما إني لا أجيب عليها إلا لأؤكد لها أنني لم أعز إليها ما جاء فيها: إن جميع ما تضمنته إنما هو معاكس لسجية جلالتك وشرفها، ثم إنني أشفق على كاتبي مثل تلك الرسالة وأعف عنهم. ولقد استلمت عقيب هذه حاشية وزيرك التي ضربت لها ميعادا في الثامن منه، ولم أجد بدا من البر بكلامي؛ شيم الفوارس تقتضي ذلك، وها أنذا في وسط السكس، ولدي قوى تضمن لي النصر الأكيد. ولكن، فيم هرق الدم؟ ولأي قصد؟ إنني أخاطب جلالتك بمثل ما خاطبت الإمبراطور إسكندر قبل معركة أوسترلتز ... فيم نترك السبيل لإفناء شعبنا؟ إنني لن أقدر قدر النصر الذي يشترى بحياة أولادي. إن جلالتك لسوف تغلب، يا صاحب الجلالة، سوف تنزل النكبات على راحتها وشعبها، من غير أن يكون لها طيف حجة في ذلك. إن جلالتك اليوم لسليمة، إذن فهي تستطيع أن تتداول معي بشكل موافق لمقامها؛ ولكن مداولتها بعد شهر ستكون غيرها اليوم ... إنني قد أثير في رسالتي هذه نوعا من التأثر السلطاني، إلا أن الظروف لا تتطلب مراعاة قط. ألا فلتأمر جلالتك الأردياء والمتغفلين الذين يحيطون بها أن يصمتوا أو يخلدوا إلى السكينة أمام مشهد عرشها، ولتعمل على راحتها وراحة ولاياتها ...»
لم يخطئ الإمبراطور بقوله إن رسالته قد تثير في ملك بروسيا التأثر السلطاني، ولقد قرأ في صفحات المستقبل تلك الحقيقة التي جعلته يعلن إلى هذا الأمير «أن جلالته ستغلب». بعد مرور يومين تلاشى الجيش البروسي في ساحات يينا، وفي الخامس عشر من شهر تشرين الأول كانت مذكرة الجيش الكبير الخامسة، التي كتبت في ساحة القتال، تتضمن تفاصيل تلك المعركة الدموية الهائلة!
معركة يينا
إن معركة يينا قد غسلت عار روسباك ووضعت حدا، في سبعة أيام، لحملة سكنت تسكينا تاما ذلك الجنون الحربي الذي استولى على عقول البروسيين.
أراد ملك بروسيا أن يشرع بالقتال في التاسع من شهر تشرين الأول بالزحف إلى فرانكفور بميمنته، وإلى ورتزبورج بوسطه، وبميسرته إلى بنبرج، وكانت جميع فرق جيشه مهيأة لتنفيذ هذه الخطة، إلا أن الجيش الفرنسي، الذي انحرف إلى طرف ميسرته، وجد نفسه بعد أيام قلائل في سآلبورج، ولوبنسثن، وشليز، وجيرا، ونومبورج. أما الجيش البروسي فقد صرف أيام التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر من الشهر في جمع فرقه كلها، وفي الثالث عشر برز للقتال بين كابلسدورف وأورستيد يدعمه مائة وخمسون ألفا من الرجال.
وفي الساعة الثانية بعد ظهر هذا النهار وصل الإمبراطور إلى يينا، فأبصر من على مرتفع تشغله الصفوف الأولى من الجيش، استعدادات العدو الذي كان يتدرب للمصادمة في الغد واغتصاب منافذ السآل
1
العديدة. كان العدو يحاصر طريق يينا إلى ويمار، معتقدا أن الفرنسيين لا يستطيعون الولوج إلى السهل إلا باغتصاب هذا الممر.
استلم المرشال دافو أمرا بالولوج من نومبورج ليحاصر معابر كسن فيما إذا أراد العدو أن يزحف إلى نومبورج، أو بالانحدار إلى أبولدا ليأخذه من ورائه، فيما إذا بقي في المركز الذي هو فيه.
وأمرت فرقة المرشال أمير بونت-كورفر (لقب منحه نابوليون للمرشال برنادوت) بالولوج من دورنبورج لتهوي إلى العدو من ورائه. أما فرقة الخيالة الضخمة، التي لم تكن بعد قد لحقت بالجيش، فلم تتمكن من اللحاق به إلا قبيل الظهر، وأما خيالة الحرس الإمبراطوري فقد كانت على مسافة ست وثلاثين ساعة بالرغم من السير الشاق الذي قامت به منذ سفرها من باريس.
نظم الإمبراطور على المرتفع الذي تشغله الصفوف الأولى فرقة المرشال لان جميعها وجعل كل قسم منها جناحا، وهيأ المرشال لوفيفر على قمة المرتفع الحرس الإمبراطوري كتائب مربعة، وأقام الإمبراطور بين بسلائه. كان الليل يعرض مشهدا حريا بالنظر هو مشهد الجيشين؛ كان أحدهما يبسط جبهته على مسافة ثلاثة فراسخ ويحرق الفضاء بنيرانه، وكان الآخر يرسل نيرانه الجسيمة من على نقطة صغيرة. أما نيران الجيشين فقد كانت على قيد نصف رمية مدفع، وكان الخفراء يوشكون أن يلاصقوا بعضهم بعضا من غير أن يأتي أحدهم بحركة تسمع.
صرفت فرقتا المرشالين ناي وسول الليل في السير، وفي مطلع النهار تقلد الجيش سلاحه. كانت كتيبة كازان مصطفة على خطوط ثلاثة إلى يسار المرتفع، وكانت كتيبة سوشة تؤلف الميمنة في حين كان الحرس الإمبراطوري يشغل قمة المرتفع. أما الكتائب التي لم يتح لها الإقامة على المرتفع، فقد فتح لها معابر من المدينة والأودية المجاورة تمهد لها الولوج بسهولة.
كان ضباب كثيف يظلم النهار، مر الإمبراطور أمام خطوط كثيرة، وأشار إلى الجنود بأن يتخذوا الاحتياطات ضد مفاجأة الخيالة البروسية، ثم ألقى على مسامعهم كلمات ملؤها الحماس انتفض لها الجند فصرخوا جميعهم: «إلى الأمام.»! وما هي إلا هنيهة حتى طرد العدو من مركزه وولج الجيش الفرنسي إلى السهل، عند هذا شرع يتلقى نظامه للقتال.
أما من جهة جيش العدو فإنه تقلد السلاح، وكان قد عزم ألا يهاجم قبل تبدد الضباب، في تلك الساعة كمنت فرقة من خمسين ألف رجل من الميسرة لتملأ مضايق نومبورج وتستولي على معابر كسن، إلا أن المرشال دافو كان قد سبقها إلى ذلك. ووثبت الفرقتان الأخريان المؤلفتان من ثمانين ألف رجل أمام الجيش الفرنسي الذي كان يعبر من مرتفع يينا. بقي الضباب يحجب الجيشين مدة ساعتين، حتى إذا ما انجلى عن شمس الخريف الجميلة، أبصر الجيشان كل منهما الآخر على قيد رمية مدفع. كانت ميسرة الجيش الفرنسي تحت قيادة المرشال أوجرو، وكان الحرس الإمبراطوري يفصلها عن الوسط الذي يشغله المرشال لان. أما الميمنة فكانت مؤلفة من فرقة المرشال سول، ولم يكن لدى المرشال ناي إلا فرقة بسيطة مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل، وهي الكتائب الوحيدة التي وصلت إليه من فرقة جيشه.
كان الجيش العدو كثير العدد، وكان الإمبراطور قد رغب في تأخير القتال ساعتين حتى تصل إليه الكتائب المنتظرة ولا سيما الخيالة، إلا أن الحمية الفرنسية لم تترك له سبيلا للانتظار. في تلك الآونة تلقى المرشال لان أمرا بالزحف إلى قرية هوللستيد ليعضد فيها الكتائب التي كان العدو قد وثب إليها، وفي الوقت نفسه عهد إلى المرشال أوجرو برد العدو الذي كانت ميمنته قد عالجت حركة على ميسرتنا. وما هي إلا نصف ساعة، أو أقل، حتى أصبح القتال عموميا. يا له مشهدا لم تذكر التواريخ مثيلا له إلا في الندر! كان مائتان وخمسون ألفا أو ثلاثمائة ألف من الرجال مع سبع أو ثمانمائة مدفع يزرعون الموت في جميع الجهات!
وهذه هي نتائج المعركة: ثلاثون إلى أربعين ألفا من الأسراء، خمسة وعشرون إلى ثلاثين علما، ثلاث مائة مدفع، وكثير من مخازن المئونة، يوجد بين الأسراء أكثر من عشرين قائدا بينهم القائد شمتو، أما عدد الموتى في الجيش البروسي فكثير لا يحصى، ويقدرون أن هناك أكثر من عشرين ألفا بين قتيل وجريح. لقد جرح الفلدمرشال موللاندورف، وقتل الدوق ده برونسويك، والجنرال بلوشير، أما جرح هنري ده بروس فخطر جدا.
لقد خسر الجيش البروسي، في هذه المعركة، كل ما كان لديه، واضطر الملك على الانسحاب مع كتيبة خيالته. تقدر خسائرنا بألف ومائتي قتيل وثلاثة آلاف جريح، أما القواد فلم يصب أحد منهم بأذى إلا المرشال لان فإنه أصيب برصاصة لامست صدره من غير أن تجرحه، وإلا المرشال دافو الذي أطارت رصاصة قبعته عن رأسه وخرق ثوبه بالرصاص. كان بين الأسراء ستة آلاف سكسوني وأكثر من ثلاثمائة ضابط. أما نابوليون، الذي عرف أن يفصل الأمة السكسونية عن الشعب البروسي ويوفر له حليفا في الأيلب ضد بلاط برلين، فإنه أشار بأن يمثل هؤلاء الأسراء أمامه ووعدهم بأن يطلق سراحهم إذا هم عاهدوه على أن لا يخدموا بعد ضد فرنسا. قال: «إن مكان السكسونيين إنما كان موسوما في معاهدة الرين. لقد كانت فرنسا المحامية الطبيعية عن السكس ضد عسف بروسيا وجورها. كان من الضروري أن يوضع حد لذلك العسف والجور؛ إذ إن البر إنما كان بحاجة إلى الراحة ولو لم توجد تلك الراحة لكلفت ضرورة إيجادها إسقاط بعض العروش.»
ففهم السكسونيون معنى هذه اللهجة فأعطوا الضمان الذي طلب منهم، وعادوا إلى بيوتهم مع نداء وجهه الإمبراطور إلى مواطنيهم.
استولى الفرنسيون على أرفورث بعد معركة يينا وألقوا القبض فيها على أمير دورانج والفل مرشال موللاندورف. وفي اليوم نفسه، أي في السادس عشر من الشهر، طلب ملك بروسيا هدنة فلم يشأ نابوليون أن يمنحه إياها. على أن الجنرال كلكروث، الذي ضيق عليه المرشال سول، والذي خشي أن يؤخذ مع فرقته المؤلفة من عشرة آلاف رجل كان بينهم الملك البروسي نفسه، ترجى هدنة كان الإمبراطور على وشك أن يمنحه إياها. أما المرشال سول فلم يشأ أن يصدق ذلك وقال: إن نابوليون لن يرتكب هفوة مثل هذه. عند هذا اتجه الجنرال البروسي إلى المعسكر الفرنسي ليتفاوض هو والمرشال ويتوسل إلى كرم المنتصر، بل إلى شفقته ورحمته، فأجابه المحارب الفرنسي: «حضرة الجنرال، إنكم تنهجون معنا هذا النهج منذ زمن طويل، عندما ترون نفوسكم مقهورين تلجئون إلى رحابة صدرنا حتى إذا ما مضت مدة قصيرة تتناسون الجميل الذي لنا عليكم. منح الإمبراطور، بعد معركة أوسترلتز هدنة للجيش الروسي، وهذه الهدنة أنقذت الجيش. فتأمل اليوم الطريقة الجاحدة التي يتخذها الروسيون ... ألقوا السلاح أولا، ثم انتظر أوامر الإمبراطور لأرى رأيه.»
فانسحب القائد البروسي خجلا، وفي الثاني والعشرين من الشهر وصل المرشال سول إلى أسوار مكدبورج بعد أن طارد العدو مطاردة نشيطة.
بينما كان سول يطارد العدو في جهة مكدبورج، ويحمله من الخسائر ما لا يحصره العدد، كان برنادوت ينجز في هال على الجيش الاحتياطي البروسي الذي يقوده أحد أمراء ورتنبرج. وعقيب هذا النصر عبر الإمبراطور ساحة حرب روسباك وأصدر أمره بنقل العمود الذي رفع هناك إلى باريس.
كانت موقعة هال قد حدثت في السابع عشر، في الثامن عشر استولى المرشال دافو على لبزيك، وفي الواحد والعشرين سدت طريق مكدبورج في وجه البروسيين على يد فرقتي سول ومورات فتشتتت بقايا جيشهم تشتتا فظيعا. عند هذا خف عدو فرنسا القديم، برونسويك الهائل صاحب مشروع سنة 1792 القاضي بإضرام النار؛ ليضع ولاياته تحت حماية الإمبراطور. يا لانقلاب القدر! إن هذا الجنرال العظيم الذي مثل الأريستوقراطية الأوروبية القائمة ضد فرنسا لم يجد بدا من السجود على ركبتيه أمام ذلك الشعب الذي هدده قبل أربع عشرة سنة بكل ما في الوحشية من الفظاعة والظلم! إنه لقد خشي على قصوره وعلى مسكنه الشخصي من النار والحديد اللذين كثيرا ما هدد بهما عاصمة فرنسا. إنه لموقف جميل ذلك الذي وقفته الثورة المنتصرة! لقد جرت إليها الحكمة العلياء أشد عدو من أعدائها ساجدا متوسلا! ألا إن الثورة لتحسن معاقبة الصلف، وإثبات تفوقها بما تأتيه من ضروب التساهل والسماح؛ إذ إنها تعمل بيد بونابرت وتتكلم بلسانه، قال الإمبراطور لرسول الدوق: «ما كان يقول أميرك لو هدمت مدينة برنسويك غير تارك فيها حجرا على حجر؟ ألم تسمح لي شريعة الثأر بأن أنهج مع برونسويك، ما كان يرغب في أن ينهجه معي؟ إن تعمد هدم مدن لمن الحماقة بمكان، ولكن تعمد نزع الشرف من جيش يضم خيرة الرجال البسلاء إنما هو عار لا تتحمله الأجيال. كان على الدوق ده برونسويك أن لا يقدم على إهانة كهذه؛ لأن من يشيب رأسه تحت السلاح يجب عليه أن يحترم الشرف العسكري، ثم إن هذا الجنرال لم يستطع أن يكتسب حق إهانة الأعلام الفرنسية في سهول شامبانية. إن إتلاف مآوي المواطنين الهادئين إنما هو جريمة يكفر عنها بالوقت والمال، ولكن هتك حرمة جيش عظيم، ومحاولة طرده من ألمانيا أمام النسر البروسي، إنما هو عار فظيع لا يرتكبه إلا ذلك الذي حرض على ارتكابه.»
في الرابع والعشرين منه وصل الإمبراطور إلى بوتسدام. في مساء اليوم نفسه طاف في قصر سان سوسي، فاتضح له أن موقعه إنما هو في أبعد ما يكون من الجمال، فبقي هناك مدة من الوقت كأنه قد استسلم لتأملات عميقة في غرفة فريدريك الكبير الذي كان أثاثها لا يزال كما كان ساعة موته. وفي اليوم التالي، زار ضريح فريدريك الكبير، بعد أن استعرض الحرس الإمبراطوري الذي يقوده المرشال لوفيفر.
جاء في المذكرة الثامنة عشرة ما يلي: «إن بقايا هذا الرجل العظيم موضوعة في تابوت من الخشب مبطن بالنحاس لا زينة عليه ولا شعار ، ولا أقل أثر يشير إلى الأعمال المجيدة التي قام بها ذلك الرجل الكبير.
لقد أهدى الإمبراطور إلى قصر الأنفليد في باريس حسام فريدريك، وشريطة نسره الأسود، ومنطقته، والأعلام التي كان يحملها حرسه في حرب السنوات السبع. إن كسحاء الجيش الهانوفري القدماء سيتقبلون بعاطفة دينية كل ما كان يملكه أحد القواد الأولين الذي سجل التاريخ ذكره بشرف ومجد.»
في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول عام 1806 دخل نابوليون إلى برلين من باب شرلوتنبرج الجميل يواكبه المرشالية برتيه ودافو وأوجرو ودوروك وكولنكور، ويحف به الحرس والقناصة على الجياد، وتتقدمه فرقة نانسوتي والمرشال لوفيفر على رأس المشاة. أما شعب برلين فقد خف إلى ملاقاة المنتصر بأبهة وعظمة. ولقد قدمت المدينة إلى الإمبراطور مفاتيح هذه العاصمة على يد الجنرال هرللن.
كان أول ما اهتم به الإمبراطور تشكيل مجلس بلدي مؤلف من ستين عضوا عهد انتخابهم إلى ألفين من أغنياء البلد.
مثل وفد البلد ثانية أمام الإمبراطور وعلى رأسه الأمير ده هتزفلد الذي قبل حاكمية برلين المدنية باسم الفرنسيين، والذي لم يفتأ يراسل ملك بروسيا ليوقفه على حركات الجيش الفرنسي المنتصر. قال نابوليون لهذا الأمير: «لا تمثل أمامي فلست بحاجة إلى خدمك، وارجع حالا إلى أراضيك.» وبعد مدة قصيرة أوقف الأمير هتزفلد وسلم إلى مجلس عسكري. فلما بلغ زوجته ما كان من أمره، أسقطت في يدها واستسلمت لليأس، إلا أن دوروك شجعها على أن تمثل أمام الإمبراطور وتتوسل إليه، فاتجهت إلى القصر وترامت على قدمي الإمبراطور وتوسلت إليه أن يعفو عن زوجها الذي كانت تظن أن سبب إيقافه إنما هو ناجم عن علاقته مع الوزير شولنبرج أحد مسببي الحرب، ولكن نابوليون أكد لها أن الأمير هتزفلد كان يراسل ملك بروسيا ويخون الفرنسيين، فصرخت المرأة معترضة على ذلك وأكدت له أن زوجها بريء من هذه التهمة الفظيعة، فقال لها الإمبراطور: «إنك تعرفين خط زوجك، إذن فسأريك رسائله.» وأمر بإحضار إحدى تلك الرسائل المضبوطة وألقاها بين يديها، كانت المرأة حاملا، فلما رأت خط زوجها أغمي عليها من شدة الحزن ثم استفاقت تجهش بالبكاء والنحيب، فأشفق نابوليون أمام هذا المشهد الأليم فقال لها: «إن الرسالة في يدك فألقيها في النار تنقذي زوجك من العقاب.» وكان المشهد جاريا بالقرب من مستوقد، فأسرعت الأميرة هتزفلد لإنقاذ زوجها بإلقاء الرسالة في اللهيب، وما هي إلا فترة حتى استلم المرشال برتيه أمرا بإخلاء سبيل الأمير هتزفلد.
كان الإمبراطور قد أساء إلى ملكية بروسيا في إحدى مذكراته التي جاء فيها: «إن البروسيين يعزون مصائب بروسيا إلى سفر الإمبراطور إسكندر، وإن الانقلاب الفجائي الذي طرأ منذ ذلك الحين على عقل الملكة فاستحالت من امرأة وديعة إلى شرسة حربية قد أصبح ثورة فجائية. لقد أرادت أن يكون لها كتيبة فتتجه إلى المجلس، ولقد أجادت قيادة المملكة بإيصالها إلى حافة الهوة بأيام قلائل.»
فلما قرأت الإمبراطورة جوزيفين هذه الفقرة التي حمل بها الإمبراطور على ملكة شابة جميلة لم تجد بدا من الاستياء، فأرسلت إلى زوجها كتابا توبخه فيه على تصرفه هذا، وتظهر له خطأه في التحامل دائما على النساء، فأجابها نابوليون: «أخذت كتابك الذي تظهرين لي فيه استياءك من الكلام السيئ الذي أقوله في النساء اللواتي يحركن الدسائس فوق كل شيء. لقد تعودت أن أحب الطيبات القلوب اللواتي يحببن الوفاق والسلام. وسترين أنني كنت سهلا مع إحداهن، وهي امرأة طيبة حساسة تدعى الأميرة هتزفلد، فعندما أريتها كتاب زوجها قالت لي وهي تبكي: إن هذا خط يده. ولقد نفذ كلامها العذب إلى أعماق قلبي فأشفقت، وقلت لها: ألقي الرسالة في النار فأصبح عاجزا عن معاقبة زوجك. فأحرقتها ودلائل السعادة تبدو على محياها. ولو تأخرت ساعتين عن المثول أمامي لفقدت زوجها لا محالة. أرأيت أنني أحب النساء الطيبات الأخلاق السليمات الطوية؟ ولكن ليس ذلك إلا لأنهن يشبهنك يا عزيزتي جوزيفين.»
ثاني يوم دخول الإمبراطور إلى برلين أعطى مقابلة لوزراء البافيير وإسبانيا والبورتغال والباب العالي. وفي اليوم نفسه استقبل الإكليروس البروتستنتي، وأرباب المجالس، وتحدث إلى كثير من الحكام عن جملة نقاط من التنظيم القضائي.
أصدر نابوليون في مدة إقامته ببرلين المرسوم الشهير الذي أنشأ المحاصرة البرية وحرم على شعوب الإمبراطورية الفرنسية وحلفائها أية تجارة أو علاقة مع الجزائر البريطانية. فهذا العمل، الذي استهجنه البعض وعزوه إلى عماوة الحقد، إنما كان ناجما عن الديوان الإنكليزي الذي أصر على تهييج السلطات البرية ضد فرنسا، كان نتيجة تلك الدسائس المتوالية، والمؤامرات، وضروب العداء التي حاربت بها الأريستوقراطية الإنكليزية الديموقراطية الفرنسية منذ 1792، كان جواب الثورة المنتصرة للغضب الملكي، الذي ما زالت تتلقاه من يوم مدرجها يوم كانوا يحاولون نفيها من أوروبا زاعمين أنها أوجدت «فراغا» بما أن بورك وبيت اللذين أرادا أن ينحيا فرنسا في وسط العالم الراقي، لا يزالان يسودان، بأصدقائهما وأتباعهما، في مجالس لوندن ويسودان الفكرة نفسها في تلك المجالس، فلم لا يحق لفرنسا أن تنحي إنكلترا في وسط البحار؟ كان من حق المحاصرة التي هددوا بها الروح الثورية مدة خمس عشرة سنة أن تقفل السبيل على الثورة الرجعية في وسط المحيط.
بينما كان نابوليون يهتم في برلين بالقبض على مسببي الحرب، ويستعد لوضع إنكلترا خارج الحق العام ومعاقبتها على خرقها حقوق البشر، كان قواده يطاردون الأعداء فلا يدعون لهم سبيلا للراحة، وينجزون على بقايا الجيش البروسي. منذ الثامن والعشرين من شهر تشرين الأول استولى مورات على برنتزلوو، وأرغم الأمير هوهنلوه على التسليم مع فرقة جيشه. وفي اليوم التالي استولى الجنرال لاسال على قلعة ستيتين، في حين كان الجنرال ميلهو ينزع سلاح كتيبة مؤلفة من ستة آلاف رجل. في الثاني من شهر تشرين الثاني سلمت كوسترن للمرشال دافو. في ذلك الحين كان مورتيه يستولي على ولايتي هس وهمبورج. أما شعار الأمير دورنج والدوق فقد نزع في فلد وبرنسويك. جاء في المذكرة الرابعة والعشرين ما يلي: «إن هذين الأميرين لن يحكما بعد، فهما العاملان الأولان في تلك العصبة الجديدة.»
كان فوز باهر ينتظر الفرنسيين تحت أسوار لوبك وفي شوارعها، ففي السادس من تشرين الثاني التقى مورات وسول وبرنادوت، بما أتوه من ضروب الحذاقة في التدربات، أمام هذا المكان الذي قاد إليه بلوخر أواخر آمال الملك البروسي. صدر الأمر بالهجوم، ودخل برنادوت إلى المدينة من باب ترافا في حين دخلها سول من باب موللن.
أما المقاومة فقد كانت شديدة جدا، ولقد جرى القتال في الشوارع أيضا، ولكن في السابع من الشهر صباحا مثل بلوخر والأمير ده برنسويك أولس أمام المنتصرين، وهما على رأس عشرة قواد بروسيين، وخمس مائة وثمانية عشر ضابطا، وأكثر من عشرين ألف رجل، وطلبا التسليم، ثم عبرا حالا أمام الجيش الفرنسي.
في الثامن منه فتحت مكدبورج أبوابها، فوجد فيها الفرنسيون ثماني مائة مدفع وعساكر محافظة ينيفون عن ستة عشر ألفا. وكان الإمبراطور قد قاد فرقة من الجيش نحو الفيستول لمطاردة ملك بروسيا الذي هرب مع العشرة الآلاف التي بقيت لديه.
في العاشر منه دخل المرشال دافو إلى بوزن حيث استقبله الأهلون بهتاف شديد؛ لأنهم إنما هم بولونيون أكثر مما هم بروسيون. وفي السادس عشر كانت المذكرة الثانية والثلاثون تعلن ما يأتي: «إنه بعد الاستيلاء على مكدبورج ولوبك وضعت الحملة على البروسيين أوزارها. وفي هذا اليوم نفسه وقع الأمر بتعطيل السلاح في شراوتنبورج.» إذ ذاك اهتم الإمبراطور بالمرسوم الذي سبق لنا أن تكلمنا عنه، القاضي بمحاصرة الجزائر البريطانية.
عندما ضربت بروسيا الضربة القاضية نزعت منها السلطة السياسية، إلا أن إنكلترا التي دفعت بروسيا إلى الحرب بقيت سليمة ثابتة، فأراد نابوليون أن يتمكن منها فينحيها عن أوروبا التي ما زالت تسلب منها أموالها وتستأجرها تارة بعد أخرى باحتكارها التجاري ودسائسها المتوالية في المداولات. إن الطريقة التي اتخذها نابوليون لتجرح مبادئ الرقي الجديد؛ إنه عرف ذلك واعترف به، ولكنه يستمد بها الشريعة وحق المبادلة.
عندما طلب الإمبراطور من مجلس الشيوخ تجنيد فرق جديدة أطلعه على هذه الخطة الكبيرة، قال: «إن إنصافنا الزائد، بعد كل حرب من الحروب الثلاثة الأولى، إنما كان سببا لتلك التي عقبتها. هكذا قدر لنا أن نقاتل تلك العصبة الرابعة، بعد تسعة أشهر من انحلال العصبة الثالثة، بعد تسعة أشهر مرت على تلك الانتصارات الباهرة التي منحتنا إياها الحكمة العلياء التي من حقها أن تمنح البر راحة طويلة ...
لقد أخذنا على أنفسنا، في هذا الموقف، كمبادئ ثابتة ألا نخلي برلين وفرسوفي، ولا المقاطعات التي ولتنا إياها القوى العسكرية، قبل أن يعقد السلام العام، وتعاد المستعمرات الإسبانية، والهولندية والفرنسية، وتثبت أسس السلطنة العثمانية واستقلالها المطلق.
لقد وضعنا الجزائر البريطانية في موقف حصار، وهيأنا ضدها تدابير منافية لنا؛ ولكننا اضطررنا إلى ذلك أسوة بحلفائنا ...
إننا لفي وقت من تلك الأوقات التي لها أهميتها بمستقبل الأمم، وإن الشعب الفرنسي سيكون أهلا لمستقبله المنتظر. إن المرسوم الذي صدر أمرنا برفعه إليكم، والذي سيضع تحت تصرفكم، في أوائل السنة، تجنيد عام 1807 الذي سيشرع به في أول أيلول، إن هذا المرسوم سينفذه الآباء والأبناء. ويا له يوما جميلا ساعة تنادي الفرنسيين الأحداث إلى الانضمام تحت السلاح! إنهم سيقدر لهم أن يجتازوا عواصم أعدائنا وساحات القتال التي شرفتها انتصارات إخوانهم الأبكار.»
في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني غادر نابوليون برلين، فوصل إلى بوزن في الثامن والعشرين منه. كانت رداءة الطقس، والمشقات، والحرمان، قد أضعفت حمية الجنود، إلا أن المواقع العديدة والانتصارات كانت ألقت بأعداء فرنسا بعيدا عن الفيستول. أما مجلس الشيوخ، الذي كان من عادته أن يؤثر المراعاة على التشبث بالإصرار، فقد أرسل إلى الإمبراطور كتابا يظهر له فيه هذه الفكرة، ولكن مجلس الشيوخ والجيش والشعب إنما هم أعجز من أن يفقهوا خطورة المواقف، وعناد أوروبا القديمة، وضرورة الخطة التي اضطر نابوليون إلى اتخاذها ليجعل أعداء فرنسا الفتاة عاجزين عن تأليف أحزاب جديدة ضدها. كانت أمنية الجميع متجهة نحو السلام، وكان الإمبراطور يدرك ذلك، إلا أنه إنما كان يدرك أكثر من غيره أن الحرب أصلح من سواها للوصول إلى السلام الحقيقي؛ فلذلك ترك العمل لذكائه العظيم، وزحف إلى بولونيا ليسحق الروسيين فيها، بدل أن يدع لهم السبيل للوصول إلى بروسيا حيث يلمون شعث حلفائهم المقهورين ويجددون آمالهم.
إذا رغب الجيش في الوقوف ساعة فكر قاهر المواقع العديدة في ضرورة السير إلى الأمام، أيتنازل النبوغ فجأة ليذعن إلى من يقوده؟ لا، بل بالعكس؛ فإن ذلك لفرصة جديدة يظهر فيها تفوقه العظيم الذي لا يقف عند حد. وإذا كان في الكتائب من يشعر بحاجة إلى الراحة؛ فإنه ليستطيع أن يجدد نشاطه بكلمة تخرج من فيه، ويجعله تواقا إلى إعادة لعبة الحرب الهائلة ضد أعداء الاسم الفرنسي. وهذا هو النداء الذي أرسله نابوليون إلى جيشه من معسكره العام في بوزن:
عن المعسكر العام في بوزن، 2 كانون الأول
أيها الجنود، في مثل هذه الساعة من السنة الماضية، كنتم في ساحة حرب أوسترلتز، وكانت الكتائب الروسية المقهورة تهرب من وجهكم أو تلقي سلاحها بين يدي قاهرها. وفي اليوم التالي كانت كلمات السلام تتصاعد إلى آذاننا متوسلة، ولكنها كانت كلمات خداعة؛ إذ إن الكتائب الروسية لم تكد تسلم من نكبات العصبة الثالثة بما نالته من ضروب السماح والكرم، حتى دبرت عصبة رابعة، إلا أن أماكنها الحصينة، وعواصمها، ومخازنها، ودور أسلحتها، وأعلامها المائتين والثمانين، وقطعها الحربية السبعمائة، وساحاتها الخمس أصبحت كلها في قبضتنا. إن الأودر، والوارثا، وصحاري بولونيا، ورداءة الفصل لم تتمكن من إيقافكم فترة واحدة، لقد خرقتم كل حاجز، وظفرتم بكل شيء، وكل هرب من وجهكم! ولقد حاول الروسيون عبثا المدافعة عن عاصمة بولونيا القديمة. إن النسر الفرنسي يحلق فوق الفيستول.
أيها الجنود، إننا لن نلقي السلاح ما لم يوطد السلام العام سلطة حلفائنا، ويرد على تجارتنا أمانها ومستعمراتها. لقد فتحنا الأيلب والأودر، بونديشيري، وبناياتنا في الهند، ورأس الرجاء الصالح، والمستعمرات الإسبانية؛ فمن يمنح الروسيين حق هز أرجوحة الأقدار؟ من يمنحهم حق إسقاط طويات عادلة كهذه الطويات؟ ألسنا، نحن وهم، جنود أوسترلتز؟
كان لهذا النداء تأثير عظيم، ليس في جيش الفيستول فحسب، بل في ألمانيا كلها.
قبل أن يشرع الإمبراطور في إعداد الحملة، أراد أن ينشئ تمثالا لذكرى عجائب الحربين الأخريين، فأضاف على نداء 3 كانون الأول مرسوما جاء فيه ما يلي:
البند الأول:
ينشأ في مكان المادلين، في مدينتنا الجميلة باريس، على نفقة الخزينة وتاجنا، تمثال يرفع للجيش الكبير، ويحمل على مقدمه هذه الكلمات: من الإمبراطور نابوليون إلى جنود الجيش الكبير.
البند الثاني:
يدون في داخل التمثال، على صفائح من البلاط، أسماء جميع الرجال الذين حضروا مواقع أولم، وأوسترلتز، ويينا، وعلى صفائح من الذهب الصلب أسماء جميع الذين قدمتهم كل مقاطعة للجيش الكبير.
البند الثالث:
يحفر على جدران قاعة التمثال نقوش تمثل قواد كل كتيبة من كتائب الجيش الكبير مع أسمائهم.
بقي الإمبراطور في يوزن حتى السادس عشر من شهر كانون الأول، فاستقبل هناك وفد فرسوفي المؤلف من أذين ليثواني الكبير، وغوتا كوسكي، وأعضاء الأشراف البولونيين.
إلا أن الجيش الفرنسي بقي سائرا إلى الأمام. فبعد أن قاتل الروسيين في لوييز، واستولى على فرسوفي، وقدر له تسليم تورغو عبر الفيستول في السادس منه إلى تورن، حيث وجد المرشال ناي بعض البروسيين فشتت شملهم من غير عناء. وما هي إلا أيام قلائل حتى كان الجيش جميعه على شاطئ الفيستول الأيمن. في الحادي عشر من الشهر قاتل المرشال دافو فرقة من الروسيين بعد أن عبر البوك. وعقدت في ذلك اليوم معاهدة صلح مع السكس التي دخل منتخبها في معاهدة الرين ونال لقب ملك.
في الثامن عشر منه دخل الإمبراطور إلى فرسوفي حيث ألح عليه في ترميم مملكة بولونيا. إلا أنه خشي أن يتقيد بوعده، فلم يعط إلا أجوبة تركت مطلق الحرية للمستقبل. قال لراب: «إني أحب البولونيين؛ لأن حميتهم تروقني جدا، وإني لأرغب في أن أجعلهم شعبا مستقلا، إلا أن هناك مصاعب كثيرة. لقد اشترك أناس كثيرون في اقتسام هذه القطعة من الحلوى: النمسا، وروسيا، وبروسيا، ولا يعلم أحد أين يقف الحريق إذا اشتعلت الفتيلة. إن واجبي الأول إنما هو فائدة فرنسا، ولا يصح أن أضحي بها لبولونيا؛ إذ إن هذا ليؤدي بنا إلى حيث لا تحمد العقبى، ثم إننا يجب علينا أن نستسلم للسلطان الأعظم: الوقت؛ فإنه يهدينا إلى السبيل القويم.»
في أثناء ذلك كان الجنرال كامنسكي يزحف بسرعة إلى ملاقاة الكتائب الفرنسية، وقد أغضبه تقهقر القواد الروسيين. ولقد جمع إليه بنينكسون وبوكسهودن فخيل إليه أن النصر محقق فلم يتردد أن أحيا حفلة كبرى في قصر سييروك أتيح للفرنسيين أن يبصروا أنوارها من أعالي أبراج فرسوفي.
ترك الإمبراطور عاصمة بولونيا القديمة في الثالث والعشرين من كانون الأول وألقى على البوك جسرا استوفى بناؤه ساعتين من الزمن، ثم أمر بهجوم فرقة دافو على الروسيين الذين كسروا في كزارنوفر، في موقعة طالت حتى بقيت قسما من الليل. وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل تشتت العدو تشتتا تاما، بعد أن استولى الجنرال بتي على المتاريس في ضوء القمر.
لم يكن انكسار كامنسكي هذا إلا طليعة انكسارات جديدة عالجها في 24، 25، 26 من الشهر، في ناسييلسك، وكوروسومب، ولوبا كزين، وكوليمن، ويولتوسك، وخسر فيها ثمانين مدفعا، وألفا ومائتي مركبة، ومن عشرة آلاف رجل إلى اثني عشر ألفا. هكذا تحققت الآمال التي أعلن عنها الجنرال الروسي بالاحتفال الباهر الذي أحياه في قصر سييروك.
في الخامس من كانون الثاني عام 1807 سلمت بريسلاو، التي أحرق المحاصرون ضواحيها وذهب كثير من الأولاد والنساء طعاما للنار فيها. أما جيروم نابوليون فإنه أبلى بلاء حسنا في تلك الموقعة الرهيبة بإنقاذ بعض ضحايا الحريق. لقد آثر الفرنسيون أن يرفضوا الحقوق الفظيعة التي خولتهم إياها شرائع الحرب على أن يخرقوا الشرائع الإنسانية؛ فإنهم استقبلوا الهاربين برحابة وكرم بدل أن يدفعوهم إلى المكان المحاصر الذي التهمته النار. كان الإمبراطور قد عاد إلى فرسوفي في الثامن من كانون الثاني فاستقبل فيها سلطات المدينة، والوزراء الأجانب، ووفدا من مملكة إيطاليا. ولكي يهيج حماسة كتائب معاهدة الرين كافأ الفرقة الورتنبرجوازية، التي استولت على الكلوكو، بإرساله إلى ملك ورتنبرج قسما من الأعلام التي غنمت في ذلك المكان، وعشرة أوسمة من جوقة شرف لتوزع على أبسل جنود تلك الفرقة.
بقي العداء موقفا مدة عشرين يوما، ولكن في الخامس والعشرين من كانون الثاني عاد إلى ما كان عليه؛ فإن برنادوت قاتل الكونتين باهللن وكالليتزن في موهر ونجن وشتت شملهما بعد أن أسر منهما ثلاثمائة رجل وجرح ألفا ومائتين.
في أثناء ذلك تناهى إلى الإمبراطور أن حوادث كبرى قد جرت في القسطنطينية، وأن الروسيين واليونان طردوا منها، ووضعت جائزة لكل من يجيء برأس إبزيلاني، وأن السلطان قد شهر الحرب على روسيا. رأى نابوليون في استعداد الباب العالي ليس نجاح مداولته فحسب بل تأثير الانتصارات السريعة التي نالها على سلطات الشمال، ولقد نجحت أيضا جهوده مع العجم التي دفعها لتسبب عراقيل جديدة لروسيا على حدودها الآسيوية.
إن هذا الأمر المزدوج أدب الفخر والغبطة في قلب نابوليون فأشعر مجلس الشيوخ بأهميته، وأصر على ضرورة صيانة استقلال السلطنة العثمانية كحاجز طبيعي في وجه هجمات السلطة الروسية.
استلم الإمبراطور في مدة إقامته بفرسوفي عرض الحال الآتي:
يا صاحب الجلالة
إن ورقة عمادي يرجع عهدها إلى عام 1690؛ إذن فعمري اليوم مائة وسبع عشرة سنة. إني لا أزال أذكر موقعة فيينا وعهد جان سوبييسكي.
كنت أعتقد أنه لن يتاح لي أن أشاهد عصر الإسكندر.
إن شيخوختي أورثتني عناية جميع الملوك الذين كانوا هنا، وإني لقد جئت أتوسل إلى عناية نابوليون الكبير.
احي يا صاحب الجلالة أكثر مما حييت، إن مجدك ليس بحاجة إلى ذلك، ولكن سعادة الجنس البشري تتطلبه.
ناروكي
فأسرع الإمبراطور إلى تحقيق رجاء هذا الشيخ، الذي رفع إليه هذا العرض الحال بيده، بأن منحه معاشا سنويا قدره مائة ليرة ذهبية وأسلفه معاش سنة.
إن حوادث القسطنطينية أسخطت الإمبراطور إسكندر من غير أن توحي إليه الرغبة في إيقاف العداء على الفيستول وإرسال قواته نحو الدانوب، بل إنه اغتنم فرصة وصول المدد الذي طلبه من مولدافي حتى يطرد الفرنسيين من معسكرهم الشتوي ويستعيد القتال بأسرع ما يكون. أما نابوليون فلما شعر باستعداد القيصر فرح فرحا شديدا، وأمر برنادوت بأن يمهد له السبيل ويزحف إلى الجيش الروسي لكي يجتذبه إلى الجهة السفلى من الفيستول، ثم غادر فرسوفي وعقب إلى مورافي فيللنبرج في الواحد والثلاثين من شهر كانون الثاني مساء.
في اليوم التالي زحف الجيش الفرنسي إلى ملاقاة الروسيين، فلما أدركهم في بسنهم تقهقروا بسرعة ليتخذوا لهم مركزا في سوكتدورف. أما نابوليون، الذي تراءى له أنهم قد عولوا على أن يستحكموا في ذلك المركز، فإنه مهد له مكانا بين الباسارج والأل مع حرسه، والخيالة، والفرقتين الثالثة والسابعة، وعهد إلى المرشال سول بأن يستولي على جسر برغفرييد لكي يتجاوز ميسرة العدو. فلما أدرك بنينكسون أهمية هذا المركز عهد بحراسة جسر برغفرييد إلى اثنتي عشرة كتيبة من أبسل كتائبه. إلا أن شجاعة العدو لم تلبث أن سقطت أمام الشجاعة الفرنسية؛ إذ استولي على الجسر بعد معركة هائلة ترك فيها الروسيون، عدا عن أربعة مدافع، عددا كبيرا من القتلى والجرحى في ساحة القتال.
كان نابوليون قد نظم حركات جميع فرق جيشه بشكل أن يضرب بها الضربة القاضية، إلا أن الصدقة قلبت قسما من خططه؛ فإن الضابط الذي عهد إليه بحمل أوامره إلى برنادوت سقط بين يدي العدو. فاغتنم بنينسكون هذه الفرصة ليتجنب الأحبولة التي نصبها له نبوغ قائد الجيش الفرنسي واختباره الناضج.
إن معركة برغفرييد التي حصلت في الثالث من شهر شباط إنما كانت، مع معارك واتردورف ودييبن وهوف وبروسيك أيلو التي حصلت في الرابع والخامس والسادس من شباط، فاتحة يوم من أفظع ما سطر التاريخ العسكري من الأيام الدامية. في السادس من الشهر استولي على كنيسة أيلو ومدفنها بعد معركة دامية كابد فيها الطرفان أهوالا شديدة. وفي السابع منه، عند الصباح، بدأ بنينكسون بالقتال بأن صوب مدافعه على مدينة أيلو
2
وأطلق منها قنابل عديدة، عند هذا حمي وطيس المعركة، وأتيح للمدفعية الفرنسية بادئ ذي بدء أن تسبب أضرارا عظيمة للعدو الذي قاتله دافو من ورائه في حين كان أوجرو يوشك أن ينقض على وسطه لو لم تهطل ثلوج كثيفة فتفرق الجيشين في الظلمة وتنقذ الروسيين من ضربة قاضية.
تاه أوجرو بين ميمنة العدو ووسطه فأصبح بحاجة إلى سرعة إدراك الإمبراطور وحمية مورات في التنفيذ لينجو من ذلك الموقف الخطر.
لنرجع إلى الخيالة الفرنسية؛ فإنها تمكنت بمعاضدة الحرس من الانقضاض على العدو على حين غفلة، فكان كل من أراد أن يعترضها في سبيلها تصيبه ضربة قاضية، حتى قدر لها أن تخترق الجيش الروسي مرات عديدة معملة فيه الموت والإرهاب. في أثناء ذلك كان المرشالان دافو وناي يقتربان، أحدهما من وراء العدو، والآخر من ميسرته. أما بنينكسون، فلما رأى أخريات جيشه معرضة للخطر، أراد أن يسترجع قرية شناديتن في الساعة الثامنة مساء ليمكن فيها استحكامه، إلا أن الرماحة الروسية، التي عهد إليها بهذه المخاطرة، لم تلبث أن كسرت شر كسرة وتفرقت شر تفريق، ولما كان غد انسحب الروسيون بعيدا عن بريجيل
3
تاركين ستة عشر مدفعا وجرحاهم في ساحة القتال.
كانت المذبحة هائلة رهيبة في يوم أيلو. جاء في المذكرة الثامنة والخمسين أن خسارة الفرنسيين قد بلغت ألفا وتسعمائة قتيل وخمسة آلاف وسبعمائة جريح، وبلغت خسارة الروسيين سبعة آلاف قتيل، إلا أن بعض المؤرخين يؤكدون أن هذا الإحصاء خطأ؛ إذ إن قتلى الفرنسيين بلغوا ثلاثة آلاف وبلغ جرحاهم خمسة عشر ألفا. وأما الروسيون فقد قتل منهم ستة آلاف وجرح عشرون ألفا. ولكن، كيف كان الأمر، فإن المعركة إنما كانت رهيبة هائلة لأن الإمبراطور كان في الرسائل الثلاثة التي كتبها إلى جوزيفين يتذكر دائما تلك المعركة بأسف شديد. قال: «حدثت أمس معركة كبرى كان النصر لي فيها إلا أني خسرت عددا كبيرا من الناس. إن خسارة العدو، وإن كانت أعظم من خسارتي، إلا أنها لم تعزني ...»
وجاء في رسالته الثانية: «هذه البلاد ملأى موتى وجرحى ... إن النفس لتنقبض لدى رؤية هؤلاء الضحايا ...»
تعود أعداء فرنسا، عندما يرون أنفسهم لم يقهروا بسهولة، أن يعتبروا نفوسهم قاهرين؛ فمن الطبيعي إذن، بعد أن حملوا الفرنسيين في موقعة أيلو مثل ما تحملوا هم من الخسائر، أن لا يقفوا عن القتال ويسلموا لشروط الصلح. لم تمر ثمانية أيام من غير أن يحدث نزيف دم جديد؛ ففي السادس عشر من شهر شباط انحدر القائد أسن إلى أوسترولنكا على رأس خمسة وعشرين ألف رجل وقاتل الفرقة الخامسة من الجيش الفرنسي التي يقودها الجنرال سافاري بمعاضدة القواد أودينو، وسوشه، وغازان . ولقد قتل في تلك المعركة ابن سوارو الشهير وقيض النصر للفرنسيين فيها. وفي اليوم نفسه نشر الإمبراطور نداء من أيلو جاء في آخره: «إننا، بعد أن أتلفنا جميع مقاصد العدو، سنقترب من الفيستول وندخل إلى معسكراتنا، فمن يجرؤ على إقلاق راحتنا يندم؛ فسنكون كما كنا في مقربة من الفيستول والدانوب، وسط برد الشتاء وأوائل الخريف، الجنود الفرنسيين، وجنود الجيش الكبير.»
كان نابوليون يعتني كثيرا بتكريم البسلاء، فأمر بأن تذوب المدافع التي غنمت في موقعة أيلو ويشيد بها تمثال للجنرال هوتبول، قائد الفرقة المدرعة الذي مات متأثرا من جراح أصيب بها في تلك المعركة الهائلة. ولقد أثنى على الجنرال سافاري لما أتاه من ضروب البسالة في أوسترولنكا
4
وقربه إليه، أما قيادة الفرقة الخامسة فقد عهد بها إلى مسينا.
بعد أن شهرت مواقع عديدة لم ينجم عنها نتائج تذكر كمواقع بترولد، ولينيو، وهلم جرا استقر معسكر الإمبراطور في فنكستن في الخامس والعشرين من شهر نيسان. إلا أن الجيش الفرنسي لم يلبث أن رقت حاشية حاله بعد تلك المواقع العديدة التي قاساها، فاضطر نابوليون إلى رديف جديد لأن السلطات العدوة إنما كانت تصر على استمرار الحرب، ولم يكن من حق المنتصر أن يتخلى بجبن عن ثمرة تلك المواقع العديدة التي قدر له الفوز فيها ويضع حدا للحرب بأن يضحي بجميع مصالحه ومجده.
كان نابوليون يستشعر الصفح والحلم في جميع أعماله؛ فإنه بعد أن غرس علمه المنتصر في برلين وفرسوفي قال لمجلس الشيوخ في رسالة 20 آذار 1807 المؤرخة من أوسترود ما يلي: «إننا مستعدون أن ننهي مع روسيا بحسب الشروط نفسها التي أمضاها مداولها، والتي حاولت دسائس إنكلترا ونفوذها أن تزجيها. إننا مستعدون أن نرجع الطمأنينة والسلام إلى تلك الملايين الثمانية التي قهرتها جنودنا، وأن نعيد إلى ملك بروسيا عاصمته. ولكن إذا كانت جميع أدلة التساهل هذه التي كررت مرارا عديدة لا تستطيع شيئا ضد غرور إنكلترا، وإذا لم تستطع هذه الأمة أن تجد السلام إلا في إذلال فرنسا؛ فإننا إنما نحن مستعدون أن نلقي العار واللوم على هذه الأمة التي تغذي جشعها بالدماء .»
كان الإمبراطور يعتقد أن مطاليبه الهادئة لن تقبل ما لم يجرد البروسيين من وسيلتهم الأخيرة وهي دانتزيك،
5
وينتصر على الروسيين انتصارا جازما كانتصار يينا. هذه الفكرة المزدوجة كانت توقظ انتباهه دائما.
بينما كانت آخر نجدة من نجدات المملكة البروسيانية تتلاشى في دانتريك، كانت المفاوضات في شأن السلام تدور بين الروسيين والفرنسيين، إلا أن الوزارة الإنكليزية «الديوان الإنكليزي» كانت ترغب في إطالة الحرب؛ إذ إن التعب والخسائر التي يقاسيها حلفاؤها لم تكن لتهمها بشرط أن يقيض لها إهلاك فرنسا وملاشاتها، وكان الإمبراطور إسكندر لا يزال سهل الانقياد للإنكليز؛ إذ إنه لم يكن نكب بكسرة من تلك الكسرات التي تعود نابوليون أن يوقف بها الحرب عند حد، ففي الخامس من شهر حزيران بدأ الجيش الروسي بالقتال وحمي عقيب ذلك وطيس العداء!
كان جسر سباندين غاية الروسيين من هجومهم الأول، فحاولت اثنتا عشرة كتيبة أن تستولي عليه، إلا أنها أرجعت عنه سبع مرات إرجاعا مقهورا، وانتهى بها الأمر إلى الانكسار، ثم عقب ذلك موقعة أخرى على جسر لوميتن كان حظها مثل حظ الأولى وقتل فيها القائد الروسي. وفي اليوم التالي حصلت موقعة هائلة في ديبن خسر فيها الروسيون ألفي قتيل وثلاثة آلاف جريح. أما انتصار الفرنسيين فقد عزي في نشرة علنية، إلى حنكة المرشال ناي ونبوغ قائد الفرقة مرشان، وفي الرابع عشر من حزيران التقى الجيشان في فرييدلان في الساعة الثالثة من الصباح ودوت أفواه المدافع. قال نابوليون: «إنه ليوم سعيد فهو تذكار مارنغو.»
بدأ المرشالان لان ومورتيه بإطلاق النار تدعمهما جنود غروشي ونانسوتي. وفي الساعة الخامسة من المساء عزم نابوليون أن يستولي بسرعة على مدينة فرييدلان، وما هي إلا نصف ساعة حتى هجم المرشال ناي، وهجم في الوقت نفسه الجنرال مرشان شاهرا حسامه ومتجها نحو حرس المدينة، وأقبل القائد ديبون بفرقته وجرت موقعة هائلة كان النصر فيها للفرنسيين الذين استولوا على فرييدلان بعد أن قتلوا من الروسيين خمسة عشر ألفا وجرحوا خمسة آلاف بينهم ثلاثون قائدا. كتب نابوليون إلى جوزيفين يقول لها : «لقد احتفل أولادي بذكرى موقعة مارنغو احتفالا باهرا، فستكون موقعة فرييدلان خالدة في سماء التاريخ، كما هي موقعة مارنغو؛ إذ إنها أخت جديرة بمارنغو وأوسترلتز ويينا.»
لم يكد نبأ هذا الانتصار يصل إلى كنيكسبرج حتى خف الروسيون والبروسيون بإخلاء المكان، وفي السادس عشر من شهر حزيران دخله المرشال سول فوجد فيه أشياء لا تحصى من المئونة، ومائة وستين ألف بندقية جاءت مؤخرا من إنكلترا، وعشرين ألف جريح. وفي التاسع عشر منه أخذ الإمبراطور أركان جيشه إلى تلسيت.
في الواحد والعشرين من حزيران عقد القيصر وملك بروسيا هدنة مع الإمبراطور نابوليون الذي وجه في اليوم التالي النداء الآتي إلى جيشه:
أيها الجنود
لقد وصلنا من شواطئ الفيستول إلى مياه نييمن بسرعة النسر، ولقد احتفلتم بذكرى موقعة مارنغو التي وضعت حدا لحرب العصبة الثانية، كما احتفلتم بذكرى التتويج في أوسترلتز.
أيها الفرنسيون، لقد كنتم جديرين بكم وبي، إذن فستدخلون إلى فرنسا رافعي الجبين بعد أن نلتم سلاما مجيدا يحمل معه ضمان بقائه.
أما أسس هذا السلام فقد وضعها الأمراء الثلاثة في مقابلة جرت بينهم على شاطئ النييمن.
في الخامس والعشرين من شهر حزيران، الساعة الواحدة بعد الظهر، اتجه نابوليون يصحبه مورات وبرتيه وديروك وكولنكور على مركب إلى وسط هذا النهر حيث نصبت بضع سرادق لاستقبال الإمبراطورين وملك بروسيا، وفي الوقت نفسه كان إسكندر متجها من الشاطئ الآخر يصحبه الغرندوق قسطنطين والجنرال بنينكسون والجنرال أوفاروف والأمير لابانوف والكونت ده لييفن.
وصل المركبان في وقت واحد، فلما وضع إسكندر ونابوليون قدماهما على أدراج السرادق أسرعا بإعطاء الجيشين المعسكرين على شاطئ النهر إشارة الصلح بأن ترامى كل منهما بين ذراعي الآخر، ثم صرفا بضع ساعات منفردين حتى إذا ما انتهت المقابلة عاد كل منهما إلى معسكره.
وفي اليوم التالي جرت مقابلة أخرى في سرادق نييمن حضرها ملك بروسيا، وبقي الأمراء الثلاثة بضعة أيام يتناوبون الاحتفالات حتى خيل أن الصداقة الحرة قد حلت محل العداوة، التي كثيرا ما كانت سببا لهرق الدماء، ولقد شرب نابوليون في إحدى الولائم نخب ملكة بروسيا التي تناولها مرارا عديدة بكلام سيئ في مذكراته.
وصلت هذه الأميرة إلى تلسيت في السادس من شهر تموز، وفي الساعة الثانية بعد ظهر هذا النهار زارها نابوليون فألحت عليه بأن يجعل شروط الصلح خفيفة الوطأة على تاجها، إلا أن جميع ميزات الإغراء التي وهبتها إياها الطبيعة والثقافة لم تستطع أن تغير شيئا من العزم الذي اتخذ قبل مجيئها، ففي الثامن من الشهر وقعت معاهدة الصلح واعترف لفرنسا فيها بممالك السكس، وهولانده، ووستفالي، ودوقية فرسوفي الكبرى التي دخلت في معاهدة الرين التي سمي نابوليون «صائنا» لها على يد سلطات الشمال الكبرى، والتي وضعت هذه المعاهدة خصيصى ضدها.
قبل أن يغادر نابوليون تلسيت أحضر إليه أبسل جندي في الحرس الإمبراطوري الروسي، ومنحه النسر الذهبي من وسام جوقة الشرف عربون احترامه لهذه الفرقة.
في التاسع من شهر تموز، الساعة الحادية عشرة صباحا، زار نابوليون إمبراطور روسيا الذي كان على رأس حرسه وواضعا وسام جوقة الشرف الأكبر. بعد أن صرف الاثنان ثلاث ساعات معا ركبا جوادين وسارا على شواطئ النييمن، حيث أبحر الإسكندر، وبعد وقت قصير زار ملك بروسيا إمبراطور الفرنسيين فرد له هذا الزيارة ثم ذهب إلى كنيكسبرج.
الفصل الرابع عشر
لم يقف نابوليون طويلا في عاصمة بروسيا القديمة، بل غادرها في الثالث عشر من تموز ووصل إلى دريسد في السابع عشر منه، يرافقه ملك السكس، الذي أقبل إلى ملاقاته في بوتزن التي هي على حدود ولاياته. وفي السابع والعشرين كان نابوليون قد عاد إلى سن كلود فخف مجلس الشيوخ، والفرقة التشريعية، والتريبونه، وأعضاء محكمة التمييز، والإكليروس، والمجلس البلدي، وجميع السلطات المدنية والعسكرية يضعون تهانئهم على قدمي الأمير المنتصر.
أراد الإمبراطور أن يفتح عهد عودته بوعود ومكافآت، فمنح لقب عضو في مجلس الشيوخ كلا من القائدين كلن وبومون، والعالمين كوره وفابر، وأسقف تورين وأحد شيوخ صلح باريس السيد ديبون، أما أمير بنيفان، تلليران فقد سمي «نائب منتخب كبير» ومنح أمير نوشاتيل، برتيه لقب «كونيتابل صغير».
في الخامس عشر من شهر آب، وهو يوم عيد نابوليون، اتجه الإمبراطور باحتفال كبير إلى كاتدرائية نوتردام حيث تليت الذبيحة إكراما لصلح تلسيت.
ولقد أقبل وفد من مملكة إيطاليا يجمع تهانئه إلى تهانئ فرق الإمبراطورية فسر نابوليون سرورا عظيما فقال: «لقد شعرت بسرور عظيم في أثناء الموقعة الأخيرة من التصرف المجيد الذي تصرفته كتائبي الإيطالية. هي المرة الأولى التي أظهر فيها الإيطاليون أنهم جديرون بأن يلعبوا دورا شريفا على مسرح العالم الكبير، وأرجو أن أقوم بجولة في ولاياتي الإيطالية قبل حلول الشتاء.»
في السادس عشر من شهر آب افتتحت الفرقة التشريعية جلستها الأولى، فألقى نابوليون كلمة خالدة أتى فيها على عظمة فرنسا بإيجاز كلي، قال: «لقد شعرت بنفسي فخورا بأن أكون الأول بينكم.» إلا أنه، يا للأسف، إزاء هذه الكلمات الطافحة بالنبل ترك سبيلا للألقاب الأريستوقراطية التي خلقها لتغذي الجشع في بعض النفوس، ولقد زعم أنه يريد بذلك أن يحول بين عودة الألقاب الإقطاعية التي لا تتفق ونظمه الجديدة.
أعلن نابوليون في خطاب الافتتاح عن تعديلات في الشرائع التنظيمية، وما عتم الأمر أن ألغى «التريبونه» من غير ما سبب موجب لذلك. فما كان من أعضاء هذا المجلس إلا أن أظهروا تجلدا غريبا، وأثنوا على اليد التي أهوت إليهم بالضربة، مؤكدين لفرنسا أن إلغاء مجلسهم لا يسيء إلى الحرية الوطنية بل يمحو وهما من أوهام التنظيم في الأمة. ولقد غير الإمبراطور بعض التغييرات في تنظيم الفرقة التشريعية، ومن هذه التغييرات أن عضو هذه الفرقة لا ينبغي أن يكون دون الأربعين سنا. أما القانون التجاري فقد قرر في تلك الجلسة.
كانت الحرب لا تزال مشتعلة في الشمال بين فرنسا والسويد. في السابع عشر من آب استولى الفرنسيون على مدينة سترالسند، وفي الثالث من شهر أيلول سلمت جزيرة روجن، وتم انكسار الجيش السويدي، إلا أن ملك السويد لم يبرح منضما إلى الاتحاد الإنكليزي.
لم ينظر نابوليون من غير حزن إلى البلطيك منفتحا أمام العلم البريطاني، وإلى بلاط ستوكهولم متمردا على الحصار البري، إلا أنه كان هناك مملكة أخرى لم تزل علاقاتها المستمرة مع إنكلترا تضاد المبدأ الفرنسي أكثر من غيرها ألا وهي مملكة البرتغال، ثم إن أسرة براغانس، المتفقة بمصالحها التجارية وتقاربها السياسي، لم تجد بدا من النزول في أمرها على الرضوخ لجميع تطلبات المجلس الإنكليزي ولكنها تظاهرت بالعداء لبريطانيا العظمى لتخدع نابوليون.
لم يلبث الأمر حتى انكشفت تلك الخيانة المستترة، فوشى بها نابوليون لأوروبا جمعاء، وأرسل فرقة من الجيش إلى البرتغال تحت قيادة جونو بعد أن تذاكر مع بلاط مدريد (البلاط النمسوي) بشأن مرور الكتائب الإمبراطورية إلى جهات إسبانيا.
بينما كان جونو متجها نحو «التاج» كان نابوليون يهيئ العدة لزيارة شواطئ البو والأدرياتيك مرة أخرى. وقبل سفره، تقبل زيارة سفير العجم، الذي جاء إلى باريس حاملا إلى الإمبراطور هدايا نفيسة بينها سيفا تمرلان وتماس خولي خان.
في السادس عشر من شهر تشرين الثاني عام 1807 غادر نابوليون باريس ووصل إلى ميلان في الواحد والعشرين منه. وبعد أيام قلائل دخل الحرس الإمبراطوري عاصمة النمسا دخولا مظفرا، فملك الفرح قلوب السلطات الباريسية، فعزمت أن تقيم له عند عودته مهرجانا عظيما في الأوتيل ده فيل (دار الحكومة) وتهيأ مجلس الشيوخ للاحتفال به في قصر مجلس الشيوخ نفسه.
لم يبق نابوليون طويلا في ميلان بل سافر إلى البندقية، فوصلها في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني، وهو اليوم نفسه الذي استولى فيه جونو على إيرنتيس
1
بعد أن اجتاز إسبانيا. وفي اليوم التالي دخل الجيش الفرنسي مدينة ليسبون التي هجرتها الأسرة المالكة لتلجأ إلى الأسطول الإنكليزي ثم تنزوي في البرازيل.
بعد أن جال نابوليون في الولايات البندقية ولومباردي والتقى في مانتو بأخيه لوسيان، الذي كان يريد أن يزوج ابنته من أمير إستوري،
2
عاد إلى عاصمة مملكته إيطاليا، ونشر جملة تقارير منح فيها نائب الملك أوجين بوهارنه لقب أمير البندقية، ولقب أميرة بولونية لابنته جوزيفين، أما ملزي، وهو رئيس سابق للجمهورية السيزالبينية فقد منح رتبة دوق ده لودي.
بعد أن أشار الإمبراطور بتلاوة هذه الفتاوى على مسمع من الفرق التشريعية الإيطالية أخذ الكلام هو نفسه فقال: «لا يمكنكم أن تتصوروا أي فرح عظيم يستولي علي إذ أراكم تحفون بعرشي. إنني لأغتبط أن ألاحظ، بعد غياب ثلاث سنوات، أية خطوة من خطى الرقي، عملتها شعوبي، ولكن كم من أعمال لا تزال بحاجة إلى القيام بها لمحو ما ارتكبه آباؤنا من الهفوات، وبلوغ الأوج الذي يؤهلكم للحظوظ التي أعدها لكم!
إن الانشقاقات الأهلية التي سببها أجدادنا هيأت إتلاف جميع حقوقنا. لقد هوى الوطن عن أوجه واستحقاقه بعد أن حمل بعيدا شرف الجندية وبريق الفضائل، ولكني سأقف مجدي لإرجاع تلك الفضائل وذلك الشرف.»
حلت هذه الكلمات محلا جميلا في نفوس النواب الإيطاليين.
كانت هناك تدابير جديدة تثبت انتباه الإمبراطور مدة إقامته بإيطاليا، إذ كانت التوسكان والسفارات مهيأة لأن تكون جزءا من الإمبراطورية الفرنسية. بعد أن هيأ نابوليون جميع الوسائل لهذا الاتحاد أخذ طريق فرنسا. وفيما هو يجتاز الألب، توقف فترة من الوقت في شانبري، حيث كان ينتظره فتى في مقتبل العمر ليسأله الإفراج عن أمه المنفية؛ كان هذا الفتى السيد ده ستال ابن الكاتبة الشهيرة مدام ده ستال، فاستقبله الإمبراطور بترحاب عظيم إلا أنه أظهر قساوة شديدة نحو ابنة نيكر،
3
ونيكر نفسه، وقال له: «لا بد لأمك أن تكون مسرورة بوجودها في فيينا فسيتاح لها هناك أن تتعلم اللغة الألمانية ... إنني لا أقول لها: إنها امرأة رديئة، فهي ذات روح، ولكنه لا حد له فضلا عن أنه متمرد وعات ... لقد نشأت في ظلمات الملكية التي تتهدم وتنهار وفي الثورة أيضا، وكل هذا خطر جدا؛ إذ إنها قد تخلص إلى خلق دخلاء ومتعصبين، إذن فينبغي أن أسهر عليها وأراقبها. إن أمك لا تحبني، وهي تسعى جهدها إلى العودة لباريس لتكون علما في ضاحية سن جرمين. ليست حكومتي حكومة سخافات فليعلم الجميع ذلك!» فاعترض دي ستال الفتى على ما جاء بحق أمه ثم قال: «قال لي البعض: إن مؤلف جدي الأخير هو الذي دفعك إلى مقت والدتي، أما أنا فأوكد لجلالتك أن الكتاب لم يؤثر فيها أقل تأثير.»
فأجابه الإمبرارطور: «بل إنه أثر كل التأثير. لقد كان جدك رجلا مجنونا، معتوها؛ فإنه، وهو في الستين من عمره، حاول أن يهدم تنظيماتي بخطط تنظيمات جديدة عملها هو. إن الدول لفي حاجة إلى رجال مثل جدك يديرون شئونها، إنهم لمجانين هؤلاء الذين يدينون الرجال في الكتب والعالم على «الخارطة»! ... ألا إن الاقتصاديين إنما هم أدمغة مجوفة تحلم بخطط مالية، في حين أنها غير جديرة بأن تتمم وظيفة جاب في آخر قرية من إمبراطوريتي. وقصارى الكلام أن مؤلف جدك إنما هو عمل رجل عنيد مسن مات وهو يكرر الأقوال المضجرة على مسامع الحكومات.» عند هذا حزن حفيد نيكر فقاطع الإمبراطور بقوله إن جلالته، ولا شك، أخذ هذه النظريات في الكتاب من قوم أردياء، وإنه لم يقرأه بنفسه لأن المؤلف يأتي على ذكر نبوغ نابوليون بكلام صريح. فقال له الإمبراطور بحدة: «إنك لفي ضلال، فلقد قرأته من أوله إلى آخره ... أجل! إنه يأتي على ذكري بكلام طيب إذ إنه يدعوني بالرجل الضروري! ولكنه يرى من الضروري أن يقطع عنق هذا الرجل الضروري! أجل، لقد كنت ضروريا لمحو هفوات جدك التي ارتكبها بحق فرنسا ... إنه إنما هو الذي عمل الثورة! ... أما الآن فقد انتهى حكم المفسدين، وإني لأريد الطاعة المطلقة! ... احترموا السلطة لأنها تأتي من الله ... إنك لا تزال فتى، فلو كانت لك خبرتي لكنت ترى الأشياء بعين غير العين التي تراها بها الآن! ... إلا أن صراحتك راقتني جدا ... فإني أحب أن يأخذ الولد الدفاع عن أمه ... ولكني لا أريد أن أمنحك رجاء كاذبا، إذن فلا أستطيع أن أنيلك شيئا.»
عند هذا انصرف السيد ده ستال، فالتفت نابوليون إلى ديروك وقال له: «ألم أكن قاسيا مع هذا الشاب؟ ... ولكن لا بأس، فلن يجيئني بعد ذلك من هو مثله ... إن هؤلاء الناس يعيبون كل ما أعمل ... لأنهم لا يفهمونني.»
وصل نابوليون إلى باريس في اليوم الأول من شهر كانون الثاني سنة 1808، وبعد أن مكث ثلاثة أيام زار الرسام الشهير دافيد في معمله، تصحبه قرينته جوزيفين؛ ليتفرج على صورة التتويج، وفي الشهر نفسه وضع نظما نهائية لبنك فرنسا فليسنك
4
ومقاطاعاتها إلى الإمبراطورية، أما مصير البورتغال فلم يكن قد تقرر بعد. فالبرغم من أنها كانت خضعت للجيش الفرنسي، لم يشأ نابوليون أن يقرر شيئا جازما لهذه المملكة فاكتفى بتنظيم حكومة موقوتة فيها وضع على رأسها جونو وأعطاه لقب حاكم عام. وفي الغد منح اللقب نفسه لصهره أمير بوركيز على المقاطعات التي هي ما وراء الألب.
في ذلك العهد أدت الجامعة الوطنية واجبا مهما، كان الإمبراطور قد عهد به إليها، في ظرف من تلك الظروف التي تنعتق فيها روح الرجل من عظمة العروش لتتجرد إلى الأعمال الكبرى، التي من شأنها أن ترفع مستوى الشعوب أخلاقيا وعلميا وفنيا، فلقد أدت كل من فرق هذه الجامعة الثلاث ملخصا عن نتائج المعارف البشرية التي كانت موضوع أعمالها الخاص، فاللائحة التاريخية اعتنقت العلوم والفنون والآداب منذ سنة 1789. سرد شينيه أعمال الفئة التي كانت تمثل المجمع العلمي الفرنسي القديم، وعرض ديلمبر وكوفيه نتائج العلوم الطبيعية والرياضية، وتكلم داسيه باسم هذه الفئة من الجامعة التي تؤلف اليوم مجمع المخطوطات والآداب، وعرض لبرتون ملخص أعمال فئة الفنون الجميلة. إن عمل الجامعة سيبقى مثالا لعظمة الشعب الذي لم تمنعه اضطرابات الحروب الأهلية وتعاقب الحروب الخارجية عن الاهتمام بالعلوم والآداب والفنون، في حين أن أوروبا والعالم أجمع، كانا يظنانه شعبا عسكريا صرفا.
كان لم يبق للثورة الفرنسية أن تقاتل إلا في شمالي أوروبا، إلا أن الجنوب كان قد قمع قمعا من غير أن يتوب، وكان نابوليون يعلم كل العلم أن الوزارة الإسبانية إنما كانت مهيأة، كالوزارة النمسوية، لتنضم إلى بروسيا وروسيا وإنكلترا عندما جاءت موقعة يينا فخدعت آمال العصبة الثلاثية. في ذلك الحين أذاع أمير السلام غودوي نشرة كشفت طوية الإسكوريال
5
وقضت على حكومة كارلوس الرابع، حتى إنه لم يجد بدا من النزول عندئذ عند جميع مطاليب نابوليون ليغفر له تلك الاستعدادات العدائية التي اتهم بها .
كان نابوليون يسعى إلى إنزال إسبانيا على المبدأ الفرنسي لأنها، وهي محاطة ببحرين وعلى رأسها أحد البوربونيين، إنما كانت عرضة للحث على الوقوف في وجه فرنسا، فلم يلبث أن قرر عزمه على احتلال مقاطعات هذه المملكة احتلالا عسكريا.
أعطيت فرق تنقيب الجيروند البيرينه أوامر للسير إلى الأمام، فدخل المرشال مونساي المقاطعات الباسكية، وأقام ديبون بفاللادوليد، وولج دوهيم كاتالونيه، كان في ذلك الحين سبعون ألفا من الفرنسيين في شبه الجزيرة ما عدا فرقة جونو، ولقد دخلت هذه الكتائب الأماكن المحصنة من غير مقاومة البتة.
لو لم يشأ الإمبراطور إلا ضمانا قويا من بلاط مدريد ليتثبت من إخلاصه للعصبة الفرنسية لكفاه احتلال هذه الأماكن الحصينة، على أن موقف إسبانيا الداخلي، والحوادث الأهلية التي طرأت على قصر الإسكوريال غيرت خطته القديمة، وهيأت له أن يضم الأمة الإسبانية إلى الشعب الفرنسي.
كانت مملكة كارلوس الخامس (شرلكان) في ذلك الوقت على أهبة الاضمحلال؛ إذ إن الأسرة المالكة إنما كانت على خطوة من السقوط، وكان دم لويس الرابع عشر يتلطخ أمام العالم، وعشيق الملكة قد استحال إلى صفي الملك وجلاد إسبانيا، كان غودوي سائدا السيادة كلها في ذلك الحين، قال أحد الكتبة الموالين للبوربون: «لقد كان نفوذه على الأسرة المالكة نفوذا لا حد له، وكانت سلطته سلطة سيد مطلق. أما خزائن أميركا فقد كانت طوع أمره ينفقها في سبل غير قويمة، حتى لقد حول بلاط مدريد إلى مكان من تلك الأماكن التي قادت إليها عروس جوفنال
6
الساخطة والدة بريتانيكوس.»
7
كانت العناية الإلهية قد تخلت عن مملكة بيلاج ملك الإستوري، كما تخلت عن عرش كلوفيس قبل ذلك بقرن، فلم يبق طابع الانحطاط آثار الزيت المقدس على الجباه المحطمة تحت ثقل التاج المثقل بالرذائل والعار، إلا أن الملكية لم تقاس وحدها لطمات العجز والقصور؛ فإن الأشراف والإكليروس، الذين كانوا الدعامة القوية للسلطة المالكة في أيام عظمتها، قد شاطروها بؤس الشيخوخة وعجزها. عند ذلك شعر نابوليون بدافع يدفعه إلى أن يدق جرس الحزن في ذلك المأتم الرهيب!
لم يكن في بادئ الأمر قد فكر في سوى التثبت من إخلاص حليفة مشبوهة، إلا أنه لما رأى الأسرة المالكة تحفر قبرها بظلفها، والشعب يهيج هياجا مخيفا، وكارلوس الرابع وفرديناند يتوسلان إليه الواحد ضد الآخر ليمنحهما عضد فرنسا، خيل إليه أنه يستطيع أن يستفيد في إسبانيا من غير طريق الاستيلاء على الحصون، وأنه قد حانت ساعة تغيير وجه تلك البلاد النبيلة وضمها إلى إمبراطوريته بنشر الأفكار الفرنسية في مدريد، إن باسم كارلوس الرابع، أو باسم فرديناند أو غيرهما حسب ما يقع اختياره، فوجه لهذه الغاية المرشال بسيير على رأس خمسة وعشرين ألف رجل إلى المقاطعات الباسكية ليعضد هناك مونساي وديبون، وأعطى قيادة الحملة لمورات الذي أخذ أركان جيشه إلى بورغوس في أوائل شهر آذار.
لم يكد الشعب يعرف بدنو الفرنسيين من مدريد حتى صرخ «يا للخيانة!» فلم يجد البلاط بدا من الهرب إلى إرنجويز. أما غودوي، الذي صور له في بادئ الأمر أنه خدع نابوليون، فلم يلبث أن شعر بضياع آماله فنصح كارلوس الرابع بأن ينهج نهج أسرة براغانس وأن ينزوي في أميركا الإسبانية. لم يكن الملك يحسن إلا الامتثال لصفيه فعزم على الذهاب إلى إشبيلية بأسرع ما يمكن، إلا أن عدد السفر أسخطت كبرياء الإسبانيين واشتدت وطأة المقت لأمير السلام؛ ففي السادس عشر من شهر آذار انفجر الغضب الوطني وهجمت الجماهير الساخطة على قصر أرنجويز طالبة رأس غودوي. وما هي إلا ساعات قصيرة حتى أحرق قصر الصفي، ولو لم يختبئ هو نفسه في أحد الأقبية لما سلم من موت محقق. أما كارلوس الرابع، الذي كان قد حاول أن يهدئ حدة الشعب بقوله له: إن أمير السلام قد عزم أن يستقيل من جميع وظائفه، فلم يجد بدا من تنازله عن حقه الملكي، ثم نشر إذاعة عمومية أعلن فيها تخليته عن العرش لأمير إستوري الذي اتخذ عقيب ذلك لقب فرديناند السابع، وافتتح عهد ملكه بحجز أملاك غودوي الذي ألقي في أحد السجون لينتظر محاكمة الملك إياه.
لم تكد ضجة هذه الحوادث تصل إلى بورغوس حتى أسرع مورات بالزحف إلى مدريد، التي دخلها في الثالث والعشرين من شهر آذار، على رأس ستة آلاف رجل من حرس ديبون وفرق مونساي. ولما كان من غد ترك فرديناند السابع قصر أرنجويز ليدخل إلى عاصمة إسبانيا، عند هذا تبدل السكون المظلم، الذي استقبل الفرنسيين قبل ذلك، بفرح عظيم لدى قدوم الملك الجديد، وتدفق الشعب جميعه لملاقاته وتحية الأمير الذي أنقذه من نير غودوي الظالم.
أما مورات فأرسل موفدا إلى كارلوس الرابع ليطمئنه إلى حمايته، ولكن الملك القديم لم يفكر في بادئ الأمر بسوى إنقاذ صفيه قائلا: «إن ذنب غودوي إنما هو تعلقه بي مدة حياته، وإن موت صديقي المسكين سيكون سببا لموتي أنا أيضا.» فلم يجد مورات عند ذلك بدا من إعادة غودوي إليه.
أرسل أمير إستوري إلى نابوليون كتابا يظهر له فيه شكره العظيم على إصعاده إلى العرش، ويطلب إليه وضع سلطته الناشئة تحت عضد الاتفاقية الفرنسية؛ فأدرك نابوليون إذ ذاك أن أمير إستوري إنما هو عاجز عن القيام بما يدعو إليه الملك، إلا أن طبائع الشعب الإسباني كانت توحي إليه خوفا وريبة فكتب إلى مورات في التاسع والعشرين من شهر آذار يقول: «لا تعتقد أنك لا تحتاج إلا جيوش وكتائب لتقمع إسبانيا وتضعها تحت سلطتنا؛ فإن ثورة عشرين آذار إنما جاءت أكبر دليل على أن الإسبانيين شعب له جرأته وحماسه ... ثم إن الأريستوقراطية والإكليروس هم أسياد إسبانيا، فإذا مست امتيازاتهم أو خشوا عليها لا يلبثون أن يشهروا علينا حربا عوانا ... إن في إسبانيا اليوم أكثر من مائة ألف رجل تحت السلاح، وهذا لعمري فوق ما تحتاج إليه دولة للوقوف في وجهنا ورمي نواة ثورة داخلية في قلب الملكية ... وها أنذا أعرض أمامك جملة العوائق التي لا تلافى ولا سبيل إلى تجنبها؛ إن إنكلترا لن تدع هذه الظروف تفلت من يدها فهي سوف تستفيد منها لتضاعف عراقيلنا ... وبما أن الأسرة المالكة لم تغادر إسبانيا لتستوطن في الهند، فلم يبق هناك سوى ثورة تستطيع أن تقلب وجه هذه الأمة، وقد تكون ثورة أوروبا التي هي أقل استعدادا من غيرها ... أما أنا فإنني أستطيع أن أفيد إسبانيا إفادة كبرى، ولكن ما هي الوسائل لبلوغ ذلك؟ ...
أأذهب إلى مدريد؟ ... لقد تبين لي أنه من الصعب إصعاد كارلوس الرابع إلى العرش؛ لأن الشعب نزع ثقته من حكومة هذا الملك وصفيه غودوي إلى درجة أنه أصبح من المؤكد أنهما لا يدومان ثلاثة أشهر.
إن فرديناند عدو فرنسا، ولهذا السبب جعلوه ملكا ... ثم إن جلوسه على العرش يساعد التحزبات التي لم تزل تعمل منذ خمس وعشرين سنة على إضعاف فرنسا وملاشاتها ... أما أنا فأعتقد أنه لا ينبغي لنا التهور في شيء وأنه من الحكمة أن نسترئي الحوادث التي ستتوالى ... لقد أعطيت سافاري أمرا بملازمة الملك الجديد لمعرفة ما يجري هناك، وسيتداول وجلالتك الملكية ... ستعملان معا بنوع أن لا يشعر الإسبانيون بالخطة التي سأتخذها. وهذا غير صعب عليكما فستقولان لهم إن الإمبراطور يرغب في تكميل تنظيمات إسبانيا السياسية لتماشي تنظيمات أوروبا ... وإن إسبانيا لفي حاجة إلى خلق حكومة ثابتة وإيجاد نظم تضمن الوطنيين الاختياريين وتعديات الإقطاعية، إلى إيجاد نظم تنعش الصناعة والزراعة والفنون. ستصوران لهم حالة الهدوء والنعمة التي تتمتع بها فرنسا، بالرغم من الحروب التي مرت عليها، وازدهار الدين الذي يعود الفضل في توطيده إلى الاتفاقية التي أمضيتها والبابا. وستبينان لهم الفوائد التي يستطيعون أن ينالوها من تجديد سياسي، وهي النظام والسلام في الداخل، والرعاية والعظمة في الخارج. هذا هو الروح الذي يجب أن تبثاه في جميع الخطب والمناشير التي ترسلانها ... لا تتعجلا خطة من الخطط ... ولا تفكرا في مصالحكما الشخصية فأفكر فيها أنا ... إذ إنه إذا شهرت الحرب خسرنا كل شيء ... فإن مقدرات إسبانيا إنما تتوقف على السياسة والمداولات دون غيرها.»
أراد نابوليون، قبل أن يقف عند عزم، أن يشاهد عن كثب مجريات الأحوال ويجس بنفسه الموقف الخطير، فغادر باريس في اليوم الثاني من شهر نيسان ووصل إلى بوردو في الرابع منه، حيث بقي ينتظر جوزيفين التي وافته في اليوم العاشر.
اتجه الاثنان معا إلى بايون، التي وصلاها في الخامس عشر من الشهر الجاري، فسكنا بعض أشهر قصر ماراك الذي كان معدا ليشهد أعظم حادث سياسي في ذلك العهد. وفي اليوم التالي خف نابوليون للرد على أمير إستوري مؤجلا حكمه في معنى اعتزال كارلوس الرابع، فلم يمنح الابن إلا لقب «جلالة ملكية»، وحدثه عن الخطر الذي يحيط بالأمراء، وعن الانتحار السياسي الذي يرتكبه والعار المعيب الذي يلطخ به جبينه إذا هو انقاد إلى الحط من كرامة أمه برفعه دعوى فضاحة على الصفي غودوي. وفي ختام الكتاب أظهر الإمبراطور رغبته في مقابلة خصوصية؛ إذ إن درس الأشخاص عن كثب، إنما كان ضروريا له؛ ليوقفه عند حقيقة صريحة.
لو هربت الأسرة المالكة إلى المكسيك لسهل الأمر وكان من الهين تجديد النظام في إسبانيا، ولكن بما أن الأمر كان عكس ذلك، وبما أن الفتنة كانت هي المنتصرة، أصبح من الطبيعي وجود ملكين بدلا من واحد ومن الضروري الفض بينهما.
تردد أمير إستوري بادئ ذي بدء بالنزول عند رغبة نابوليون؛ إذ إنه بينما كان بعض مستشاريه ينذرونه بالخطر الذي يحدق بهذه المقابلة، كان البعض الآخر يشعرونه بوجوب الإسراع لمقابلة الإمبراطور وسبق والده إليها؛ ولكن ما عتم الأمر حتى اقتنع فرديناند بالرأي الأخير، فترك مدريد ينازعه عاملا الريبة والإيجاس، واتجه نحو حدود فرنسا، فلما وصل إلى فيتوريا أراد أن ينتظر الإمبراطور فيها، إلا أن الإمبراطور لم يحضر، فوالى سيره إلى بايون. في العشرين من شهر نيسان وصل إلى قصر مارك يصحبه شقيقه دون كارلوس؛ أما كارلوس الرابع فقد لحق بأمير إستوري صاحبا معه الملكة وصفيه ليضع نفسه تحت حماية الإمبراطور، ولكيلا يترك للأمير المذكور المجال واسعا في بايون. عند هذا أبصر الجندي الأعظم، مصطفى الشعب ووليد الثورة الفرنسية أعقاب القديس لويس مترامين على قدميه؛ أجل أبصر وراث بيلاج وحماة سيف «السيد» واضعين تحت أمانته مقدرات تلك المملكة القديمة الشاسعة الأطراف التي جعلت فيليب الثاني يقول بفخر: «إن الشمس لا تغيب عن أراضيه!»
يا له مشهدا عظيما طافحا بالأمثولات لأوروبا القديمة! فأمام جبال البيرينه الفخورة، التي كثيرا ما حاول البوربونيين عبثا أن يمهدها بنظم سلالية، أصبحت ترى العهد الإقطاعي الفاني، ذلك العهد الذي كساه العار حلته وطعنه العجز طعنته النجلاء، يتزاحف ببؤس نحو رحمة الشعب واحتقاره لكي يضع، قبل اضمحلاله، مزق عظمته الماضية ومجده المنطفئ على قدمي ذلك الرجل الأعظم ممثل مجد العهد الحالي وجلاله وجبروته!
كان أمير إستوري يرغب في مقابلة مع والده؛ ليتفقا معا على شجب تداخل ذلك الوسيط القاهر الذي اختاراه، فصمم النية على الدخول على كارلوس الرابع في مخدعه. إلا أن الملك القديم قال له له بحدة: «قف أيها الأمير! ألم يكفك إهانة شعوري البيضاء؟» ودفعه عنه، وفي اليوم التالي وبخه على سلوكه بعبارات قاسية، إلا أن نابوليون لم يعيه الأمر عن الاطلاع على تلك الرسالة التي ختمت بهذه الكلمات المرمزة عن فتنة أرنجويز: «يجب أن يعمل كل شيء في سبيل الشعب وليس على يده. أما الإعراض عن هذا المبدأ فهو ارتكاب جميع الجرائم التي تتأتى عن هذا الإعراض.»
في أثناء ذلك كان نابوليون قد اختبر ذينك الرجلين اللذين ما جاء إلا ليدرسهما عن كثب؛ إذ إنه، لدى المقابلة الأولى التي جرت بينهم، اتضحت له الحقيقة الناصعة فقال بعد ذلك: «عندما أبصرتهما متراميين على قدمي، وقيض لي أن أتسلل إلى مداخل نفسهما العاجزة، هزتني الشفقة على مصير شعب كبير فقبضت على ناصية الظروف التي وفرها لي الحظ لإقالة عثرة إسبانيا، ونزعها من نير إنكلترا، وضمها إلى مبادئنا ضما وديا، وكان من حق هذا العمل أن يكون حجر الزاوية في بناء سلام أوروبا وطمأنينتها.»
أجل، لقد حق لنابوليون أن يقول ذات يوم: «إن حرب إسبانيا إنما جاءت قاضية عليه، وإن جميع الظروف المعاكسة التي اكتنفته إنما هي وليدة تلك الحرب الشؤمى.»
8
إلا أن انقلاب حظه العجيب وآماله، التي تدور حول نسبه، ستعقبه حرب تبقى ست سنوات يتلاقى خلالها الفرنسيون والإنكليز في إسبانيا فيلقي الأولون بذور العادات الديموقراطية والآخرون روح بلادهم الشرعية، ثم إن عاقبة الحرب ، وإن جاءت وخيمة على الجيوش الفرنسية، إلا أن الفلسفة العصرية إنما مارست مذهبها في جوار «الواجب المقدس» آوية إلى سرادق حلفاء إسبانيا، كما أوت إلى سرادق قاهريها. وعندما تضطر الكتائب الإمبراطورية أن تمر في البيرينه مرة أخرى، وتتخلى عن انتصاراتها، يبصر المبدأ القديم في عودته بذور الأفكار الحرة، ومقت ديوان التفتيش، وحب الحرية، ولكنه يستبقي ذلك الطابع الوحشي كما استبقى تلك الخيانة وذلك الجبن، فيغمس يده في دماء أعظم منقذيه لأنهم اتخذوا اتخاذا جديا تلك النظم التي أنقذت استقلالهم، إلا أن وحشية ذلك الجحود إنما ستخلق شهداء لا عبيدا! أجل، إننا نكرر ما قلنا فإنه، وإن لم يبق شيء من عظمة نابوليون الخاصة ومن المقدرات التي وفرها لأسرته، إلا أن علم الرقي إنما سيغرس في إسبانيا بين النكبات والمصائب التي حلت بأبناء العصر، والتي قد تبقى زمنا طويلا بعد أن يولد الشعب الإسباني الجديد. تلك كانت رغبة نابوليون. ولقد ذكرها في كتابه إلى الغراندوق ده برج وأعادها في سنت هيلين. قال: «إننا في الأزمة التي كانت تحيط بفرنسا، وفي وسط تلك المعمعة الفكرية، لم نستطع أن نترك إسبانيا وراءنا.»
9
أجل، لم يعتم الأمر أن صحت مشيئة نابوليون؛ فلقد حدثت فتنة في مدريد، تركت عاصمة إسبانيا في حالة ثورة، ما لبثت أن عمت جميع المقاطعات، وأصبح البوربون لا يستطيعون السيادة على الشعب الإسباني إلا تحت تأثير العصيان والتمرد المعاديين للنفوذ الفرنسي. في الخامس من شهر أيار تنازل كارلوس الرابع إكراما لنابوليون، وفي العاشر منه صدق أمير إستوري، ودون كارلوس، ودون أنطونيو، ودون فرنسيسكو وهم أولياء عهده على هذا التنازل. وقد تنازلوا هم أيضا عن أية رغبة في عرش إسبانيا. أما الملك القديم فانسحب إلى كومبياني تصحبه الملكة والصفي غودوي، وأما أولياء العهد فقد انسحبوا إلى فالانساي.
ولقد جاء تخلي كارلوس الرابع وأولاده عن التاج خاتمة لتمرد الأمة الإسبانية، فتألفت المجالس التنظيمية في جميع الجهات لإدارة حماية البلاد ضد الهجمات الأجنبية، عند هذا ألف نابوليون مجلسا تنظيميا وضع على رأسه صهره مورات ، ولم يكد هذا المجلس يعقد، حتى سمى ملكا على الإسبانيين شقيق الإمبراطور جوزيف نابوليون، الذي كان يشغل عرش نابولي.
في أثناء ذلك كانت الثورة تستعد استعدادا عظيما في الأندلس، فانسلخ الجنرال ديبون، الذي أبلى بلاء حسنا في موقعة فرييدلان، عن فرق الجيش الفرنسي ليدخل إلى الأندلس. إلا أن هذه الحركة، التي بدرت منه، نجمت عنها عاقبة وخيمة؛ إذ إنه لم يكد بسيير يربح موقعة ريوسيكو، ويستولي مونساي على بلنيسا، حتى كدرت هزيمة بايلن وتسليمها بريق العلم الفرنسي، وأظهرا لأوروبا أن جيوش نابوليون لم تكن معصومة عن الانكسار كما كانت تظن.
عندما أحدق كستانو
10
بالجنرال ديبون، اضطر هذا إلى إلقاء السلاح وأخذت فرقته المؤلفة من ثمانية عشر إلى عشرين ألف رجل أسيرة مما جعل الملك جوزيف يأمر الجيش الفرنسي أمرا بالانهزام إلى ما وراء الأبر.
في الثاني والعشرين من شهر تموز غادر نابوليون بايون إلى بوردو، حيث انتهى إليه تسليم ديبون وهزيمته، فسخط سخطا عظيما وقال لأحد وزرائه: «إن انكسار جيش ليس من الأمور الخطيرة لأن مقدرات الجند رهينة الأيام والهزيمة تعوض بانتصار، ولكن أن يسلم جيش تسليما معيبا فذلك لطخة على الجبين الفرنسي ومجد الجند. كيف سولت النفس لفرنسي أن يخلع عنه رداءه الفرنسي ويرتدي رداء العدو! أكنت أنتظر من الجنرال ديبون مثل هذا العار، بعد أن تعهدته تعهدا حسنا ووضعت نصب عيني ترقيته إلى رتبة مرشال! قيل لي إنه لم يكن هناك وسيلة أخرى لإنقاذ الجيش، ولكنه كان أولى بجميع الجنود أن يفنوا وسلاحهم في يدهم، كما يموت الجندي الشريف؛ فإن الجنود يعوضون بغيرهم ولكن الشرف لن يعوض.»
11
سلم الجنرال ديبون إلى الديوان الإمبراطوري العالي، وكتب نابوليون بنفسه في المونيتور، في العاشر من شهر آب، الأسطر التالية: «إن الجنرال ديبون، الذي لم يحسن قيادة جيشه، لم يحسن أيضا إظهار شجاعة أدبية في المداولات، فلقد تزاحف إلى هلاكه مدفوعا بروح من الجنون كما فعل سابينوس تيتوريوس،
12
وترك نفسه تنخدع بحيل أمبيوريكس
13
آخر، ولكن الجنود الرومانيين كانوا أسعد منا حظا؛ إذ إنهم ماتوا جميعهم والسلاح في أيديهم.»
إن كان العار الذي لحق بتسليم بايلن لا يمحى، فإن الخسائر المادية التي سببتها تلك النكبة إنما كانت مثله لا تعوض. بعد أن فضح نابوليون سلوك قائده أخذ يهتم برد الآمال على الجندي الفرنسي في إسبانيا، فأمر بتجنيد جديد وأرسل مددا، ولكي يظهر إظهارا صريحا أن عزمه على ربط الأمة الإسبانية بالإمبراطورية الفرنسية إنما كان ولا يزال ربطا محكما وديا لا ينفصل، أذاع أمرا في الثالث عشر من شهر آب يقضي بفتح طريق كبير من مدريد وباريس.
الفصل الخامس عشر
كان الإمبراطور قد دخل إلى سن كلود يوم عيده، فاستقبل استقبالا فخما الكونت ده تولستوي، وهو سفير روسي قدم إلى سن كلود ليضع بين يدي الإمبراطور الهدايا النفيسة التي كلفه الإمبراطور إسكندر بتقديمها لعاهل الفرنسيين، فلما تقبل نابوليون هذه الهدايا أمر بعرضها في قصر التويلري.
كان نابوليون يهتم جد الاهتمام بمحو آثار الفتن الداخلية التي تكتسح فرنسا لكيما يتمكن بسهولة من تحقيق مبدئه، فأمر بتأسيس عدة مسائل عمومية في جميع المقاطعات التي كانت مسرحا للحرب الأهلية، وفي أثناء ذلك وصل إلى باريس نبأ موقعة فيميرو بين اللورد ويللنكتون وجونو. أما الفرنسيون فبعد أن انكسروا انكسارا تاما، أجبروا على التسليم إجبارا، واضطروا إلى تخلية البورتغال والعودة إلى فرنسا على مراكب إنكليزية.
إلا أن هذه الهزيمة الثانية التي انهزمها الجيش الفرنسي ما وراء البيرينه، وإن كانت أليمة وشديدة الوقع على نابوليون، سوى أنها لم تضعف من شجاعته وتثبط عزمه، بل قال لمجلس الشيوخ في الرابع من شهر أيلول: «لقد عزمت على مواصلة مسائل إسبانيا مواصلة جدية وإتلاف الجيوش التي أرسلتها إنكلترا إلى هذه البلاد ... إنني لأفرض على شعوبي تضحيات جديدة فهي ضرورية لهم؛ إذ إنها توفر عليهم ما هو أعظم وأكثر خطرا.» ثم تكلم نابوليون في هذه الخطبة عن نتيجة أعطاها الوزير شمباني تتعلق بمسائل إسبانيا، وأردف كلامه بعبارة حزن على فقد حليفه السلطان سليم، الذي كان يلقبه بأفضل سلاطين بني عثمان، والذي قتل بأيدي أبناء عمه، وبعد ذلك أتى على عبارة تحمل كثيرا من معاني الفرح باتحاده اتحادا وديا والإمبراطور إسكندر إذ قال: «وهذا ما ينزع من إنكلترا كل أمل باستعداداتها ضد سلام البر.» أما مجلس الشيوخ فرد على الإمبراطور بأن أمر بتجنيد ثمانين ألف رجل، وقال له بلسان رئيسه لاسيبيد: «إن مشيئة الشعب الفرنسي يا صاحب الجلالة إنما هي مشيئة جلالتكم نفسها، فحرب إسبانيا حرب سياسية إذن فهي عادلة ولازمة.»
إلا أن التمرد كان مشتعلا في إسبانيا وسائر المقاطعات الكبرى، ولم يكن انتصار الأعلام الفرنسية ليتوقف على جمع العساكر المنظمة تنظيما حديثا، فرأى نابوليون أن يخاطب جحافله القديمة قاهري أوسترلتز ويينا وفرييدلان، وفي الحادي عشر من شهر أيلول استعرض الإمبراطور جيوشه استعراضا عظيما في التويلري، حيث أعلن لعساكر الجيش الكبير، أنه سيزحف بهم إلى إسبانيا التي أهينوا فيها إهانات ينبغي الأخذ بالثأر منها. قال: «أيها الجنود، لقد اجتزتم ألمانيا بخطى كبرى بعد أن انتصرتم على شواطئ الدانوب والفيستول، وإني لأجتاز بكم فرنسا اليوم من غير أن أدع لكم سبيلا للراحة.
أيها الجنود، إني لفي حاجة إليكم، فوجود النمر الشرس يلطخ أرض إسبانيا والبورتغال. إلا أنه إنما يفر هاربا لدى رؤيتكم، فلنحمل نسورنا المنتصرة حتى أعمدة هرقل! ولكم هناك إهانات ينبغي الأخذ بالثأر منها أيضا.
أيها الجنود، لقد جاوزتم شهرة جميع جيوش هذا العصر، ولكنكم ضارعتم مجد جيوش روما التي انتصرت في الماضي على شواطئ الرين والفرات والتاج وفي إيللري أيضا.
أما جزاء جهودكم فسيكون سلاما طويلا وخصبا دائما، فالفرنسي الصحيح لا ينبغي له أن يستريح ما لم تفتح البحار في وجهه وتصبح حرة.
أيها الجنود، إن جميع ما عملتم وتعملون في سبيل الشعب الفرنسي وفي سبيل مجدي ليبقى خالدا في قلبي.»
لم يكن من هذه الكلمات إلا أن ضاعفت حمية جنود جيش الشمال. كان لم يبق عليهم، بعد تلك الحروب التي غذتها إنكلترا وتلك الانتصارات المجيدة التي ربحوها من حلفائها، إلا أن يجابهوا وجها لوجه جنود ملكة البحار، عدوة البر اللدودة!
في الثالث والعشرين من شهر أيلول غادرت باريس، تحت قيادة المرشال فيكتور ، فرقة أولى مؤلفة من تلك الكتائب الهائلة الجميلة، وفيما هي تجتاز العاصمة استقبلها مدير السين والمجلس البلدي استقبالا فخما.
إلا أن نابوليون، قبل أن يزحف بنفسه على رأس الكتائب التي أرسلها إلى إسبانيا، أراد أن يثبت، في مقابلة، الصداقة الحميمة التي أظهرها نحو إسكندر والتي تظاهر هذا بأنه يشاطره إياها، كان يشعر بحاجة إلى محادثة هذا الأمير الذي كان أعظم أمراء البر في ما يتعلق بجميع المسائل السياسية في أوروبا وخصوصا في إسبانيا.
اجتمع الإمبراطوران في أرفورث في أوائل تشرين الأول، واجتمع معهما جميع أمراء معاهدة الرين، كأنما هم شاءوا أن يؤلفوا حول ظهيرهم العظيم حلقة جميلة من الندماء المتوجين. أما نابوليون، فلكي يجعل الإقامة بأرفورث لطيفة في نظر صديقه العظيم، صحب معه الكوميديا الفرنسية. ففي إحدى ليالي التمثيل تكلف إسكندر الفرح تكلفا، وصفق بكل قواه لبيت من الشعر رأى الجميع يصفقون له استسحانا.
مرت ثمانية أيام في المهرجانات، إلا أن السياسة لم تكن خلال ذلك منسية؛ إذ إنه ما لبثت أن حلت المباحثات الودية محل الولائم والأعياد. أما الإمبراطور إسكندر فتظاهر برغبته في دفع إنكلترا إلى عقد الصلح، وأمضى نابوليون كتابا يتعلق بهذه الغاية، إلا أن المستقبل سيكشف الحقيقة الصريحة، ثم بعد ذلك أظهر استحسانه للحرب الإسبانية؛ إذ رأى فيها فرصة سانحة لإتلاف الأمتين الفرنسية والإنكليزية، اللتين هما الخطر الوحيد على الإمبراطورية الروسية.
في الرابع عشر من شهر تشرين الأول افترق الإمبراطوران، راضيا كل منهما عن الآخر، حتى خيل إلى نابوليون أن صداقة إسكندر إنما هي صداقة متينة مخلصة، ولم يخطر بباله أنه سيضطر يوما أن يقول عنه: «إنه يوناني من الإمبراطورية السافلة!»
وفي الثامن عشر منه عاد الإمبراطور إلى سن كلود، وبعد مضي أربعة أيام، زار المتحف مع الإمبراطورة، وتحدث طويلا إلى رجال الفن الذين خفوا إلى المتحف ليكرموا في هيكلهم المجيد حامي الفنون الأعظم.
وفي الخامس والعشرين افتتحت الفرقة التشريعية جلستها الأولى فتكلم الإمبراطور بثقة تامة عن خططه وآماله في ما يتعلق بإسبانيا معتقدا أنه واثق من روسيا قال: «لقد شاءت الحكمة العلياء، التي كثيرا ما سهرت على جنودنا، أن تسدل الأطماع ستارا من الظلمة على المجالس الإنكليزية لكيما ترفض حماية البحار وتدفع جيشها إلى البر. سأذهب بعد قليل لأستلم قيادة جيشي وتتويج ملك إسبانيا في مدريد وغرس نسوري على قلاع ليسبون. لقد جرت بيني وبين إمبراطور روسيا مقابلة في أرفورث اتفقنا فيها اتفاقا صحيحا وتضامنا على أن نعمل معا في سبيل السلام كما في الحرب.»
في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول غادر الإمبراطور باريس ووصل إلى قصر ماراك في الثالث من شهر تشرين الثاني، وفي الخامس منه كانت أركان الجيش في فيتوريا، وفي التاسع في بورغوس بعد أن تم للمرشال سول انتصار عظيم على جيش استريمادور،
1
وفي اليوم نفسه كان المرشال فيكتور يقاتل جيش كالليس في إسبينوزا.
كانت خطة نابوليون ترمي إلى تنحية هذين الجيشين كل منهما عن الآخر لكي يتاح له أن يتلفهما جميعا، وكان قد دفع فيكتور إلى مهاجمة بلاك، وناي ومونساي إلى مهاجمة كاستانوس الذي يقود جيش الأندلس، وبقي هو في وسط المعامع مع سول وفرقة احتياطية من الخيالة عهد بها إلى بسيير.
أما توزيع القوات هذا، فقد نجح نجاحا باهرا؛ إذ تشتت جيش استريمادور بكامله، وتلاشى جيش كاليس، وعندما حاول الهاربون من موقعة إسبينوزا أن يلموا شعثهم في رينوزا، أدركهم المرشال سول، وأجبرهم على ترك مئونتهم وأدواتهم ورمي نفوسهم في جبال لاون.
أتيح لميمنة الجيش الفرنسي أن تنعتق من القتال بعد نصرة باهرة، إلا أن بالافوكس وكاستانوس كانا يتأهبان للحرب في الجهة اليسرى، أما الإمبراطور، فبينما كان سول يجول في مقاطعة سانتادور وينزع منها سلاحها، أشار إلى المرشال لان بأن يطارد جيشي أراغون والأندلس وإلى المرشال ناي بأن يزحف إلى سريا وتارازون ليقف بين كاستانوس ومدريد ويقطع عن هذا الجنرال طريق العاصمة ويشتته في جهات فالانس. وما هي إلا فترة من الوقت حتى أرغمت حركات لان الجنرالين الإسبانيين أن يندحرا اندحارا تاما بين تودلا وكاسانت حيث كسرهما شر كسرة، وانتقم للشرف الفرنسي الذي أهين في بايلن، كلفت موقعة تودلا الإسبانيين خسارة سبعة آلاف رجل، وثلاثين مدفعا وسبعة أعلام. أما بالافوكس فاندحر إلى سرغوس، وكاستانوس إلى فالانس.
عندما علم نابوليون بهذا الانتصار الجديد عزم أن يزحف توا إلى مدريد تاركا سول في الجهة اليمنى ليحافظ على حركات المقاطعات الغربية، ولان في الجهة اليسرى لينجز على بقايا جيش أراغون، أما ناي فبقي يلاحظ جيش الأندلس.
إلا أن الوطنية الإسبانية لم تع قط. فلقد تألف جيش جديد من عشرين ألف رجل في استريمادور وكاستيل وقفوا جميعا بوجه الإمبراطور، وحاولوا أن يسدوا عليه معبر سوموسبيرا. بقيت الفرق الفرنسية الأولى مترددة بعض فترات من الوقت أمام نيران العدو الذي كان يدافع عن هذا المعبر الضيق دفاعا شديدا، ولكن عندما ظهر نابوليون على رأس خيالة الحرس نشبت موقعة هائلة بينه وبين فرقة الرماحة البولونية أسفرت عن انكسار هذه انكسارا فظيعا، ومر الجيش الفرنسي على بطون العدو غير مبق على المدفعيين الذين أجهز عليهم بالسيف فوق مدافعهم نفسها، وولج أبواب مدريد من غير أن يرى أثرا للجيش الإسباني الذي حاول أن يوقفه في سوموسبيرا. جرت هذه الموقعة المجيدة في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني؛ أي بعد موقعة تودلا بسبعة أيام. وفي اليوم الأول من شهر كانون الأول استتبت أركان جيش الإمبراطور في سن أوغسطينو، على مقربة من العاصمة التي سلمت في الرابع منه.
كانت مدريد في بادئ الأمر قد فكرت في الدفاع عن نفسها، وكان أربعون ألفا من الفلاحين المسلحين وثمانية آلاف رجل من الكتائب المنظمة قد تأهبوا في العاصمة مع مائة قطعة من المدافع، ورفعوا عددا من الحواجز غير قليل بأسرع ما يمكن حتى أصبحت الحالة تشير إلى استعداد تام للمقاومة، وما هي إلا فترة من الوقت حتى انتشرت النار ونشبت معركة دامية أسفرت عن انتصار المرشال فيكتور وخروج الجيش الإسباني من مدريد وتسليم العاصمة، وفي اليوم نفسه أبطل ديوان التفتيش وعدل عدد الأديرة الكثيرة تعديلا جسيما . وبعد ذلك أذاع نابوليون في الإسبانيين نداء جديدا قال : «لقد أضلكم طويلا رجال غدارون مخاتلون؛ إذ دفعوكم إلى قتال مشين ... وما كانت هزيمة جيوشكم إلا نتيجة ضلال أليم! دخلت إلى مدريد إذن فحقوق الحرب تخولني أن أغسل بالدم إهانات ألحقت بي وبشعبي، ولكني لا أصغي إلى صوت غير صوت الرحمة والصفح ... لقد قلت لكم، في النداء الذي وجهته إليكم في الثاني من شهر حزيران، إنني أرغب أن أكون مصلح بلادكم. أيها الإسبانيون، إن مستقبلكم إنما هو بين يديكم فارموا السم الذي أهرقه الإنكليز في صدوركم ... لقد هدمت جميع الحواجز التي كانت تحول دول رقيكم وعظمتكم، وحطمت القيود التي كانت تثقل على الشعب! ولقد منحتكم تنظيمات حرة من شأنها أن تستبدل الحكم المعتدل بالحكم المطلق، فعليكم أنتم تتوقف المحافظة على هذه التنظيمات وجعلها قانونا لكم.
ولكن إذا لم تصغوا إلى صوت الحق وتثقوا بي ثقة تامة فأضطر إلى اعتباركم مقاطعات مفتتحة ووضع شقيقي على عرش آخر؛ عند هذا أضع تاج إسبانيا على رأسي، وأجعل الأردياء يحترمونه بالرغم عنهم. فالله قد منحني القوة والإرادة اللازمتين لاختراق جميع الحواجز التي تحاول أن تعترضني.»
إلا أن الإسبانيين لم يكترثوا بهذه اللهجة، ولم تؤثر فيهم تهديدات الإمبراطور ولا وعوده، ولكن كلمة التنظيمات لم تلفظ عن عبث؛ إذ إن الظروف القاهرة أوجبت على زعماء الفتنة أن يمهروا إسبانيا بتنظيم ينطوي على روح ديموقراطية أشد من تلك التي اتخذت في بايون.
ولما مثل وزير عدلية مدريد بين يدي الإمبراطور، على رأس وفد من المدينة؛ ليضع على أقدام المنتصر شواعر الشعب التي لم تكن في النفوس ولكن أوجبها الاحتلال العسكري للعاصمة، أجابه الإمبراطور: «إنني آسف على ما أصاب مدريد من الضرر، ولكني مغتبط بتمكني من إنقاذها وتوفيري عنها كثيرا من الأضرار الجسيمة.
لقد حافظت على الجمعيات الدينية بتعديلي عدد الرهبان الذين كانوا فوق ما يجب أن يكونوا، وأبطلت ذلك الديوان المجحف بحق الشعب؛ إذ إن من واجبات الكهنة أن يهدوا الضمائر، لا أن يمارسوا حكما خارجيا وجسديا على طبقة الشعب.
لقد أبطلت الحقوق التي اغتصبها الأسياد في عهد الحروب الأهلية، وحذفت الحقوق الإقطاعية جميعها، حتى أصبح كل فرد يستطيع أن يؤسس له فنادق وأفرانا وطواحين وغير ذلك، ويعطي ملء الحرية لأية صناعة يرغب في القيام بها، فالأثرة الفردية والغنى والخصب التي كان يتمتع بها عدد قليل من الرجال إنما كانت أكثر ضررا لزراعتكم من حرارة الشعرى اليمانية.
2
لا ينبغي أن يكون في أمة إلا عدالة واحدة كما أن هناك إلها واحدا. أما العدالات الخاصة بطبقة من الناس الذين اغتصبوها اغتصابا وكانت مخالفة لحقوق الأمة فقد هدمتها.
وليس هناك قوة تستطيع أن تؤخر طويلا تنفيذ مشيئتي، ولن يستطيع البوربون أن يسترجعوا الحكم في أوروبا مرة أخرى ...
قد تغير الأعقاب آراء اليوم إلا أنهم سيباركونني، كما يبارك كل مصلح مخلص، ويعتبرون الأيام التي ظهرت فيها بينكم من جملة الأيام المشهودة.»
صرف نابوليون اهتمامه في المدة القصيرة التي صرفها في عاصمة إسبانيا إلى تفتيش كتائبه وتقوية عزائمها، ففي التاسع من شهر كانون الأول استعرض في برادو فرقة المرشال لوفير، وفي العاشر منه كتائب معاهدة الرين، وفي الحادي عشر فرقة الخيالة التي تضم الرماحة البولونية، ولقد استلم قائد هذه الفرقة الأخيرة من يد الإمبراطور صليب جوقة الشرف.
كانت جوزيفين قد وضعت الفرقة التشريعية على قمة الطغمة السياسية بقولها: «إنها تمثل الأمة.» فأرسل نابوليون من مدريد تكذيبا إلى الجريدة الرسمية (المونيتور) جاء فيه «أن الممثل الأول للأمة إنما هو الإمبراطور دون سواه.»
فساء هذا الادعاء الكثيرين، إلا أنه كان موافقا لنظام العصر الشرعي؛ فالشعب الذي حمل نابوليون إلى العرش بكل ما أوتيه من الحماس أولا وبالتصويت ثانيا إنما كان جديرا بأن يرى ممثله في نابوليون لا في جماعة لم يكن هو منتخبها.
ثم أكانت الفرقة التشريعية صالحة لحكم فرنسا ومجابهة جميع المقتضيات التي كانت تحيط بموقفها، في وسط تلك الظروف التي وجدت فيها أوروبا، كما فعل نابوليون؟ لا ... فإن الرجل الوحيد الذي يصلح لجميع ذلك، إنما هو ذلك الذي يحمل بيديه المجيدتين مقدرات الأمة التي يمثلها تمثيلا صحيحا، وليس الجماعة التي اشتقت من السلطة الإمبراطورية، والتي تعجز عن القيام ببعض ما قامت به ذراع ذلك الرجل الجبار ونبوغه العظيم.
بينما كان الإمبراطور في مدريد يهتم بتنظيمات إسبانيا، كانت الحركات العسكرية تستمر في المقاطعات الإسبانية حيث كانت الفتن تنبثق من رمادها. وكان الإنكليز قد غادروا البورتغال ليسرعوا إلى نجدة عاصمة المملكة الإسبانية، إلا أن القائد مور،
3
بعد أن قنط من الوصول في الوقت الملائم، غير خطته وعزم على الاتجاه إلى فاللادوليد لكي يقطع المواصلات عن الجيش الفرنسي. أما هذا العزم فكان شؤما عليه؛ إذ إن المرشال سول ما زال يقاتله من بلنسيا حتى الكوروني حيث جرح جرحا بليغا حتى قتل من جيشه عشرة آلاف رجل وغنم كثيرا من الجياد والمدافع والمؤنة. وأما بقايا جيش القائد مور، فقد تركوا الكوروني للمرشال سول بعد أن حاولوا الدفاع، من غير جدوى، مدة ثلاثة أيام. ولقد أتيح للمرشال سول، في تلك المطاردة، أن يشتت أيضا فرقة رومانا الإسبانية التي كانت لجأت إلى جبال الإستوري.
كان الإمبراطور قد زحف بنفسه لملاقاة الإنكليز منذ علم بحركاتهم على مدريد. وفي أوائل شهر كانون الأول انتقلت أركان جيشه إلى استورغه فبينفات. ولقد كان نقلها إلى توردسيللا، حيث أقامت ببنايات دير القديسة كلير الخارجية، التي ماتت فيها حنة المجنونة والدة كارلوس الخامس.
أما في كتلونية فقد نجحت الكتائب الفرنسية نجاحا باهرا، ودخل «كوفيون سن سير»
4
إلى برسلونه بعد أن استولى على روز. وما عتم الأمر أن تغير موقف الفرنسيين في إسبانيا؛ إذ عاد النصر إلى أعلامهم بتلك العظمة التي كانت له في ألمانيا وإيطاليا.
لم يمر شهران حتى تلاشى الجيش الإنكليزي، وامحقت فرقة رومانا، وقهرت العاصمة، واحتلت معظم المقاطعات حتى أخذت إنكلترا تحاول أن تبعد عن إسبانيا ذلك النبوغ القاهر، الذي ما جاء إلا ليهدم آمال الإنكليز بعد استلام بايلن وسنترا، فوضعت الاتفاقية الإنكليزية على عاتقها جلبه إلى الشمال ودفعه إلى تجزئة قواته، إلا أن الآلة التي اتخذها مجلس سن جمس في هذه المرة لم تكن بروسيا التي كانت لا تزال رازحة تحت الضربات الهائلة التي أصيبت بها في يينا، ولم تكن روسيا المثقلة بجراحات فرييدلان والتي لم تجرؤ بعد على كشف خبثها الذي حجبته بالشواعر الودية في أرفورث، بل كانت النمسا التي كابدت نكبتها الهائلة في أوسترلتز، والتي مرت عليها ثلاث سنوات راحة استطاعت خلالها أن تجدد قوى جيوشها.
كان نابوليون في فاللادوليد عندما انتهى إليه استعداد النمسا العدائي وتأهبها للقتال، فترك إسبانيا وعاد إلى باريس، فوصلها في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول سنة 1809.
في آب عام 1808، عندما عاد نابوليون إلى بان، انتهى إليه أن النمسا تتظاهر باستعدادات سيئة نحو فرنسا، ولما قدم مترنيخ
5
سفير هذه الأمة إلى سن كلود على رأس فرقة المخابرة ليهنئوا جلالته الإمبراطورية الملكية بعيده، سأله الإمبراطور مستفهما عن صحة تلك الإشاعة، فأجابه السفير منكرا ذلك وصرح بأن التجهز العسكري الذي تقوم به النمسا، إنما هو يرمي إلى غاية واحدة، وهي الحماية. أما نابوليون فقال له إنه لم يصدق تلك الإشاعة؛ إذ إنه ما من سبب هناك يوجب ذلك العداء، وزاد على ذلك بقوله: «إن إمبراطورك لا يريد الحرب، وإني لواثق بكلامه الذي قاله لي في المقابلة الأخيرة التي جرت بيننا. لقد احتللت عاصمته والقسم الأكبر من مقاطعاته ولم ألبث أن أرجعت إليه معظم ما أخذت ... فهل تظن أنه لو قهر الجيوش الفرنسية قاهر، وأصبح السيد المطلق في باريس، كان نهج هذا المنهج المتساهل؟ ... إن دسائس خصوصية تدفعكم إلى حيث لا تريدون أن تذهبوا، فالإنكليز وأحزابهم هم الذين يوحون جميع تلك الاستعدادات السيئة، ولقد بدءوا يهللون للأمل الذي يريهم انغماس أوروبا في الدم مرة أخرى.»
أما مترنيخ فأصر على إنكار نظرات حكومته العدائية. ولكن لم يأت اليوم التاسع من شهر نيسان حتى أعلنت النمسا الحرب ودخلت في الحملة، وفي الثاني عشر منه انتهى إلى نابوليون أن العدو قد عبر الأين،
6
فغادر باريس في الحال، ووصل إلى ديللنجن في اليوم السادس عشر حيث وعد ملك البافيير بإعادته إلى عاصمته في خمسة عشر يوما بعد أن طرده منها الأمير كارلوس، وفي اليوم السابع عشر من الشهر كان نابوليون في دوناورت
7
حيث نشر نداء إلى جنوده جاء فيه ما يلي: «أيها الجنود، لقد تعدي على أراضي المعاهدة، ويرغب القائد النمسوي أن نفر هاربين لدى رؤيته ونترك له حلفاءنا. أما أنا فقد وصلت بسرعة البرق.
أيها الجنود، كنت محاطا بكم عندما جاء إلي إمبراطور النمسا في مورافي، ولقد سمعتموه يتوسل إلي لأصفح عنه ويقسم لي على إخلاص دائم. إن النمسا مدينة لكرمنا بكل شيء بعد أن انتصرنا عليها ثلاث مرات في ثلاث حروب، وصفحنا عنها ثلاث مرات، ونكثت العهد ثلاثا فهي ثلاث مرات كاذبة! ولكن انتصاراتنا الماضية إنما هي كفيلة لنا الفوز الذي ينتظرنا.
فلنزحف إذن، وليتحقق العدو قاهره لدى ظهورنا أمام عينيه!»
كانت النمسا علقت آمالها على غياب نابوليون وحرسه وبعد جيوش مارنغو وأوسترلتز القديمة؛ إذ كانت تعلم أنه لم يبق هناك إلا ثمانون ألف فرنسي مشتتون في ألمانيا جميعها، في حين أن جيشها المقسوم إلى تسع فرق، والذي يقوده الأرشيدوق كارلوس، كان يعد لا أقل من خمسمائة ألف رجل.
ظهرت بوادر الحركات النمسوية ظهورا سعيدا؛ إذ إن ملك البافيير اضطر إلى الهرب من مونيخ لدى ظهور الأرشيدوق وتعرض الجيش الفرنسي للخطر. ولكن وصول نابوليون غير الحالة عما كانت عليه، فتلاشت حمية الأمير كارلوس وجيشه، واشتدت حمية الجنود الفرنسيين. وما هي إلا عصفة من عصفات الردى حتى بر نابوليون بوعده لملك البافيير، وحمله منتصرا إلى عاصمته قبل اليوم العاشر من إعطائه الوعد. في الخامس والعشرين من شهر نيسان دخل هذا الأمير إلى مونيخ، أما نابوليون فلم يمر عليه ستة أيام حتى انتصر ست مرات على الجيش النمسوي. لم يقيض للفرنسيين أن يدركوا العدو إلا في اليوم التاسع عشر الذي أبلوا فيه بلاء حسنا في مواقع بلافنهوفن وتان وبيسنغ؛ أما في بيسنغ فقد انتصرت الكتيبة السابعة والخمسون، التي يقودها الكولونيل النشيط شاريير، انتصارا باهرا بعد أن قضت على ست كتائب نمسوية دفعة واحدة. وفي العشرين من الشهر انتصر الجيش الفرنسي انتصارا جديدا في إبنسبرج، حيث لم يقو العدو على الدفاع أكثر من ساعة واحدة، وترك في تصرف المنتصر ثمانية أعلام واثني عشر مدفعا وثمانية عشر ألف أسير. وفي الواحد والعشرين حصلت موقعة لاندشوت؛ في ذلك النهار هجم الجنرال موتون على رأس صف من الجند نحو النيران التي كانت تلتهم أحد جسور نهر الأيزر صارخا في جنوده: «تقدموا دائما ولا تطلقوا النار!» وما هي إلا بضع دقائق حتى دخل المدينة فأصبحت مسرحا لموقعة دموية هائلة ولم يلبث الأعداء أن هجروها. وفي تلك الآونة باغت الأرشيدوق كارلوس في راتيسبون، على رأس فرقة بوهيميا، ألف رجل عهد إليهم بالمحافظة على الجسر فأحاط بهم وأخذهم أسراء، ولما شاع هذا النبأ أقسم الإمبراطور أنه لا يمر أربع وعشرون ساعة حتى تجري الدماء النمسوية في رتيسبون. وفي الثاني والعشرين زحف نابوليون إلى هذه المدينة فالتقى بالعدو الذي يعد عشرة آلاف مقاتل، ولما اشتبك القتال بين الطرفين قدر للفرنسيين في وقت قصير أن يطردوا العدو من جميع مستحكماته، ويشتتوه تشتيتا، ويغنموا منه معظم مدافعه وخمسة عشر علما وعشرين ألف أسير. أما الأرشيدوق كارلوس فلولا سرعة جواده لما نجا بنفسه.
وفي اليوم التالي مثل الجيش المنتصر أمام راتيسبون، التي حاولت ست كتائب من بقايا جيش الأرشيدوق كارلوس أن تدافع عنها. ولما قدم الإمبراطور بنفسه ليأمر بالهجوم أصابته رصاصة في رجله اليمنى، لم يلبث نبؤها أن انتشر في الجيش، فأسرع الجند ليستطلعوا الأمر، إلا أنهم لم يكادوا يصلون حتى كان الإمبراطور امتطى جواده، بعد أن ضمد الجرح بفترة من الوقت قصيرة، وهجم الجميع على الجدران فتسلقوها واحتلوا المدينة. في تلك الآونة كان المرشال بسيير يطارد بقايا الفرق النمسوية التي قوتلت في أبنسبرج ولاندشوت فأدركها في اليوم الرابع والعشرين في حين أوشكت أن تنضم إلى فرقة احتياطية قدمت على شاطئ الأين وأعمل فيها القتل، وغنم منها ألفا وخمسمائة أسير. وفي اليوم نفسه نشر الإمبراطور في راتيسبون الكلمة الآتية:
أيها الجنود
لقد حققتم أملي إذ لم تعبأ شجاعتكم بكثرة العدد، ولقد بينتم، بأبهى ما يكون من المجد، الفرق العظيم بين جنود القيصر وجيوش كسرسيس.
لقد انتصرنا ست مرات في أيام قلائل، أما المائة مدفع والأربعون علما، والخمسون ألف أسير، والثلاثة آلاف عجلة الملأى بالأمتعة والذخائر التي غنمناها جميعا فهي نتيجة سرعتكم وشدة بطشكم.
كان العدو الذي أسكرته دسائس مجلس كاذب سفاح قد نسيكم ولم يستبق منكم أقل تذكار، إلا أن يقظته كانت فجائية لما ظهرتهم أمامه بذلك المظهر الرهيب! ... لقد عبر الأين واخترق أراضي حلفائنا في الماضي؛ وفي الماضي كان يأمل أن يحمل الحرب إلى قلب وطننا! ... أما اليوم، وقد كسر شر كسرة، وحل به من الرعب ما حل، فهو يهرب مشتتا تشتيتا! ... وقد لا يمضي شهر واحد حتى نحتل فيينا.
كما تحقق القسم الذي أعطاه نابوليون إلى ملك البافيير، هكذا ستتحقق هذه الأمنية أو هذه النبوءة الجريئة. في الثلاثين من شهر نيسان كانت أركان جيشه في برغوسن، حيث خفت الكونتيس دارمنسبرج إلى الإمبراطور تتوسل إليه لكي يرجع إليها زوجها الذي أخذه النمسويون أسيرا بتهمة أنه متحيز إلى الأمة الفرنسية. وفي أول أيار استوطنت أركان الجيش في رييد التي وصلها الإمبراطور ليلا. وفي الثالث منه انحدرت فرقة مؤلفة من ثلاثين ألف نمسوي، وهي بقية مقهوري لاندشوت، إلى إبرسبرج حيث أعمل فيها الفرنسيون قتلا وحملوها خسائر جسيمة؛ كان باسيير وأودينو وماسينا متجهين نحو إبرسبرج ليلاشوا الفرقة النمسوية، في حين كان الجنرال كلاباريد زاحفا في المقدمة على رأس فرقته التي تعد سبعة آلاف رجل لا غير، فلم يكد يلج إبرسبرج حتى أعمل العدو النار في هذه المدينة التي كانت مبنية بالخشب. ولم تمر فترة من الوقت حتى التهمت النار كل شيء، ووقفت سدا في وجه باسيير، الذي كان يعبر الجسر مع فرقة الخيالة ليعضد كلاباريد. عند هذا اضطر هذا القائد أن يدافع وحده مدة ثلاث ساعات مع سبعة آلاف رجل ضد ثلاثين ألفا. وأخيرا فتح معبر في وسط النيران ودخل منه القائدان لوغران ودوروسنيل . أما الجند الفرنسيون فقد أتوا عجائب في تلك المعركة ، وأحرقوا القصر، وشتتوا العدو حتى أوصلوه إلى «إن» حيث أحرق الجسر ليتمكن من ضمن هربه في طريقه إلى فيينا. ولقد حملت موقعة إبرسبرج النمسويين خسارة اثني عشر ألف رجل، بينهم سبعة آلاف وخمسمائة أسير. ننقل هنا ما جاء في المذكرة الخامسة عن منتصري هذه المعركة المجيدة: «إن فرقة كلاباريد، التي هي قسم من جيش أودينو، تكللت بمجد لا يزول، فلقد قتل منها ثلاثمائة رجل وأسر ستمائة أما جرأة كتائب اليو والكتائب الكرسكية فقد استلفتت نظر جميع الجيش. إن مدينة إبرسبرج وجسرها إنما هما تمثالان خالدان لتلك الجرأة النادرة. وسيقف المسافر غدا أمام هذين التمثالين، ويقول: من هنا، من هذا المركز الجميل، من هذا الجسر الذاهب في مذاهب الطول، من هذا القصر المنيع طرد سبعة آلاف إفرنسي جيشا مؤلفا من خمسة وثلاثين ألفا من النمسويين.»
استقبل الإمبراطور في إبسبرج وفدا من ولايات النمسا العليا، وفي اليوم الرابع من الشهر بات ليلته في إمس في قصر الكونت ده أوسبرج، وفي السادس منه وصل إلى دير مولك العظيم الذي صرف فيه بضعة أيام عهد حملة سنة 1805، والذي وجد الجيش في أقبيته بضعة ملايين من قناني النبيذ. لما مر الإمبراطور أمام خرائب قصر دييرنستن في اتجاهه نحو فيينا قال للمرشال لان، الذي كان إلى جنبه: «انظر، هذا هو سجن ريكاردوس قلب الأسد الذي زحف مثلنا إلى سوريا وفلسطين. لم يكن قلب الأسد أشد بسالة منك يا صديقي الباسل، إلا أنه كان أسعد مني بختا في عكا. ولقد باعه أحد دوقيتي النمسا لأحد أباطرة ألمانيا الذي سجنه في هذا المكان. كان ذلك العهد عهد البربرية، فيا للفرق العظيم بينه وبين عهدنا هذا! لقد رأى الجميع كيف نهجت مع إمبراطور النمسا الذي كنت أستطيع سجنه لو أردت. وإني لسوف أنهج معه النهج نفسه فالأيام تريد ذلك وليس أنا!» كان نابوليون مصيبا في كلامه، فالأيام هي التي اضطرته أن يكون كريما، نبيل النفس، سهل الخلق بعد الانتصار؛ ولقد كان العصر يتحرك فيه ساعة كان يتكلم عن الفرق بين عهده وعهد البربرية، وهو يسلك تلك المسالك الشريفة مع الأمراء المقهورين. ولكنه، ولو تظاهر بممثل العصر الراقي أمام الملكية القديمة، فإن هذه إنما ستبقى جديرة بأصلها فتقف وقفة الحارس الأمين على مجاهل البربرية. إن روح القرن التاسع عشر إنما كانت الضيفة اللطيفة في معسكر أوسترلتز، إلا أن روح القرون الوسطى ستكون الجلاد الشرس في سنت هيلين.
في نهار اليوم الثامن من الشهر انتقلت أركان جيش الإمبراطور من مولك إلى سان بولتن، وبعد يومين كان نابوليون على أبواب فيينا، في الساعة التاسعة صباحا.
كان الأرشيدوق مكسيميليان، شقيق الإمبراطورة، قائدا عاما لجيش هذه العاصمة، فحدثته نفسه بالمدافعة عنها رغما عن الإنذارات العديدة التي ووجه بها. ولكن الإمبراطور كان قد احتل جميع الأحياء التي تؤلف ثلثي شعب تلك العاصمة فنظم فيها فرقة من الحرس الوطني ومجالس بلدية أرسلت من قبلها وفدا إلى الأرشيدوق ليتوسلوا إليه بالإبقاء على مآويهم، سوى أن الأمير لم يتأثر كثيرا بهذه الخطة وبقيت النار مشتعلة، عند هذا رأى الإمبراطور نفسه مضطرا أن يأمر بإطلاق المدافع.
في الحادي عشر من الشهر الجاري، الساعة التاسعة مساء، شرعت فرقة مؤلفة من عشرين مدفعيا بإطلاق القنابل على المدينة، وما هي إلا أربع ساعات حتى أطلق ألف وثماني مائة قنبلة جعلت المدينة كتلة من النار تموج تحتها مواكب شعب يائس مشتت. وبعد جهود كثيرة، ذهبت أدراج الرياح، انتهى إلى الأرشيدوق أن الفرنسيين عبروا خليجا من نهر الدانوب، فخشي أن يتمكنوا من قطع خط الرجوع عليه وهرب من المدينة تحت جنح الظلام تاركا للجنرال أوريللي السبيل إلى التسليم. ولما بزغ الفجر أعلن هذا الجنرال أنهم سيوقفون النار، وفي النهار نفسه أرسل وفد، كان أسقف فيينا من أعضائه، للمثول بين يدي نابوليون فاستقبله هذا في قصر شنبرن. في ذلك اليوم استولى ماسينا على مدينة ليوبولدستاد، وفي المساء كان تسليم فيينا قد تم، ولما بزغ نهار اليوم التالي احتل أودينو على رأس جنوده مراكز العاصمة ونشر نابوليون عقيب ذلك هذه المذكرة:
أيها الجنود
لقد دخلنا فيينا بعد شهر من عبور الأعداء نهر الإن وفي الساعة نفسها.
إن جميع الكتائب الاحتياطية، والجيش العظيم الذي جمعوه، وتلك الحواجز التي رفعها غضب أمير لورين العاجز لم تستطع أن تثبت النظر في وجوهكم!
أما أمراء هذه الأسرة فقد هجروا عاصمتهم، لا كما يهجرها الجنود النبلاء الذين يرضخون للظروف القاهرة ونكبات الحرب، بل كما يهجرها القتلة السفاكون الذين يطاردهم تبكيت الضمير!
لقد كان توديعهم لسكان فيينا، وهم هاربون منها، قتلا ونارا، ولقد غمسوا يدهم في دماء أبنائهم كما صنعت ميده!
8
إن شعب فيينا المهجور البائس سيكون موضوع عنايتكم، وسأهتم به اهتماما كبيرا، أما الرجال الأردياء المشاغبون فسأجعلهم عبرة لسواهم!
أيها الجنود، كونوا لطفاء نحو الفلاحين المساكين، نحو ذلك الشعب الوديع الذي حق له علينا احترام عظيم، ولا تحفظوا في صدوركم أقل كبرياء بانتصاراتكم. أما الآن فأظهروا لي برهانا على تلك العدالة الإلهية التي تعاقب السفاكين وناكري الجميل.
نابوليون
إلا أن الجيش النمسوي لم يتب عن الحرب، بالرغم من هجره عاصمة الإمبراطورية، وبقي يترقب فرصة سانحة للرجوع إلى القتال حتى أتيحت له تلك الفرصة على جسر لنتز حيث وقف فاندام في وجهه وقفة شديدة إلى أن أتى برنادوت فشتته تشتيتا. أما نابوليون فكان يجتهد بفارغ صبر في عبور الدانوب لكي ينهي تلك الحملة الجديدة، في حين كان ماسينا يشيد عدة جسور على خلجان النهر التي تغمر جزيرة لوبو، فعزم نابوليون أن يستعملها لمرور الجيش بكامله، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى كانت فرق لان وباسيير وماسينا قد اتخذت لها مراكز في الجزيرة.
في الواحد والعشرين من شهر أيار، الساعة الرابعة مساء، ظهر الأرشيدوق كارلوس على رأس مائة ألف مقاتل، بعد أن جمع شتات مختلف الفرق النمسوية التي قهرت في البافيير، وهجم على فرق ماسينا وباسيير ولان التي استطاعت دون الجيش الفرنسي جميعه أن تدرك الجهة اليسرى من الدانوب. أعلن ماسينا بوادر القتال في إسبرن ووقف وقفة مجيدة في وجه العدو بالرغم من ضآلة عدد جنوده؛ وحذا لان حذوه في إسلنج في حين كان باسيير يبلي بلاء حسنا في وسط العدو المقيم بين هاتين القريتين. ولما هبط الليل انطفأت شعلة القتال. أما المائة ألف النمسوي، الذي يقودهم الأمير كارلوس، فلم يستطيعوا أن يأخذوا شبر أرض من الخمسة والثلاثين ألف فرنسي الذين يقودهم ماسينا ولان وباسيير، وما هي إلا أن قدمت نجدة عظيمة أكدت أن الغد سيكون شؤما على الأرشيدوق.
في تلك الليلة عبرت الجسور فرقتا أودينو وسنت هيلير، وكتيبتان من الخيالة الخفيفة، وقطار يقل عددا من المدافع وأخذت جميعها مركزا لها على خط القتال، عند هذا وثق نابوليون من فوز عظيم. ولما كانت الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي أعلن العدو الهجوم على قرية إسبرن؛ إلا أن ماسينا كان متأهبا للدفاع، ولكنه لم يكتف بصد هجمات النمسويين فحسب بل أخذ على نفسه مبادأة الحرب وأتيح له أن يقلب بطنا على ظهر جميع الصفوف التي وقفت في وجهه، وفي الوقت نفسه كان لان وفرقة الحرس الحديثة زاحفين إلى وسط الجيش النمسوي لكي يقطعا مواصلات الجناحين، ولقد التوى كل شيء أمام المرشال البطل وأصبح الفوز مؤكدا له، ولكن في نحو الساعة السابعة من الصباح، انتهى إلى الإمبراطور، أن فيضانا فجائيا صعد من الدانوب فاقتلع الأشجار، وحمل معه جسورا عديدة وبيوتا منهارة، ولم يبق على الجسر الكبير الذي يصل جزيرة لوبو بالشاطئ الأيمن، ويؤلف طريق المواصلات الوحيدة بين الفرق التي على الشاطئ الأيسر وبقية الجيش الفرنسي.
لم يكن لدى الإمبراطور، ساعة انتهى إليه هذا النبأ، إلا خمسون ألف رجل لا غير فأوقف الزحف إلى الأمام، وأمر المرشالية بالمحافظة على مراكزهم حتى يتمكنوا بعد ذلك من الرجوع بنظام إلى جزيرة لوبو، فنفذ هذا الأمر بكل دقة ... أما العدو، فلما علم بتهدم الجسور، دفعته الجسارة إلى إعلان القتال في جميع الجهات فهاجم إسبرن وأسلنغ ثلاث مرات، وثلاث مرات كان نصيبه الفشل. ولقد جلى الجنرال موتون في تلك المواقع الأخيرة إذ كان يقود فرقة من الحرس، وأبلى فيها المرشال لان بلاء حسنا؛ إذ إنه تمكن من إنقاذ تلك القسمة الباسلة من الجيش الفرنسي، إلا أن هذه الخدمة الباهرة إنما كانت الخدمة الأخيرة التي أداها هذا الجندي العظيم إلى بلاده وإلى القائد الأعظم الذي كان صديقا له لا سيدا عليه؛ لقد أصابته رصاصة أفقدته فخذيه في نهاية المعركة فحمل على نعش من خشب إلى حيث كان الإمبراطور الذي لم يستطع أن يمسك دموعه أمام رؤية أعز رفاقه في الحروب وأشدهم بسالة! التفت نابوليون إلى من حوله وقال: «إن قلبي أصيب بطعنة فظيعة في هذه المعركة حتى استطاع أن يحولني عن اهتمامي بالجيش إلى اهتمام آخر.» في تلك الآونة عاود المرشال لان رشده فارتمى على عنق الإمبراطور قائلا: «ستفقد بعد ساعة ذلك الذي يموت فخورا لعلمه بأنه كان أعز الأصدقاء لديك!» عاش المرشال بعد ذلك عشرة أيام كانت صحته قد تحسنت خلالها إلا أن حمى قتالة أفقدته الحياة في الواحد والثلاثين من شهر أيار، في فيينا. قال نابوليون: «إن الإنسان ليتعلق بالحياة ساعة يشعر بأنه على وشك أن يفقدها، فلان الذي كان أشد الرجال بسالة، أبى أن يموت في ساعته الأخيرة. لقد كان يحب امرأته وأولاده فوق حبه إياي، ولكنه لم يأت على ذكرهم في تلك الساعة العصيبة، ولقد كنت له نوعا من الرؤى والسيادة، أو بالحري نوعا من الحكمة العلياء؛ ولذلك كان يطلبني في كل فترة ويتوسل إلي! ...» وقال نابوليون بعد حديث طويل: «إنه لمن المستحيل أن تقع البسالة على أشد من مورات ولان فقد ارتفعت إلى مستوى شجاعته حتى أصبح جبارا ... لقد كان من هؤلاء الرجال الذين يستطيعون أن يغيروا وجه المسائل بما أوتوه من الجدارة والنفوذ الشخصي.»
لم تكتف موقعة أسلنغ بأن أفقدت نابوليون صديقا حميما بل طعنته طعنة أخرى، لا تقل عن الأولى ألما، بأن سلخت عن الجيش أحد قواده البسلاء وهو الجنرال سنت هيلير. جاء في مذكرات نابوليون ما يلي: «لقد فني في هذه الموقعة القائدان الدوق ده مونتبللو (لان) وسنت هيلير وهما بطلان عظيمان من أعز أصدقاء نابوليون الذي بكاهما بدموع سخينة.» لقد سببت هذه الخسارة الأليمة للإمبراطور حسرة عميقة، وقادته بحزن شديد إلى التعمق في الفكرة الأليمة التي تصور للإنسان حقيقة بطلان الأشياء البشرية. في الواحد والثلاثين من شهر أيار كتب إلى جوزيفين ذاكرا لها حزنه الشديد على موت لان الذي مات في الصباح، تاركا هذه العبارة تفلت من قلمه: «وهكذا يفنى كل شيء!» ناسيا عظمة أعماله ورحابة مجده.
إلا أن موقعة أسلنغ، التي أسبغت على الجند الفرنسي مجدا عظيما، تركت النصر مبهما؛ إذ إن كلا من الخصمين كان يدعي الفوز لنفسه. ولكن أوروبا اعتبرت تلك الموقعة خاسرة من جهة نابوليون، الذي تعود أن يسحق عدوه؛ لأنه لم يتمكن هذه المرة من طرد النمسويين من مراكزهم. عند هذا عزم بونابرت أن يحاصر في جزيرة لوبو لئلا ينجم من تقهقره تأثير أدبي مؤسف في فرنسا وفي الخارج. أما الأمير كارلوس، الذي أزعجته حركات دافو الذي كان يطلق القنابل على برسبورج، فلم يجرؤ أن يبادئ القتال، وعزم أن يحصن مركزه بين إسبرن وإنزرسدورف.
في أثناء ذلك كان نابوليون مهتما بإعادة بناء الجسور حتى تم له ذلك، وما عتم الأمر أن تحققت المواصلات بين الجزيرة والشاطئ الأيمن وما هي إلا أن انتهى إلى نابوليون أن جيش إيطاليا، الذي يقوده الأمير أوجين، قد قاتل الفرقة النمسوية في سن ميشيل بعد موقعة أسلنغ بثلاثة أيام، وأن المنتصرين قد التقوا بجيش ألمانيا في أعالي جبل سيمرنغ، فبشر الكتائب بهذا النبأ المفرح في النداء الآتي:
يا جنود جيش إيطاليا
لقد بلغتم الغاية التي عهدت بها إليكم بمجد عظيم، والسيمرنغ شاهد عدل على التقائكم بالجيش الكبير.
مرحبا! إنني لمسرور بكم! لقد فاجأكم عدو لئيم قبل أن تمكنت صفوفكم من الانضمام بعضها إلى بعض فاضطررتم أن تتقهقروا حتى الأديج، ولكن عندما أمرتم بالتقدم إلى الأمام كنتم في ساحة إركول المشهودة حيث أقسمتم على أرواح أبطالنا أن تبلغوا غاية النصر! ولقد حققتم القسم في مواقع بيافا، وسن دانيال، وتارفي وغوريس. أما الكتيبة النمسوية، التي دخلت إلى مونيخ بادئ ذي بدء وأعطت إشارة المذبحة في التيرول، فقد اكتنفتموها في سن ميشيل وأسقطتموها تحت حرابكم.
أيها الجنود، إن هذا الجيش النمسوي الذي لطخ شرف مقاطعاتي، وصور له الوهم حينا أن يحطم تاجي الحديدي سيصبح، بعد أن قاتلتموه وشتتم شمله ولاشيتموه، مثلا لصرامة هذا الشعار: لقد وهبني الله هذا التاج فالويل لمن يمسه!
وفي الرابع عشر من شهر حزيران، في ذلك اليوم التذكاري لمعركتي مارنغو وفرييدلان، انتصر الأمير أوجين انتصارا آخر على الأرشيدوق جان والأرشيدوق البلاتيني في رآب. وبعد أن أبلى مارمون بلاء حسنا في دالماسي جاء بدوره ينضم إلى الجيش الكبير؛ عند هذا رأى الإمبراطور أن الوقت قد حان للقضاء على العدو ذلك القضاء المبرم الذي يستعد له منذ أكثر من شهر. أجل، لقد شخص نابوليون إلى فرييدلان بعد ذلك الدم المجيد الذي أهرق عبثا في أيلو، وهو شاخص الآن إلي وكرام بعد أسلنغ! ننقل هنا كيفية حدوث تلك المعركة الهائلة، مجتزئيها من المذكرة الخامسة والعشرين، التي تقص كيفية عبور الدانوب في الرابع من شهر تموز الساعة العاشرة مساء، وحريق إنزرسدورف، وبعض الحوادث التي جرت في اليوم الخامس.
معركة وكرام
خشي العدو من النتائج الكبرى التي حصلها الجيش الفرنسي من غير جهد؛ فأمر كتائبه جميعها بالزحف دفعة واحدة، وفي الساعة السادسة من المساء شغل المراكز الآتية: ميمنته من ستادلو إلى جيراسدورف، وسطه من جيراسدورف إلى وكرام، وميسرته من وكرام إلى نوسييدبل. وشغلت ميسرة الجيش الفرنسي مركز كروس إسبيرن، ووسطه راشدورف، وميمنته كلنزندورف. ووقعت موقعة وكرام، فاستولت الكتائب الفرنسية على هذه القرية، إلا أن صفا من السكسونيين وآخر من الفرنسيين خدعتهما الظلمة الحالكة فظن كل منهما الآخر عدوا وجرى القتال بين الطرفين، وهكذا ذهبت تلك المعركة أدراج الرياح.
بقي الإمبراطور طوال الليل يجمع قواته في وسطه استعدادا لمعركة وكرام، في حين كان الدوق ده ريفولي يزحف إلى ميسرة أدركلا تاركا للزحف إلى إسبيرن فرقة واحدة أمرت بأن تتظاهر بالتقهقر إلى جزيرة لوبو. وأعطي الدوق دورستيد أمرا بمجاوزة قرية كروسهوفن للدنو من الوسط.
في صباح اليوم السادس من الشهر شغل أمير بونت كورفو الميسرة، وكان الدوق ده ريفولي في الخط الثاني، وأما الخطوط الأخرى فكانت تشغلها فرق الكونت أودينو والدوق ده راغوز والحرس الإمبراطوري.
زحف الدوق دورستيد من الميمنة ليصل إلى الوسط، في حين كانت فرقة بللفارد العدوة تزحف إلى ستادلو، وفرق كوللوراث وليكتنستن وهيللر تربط هذه الميمنة بمركز وكرام حيث كان أمير هوهنزوللرن.
وما هي إلا هنيهة حتى التقت فرقة روزنبرج بفرقة دورستيد وبدأت بوادر القتال، عند هذا انقض الإمبراطور على هذه النقطة بما لديه من الجند والمدافع، ولم يمر ربع ساعة حتى كسرت فرقة الدوق دورستيد فرقة روزنبرج ورمتها إلى ما وراء نوزييديل بعد أن حملتها خسائر لا تحصى.
كانت المدافع في تلك الآونة تقوم بواجبها على طول الخط؛ فأمر نابوليون الدوق ده ريفولي بالهجوم على القرية التي يشغلها العدو، وأشار إلى الدوق دورستيد بأن يزحف إلى وكرام، وأعطى أوامره للدوق ده راغوز والجنرال مكدونلد بالاستيلاء على وكرام ساعة يدخلها الدوق دورستيد.
في أثناء ذلك، شاع أن العدو يهاجم القرية التي استولى عليها الدوق ده ريفولي مهاجمة شديدة، وأن ميسرة الجيش الفرنسي قد تقدمت إلى الأمام ثمانية عشر ألف قدم، وأن المدافع تنطلق كالعواصف في كروس إسبيرن والمسافة التي بين كروس إسبيرن ووكرام مغطاة بخط عظيم من المدافع؛ فأمر الإمبراطور الجنرال مكدونالد بأن ينظم فرقتي بروسييه ولامرك صفوفا للهجوم عضدها بفرقة الجنرال نانسوتي وخيالة الحرس مع مائة مدفع. أما الجنرال الكونت ده لوريستون فقد زحف على رأس تلك الكتيبة المؤلفة من مائة مدفع إلى حيث كان العدو من غير أن يطلق النار، حتى صار على مقربة منه؛ عند هذا بدأت طلائع نيران هائلة أطفأت نيران العدو وزرعت الموت في جميع صفوفه. وزحف الجنرال مكدونالد نحو الأعداء يعضده الجنرال راي، وما هي إلا لمحة عين حتى خسر وسط العدو فرسخا من الأرض، وشعرت ميمنته بخطورة المركز الذي هي فيه فتقهقرت بسرعة عظيمة ولحق بها الدوق ده ريفولي يهاجمها مهاجمة شديدة. بينما كان اندحار الوسط يكابد الويل ويحمل الميمنة ويلا آخر، كان الدوق دورستيد يهاجم الميسرة وهو زاحف إلى وكرام. لقد تكللت فرقتا بروسييه وغودن بمجد عظيم!
عند الظهر، زحف الكونت أودينو إلى وكرام ليعضد الدوق دورتسيد ففاز فوزا باهرا واستولى على هذا المركز الخطير، وفي صباح النهار السابع كان الجيش زاحفا إلى كورنوبرج وولكرسدورف، أما العدو فلما قطع عليه طريق هونغاريا ومورافي وجد نفسه منحصرا في جهة بوهيميا.
هذه هي كيفية حدوث موقعة وكرام، تلك الموقعة الخالدة في التاريخ التي شاهدت أربعمائة ألف رجل وألفا وخمسمائة مدفع يتطاحنون في سبيل مصالح كبيرة في ساحة درسها العدو وحصنها طوال أشهر عديدة. أما الغنائم التي استولى عليها الجند الفرنسي فهي عشرة أعلام وأربعون مدفعا وعشرون ألف أسير بينهم أربعمائة ضابط وعدد من القواد غير قليل، وأما ساحات القتال فقد غطيت بالموتى، الذين شوهدت بينهم جثث كثير من القواد، عدا عن قائد يدعى نورمان وهو فرنسي خان وطنه ودنس مواهبه في سبيل العدو!
رأى نابوليون نفسه، للمرة الثالثة، سيدا على البيت اللوريني الذي عزا إليه نكران الجميل أمام أوروبا والتاريخ، وللمرة الثالثة نزل هذا المنتصر العظيم عند المطاليب السلمية، التي طرحها مسببو الحرب، الذين أفقدتهم معركة وكرام كل آمالهم وقضت على جميع ذخائرهم. طلب إمبراطور النمسا توقيف القتال فمنحه نابوليون ذلك في العاشر من شهر تموز، في زنائيم، ثم فتحت المداولات في سبيل السلم، وبقيت ثلاثة أشهر سكن نابوليون خلالها قصر شنبرن.
أمر الإمبراطور بمحاكمة الجنرال مونه الذي أساء الدفاع في فليسنغ. ولكنه، بقدر ما كان صارما نحو الذين لم يعملوا كل ما بوسعهم لإنقاذ الشرف الفرنسي، كان متساهلا في مجازاة رجال الدماغ والقلب الذين عضدوه في ساحات الحروب، إن بشجاعتهم، وإن بآرائهم؛ فإنه أعطى لقب مرشال، بعد معركة وكرام، إلى أودينو ومكدونالد ومارمون.
كان الجيش الفرنسي في ذلك الحين مستتبا في جميع جهات ألمانيا؛ من الدانوب إلى الأيلب، ومن الرين إلى الأودير. إلا أن هذا الاحتلال المثقل على الأهلين إنما كان يدفعهم إلى سماع جميع الشكايات التي كان عملاء إنكلترا وجواسيس فيينا وبرلين يوجهونها نحو فرنسا وإمبراطورها، والنزول عندها والاقتناع بها، فتصويب اللوم والحقد على نابوليون إذ يصور لهم أنه إنما يغذي الحرب في سبيل مطامعه وجشعه.
أما بوادر هذا الحقد فقد ظهرت في شنبرن حيث حاول أحد الشبان المتعصبين أن يقتل نابوليون وقد جاء من أرفورث إلى فيينا لهذه الغاية، ولما ألقي القبض عليه بقي هادئا لم ينبس ببنت شفة، ولم يبد أقل ندم على محاولته، بل أظهر تأسفه على عدم تمكنه من قتل الإمبراطور، فأراد نابوليون أن يطلع منه على بلاده وأسرته وعلاقاته وعاداته، فصرح الشاب أنه يدعى ستاب من مدينة أرفورث وابن أحد الوزراء المنتمين إلى مذهب لوتيروس، فسأله نابوليون عن السبب الذي ردعه عن قتله يوم كان في أرفورث، فأجابه الفتى: «كنت يوم ذاك متساهلا مع بلادي حتى ظننت الحرب قد انتهت واستتب السلام.» لم يشأ هذا الشاب أن يضرب في نابوليون إلا مسبب الحرب، والقاهر المنتصر الذي لا يعيى، ومقلق الراحة الأوروبية. ولو أدرك الشعب الألماني الموقف الحقيقي، ومن هم الذين غذوا الحرب في أوروبا لصوب حقده على حكومته نفسها وشهر عليها الحرب. ولقد فهم نابوليون من جواب هذا الفتى إلى أية درجة هيجت سياسة أعدائه الكاذبة أدمغة الألمانيين، وود أن يعفو عن ستاب الذي أعجبته صراحته وجرأته، والذي لم يكن سوى آلة عمياء تديرها مشتهيات حركتها المداولات القديمة، إلا أن أوامره لم تصل في الوقت المناسب، ونفذ حكم الموت في الفتى الألماني الذي تلقاه بكل ثبات ورباطة جأش صارخا: «ليحي السلام! لتحي الحرية! لتحي ألمانيا!»
وأخيرا عقد الصلح في فيينا في الرابع عشر من شهر تشرين الأول سنة 1809، ولقد أذعن إمبراطور النمسا إلى التخلي عن بعض أراضيه لفرنسا، حتى إن القيصر نفسه، الذي كثيرا ما عاضد أعداء فرنسا في الحرب، أتيح له أن يأخذ حصته من الأراضي التي سلخت عن ممالك حلفائه السريين؛ إذ إن نابوليون، الذي كان يثق برصانة المظاهرات التي جرت في أرفورث، أعطى الإسكندر القسمة الشرقية من غالليسيا القديمة المحتوية على أربعمائة ألف ساكن. ولما وقعت المعاهدة غادر نابوليون شنبرن ليعود إلى فرنسا، ووصل إلى فونتينبلو في السادس والعشرين من شهر تشرين الأول.
الفصل السادس عشر
وقف الملوك عن المقاومة في جميع الجهات؛ إذ إن كبرياء الأسر الأريستوقراطية الموروثة قد قهرت جميعها، وتضاءلت أمام مجد العرش الإمبراطوري، أو لجأت إلى ما وراء البحار لتخفي عارها وجراحاتها؛ فأسرة براغانس الشمالية هربت إلى البرازيل، وأسرة نابولي إلى سيسيليا، في حين قدم بوربونيو إسبانيا إلى بايون يتسولون مساعدة نابوليون ويتخلون له عن عرشهم. أما الرءوس الشامخة في الشمال كأسرتي لورين وبراندبورج، اللتين كانتا تذهبان في مذاهب العظمة والكبرياء، فقد اضطرتا إلى الرضوخ للإمبراطور العظيم والتشفع إليه في اعتبارهما حليفتين له، وأما زعيم أسرة رومانوف العظيمة، فقد تكلف ترك دوره البطولي الذي أحرز فيه لقب أول فارس من فوارس الحق الإلهي، ليصرح أينما كان بأنه صديق الرجل العظيم الذي أتاح له المبدأ الثوري أن يقبض على ناصية عرش فرنسا، ثم إن الأمراء الصغار والجمهوريات أجبرتهم الضرورة على الاشتراك في ذلك الرضوخ العالمي، فالأمراء الألمانيون لم يجدوا بدا من الدخول في حماية القاهر الأكبر، كما أن الجمهوريين الباتافيين طلبوا إليه أن يمنحهم ملكا من أسرته.
إلا أن مستنقعا مشبوها كان يتراءى، في وسط ذلك الرضوخ العالمي، الذي أنتجه الإعجاب عند البعض والخوف عند البعض الآخر؛ ففي زاوية من أوروبا، في أطراف إيطاليا، كان أحد الزعماء السياسيين، وهو أكثرهم ضعفا وادعاء، يتجاسر أن يقاوم وحده المتسلط العالمي فلا يخشى أن يكدر بوعيده ولعناته موسيقى الإكرام والإعجاب التي كانت تدق في جميع أطراف أوروبا. أما ذلك الزعيم، أو بالحري ذلك الأمير المتمرد، آخر عنصر من عناصر مقاومة الماضي لتطلبات رجل الحاضر، فقد كان البابا نفسه الذي ترك في الماضي قصر الكيرينال
1
ليكلل نابوليون في باريس.
أيستطيع البابا كأمير زمني غير مهاب، أن يتكل بعد على تأثير الصواعق الروحية؟ وهل القرون الوسطى، التي تنهار أو تتداعى من جميع الجهات ، تستطيع أن تجدد قواها في روما؟ ثم هل إن النظم والمعتقدات الدينية، التي كانت سببا لعظمة البابوية وازدهارها، لم تقاس نكبات الزمن كما قاستها النظم والمعتقدات السياسية التي أسست عليها الأريستوقراطية والملكية سلطانها؟
إن التاريخ يقول عكس ذلك. كتب إلى البابا من فرنسا، منذ أكثر من مائتي سنة، أن براءاته تصبح جليدا وهي عابرة جبال الألب. ومنذ ثلاثة قرون أتيح للروح الفلسفية، والعلوم النظرية الحرة أن تنزع من السلطة الباباوية نفوذها العظيم الذي ساد في شمالي أوروبا. لقد بدأت الثورة في ألمانيا ضد سيادة القرون الوسطى بعد أن اتخذت أساسا لها المسائل الدينية التي اختلف عليها وأنكرها العقل البشري. ولقد هيجت الثورة في الكنيسة ثورة إنكلترا في الأمة. أما في فرنسا فقد رئي أن الانشقاق والإلحاد بقيا يحترمان عرش القديس لويس، وقد يكون سبب ذلك أنهما لم يستطيعا أن يجلسا عليه، إلا أن الإيمان الروماني لم يربح شيئا من الاحتفاظ العلني الذي أظهرته المملكة المسيحية الصرفة. لا يبقى لنا داع لأن نتكلم عن الحملات التي وجهت إلى تقاليد الفاتيكان لدى ظهور المذهب الكليكاني، الذي حاول أن يخضع نبوغ هلدبران
2
لنبوغ بوسويه إذا قلنا إنه كان هناك عنصر ثورة أقوى وأشد بأسا من الانشقاق والإلحاد قد شن غارة على جميع مراقي المجتمع الفرنسي، وهو الفلسفة التي لم تتخذ شعارها تشييد معابد ضد معابد، بل زعزعت جميع المذاهب بتسييرها شبح الشك والريبة عليها جميعا، وفازت في ذلك أبهر فوز. ولقد كان مونتين وديكارت، فولتير وروسو أكثر خطرا على السدة الرسولية من لوتيرس وكلفين.
لم يكن بيوس السابع ليتمكن من نكران هذه الحقيقة التي أعلنها خلفاؤه أنفسهم في شكايات مرة أليمة، إلا أنه إنما كان أمين سلطة سادت على الملوك وتحكمت في ضمائر الشعوب، يوم كان الكهنوت الحارس الوحيد للعلوم والآداب، والخفير المفلح للرقي الاجتماعي، وحامي ذمار الشعوب ضد تعديات الإقطاعية الظالمة، وكان فخورا بهذا التذكار، ومستندا في آن واحد إلى الإيمان الذي يريه ينبوع سلطته في السماء؛ لذلك لم يكن يعتبر ذلك التواني في العقائد الدينية إلا ضلالا عرضيا من الروح البشرية، ولم تكن كبرياؤه لتسمح له بأن يعترف أن انحطاط مذهبه إنما سينقص من نفوذه العظيم. إلا أن ادعاء البابا هذا لم يكن سوى وهم شريف؛ فالسلطة الروحية التي هذبت العالم الإقطاعي لم تبلغ في سقوطها إلى الدركة التي بلغت إليها الإقطاعية نفسها. وكان من الطبيعي أن الأفكار الدينية، التي أعطت الإكليروس سيادته على الأشراف إبان ازدهارهم المشترك، تجعل خرائب النفوذ الإكليريكي أقل تلفا من هوان الأريستوقراطية؛ إذ إن ذهاب الأريستوقراطية لم يترك أقل فراغ في الأمة خلاف ذهاب الكهنوت؛ لأنه إذا كان من السهل على الفلسفة، التي تقلب نظاما سياسيا، أن تشيد على أنقاضه نظاما جديدا، وإذا كان من الهين عليها أن تعمل جمهورية أو ملكية، وتنظم حكومة وتخلق شرطة، وتوجد رجالا وقوانين لإنقاذ المجتمع خلال تشويش عهود الانقلابات الأدبي، فالنظام الديني لا يستطيع أن يقوم بعمل من هذه الأعمال. إذن فالعقائد القديمة، على ما يطرأ عليها من الضعف، تبقى كخرائب محترمة يأوي إليها جميع الذين يشعرون بحاجة إلى الصلاة والإيمان. فهذا الثبات الذي تواظب عليه كتلة المؤمنين على سبيل العادة، والذي يكفي وحده لأن يصون بعض الحركة في المعابد؛ هذا الاستمرار في العبادة خلال خرائب المذاهب والمعتقدات، هو الذي استطاع أن يخدع السلطة الروحية في موقفها الحقيقي ويقودها إلى الاعتقاد بأنها لا تزال تحفظ من القوى ما يسمح لها أن تخاطب الملوك والأباطرة بتلك اللهجة الفخورة التي تعودها راهب «كلوني».
3
أراد بيوس السابع عام 1805، بعد تتويج الإمبراطور بأيام قلائل، أن يحقق الآمال التي عبر من أجلها جبال الألب «ليكرس» في باريس الثورة الفرنسية في شخص نابوليون؛ فطلب أن ترجع إليه سفاراته وترحب أراضيه، إلا أن هذه المنحة لم تدخل في نظريات الإمبراطور بإيطاليا، ورفضها رفضا باتا. عند هذا ندم الخليفة على ما فعل، وتظاهر بغضبه في كلماته ورسائله وجميع أعماله، ورفض الطرق القانونية من الأساقفة الذين سماهم الإمبراطور وفقا للاتفاقية، وعزم أن يفتح مرافئه في وجه الإنكليز، فأثار هذا التصرف غضب الإمبراطور؛ فكتب إلى البابا في الثالث عشر من شهر شباط سنة 1806 ما يلي: «إن قداستك إنما هي سلطانة روما، إلا أنني إمبراطورها، ويجب على جميع أعدائي أن يكونوا أعداءها.»
فأجابه الخليفة: «إن الخليفة الأعظم لم يعترف ولن يعترف بسلطة فوق سلطته ... فإمبراطور روما غير موجود، ومن واجب نائب الله أن يحافظ على السلام مع الجميع من غير أن يفرق بين كاثوليكي وهرطوقي.»
حاول سفير نابوليون أن يقنع الخليفة بأن لهجته هذه لا تجديه نفعا سوى أنها تسبب لروما نكبة شديد. فبقي البابا مصرا على عزمه، وقال للسفير الفرنسي: «إذا نزعوا مني حياتي فإن قبري ليشرفني، وينتصر لي الله في السماء والتاريخ على الأرض ... وإذا نفذ الإمبراطور تهديداته وأبى أن يعترف بي كأمير ذي سلطان؛ فإني لأرفض أن أعترف به كإمبراطور.» كان الخليفة يظن أن لعنة تسقط من فمه تكون شؤما على نابوليون. قال: «إن الاضطهاد يورث الانشقاق وهو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الكنيسة.»
إلا أن القوة الأدبية، التي كان البابا يتمسك بها، لم تستطع أن تعيد إلى روما سلطانها القديم؛ لأن الشعوب جميعها نزعت عن الرضوخ والطاعة. فبعد أن سادت روما على الملوك في سبيل الشعوب المسيحية، أنفقت والملوك على الشعوب ساعة خلع الرقي ثوب الكاهن ليرتدي وشاح الفلسفة. أجل، عدلت القوى الفاتيكانية عن القيام ضد المظالم الإقطاعية وصوبت إلى العقل المتمرد والروح النزوعة، وحصل الاتفاق بين التاجين الملكي والباباوي من غير ما نظر إلى المعتقدات الدينية.
لقد حلا للبابا بيوس السابع أن يرتفع إلى كبرياء الفاتيكان، تلك الكبرياء التقليدية، وأن يظهر من أعالي الكيرينال صواعقه المنطفئة. إلا أنه كان يعلم أنه لم يبق يستطيع أن يحرك إلا بعض النفوس المنزوية في أعماق الأديرة والمعابد. ومع كل ذلك، تظاهر باستعداده لاستقبال عدوه القاهر في قصر الفاتيكان من غير أن يترك حسام غريغوريوس السابع وسكست الخامس. قال: «إن قصر الفاتيكان ليتشرف باستقبال جلالتكم وحاشيتها.» ولكن الإمبراطور لم يستطع أن يقوم بهذه الرحلة، التي كان قد أعلنها إلى البابا؛ لأن مسائل البورتغال وإسبانيا أبقته في باريس ليعد العدة لاجتياز البيرينه . إلا أن المفاوضات بقيت مستمرة بين نابوليون والسدة الرسولية من غير أن تفضي إلى نتيجة حسنة، وما كان سخط البابا على نابوليون إلا ليزداد من يوم إلى يوم. أما نابوليون فأصر إصرارا تاما على رفض مطاليب الخليفة، وعزم أن يدفع الجيوش الفرنسية إلى احتلال الولايات الرومانية، إلا أن البابا قد حزر ذلك فقال للمفاوض الفرنسي: «إننا لن نقف في وجه الجنود، ولن أدع سبيلا لإطلاق بندقية، ولكن يجب على قائدك أن يحطم الأبواب حتى تضطر الكتائب أن تمر على جثتي؛ إذ إنني أكون بنفسي على أبواب المدينة، عند هذا يعلم الخلق جميعهم أن الإمبراطور رفس برجله ذلك الذي «كرسه» والله العلي يكمل الباقي.»
وما هي إلا أيام قلائل حتى احتلت روما احتلالا عسكريا، فلقد زحف إليها بعض الكتائب التي أتيح لها أن تقبض على ناصية مدينة قيض لها مرتين أن تسود على العالم. وهكذا احتجبت مليكة الأمم، فلم تبق روح العصر القديم لتستطيع أن تسهر في الكابيتول، وحشرجت روح القرون الوسطى في أعماق الفاتيكان.
إن هذا الانقلاب، الذي لم يكن أقل عظمة من انقلاب بابل، أكمل انتصار الثورة الفرنسية فأتيح للروح العصرية أن تؤيد سلطتها في العالم وتضع حدا نهائيا للعظمة الرومانية، من غير أن تثير اعتراض الشعوب المسيحية وملوكها أو تدق في العالم الكاثوليكي أجراس حرب صليبية أخرى. أما البابا فلم يشأ أن يبقى ساكنا لدى هذا الانقلاب، فأطلق على الإمبراطور حرما علنيا جاء فيه: «باسم الله العلي العظيم، والرسولين بطرس وبولس، وباسمنا نحن نصرح بأنكم استحققتم الحرم أنتم وجميع حاشيتكم استنادا إلى الجرم الفظيع الذي اقترفتموه.»
كان نابوليون في فيينا تحف به أكاليل أكموهل وراتيسبون عندما علم بنشر هذا الحرم، فعزم أن يطلب من الخليفة حالا أن تنضم أراضي الفاتيكان إلى الإمبراطورية الفرنسية، وإذا حاول أن يرفض ذلك يضطره إلى أخذه أسيرا، وعهد إلى الجنرال راده بأن يقوم بهذه المهمة الشاقة. في ليل اليوم الخامس من شهر تموز 1809 وصل الجنرال راده إلى قصر الكيرينال وألح على الخليفة بأن ينزل عند طلب الإمبراطور، لئلا يؤدي رفضه إلى عاقبة وخيمة، فأجابه البابا: «لا أستطيع ولا أريد. فلقد وعدت الله أن أحفظ للكنيسة جميع ممتلكاتها ولن أخلف بوعدي ما زلت حيا!» فقال الجنرال: «إنني آسف أيها الأب الأقدس أن ترفض قداستك النزول عند هذا الطلب؛ إذ إن هذا الرفض إنما يعرض قداستك لسوء.» فقال البابا: «لقد قلت؛ وما من شيء على الأرض يستطيع أن يحولني عن عزمي، تراني مستعدا لهرق آخر نقطة من دمي قبل أن أحنث باليمين التي أعطيتها لله.» فقال الجنرال: «بما أن عزمكم هو هذا؛ فإني آسف أن أنفذ الأوامر التي أعطيتها.» فقال البابا: «حقا يا ولدي إن هذه الأوامر لا تمنحكم بركات السماء.» فقال الجنرال: «أيها الأب الأقدس، يجب أن أصحب قداستكم.» فقال البابا: «هذه هي المكافأة التي استحققتها جزاء ما صنعت يدي لإمبراطورك! ولكن قد أكون مخطئا أمام الله فيريد أن يعاقبني وإني لراضخ بكل تواضع.» فقال الجنرال: «إني أقوم بما عهد إلي، وأراني آسفا على تنفيذه لأني كاثوليكي وولد قداستك.» عند هذا سأله الكردينال بكا: «أيستطيع الأب الأقدس أن يصحب معه من يشاء؟» فأجابه الجنرال إنه تبعا لأوامر الإمبراطور لا يحق لأحد أن يكون بمعية البابا إلا نيافته. فاستطرد الكردينال قائلا: «كم هي المدة المعطاة لنا للتأهب؟» فقال الجنرال: «نصف ساعة.» عند هذا نهض الخليفة ولم يتلفظ بسوى هذه العبارة: «فلنذهب ولتكن معنا مشيئة الله.»
كانت مركبة تنتظر البابا على باب القصر، فصعدها بيوس السابع والكردينال بكا وجلس الجنرال راده أمامهما. وبعد فترة وصلت المركبة إلى الباب الخارجي، فترجل الجنرال راده، وألح على البابا مرة أخرى أن يرتدع عن إصراره، فلم يجبه الخليفة بسوى هذه الكلمة الجافة: لا! وكان هناك مركبة أخرى صعدها البابا والكردينال، وما هي إلا مدة قصيرة حتى كانت المركبة خارج روما على طريق فلورنسا.
قال السيد ده بوريين: «بقي الخليفة المسكين يتيه من مدينة إلى مدينة؛ فإن إليزه أرسلته من فرنسا إلى تورين، ومن تورين أرسله أمير بورغيز إلى داخلية فرنسا ، حتى أرسله نابوليون إلى سافون. إلا أن هذا الحادث، وإن كان أليما؛ فإنه لم يبشر بغضب السماء على نابوليون؛ إذ إنه في الليلة نفسها التي أسر فيها البابا ربح الفرنسيون معركة وكرام.»
بينما كانت المفاوضات في سبيل السلم جارية بين نابوليون والنمسا، أرسل نابوليون من قصر شنبرن الإمبراطوري إلى الجنرال ميوللي، الحاكم العسكري في روما، أمرا بتنفيذ المرسوم القاضي بضم الولايات الباباوية إلى الإمبراطورية الفرنسية.
توقف الإمبراطور مدة في فونتنبلو لدى عودته من ألمانيا، ثم والى سيره إلى باريس فخف إليه الملوك الذين خلقهم لتهنئته بانتصاراته الجديدة وعقد الصلح. إذا استثنينا إنكلترا، التي لم يستطع نابوليون أن يغرس نسوره على أبراجها، فيكون الإمبراطور قد وصل إلى أوجه؛ إذ لم يبق له في أوروبا ما يضيفه إلى مجده وعظمته، فلقد مهد للثورة الفرنسية عروشا في نابولي، ومدريد، وروما، وميلان، وفيينا، ومونيخ، وستوتجار، وكاسل، وميانس، ودريسد، وهمبورج، وبرلين، وفرسوفي. إلا أنه إنما كان يتمنى شيئا واحدا بعد، وهو أن يكون له ذرية ترث التاج بعده، فأخذ يحلم في اكتساب أصدقاء وحلفاء لأسرته، وخيل إليه أنه يبلغ هذا الأرب إذا طلق جوزيفين وتزوج زواجا آخر يضمن له ورثاء شرعيين؛ إذ إن تبنيه لأوجين بوهارنه لم يكن كافيا، ولم يكن أوجين قد نشأ ليجلس على العرش. كان نابوليون يرغب في أن يلقي مقدرات إمبراطوريته في مهد طفل ولد أميرا إمبراطوريا، لا أن يعهد بها إلى الخلق النبيل والكفاءة الأكيدة اللذين عرفا في رجل نضجت روحه إلى جنب الإمبراطور. وكانت جوزيفين تتوقع حدوث هذا الأمر الجلل، بالرغم من أنها، على حد قول نابوليون نفسه في مذكرات سنت هيلين، منحت زوجها السعادة في الحياة وأظهرت له في كل حين أنها الصديقة الأكثر عطفا ورقة.
كان نابوليون رجل سياسة قبل كل شيء، فلم تستطع العاطفة الحميمة أن تتغلب على مصالح الأمة في نفسه. أما جوزيفين فلم يفتها أن تقرأ بختها المنتظر على سيماء زوجها العظيم، الذي كان يتباعد عنها كلما ارتفع في دائرة المجد وأباطيل الملك. وأخيرا تحقق ما كانت تتوقعه ساعة فاتحها الإمبراطور بالسر المشئوم الذي كثيرا ما أبصرته في أعماق نفسه. في اليوم الثلاثين من شهر تشرين الثاني عام 1809 تناول نابوليون وجوزيفين الغذاء معا، فكان نابوليون كالح الوجه مفكرا وجوزيفين حزينة صامتة. وبعد الغداء اختلى الاثنان في غرفة. قالت جوزيفين بعد ذلك: «كنت أقرأ على ملامحه المتغيرة الخصام الأليم الذي كان يحدث في نفسه؛ إلا أنني ما لبثت أن أبصرت دنو ساعتي من خلال اضطرابه وارتعاشه. اقترب مني فأخذ يدي ووضعها على قلبه، ثم نظر إلي فترة من غير أن يتلفظ بكلمة إلى أن ترك هذه الكلمات المشئومة تفلت من شفتيه: «جوزيفين، حبيبتي جوزيفين! أنت تعرفين كم أحببتك وكم أحبك! ... فإليك، إليك وحدك ترجع تلك الأوقات السعيدة التي ذقتها في هذا العالم. ولكن مستقبلي لأقوى من إرادتي يا جوزيفين. ويجب على عواطفي، مهما كانت حساسة، أن تصمت أمام صالح فرنسا».» فلم تشأ جوزيفين أن تسمع أكثر من ذلك وقاطعت الإمبراطور بحدة قائلة: «لا تزد، فلقد كنت أتوقع ذلك؛ وإني لأفهمك.» إلا أن الزفرات خنقت صوتها، وتلاشى الكلام على شفتيها، ثم خارت قواها، فحملت إلى مخدعها حيث رأت نفسها، بعد أن عادت إلى رشدها، بين ابنتها هورتنس وكورفيزار وأمام نابوليون.
سوى أن هذه الصدمة العنيفة الأولى، التي كان الإمبراطور يتوقعها، تركت مكانا لألم أقل شدة وأخف وطأة من الأول؛ فتظاهرت جوزيفين بالتجلد ونزلت عند جميع التظاهرات العمومية التي طلبت منها. ففي ليل الخامس عشر من كانون الأول 1809 مثلت الفاجعة في التويلري، أمام حلقة من الأقرباء، حضرها الأرشيشنسليه كامباسيريس. وهناك وقف نابوليون وتلفظ بهذه الخطبة الوجيزة، قال: «إن سياسة إمبراطوريتي، ومصالح شعوبي الذين عضدوني في جميع أعمالي تريد أن أترك بعدي لأولاد يرثون حبي لشعوبي هذا العرش الذي أجلستني عليه الحكمة العلياء. وبما أن الحظ لم يشأ أن ينيلني أولادا من زوجتي الحبيبة الإمبراطورة جوزيفين، أراني مضطرا إلى التضحية بأعذب ميول قلبي، وأن لا أصغي لسوى خير الأمة والنزول عند فسخ زواجنا ... وإني، وقد بلغت الأربعين من عمري، لأستطيع أن أعتقد بأن سأعيش عمرا كافيا أتعهد فيه الأبناء الذين ستمنحني إياهم الحكمة العلياء. يعلم الله كم كلف قلبي هذا العزم، ولكن ما من تضحية تسمو على شجاعتي ساعة يتضح لي أنها مفيدة لخير فرنسا.
لقد جملت جوزيفين خمس عشرة سنة من حياتي سيبقى تذكارا محفورا في قلبي. ولقد توجتها بيدي وأريد أن تحفظ لقب إمبراطورة، وأن لا تشك يوما في شواعري بل تعتبرني دائما كأعز صديق لها.»
فتمالكت جوزيفين ولفظت بأمانة هذه الكلمات العلنية، التي كان كامباسيريس ينتظرها ليحملها إلى مجلس الشيوخ، قالت: «يأذن لي زوجي العظيم أن أصرح بأنني، وقد قطعت الرجاء من أولاد يحققون آمال سياسة فرنسا ومصالحها، يعذب لي أن أعطيه برهانا على حبي إياه لم يعط بعد على الأرض. إنني نلت كل شيء من كرمه وحبه، فيده هي التي توجتني، ولم أنل من أعالي هذا العرش إلا تمنيات الشعب الفرنسي وعطفه.
إن فسخ زواجنا لن يغير شيئا من شواعر قلبي، فسأظل للإمبراطور صديقته الكبيرة، إني أعلم كم أن هذا الحادث، الذي أوجبته السياسة والمصالح الخطيرة، قد أساء إلى قلبه، ولكن كلا منا فخور بالتضحية التي يقدمها في سبيل الوطن وخيره.»
كانت الحلقة غفيرة، فلما سمع الجميع هذه الكلمات تفطرت قلوبهم حتى كادت الدموع تتفجر من عيونهم. وفي اليوم التالي أصدر مجلس الشيوخ مرسوما يقضي بطلاق نابوليون وجوزيفين. ومن ثم أخذ الإمبراطور يهتم باختيار زوجة جديدة، فأشعره الإسكندر بأنه يعطيه يد إحدى أخواته الغراندوقة آن، إلا أن نابوليون ما لبث أن انتهى إليه، على يد سفيره في النمسا السيد ده ناربون، أن أسرة لورين تغار على اتحادها به، وأنها تغتبط بأن تراه يقترن بأميرة نمسوية هي الأرشيدوقة ماري لويز.
إن سعي الأسر الأوروبية، التي هي أكثر أسر العالم ذهابا في الكبرياء؛ أجل، إن سعيها للاتحاد بنابوليون، بعد أن أعمل فيها السيف وغرس نسوره على جميع أبراجها، إنما سيبقى في التاريخ مثلا حيا للعظمة الخالدة التي بلغت إليها فرنسا وزعيمها الخالد. يا له نصرا عظيما للديموقراطية الفرنسية!
بعد أن أوتي نابوليون الحرية في اختيار من يشاء من أميرات الدم الأكثر عظمة، صحت عزيمته على اختيار ابنة إمبراطور النمسا الأرشيدوقة ماري لويز؛ فعهد إلى المرشال برتيه بأن يذهب إلى النمسا ليطلب يد الأميرة للإمبراطور، فوصل في أول شهر آذار سنة 1810 إلى العاصمة النمسوية، وبعد أن رفع لإمبراطور النمسا رسم نابوليون قال له: «يا صاحب الجلالة، لقد جئت باسم الإمبراطور، مولاي، أطلب منك يد الأرشيدوقة ماري لويز ابنتك العظيمة.
إن ما اتصفت به هذه الأميرة من الخلال الممتازة يعدها اليوم للجلوس على عرش عظيم تطلق من أعاليه تباشير السعادة على شعب كبير ورجل عظيم.
إن سياسة مولاي الإمبراطور رأت نفسها متفقة وأماني قلبه. وإن اتحاد الأسرتين العظيمتين هذا يضمن للأمتين الكريمتين حياة هادئة وسلاما أكيدا.»
فأجاب إمبراطور النمسا: «إنني أعتبر طلب زواج الإمبراطور نابوليون من ابنتي كعربون لشواعر إمبراطور الفرنسيين التي أحترمها. أما تمنياتي للزوجين المزمعين فلا أستطيع أن أعبر عنها؛ لأنها إنما هي عائدة لسعادتي كما هي لسعادتهما. لقد منحت إمبراطور الفرنسيين يد ابنتي.»
عند هذا تحول المرشال إلى الأرشيدوقة ماري لويز وقال لها: «سيدتي، لقد حقق والداك العظيمان أماني مولاي الإمبراطور. قد تكون بعض أسباب سياسية أدت إلى قبول إمبراطورينا العظيمين، إلا أن السبب الأول إنما هو سعادتك وسعادة قلبك يا مولاتي، تلك السعادة التي يرغب مولاي الإمبراطور في أن ينيلك إياها. إن هذا اليوم، يا مولاتي، سيكون سعيدا على الإمبراطور مولاي، إذا أمرتني جلالتك الإمبراطورية بأن أحمل إليك تمنيات قلبك وشعوره.»
فأعطته الأميرة الجواب الذي أملي عليها، قالت: «لقد كانت مشيئة والدي وما زالت مشيئتي، إذن فسعادتي إنما هي سعادته.
إني لسعيدة بأن أشارك جلالة الإمبراطور نابوليون عواطفه وعواطف أمة كبيرة! لقد رضيت، بإذن والدي، أن أتخذ الإمبراطور نابوليون زوجا لي.»
ثم وجه المرشال خطابا ثالثا إلى الإمبراطورة التي أجابت بمثل ما أجاب زوجها العظيم. وأحيرا أعلن السفير الفرنسي أن الإمبراطور نابوليون يرغب إلى جلالة الإمبراطور أن يرضى بنيابته عنه في حفلة الزفاف. فأجاب الإمبراطور: «إنني أقبل بكل سرور الطلب الذي تعرضه جلالة إمبراطور الفرنسيين، وأرجو منك يا سمو الأمير (كان المرشال قد منح لقب أمير نوشاتيل ووكرام) أن تبقى تجاه فرنسا حامل التمنيات الحارة التي أنشئها، لكي توطد فضائل الأرشيدوقة محبة الأميرين وسعادة شعوبهما.»
جرت حفلة الزواج في الرابع عشر من شهر آذار في عاصمة فيينا، وفي الخامس عشر منه سلكت الإمبراطورة الجديدة طريق فرنسا، فوصلت في السابع والعشرين إلى كومبياني حيث كان نابوليون ينتظرها. كانت قد أعدت حفلة باهرة لهذه المقابلة الأولى، إلا أن نابوليون خرق النظام الذي كان خطه بنفسه فغادر كومبياني سرا في نهار ممطر، يصحبه ملك نابولي، ووقف ينتظر الإمبراطورة المزمعة في رواق كنيسة صغيرة من كنائس إحدى القرى، فلما وصلت ماري لويز قفز إلى مركبتها وعاد الجميع إلى قصر كومبياني، ثم اتجه الزوجان العظيمان إلى سن كلود حيث جرى الزواج الأهلي في الواحد من شهر نيسان. وفي اليوم التالي دخل الزوجان إلى العاصمة حيث جرت حفلة الزواج الديني التي حضرها جميع أرباب العروش والمذاهب الكاثوليكية. فمنح الإمبراطور والإمبراطورة البركة الزوجية من يد الكردينال فيش بحضور الأسرة الإمبراطورية والكرادلة والأساقفة وأرباب الدولة وجميع وفود فرق الأمة.
لم يمر بضعة أيام على تلك المهرجانات حتى جرى في شمالي أوروبا حادث عظيم. فلقد انتخب برنادوت أميرا ملكيا على السويد خلفا لكارلوس الثالث عشر، اعتقادا من ممثلي الأمة السويدية أنهم إنما ينزلون عند رغائب نابوليون في ذلك. قال نابوليون: «لقد انتخب برنادوت لأن امرأته كانت شقيقة امرأة أخي جوزيف الذي كان ملكا على مدريد. أما برنادوت، الذي كان يتظاهر باستقلال تام قبل انتخابه، فقد جاء إلي يأخذ رأيي قائلا. إنه لا يرضى إلا إذا رضيت أنا. ولكني أجبته أنني لا أعرف أن أقف في سبيل انتخابات شعوب أخرى. هذا ما قلته لبرنادوت الذي كانت سيماؤه، تخون على وجهه الحزن الذي ولده جوابي، الذي توقعه طويلا.»
لم يكن نابوليون ليستطيع أن ينسى أنه كان بينه وبين برنادوت شبه مزاحمة سرية، مع أن برنادوت إنما كان إفرنسيا وجنديا من جنود الجمهورية أبلى بلاء حسنا في جميع المواقع التي شهرها الجيش الفرنسي.
الفصل السابع عشر
كانت الفئة المفكرة في فرنسا تأخذ على نابوليون احتكاره للحرية الأدبية؛ إذ إنه خنق حرية الكلام في المجتمعات والصحف وعلى المنابر حتى قال عنه بعض رجال السياسة الأحرار: إنه كدر ضياء مشعله في الحياة وأثقل إكليله المفعم بالمجد بشبح الجلاد الظالم.
1
إننا وإن كنا معجبين بالقائد الأعظم الذي ملك أعنة الأمم بحبه كما ملكها بسيفه، إلا أننا نقف وقفة الدهشة والاستغراب أمام ذلك الضعف الذي أظهره بكم فم رجال القلم والمنبر. إننا نحترم فوق كل شيء حق الصحافة التي هي أولى السلطات المهذبة، وسلطانة الوقت الحاضر الحقيقية، والممثلة الخالدة للحكمة العلياء؛ فإنها إنما هي التي دارجت القنصل بونابرت في بدء حياته العسكرية، وهي هي التي أكملت الدفاع عن الثورة الكبرى.
عندما وضع نابوليون يده على زمام السلطة في فرنسا، بدأت الصحافة تشعر بتعب شديد، وأخذت تتلاشى رويدا رويدا بعد جهاد عشر سنوات! ثم استحالت إلى أداة في يد كثير من الأحزاب وشرعت تخدم الحكم المطلق حتى أتمت المقت والاحتقار حول الثورة التي عرفت في الماضي كيف تعززها وتجعلها محترمة.
كان السيد ده شاتوبريان قد انتخب خلفا لشينيه في المجمع العلمي الفرنسي، وكانت العادة، كما هي اليوم، أن يطري الخلف السلف؛ فحاول شاتوبريان أن يحرر نفسه من نير التقاليد، ولم يخش أن يتخذ دورا ثوريا في قلب المجمع العلمي، فيتكلم ضد الثورة الفرنسية وينزل باللائمة على الشاعر الوطني شينيه الذي أعطى فرنسا «نشيد الرحيل». إلا أن خطابه هذا لم ينج من المراقبة ومنع، ولما علم به نابوليون طلب في الحال أن يطلع عليه بنفسه، ثم إنه عندما رأى بأية كبرياء وأي عنف حاول مؤلف «أتالا»، الذي لم يكن بعد قد بلغ أوج عظمته، أن يتحيف من الحاضر ويطري الماضي غضب غضبا شديدا، وفاجأ شاتوبريان في حلقة من القوم وقال له: «أهو أنت الذي نهى بطعن كهذا؟ منذ كم يجيز المجمع العلمي لنفسه أن يكون جمعية سياسية؟ ألا فلينظم أشعارا وليبحث في أغلاط اللغة، ولا يخرج عن دائرة الفنون أو أعرف كيف أعيده إليها. أكان للسيد شاتوبريان سوء طوية أم كان مختل الشعور، فعلى الحالين لا ينجو من عقوبات أليمة! إنني أعتبرك مجرما؛ إذ إنك لترمي إلى إقلاق الراحة والتشويش والفوضى والمذابح ... أقتلة نحن أم ماذا؟ وهل أنا مختلس؟ إنني لم أسقط أحدا عن عرشه، فلقد رفعت التاج من الحمأ ووضعه الشعب على رأسي! فلنحترم مشيئة الشعب!
إن بحث المسائل الحديثة وتحليلها في الظروف الحاضرة إنما هما خلق مشاكل جديدة وإيجاد عداوة تقف في سبيل الراحة العمومية. ماذا؟ وهل ضاعت جهودي وثمار اهتمامي وعنايتي؟ فماذا يحل بكم إذن إذا دارت الدائرة غدا وفقدتموني؟ إنكم لتذبحون بعضكم بعضا وتصبح الفوضى شرا مما كانت عليه في الماضي! مسكينة أنت يا فرنسا! كم أنت بحاجة بعد إلى وصي!»
في التاسع عشر من شهر آذار عام 1811 بدأت الإمبراطورة ماري لويز تشعر بأوجاع الولادة، فخيف بادئ ذي بدء من نفاس خطر، وسأل ديبوس الشهير، الذي رأى أنه لا بد من عملية جراحية صعبة، ماذا يجب أن يعمل إذا اضطر إلى الوقوف أمام إنقاذ الأم أو إنقاذ الولد؟ فأجاب الإمبراطور بحدة: «لا تهتم بسوى الأم!» إذ إن ميول الرجل كانت قد انتصرت في قلبه على مصالح الأمير في تلك الساعة العصيبة. في اليوم العشرين منه، الساعة التاسعة صباحا، زال قلق نابوليون وتحققت آماله لأن ماري لويز وضعت ولدا ذكرا أخذه الإمبراطور بين ذراعيه في الحال وأراه إلى ضباط قصره صارخا في سكرة من سكرات الفرح: «هذا ملك روما!»
وقصف دوي المدفع في العاصمة معلنا عن الحادث السعيد الذي حقق أمنيات الإمبراطور، ثم جرت احتفالات وأعياد في جميع أنحاء فرنسا وأنحاء المدن التي استولى عليها الجيش الفرنسي كنابولي وميلان وسواهما. وفي التاسع من شهر حزيران احتفل بعماد ملك روما، في كاتدرائية نوتردام، فخفت باريس بأسرها إلى ملاقاة الإمبراطور؛ لأن الشعب أراد أن يتصفح بنفسه على جبين بطله المشرق غبطة الأب في الإمبراطور، وأن يظهر له تعلقه به وحبه إياه. وكانت الشمس جميلة والسماء صافية الأديم؛ ما جعل القوم المتحمس يقول: «إن السماء لتخدمه في كل حين!» كان عماد الولد على يد الكردينال فيش، فأعطي أسماء نابوليون: فرانسوا - شارل - جوزيف. قال السيد ده بوريين: «لقد حيا الحماس العمومي مجيء ملك روما إلى العالم؛ فما من ولد أبصر النور محاطا بمثل هذا الإكليل الباهر من المجد!»
كان البابا في سافون كما تقدم، وكان دائما مصرا على عزمه الأول، فرأى الإمبراطور أنه قريب الجوار إلى روما أو معرض لإنقاذ الإنكليز إياه، فأمر بنقله إلى فونتينبلو. إلا أن نابوليون، مع قساوته لبيوس السابع، لم يكن لينسى ما عليه من واجب الاعتناء بأسيره العظيم فأرسل إليه دينون ليخفف عنه أثقال المنفى؛ وما هي إلا بعض أيام حتى أخذ بيوس السابع يشعر بحبه واحترامه للعالم دينون، لما عرف فيه من سعة الاطلاع وحلو الحديث، فكان يطرح عليه من وقت إلى آخر أسئلة تتعلق بحملة مصر ورغب أن يطلع على الكتاب الذي ألفه عن آثار هذه البلاد. أما دينون، الذي كان يتذكر أن كتابه يحتوي على بعض صفحات أرثوذكسية لا تتفق ومبدأ الكتاب المقدس في ما يتعلق بعمر العالم، فقد خشي بادئ ذي بدء أن يجرح قداسته ما في الكتاب من المسائل العلمية التي تخالف سفر التكوين، إلا أن البابا لم يقف عند هذا التباين بين النظرية العلمية والمبدأ الموحى، ولما تبين له أن دينون يجتهد في إخفائه عنه أخذ يطمئنه بقوله: «لا فرق عندي يا بني، فكل هذا غريب مدهش؛ والحق أقول لك إنني كنت أجهل ذلك.» عند هذا أطلعه العالم الفرنسي أن قداسته قد حرمت في ذلك الوقت الكتاب الذي يمدحه وحرمت مؤلفه معه. فقال له البابا: «محروم أنت يا بني؟ حرمتك؟ إنني لشديد الأسف على ذلك، ولكنني أؤكد لك إني لم أشك في ذلك قط.»
في تلك الأثناء كانت الحرب مشتعلة في قلب إسبانيا بين الجيش الفرنسي والجيش الإنكلوإسباني، وكان المرشال سول القائد العام للجيش الفرنسي، فنادى إليه فيكتور ومورتيه وسبستياني ومشى توا إلى العدو فدحره حتى أوكانيا حيث تلاشى الجيش الإسباني عام 1809؛ وكان الوقت قد حان لإلقاء الضربة القاضية على التمرد الإسباني والوساطة الإنكليزية، فجرد الإمبراطور ثلاثمائة ألف جندي جعلهم تحت قيادة الملك جوزيف. إلا أن الذي زحف بهم إنما كان بالحقيقة القائد العام المرشال سول، الذي بالرغم من المقاومة الشديدة التي قام بها الإسبانيون، تمكن من الاستيلاء على غرناطة، وسفيل، وملاغه، ومورسي، وأوليفنزا، وباداجوز.
بينما كان سول يطارد بقايا الجيش الإسباني في الأندلس فيحاصر المراكز ويستولي عليها، كان ماسينا، الذي جاء إلى إسبانيا تحف به أكاليل المجد التي ربحها في أسلنغ، يغزو البورتغال ويزحف إلى ليسبون، إلا أنه كان متكلا على مساعدة جيش الأندلس. سوى أن هذه المساعدة لم تحقق أمانيه لأن سول، الذي أوقفه الجيش الإنكلوإسباني للجزيرة وجبل طارق، ذلك الجيش الذي كان يغزو الأندلس والمقاطعات الشرقية لم يستطع أن يجرد فرقة واحدة من جيشه ليتبعها بجيش البورتغال، فبقي ماسينا متنحيا لا يقدر أن يقاوم ويللنكتون حتى اضطر أن يعود إلى إسبانيا، كان تقهقر ماسينا فظيعا؛ فإن ويللنكتون أخذ يطارد الجيش الفرنسي في الأراضي الإسبانية حتى تمكن من الاستيلاء على أوليفنزا ومحاصرة باداجوز. عند هذا انتعشت آمال التمرد وقويت عزائم أعداء الفرنسيين لدى ظهور ويللنكتون، إلا أن سول أسرع فهاجم برسفورد في البويرا مهاجمة شديدة، واتجه إلى أقدام الجبال ينتظر المدد لينقذ باداجوز، ولكن حركات بلاك وبللستيروس أرجعته إلى سيفيل.
أما ويللنكتون، فلما انعتق من مراقبة سول، حاصر باداجوز واستولى عليها في السادس من شهر نيسان سنة 1812، فأسرع سول لدن علم بذلك لينقذها ولكنه لم يصل إلا في اليوم التالي للاستيلاء، ورفض المنتصر الحرب التي عرضها عليه القائد الفرنسي؛ لأنه لم يكن يريد أن يعرض نفسه لخسارة فتحه الحديث.
عاد سول إلى سيفيل حيث انصرف إلى تسكين الأندلس، إلا أن الإنكلوإسبانيين بقوا متابعين فوزهم؛ فإنهم زحفوا من الاستريمادور إلى المانش فقاتلوا جيش الوسط، واحتلوا مدريد، وأرغموا الملك جوزيف أن ينتقل إلى بلنسيا حيث يصبح تحت حماية سوشه. منذ ذلك الحين أصبح احتلال الأندلس مستحيلا فتقهقر المرشال سول نحو غرناطة ومورسي، ثم انضم إلى جيش الوسط ليأخذ مرة أخرى طريق مدريد ويعد العدة للاستيلاء على هذه العاصمة.
كان إسكندر روسيا قد انقطع منذ زمن طويل عن اعتبار صداقة نابوليون كفضل من فضل الآلهة، ولم يبق في روح هذا القيصر من ذكريات أرفورث إلا المقت والموجدة اللذان تلدهما في غالب الأحيان عاطفة منطفئة أو أمل مخدوع؛ فبالرغم من أن أوروبا البرية كانت تبدو لعينيه قوية قادرة على مواصلة الحرب التي شهرتها المبادئ على الثورة الفرنسية الممثلة في شخص نابوليون، لم يجد رادعا يردعه عن الإصغاء إلى تحريض الوزارة الإنكليزية له للوقوف في وجه فرنسا. منذ ذلك الحين أصبح الشعب الروسي إنكليزيا في قلب روسيا؛ لأن فرنسا كانت رفضت بفم نابوليون أن تضعف وتلاشي بولونيا، وتسمح للأطماع الروسية باجتياز الدانوب وتمهيد مركز لها على أبواب القسطنطينية. هذا من جهة، وأما من جهة أخرى؛ فإن اختيار نابوليون زوجة له من الأسرة النمسوية، إنما كان من أشد العوامل التي دفعت إمبراطور روسيا إلى الانسحاب من سياسة نابوليون.
إلا أن نابوليون، الذي كان يرغب دائما في أن يلقي على أخصامه مسئولية الحروب، لم يشأ أن يدخل إلى المعمعة ضد صديقه في أرفورث، من غير أن يسعى في بادئ الأمر لإيجاد طريقة للصلح تتوقف عليها راحة أوروبا وطمأنينتها، فكتب إلى إسكندر روسيا يقول: «إن هذا العمل إنما هو تكرار ما رأيته في روسيا سنة 1806 وفي فيينا سنة 1809. أما من جهتي فسأبقى صديق جلالتك ولو اضطر الشؤم الذي يستولي على أوروبا أن يضع السلاح في أيدي شعبينا. إنني لن أهاجم في الأول ولن تزحف كتائبي إلا بعد أن تمزق جلالتك معاهدة تلسيت.»
إن هذه اللهجة الملطفة خيلت للإمبراطور إسكندر أن نابوليون يخشى شقاقا علنيا، وأنه ليس مستعدا للحرب؛ والذي زاده رسوخا في ظنه هذا هو التعليمات التي كان يتلقاها رومانزوف من باريس، والتي تمثل إمبراطور الفرنسيين مستعدا للقيام بتضحيات كبيرة ليتجنب معركة جديدة في البر. قال المداول الروسي السيد ده رومانزوف: «كانت الفرصة سانحة، وكان من الواجب أن نستفيد منها.»
قبل أن يغادر نابوليون باريس ويعلن لفرنسا أن القسم الذي أعطي في أرفورث لم يكن إلا لعبة أمراء، وأن إسكندر يضطره إلى إعادة الحرب في شمالي أوروبا، أشار إلى فرق الإمبراطورة الكبيرة أن تتأهب تأهبات مختلفة للقيام بالحملة العظيمة التي يعدها، والحرب البعيدة التي ستدوي عن قرب.
في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول سنة 1811 صدر مرسوم يضع تحت تصرف وزير الحربية مائة وعشرين ألف رجل. وفي الثالث عشر من شهر آذار التالي صدر مرسوم جديد بتنظيم الحرس الوطني وتقسيمه إلى ثلاث فرق؛ وفي السادس عشر منه تألف من الفرقة الأولى المحتوية على ستين ألف رجل الجيش الداخلي الذي عهد إليه بالمدافعة عن الحدود.
غادر نابوليون باريس تصحبه الإمبراطورة في التاسع من شهر أيار 1812 فاجتاز متز بسرعة، فمايانس وفرانكفور، ووصل إلى دريسد في السابع عشر منه، فشغل هناك غرف القصر الكبيرة.
كان نابوليون ينهض من فراشه في الساعة التاسعة صباحا، كعادته، فتخف إليه فئة من الأمراء بينهم إمبراطور النمسا وملك بروسيا ووزيرهما مترنيك وهردنبرج الذين كانوا ينتظرون ظهوره مع سائر الندماء.
لا تسل عن فرح إمبراطور النمسا الذي عانق صهره معانقة ملؤها الحب، وقال له إنه يستطيع أن يتكل على النمسا في انتصار المبدأ العام، وحذا ملك بروسيا حذوه فأكد لنابوليون صدق العلاقة الحميمة التي تجمعهما على مبدأ واحد.
لم تطل إقامة نابوليون في دريسد فإنه لم يفتأ أن اتجه إلى شواطئ النييمن مارا ببراغ حيث انفصل عن ماري لويز. وقبل أن يدخل في الموقعة زار كنيكسبرج ودانتزيك، وكان معه مورات وبرتيه.
في الحادي عشر من شهر حزيران ترك الإمبراطور دانتزيك، وأخذ طريق كنيكسبرج التي وصلها في اليوم التالي بعد أن استعرض في طريقه فرقة دافو، إلا أنه قبل أن يعطي إشارة العداء، أراد مرة أخرى أن يسعى لإيجاد الوفاق بينه وبين الإسكندر، فعهد إلى معاونه القائد لوريستيون بأن يجتهد للوصول إلى القيصر نفسه ويعبر له عن رغبته الشديدة في التفاهم مع صديقه في تلسيت وأرفورث، ولكن لوريستون لم يستطع أن يصل لا إلى الإسكندر ولا إلى وزرائه. فلما انتهى إلى نابوليون أن معاونه قد أهين لم يتردد بأن أعطى إشارة للتقدم إلى الأمام وعبور النييمن. قال: «إن المقهورين يتخذون لهجة القاهرين، فلا ريب أن القضاء قد استولى عليهم فدفعهم إلى ذلك، ألا فلتتم مشيئة القدر!» ونشر هذا النداء التالي المؤرخ عن معسكر ويلكورسكي:
أيها الجنود
لقد بدأت حرب بولونيا الثانية، أما الأولى فقد انتهت في فرييدلان وتلسيت؛ في تلسيت، أقسمت روسيا لفرنسا على اتحاد دائم معها وعداوة لإنكلترا. وهي تحنث اليوم بقسمها.
إن روسيا تسير مع القضاء! ويجب على مقدراتها أن تتم. ماذا؟ أتظننا قد قلقنا؟ ألم نبق جنود أوسترلتز؟ إنها لتوقفنا بين العار والحرب، إذن فلنزحف إلى الأمام! ولنعبر النييمن ونحمل الحرب إلى حدودها. ستكون حرب بولونيا الثانية مجيدة للجيش الفرنسي كما كانت الأولى، إلا أن الصلح الذي سنعقده إنما سيحمل الضمان المؤكد ويضع حدا لذلك التأثير المتعجرف الذي راضته روسيا منذ خمسين سنة في مسائل أوروبا.
كان الجيش الفرنسي المؤلف من ثلاثمائة ألف رجل مقسما إلى ثلاث عشرة فرقة مع استثناء الحرس. فعهدت الفرقة الأولى إلى دافو، والثانية إلى أودينو، والثالثة إلى ناي، والرابعة إلى الأمير أوجين، والخامسة إلى بونياتووسكي، والسادسة إلى كوفيون سن سير، والسابعة إلى رينيه، والثامنة إلى جيروم نابوليون ملك وستفالي، والتاسعة إلى فيكتور، والعاشرة إلى ماكدونلد، والحادية عشرة إلى أوجرو، والثانية عشرة إلى مورات، والثالثة عشرة إلى أمير شوارتزنبرج، أما فرق الحرس المختلفة فقد عهدت قيادتها إلى ثلاثة مرشالية هم: لوفيفر، ومورتيه وباسيير.
عندما اقترب هذا الجيش الهائل أخذ الروسيون بالتقهقر تاركين خط النييمن ليتجهوا إلى شواطئ الدنيبر والدوينا. أما نابوليون فتبعهم عن كثب. في الثالث والعشرين من شهر حزيران، الساعة الثانية صباحا، وصل الإمبراطور إلى نواحي كوونو فتنكر بقبعة وسترة بولونيتين تمكن بهما أن يطوف شواطئ النييمن لاكتشاف المكان الأنسب لمرور الكتائب؛ وكان الجنرال هاكسو يرافقه وحده في هذا الطواف. فلما لاحظ نابوليون أن النهر قد عمل دائرة بالقرب من قرية بونييمن عين هذه النقطة ليمر على الشاطئ الآخر، وفي مساء اليوم نفسه تحرك الجيش، وما هي إلا ساعتان من الزمن حتى بنى الجنرال أبله ثلاثة جسور عبر عليها الجيش طوال الليل؛ ولما انبثق الفجر كان الجيش الفرنسي قد مهد له مكانا على مسافة من النهر.
في السابع والعشرين منه وصل الإمبراطور إلى تحت أسوار ويلنا، وفي صباح اليوم التالي أخذ يستعد لهجوم عظيم. سوى أن الروسيين، بعد أن أطلقوا بعض المدافع ونسفوا جسر فيليا وأحرقوا المئونة التي معهم، تراجعوا بسرعة لدى دنو الجيش الفرنسي، وكان الإسكندر هو الذي أعطى إشارة التقهقر هذه. وفي الثامن والعشرين منه دخل نابوليون إلى ويلنا يحيط به البولونيون، الذين يقودهم الأمير رادزيويل، فاستقبله هتاف الشعب الذي كان ينظر إليه كمنقذه الوحيد.
أول ما قام به نابوليون عندما استولى على عاصمة ليتواني هو إعطاء هذه المقاطعة حكومة موقوتة مسلما زمامها إلى بينون الذي اشتهر بعد ذلك بكتابته «وصية نابوليون» و«القضاء الوطني» و«تاريخ المداولة الفرنسية». لا تسل عن التأثير الحسن الذي سببه في ليتواني عبور الجيش الفرنسي نهر النييمن؛ فإن الشعب البولوني اهتز طربا في جميع الجهات، ورفع النسر الأبيض على جميع المراكز، وقام جميع الكهنة والأشراف والفلاحين والنساء يطلبون استقلال أمتهم.
لم يكن هينا ذلك الهتاف العظيم للكتائب الفرنسية الذي هتفته الشعوب التي سيعبر الفرنسيون أراضيها للوصول إلى الروسيين.
كان معسكر الإمبراطور العام في ويلنا، إلا أن الجيش الفرنسي إنما كان يواصل زحفه المنتصر على جميع النقاط، فخشي الإسكندر سوء العاقبة فأرسل معاونه الجنرال بالاشوف إلى نابوليون متظاهرا برغبته في فتح مفاوضات للصلح، فاستقبل نابوليون رسول الإسكندر بكل حفاوة وإكرام وأظهر له أسفه الشديد على الشقاق الذي حاول طويلا أن يتلافاه. فأجابه القائد الروسي على حفاوته هذه قائلا له: «إن الإمبراطور إسكندر مستعد للدخول في المبدأ البري إذا ارتد الفرنسيون عن النييمن وتخلوا عن الأرض الروسية.» ففكر نابوليون قليلا ثم أجاب الرسول: «إذن فلنعقد الصلح حالا، في ويلنا نفسها، وعندما تمضى المعاهدة أرتد عن النييمن.»
2
إلا أن الأمر الذي جاء بالاشوف من أجله لم يكن لهذه الغاية، فصرح أنه يريد قبل كل شيء أن يحصل التخلي السريع عن الأرض الروسية، فصرخ نابوليون قائلا: «أعبارات صلح هذه؟ أهكذا نهجنا في تلسيت؟ إن هؤلاء القوم لا يريدون سوى بعض أيام راحة، ولا يفكرون في سوى إنقاذ باغراسيون. إذن فلنكمل ما بدأنا به حتى نضطر إمبراطورهم أن يرجع إلي.»
ترك الإمبراطور ويلنا في السادس عشر من شهر تموز وفي عزمه أن يدخل روسيا القديمة بوضعه الوسط بين الدوينا والبوريستين، ثم قرر أن يزحف ووجهته ويتبسك وسمولنسك متجنبا مطاردة بركلاي الهارب إلى بطرسبورج، وتاركا لدافو وجيروم وشارتزنبرج الاهتمام بمنع باغراسيون من بلوغ معسكر دريسا حيث كان الإسكندر ينتظره، إلا أنه لم يظهر الغاية من هذه الخطة لأحد من جميع هؤلاء القواد بل آثر أن تبقى سرا لا يطلع عليه سواه حتى تكشفه النار في ساحة الحرب، إلا أن هذا الموقف ترك فراغا لتأويلات عديدة؛ فإن كلا من هؤلاء القواد كان يحاول أن يحزر خطة الإمبراطور، سوى أن الإمبراطور كان واثقا من صحة خطته وانتصارها فلم يعبأ بموقف القواد؛ ولكن، واحسرتاه، لم يكن جميع قواده عند السرعة في التنفيذ كما خيل إليه في بادئ الأمر؛ فإن شقيقه جيروم الذي عهد إليه بمطاردة باغراسيون ترك للجنرال الروسي على ما جاء في مذكرة سنة 1812 ثلاثة أيام متوالية استراح خلالها من أتعابه في نيسويغ في حين أن نابوليون كان قد كتب لأخيه بإلحاح شديد يحثه لدفع فرقته إلى الأمام. فلما جرى هذا الحادث اغتاظ الإمبراطور ووضع شقيقه جيروم تحت أوامر دافو؛ إلا أن جيروم رأى أن لقبه الملكي لا يسمح له بقبول ذلك فانسحب من الجيش وكتب إلى الملكة ما يلي: «بعد أن طاردت باغراسيون وطردته من أمامي ألقيته على أمير أكموهل ؛ أما اليوم فقد استلمت من أمير أكموهل كتابا يقول لي فيه إنني أصبحت تحت أمره ... أنت تعرفين أنني لا أستطيع أن أعتبر هذا إلا أمرا من الإمبراطور، إذن فأنا أنسحب من قيادة الجناح الأيمن.» فدونت الملكة هذا الكتاب في مذكراتها اليومية وأضافت إليه هذه الملحوظات: «مهما كان تصرف الإمبراطور ظالما تجاه الملك فقد كان عليه أن يرضخ للظروف؛ إذ إنه ما من فائدة في معاندة الإمبراطور.»
فاز الفرنسيون في المعركة الأولى فوزا باهرا، وكان هذا الفوز عائدا إلى وصول كتيبة دلزون التي قهرت المشاة الروسيين الذين هاجمتهم خيالة ملك نابولي من غير فائدة. وفي اليوم الثاني ظهر الجيش الروسي الذي جاءه مدد في الليل مستعدا لإعادة القتال؛ وكان الفرنسيون أيضا على استعداد تام؛ إذ إن الأمير أوجين انضم إلى مورات فتضاعف عدد الجنود.
كان الروسيون يشغلون مركزا خطيرا لا يطردهم منه إلا مجموع شجاعة الجند الفرنسي؛ إذ إنهم إنما كانوا على مرتفع واد عميق يقوم على يساره غاب كثيف وعلى يمينه نهر الدوينا، فدافع الروسيون عن أنفسهم دفاعا جميلا في بادئ الأمر، فلما رأى القواد الفرنسيون هذه الحركة الناجحة فهموا أنه لا ينشلهم من الخطر إلا شجاعة نادرة وهجوم هائل؛ فأعطى مورات وأوجين المثل وحذا حذوهما جونو ونانسوتي؛ إذ إنهم هجموا جميعهم في مقدمة كتائبهم، وما هي إلا بضع ساعات حتى تزعزع الروسيون من مراكزهم، واندحروا حتى نواحي كومارشي حيث وجدوا غابا لجئوا إليه والتقوا بالجنرال توتشكوف فعضدهم.
كان الجيش الفرنسي ينتظر بفروغ صبر اختراق الحاجز الأخير الذي يؤخر دخوله إلى ويتبسك، إلا أن قواده لم يكونوا ليريدوا التوغل من غير حكمة في غاب كثيف ملأه الروسيون بعدد من الجنود لا يحصى، إذن فبقي مورات وأوجين مترددين حتى قدم نابوليون، فأشرقت الوجوه بنور من الأمل، وعلا الهتاف من جميع الشفاه، وارتسم الحماس على جميع الوجوه، عند هذا أشار إليهم الإمبراطور بالزحف، وما هو إلا وقت قصير حتى كان الجيش في وسط الغاب وانحدر منه إلى إكمات ويتبسك، وفي السابع والعشرين من الشهر، عند مطلع الفجر، والى الجيش المنتصر زحفه ، إلا أن الروسيين الذين تراجعوا بنظام، التقوا بجيش باركلي فتوقفوا وظهرت عليهم دلائل الاستعداد للمعركة.
كانت ساقية لوتشيسا تفصل الجيشين بعضهما عن بعض، وكان جسر صغير ملقى على منحدر هناك وقد تهدم بعضه فأشار نابوليون إلى الجنرال بروسيه بترميمه لتتمكن الكتائب من المرور عليه، ثم اتجه إلى مرتفع فوقع نظره على مائتي جندي من الفرنسيين يحتجبون بين الرجال والخيل ويظهرون منتصرين بعد أن أحيطوا بالخيالة الروسية من جميع الجهات، فسأل الإمبراطور بحدة قائلا: «لأية فرقة ينتمي هؤلاء البسلاء؟» ثم أرسل أحد قواده ليستعلم عن ذلك ويقول لهم باسمه إنهم استحقوا جميعا وسام الشرف، فكان جواب الجنود: «نحن أبناء باريس!» قالوا ذلك وجعلوا يحركون قبعاتهم على رءوس الحراب هاتفين: «ليحي الإمبراطور!»
على أنه حدث أمر أخر الحرب التي انتظرها الإمبراطور طويلا. فلقد علم باركلاي أن باغراسيون قد أجبر على اختيار الدنيبر والانحدار إلى شواطئ السوج فغير عزمه، وترك معسكره تحت جنح الظلام، واتجه إلى ما وراء ويتبسك زاحفا توا إلى برويستين حيث كان يرجو أن يلتقي بباغراسيون. ولما برز النهار دهش الفرنسيون؛ إذ إنهم لم يعودوا يرون أمامهم جيش العدو الذي كان قبل ساعات يملأ بنيرانه شواطئ لوتشيسا، فاحتلوا بسرعة المراكز التي تركها الروسيون ودخلوا من غير مقاومة إلى ويتبسك التي هجرها ساكنوها عندما رأوا باركلاي هاربا منها.
بقي المعسكر العام أياما عديدة في هذه المدينة، انتصر الجيش الفرنسي أثناءها عدة انتصارات، ولكن مداولة فجائية عضدت الروسيين في وسط انكساراتهم، قبل أن تعضدهم الطبيعة بعناصرها؛ إذ إن السلطان محمود عقد الصلح مع القيصر وتداول برنادوت مع أعداء فرنسا. علم الإمبراطور بهذا النبأ في ويتبسك، فقال: «سيدفع الأتراك غاليا ثمن هذه الهفوة! فهي هفوة ثقيلة إلى درجة أنني ما كنت لأتنبأ عنها قط!» غير أن الجيش الفرنسي بقي يتقدم من بوريستين ويلج قلب روسيا، وفي الرابع عشر من شهر آب استوطن المعسكر العام في راساسنا على مقربة من سمولنسك، التي كان قد احتلها باركلاي وباغراسيون معا، وفي السابع عشر منه وقعت بين الفريقين معركة هائلة اشتبك فيها مائتا ألف رجل فكان النصر للفرنسيين، فلما رأى الروسيون أنهم يدافعون من غير جدوى أعملوا النار في المدينة وأحرقوا الجسور. وفي الساعة الثانية من الصباح كان المركز خاليا للفرنسيين بعد أن ترك الأعداء عددا كبيرا من الموتى والمحتضرين في وسط النيران والخرائب! عند هذا صرف الإمبراطور اهتمامه لإيقاف الحريق وإرسال النجدة إلى المجاريح. قال الجنرال غورغو: «لم يوجد بين قواد الأمس واليوم من اهتم بالمجاريح اهتمام نابوليون بهم؛ فإن سكرة المجد لم تقو يوما على إنسائه إياهم، وما كان فكره بعد كل معركة إلا لينصرف إليهم.»
بعد أن طاف نابوليون في خارج المدينة، وتفقد المراكز المحصنة التي طرد الروسيين منها، أراد أن يرى بنفسه المركز الجديد الذي استولى عليه العدو ما وراء بوريستين؛ فصعد إلى برج قديم تهدمت أكثر جوانبه، وأخذ يفتش بعينيه عن معسكري باركلاي وباغراسيون، إلا أن هذين القائدين كانا قد تقهقرا؛ الأول على طريق بطرسبورج، والآخر على طريق موسكو، ولكن انتهى إلى نابوليون بعد ذلك أن باركلاي تحول عن الجهة الشمالية وهو يتقدم إلى باغراسيون في طريق موسكو، فأمر جيشه بمطاردة العدو مطاردة شديدة على أمل أن يدركه فيحطمه قبل أن يصل إلى عاصمته القديمة، فنفذ المرشال ناي هذا الأمر تنفيذا تاما.
كانت هذه الموقعة من أدمى المواقع، فلقد طرد الروسيون فيها أربع مرات من مراكزهم، وأربع مرات عادوا فاسترجعوها حتى كسرهم الجنرال غودن شر كسرة، إلا أن الحظ شاء أن يقضي على حياة هذا القائد الباسل الذي بكاه نابوليون وجميع الجيش ودفن في برج كمولنسك.
الفصل الثامن عشر
عندما غادر الإسكندر معسكر دريسا ذهب توا إلى موسكو، فاستغنم الحاكم روستوبشين فرصة وجود القيصر في العاصمة فجمع الأشراف والتجار في الكريملن ليسألهم تضحيات أخرى بالمال والرجال، وأخذ يصور لهم الأعداء في قلب الأمة، ويمثل لهم نابوليون كروح متلفة ترغب في هدم وطنهم وإتلاف استقلالهم الوطني وقلب دينهم؛ وهذا كاف لإثارة هؤلاء الأشراف والتجار على نابوليون. ولم يكتف روستوبشين بما فعل، بل كلف رئيس الإمبراطورية، وهو أسقف عظيم، بأن يجمع الشعب في الكنيسة ويحثه على الحماس الشديد ضد الجيش الفرنسي، بينما كان روستوبشين ينفذ كل هذا دخل الإسكندر من أحد أبواب الكنيسة وتناول الكلام بنفسه فسرد على مسامع الشعب المحتشد غاية الجلاد العالمي من هدم وطنهم ودينهم، حتى أخذت السياسة الروسية طابعا مضطرما والحرب شكلا رهيبا!
على أن نابوليون لما عزم على الزحف إلى موسكو دفع الحرب بشدة هائلة، سوى أن الإسكندر لم ينتظره في الكريملن، وعوضا عن أن يذهب لملاقاته على رأس الجيوش الروسية اتجه بسرعة على طريق بطرسبورج، حيث أرسل كوتوزوف ليحل محل باركلاي. فعندما وصل كوتوزوف إلى الجيش كان باركلاي استحكم بين فيازما وغجاث وتأهب للقتال الذي سيقع في اليوم التالي. فلم يشأ الجندي القديم كوتوزوف أن يشعر القائد المعزول بأنه أحسن اختيار مركزه، ودنا الروسيون من الجيش الفرنسي حتى وقفوا بالقرب من موسكو بين الموسكووا والكالوكزا، حيث وقعت الحرب الهائلة التي كثيرا ما تمناها نابوليون.
في صباح اليوم السابع من شهر أيلول لما بدأت أولى أشعة الفجر بالبزوغ، كان الإمبراطور نابوليون ممتطيا صهوة جواده وقد التف «بريدنكوته» الأشهب اللون وإلى جنبه راب وكولنكور وبعض الكشافة. وما هي إلا هنيهة حتى وصل الكولونيل فابغيير إلى المعسكر يحمل نبأ موقعة سلامنك من أعماق إسبانيا، والسيد ده بوسه من سن كلود يحمل رسائل من ماري لويز ورسم ملك روما؛ فاستاء نابوليون من تصرف المارشال مارمون الذي سلمت كسرته مدريد لويللنكتون، إلا أن الكولونيل دافع عن قائده دفاعا طيبا، ثم أخذ الإمبراطور رسم ولده بعطف عظيم، وبعد أن أراه لمن يحيط به عهد به إلى كاتم سره قائلا له: «خذه، وانصرف به الآن، فلا أريد أن يشاهد الحرب، فهو لا يزال صغيرا لذلك.»
موقعة الموسكووا
جاء في المذكرة الثامنة عشرة ما يلي: «في الساعة الثانية من صباح اليوم السابع كان الإمبراطور محاطا بمرشاليته في المركز الذي اختير في المساء، وفي الساعة الخامسة والنصف ظهرت الشمس بريئة من الغيوم فقال الإمبراطور: هذه شمس أوسترلتز !» ثم قرئت الكلمة التالية:
أيها الجنود
تلك هي الحرب التي تمنيتموها كثيرا! إذن فالنصر يتوقف عليكم؛ فنحن بحاجة إليه؛ إذ إنه ليخصب كل شيء في وجهنا ويقرب لنا العودة إلى الوطن! انهجوا كما نهجتم في أوسترلتز وفرييدلان، في ويتسك وسمولنسك، ولتذكر الأجيال البعيدة هذا النصر بفخر وإعجاب، ولتقل عنكم: لقد كانوا تحت أسوار موسكو في هذه الموقعة العظيمة!
عن المعسكر الإمبراطوري، من على مرتفعات بورودينو، 7 أيلول الساعة الثانية صباحا.
فأجاب الجيش بهتاف متواصل، وكان المنحدر مغطى بجثث الروسيين على أثر المعركة التي حدثت في الليلة السالفة.
عند هذا بدأ الأمير بونياتووسكي الذي يؤلف الميمنة بالتحرك ليدور دورة الغاب، الذي كان العدو داعما فيه ميسرته. وبدأ أمير أكموهل بالزحف على طول الغاب.
في الساعة السادسة بدأ الجنرال الكونت سوربيه بإطلاق النار، ورئس الجنرال برنتي كتيبة كومبان بثلاثين مدفعا. وفي الساعة السادسة والنصف جرح الجنرال كومبان. وفي الساعة السابعة قتل جواد أمير أكموهل. وما هي إلا بضع دقائق حتى استولى نائب الملك على قرية بورودينو التي لم يقو العدو على حمايتها. في الساعة السابعة انقض المرشال الدوق دلشنجن على الوسط يحرسه ستون مدفعا كان الجنرال فوشه قد ركزها في المساء ضد وسط العدو. هناك ألف مدفع تتقيأ بالموت من جميع الجهات. في الساعة الثامنة استولي على مراكز العدو، وأصبح الروسيون يرون الموقعة خاسرة بعد أن خيل إليهم أنها لا تزال في بدئها. لقد نزع من العدو قسم كبير من مدافعه، والقسم الآخر باق على الخطوط المهجورة في الوراء. ثلاثمائة مدفع فرنسي تقذف القنابل من المرتفعات على كتل الأعداء.
يقوم ملك نابولي بهجمات مختلفة وهو على رأس الخيالة، لقد كلل الدوق ولشنجن بأكاليل المجد لما أظهره من الحماس والتجلد، أصدر الإمبراطور أمرا بالزحف إلى الجبهة، وإذا بنا نستولي على ثلاثة أرباع ساحة الحرب. الأمير بونياتووسكي يقاتل في الغابات بفوز عظيم.
بقي للعدو حصون ميمنته، فزحف الجنرال الكونت موران واستولى عليها، ولكنه لم يقو على البقاء فيها؛ إذ هوجم من جميع الجهات في الساعة التاسعة من الصباح. عندما شعر العدو بهذا الفوز عاد الأمل إليه وأشار إلى جيشه الاحتياطي بالتقدم إلى الأمام. هو ذا الحرس الإمبراطوري يشترك في المعركة ويهاجم وسطنا؛ ولكن ثمانين مدفعا فرنسيا أوقفت العدو، ثم حطمت جميع صفوفه التي مرت عليها ساعتان وهي لا تجرؤ على التقدم ولا تستطيع التقهقر. لقد قتل الكونت كولنكور في هذه المعركة بعد أن أبلى فيها بلاء حسنا؛ إنه مات ميتة مجيدة يغبط عليها!
هي الساعة الثانية بعد الظهر، لقد قطع العدو كل أمل بالنجاح، وانتهت المعركة، إلا أن المدافع لا تزال تقصف، ذلك أن العدو لا يزال يقاتل في سبيل خلاصه وضمانا لتقهقره لا لنصره.
لقد خسر العدو من اثني عشر ألف رجل إلى ثلاثة عشر ألفا، ومن ثمانية إلى تسعة آلاف جواد أحصي عددها في ساحة القتال، وستين مدفعا، وخمسة آلاف أسير بقوا في حوزتنا.
أما نحن فقد قتل منا ألفان وخمسمائة رجل، وجرح سبعة آلاف وخمسمائة. لقد قدر مجموع خسارتنا بعشرة آلاف مقاتل، وقدر مجموع خسارة الأعداء بأربعين أو خمسين ألفا. لم تشاهد ساحة قتال أدمى من هذه بعد. فلقد ذهب فيها أربعون قائدا روسيا بين قتيل وجريح وأسير! جرح القائد باغراسيون.
لقد خسرنا قائد الفرقة الكونت مونيرن الذي قتل بقنبلة مدفع، وقتل الجنرال الكونت كولنكور الذي أرسل ليحل محل الكونت مونبرن.
لقد أطلقنا ستين ألف قنبلة مدفع، فجميع الغابات والقرى ملأى بجثث القتلى وبالمجاريح. وأما فرقة الحرس فلم تخسر رجلا واحدا.
أخذ الفرنسيون يطاردون الروسيين، حتى بلغوا شوارع موسكو فأخلاها الكوزاك من غير مقاومة. في أثناء ذلك وصل نابوليون إلى أبواب المدينة، ولكنه توقف أولا ليتفحصها من الخارج، ثم أمر أوجين بأن يغلفها من الشمال وبونياتووسكي
1
من الجنوب ودافو من الوسط، ودفع حرسه إلى الأمام تحت قيادة لوفيفر الذي دخل إلى موسكو دخول فاتح عظيم وذهب يعسكر في الكريملن.
أما نابوليون فاخترق الأسوار، ولكنه في تلك الساعة لا أعلم أي إلهام صور له أنه يضع قدمه على لجة، وأن موسكو تخبئ في أسوارها نهاية انتصارات الجيش الفرنسي وأول بادرة من بوادر انحطاط الإمبراطورية الكبيرة فخشي أن يتوغل في المدينة، وعمل فيها بضع خطوات، ثم بات في أحد الفنادق؛ وفي اليوم التالي مشى إلى الكريملن وقد نفض عنه الوجيب والهدس!
ماذا يبقى على الثورة الفرنسية لكي تنجز دورتها المنتصرة في أطراف أوروبا، وتعاقب الأريستوقراطية القديمة على تمردها ضد فرنسا الفتاة؟ فإنها بعد أن قادت ممثلها العظيم إلى جميع العواصم تمهد له اليوم مكانا في الكريملن مأوى القياصرة العظماء! ماذا يبقى عليها بعد ذلك لكي تصل إلى رغبتها الأولى؟
ستجيب الحوادث على هذا السؤال.
لم يكد نابوليون يجلس في الكريملن حتى شب حريق هائل ساعدت الرياح على إضرامه، وارتفعت في الفضاء أعمدة من الدخان سوداء! وما هي إلا هنيهة حتى غرقت المدينة في محيط من اللهيب عجاج كأنما الأرض قد انفتحت لتبتلع جميع ما بنته يد الإنسان في تلك العاصمة الأوروبية.
أطل نابوليون من شرفة الكريملن يشاهد هذه الرؤيا الفظيعة ... عندما أبصر سيبيون حريق قرطجنة لم يقو على الصمت فصرخ قائلا: «ويل لروما بعد هذا!» ولكن نابوليون بقي صامتا ... يفكر! في حين كان الجيش غارقا في ذهول غريب، ولم يتخلل الصمت المنتشر على الكريملن إلا هذه الكلمات: «انظروا كيف يحاربون! فلقد خدعتنا حضارة بطرسبورج.»
2
رأى نابوليون الآن ما الذي أراد الروسيون أن يفعلوه؛ فإنه لم يجد في موسكو بدل المداولات أو المفاوضات في سبيل الصلح إلا مضرمي نار غلفوا المدينة باللهيب وزنروها بالخرائب! لقد حق له أن يقول مع مدام ده ستال: «ما من أمة حضرية ضمت من المتوحشين ما ضمته روسيا.»
على أن النار ما زالت تمتد حتى جاورت الكريملن فتحطم زجاج القصر الإمبراطوري، وخشي نابوليون على نفسه فعزم على الرجوع، ولكنه لم يشأ أن يتقهقر أمام الفظاعة التي قهرها في عشرين موقعة فعدل عن عزمه؛ عند هذا أخذ الجميع يحاولون إقناعه بضرورة الرحيل مشيرين إلى الشرر المتساقط على باحات القصر والمشاقات الملتهبة المنتشرة على الحضيض المعسكرة عليه فرقة المدفعية، سوى أنه بقي مصرا على عزمه، قائلا إنه لا يطيق على نفسه أن يطرده بضع مئات من مضرمي النار، من عمال روستوبشين، ولكن الحياة التي يعرضها للخطر إنما هي ملك الجيش، ملك فرنسا. وفي نهاية الأمر، لما عاد برتيه من إحدى شرفات القصر المرتفعة وأطلع الإمبراطور على أن الخطر كاد يلامسه وأن اللهيب يحيط بالقصر، لم يجد بدا من الرضوخ لمشيئة القدر، فتقهقر إلى مسافة صغيرة من موسكو ومكث في قصر بترووسكوني على طريق بطرسبورج.
لما سكنت النار في موسكو عاد نابوليون إلى الكريملن، الذي نجا من الحريق، فرأى المدينة ملأى بالناهبين من جميع الشعوب، فأخذ يهتم بالشرطة في داخل موسكو والبلدان المفتتحة. إلا أن الإسكندر، على ما حل به من النكبات، بقي أصم عن جميع المطاليب السلمية التي طرحت عليه، وكأنه نسي أن القسم الأكبر من ولاياته أصبح طعما للخراب فحول نظره عن الكريملن ليشخص به إلى الوزارة الإنكليزية التي ما فتئت تمهره بألوان المديح والتشجيع. ولكن عناصر الطبيعة بدأت تبشر بطلائع الفصل الرهيب، فخرج نابوليون من موسكو في التاسع عشر من شهر تشرين الأول بعد أن ترك للمرشال مورتيه أمرا بنسف الكريملن.
الفصل التاسع عشر
في أثناء ذلك كان موقف الجيش الفرنسي يسوء من يوم إلى يوم، وكان البرد القارس، ذلك العدو الرهيب، يسقط الجليد إلى عشرين درجة تحت الصفر، فكأن القدر شاء اليوم أن يعبس في وجه نابوليون كما ابتسم له في الماضي. ولكن لم يبق للإمبراطور، بعد جميع الخسائر التي كابدها في معارك سمولنسك وبولوتسك ووياسما التي تلت حريق موسكو، إلا شجاعة قواده وجنوده الذين، وإن عصفت عليهم عواصف النكبات بعد تلك الانتصارات العديدة، إلا أنهم بقوا جديرين بالمجد وبالرجل العظيم الذي قادهم من فتح إلى آخر، سوى أن الشجاعة الكبيرة، وإن كانت لا تزال قادرة على إبقاء المجد تحت أعلامها؛ فإنها لا تستطيع شيئا ضد الحظ الخائن.
المذكرة التاسعة والعشرون «بدأ البرد القارس في السابع من شهر تشرين الثاني ، فمنذ ذلك الوقت أخذت كل ليلة تختلس منا بضع مئات من الجياد التي فتك بها البرد. ولما وصلنا إلى سمولنسك كنا قد فقدنا كثيرا من الجياد والخيالة والمدافع.
كانت الطرق مغطاة بالجليد، أما الجياد فلم تكن تموت بالمئات بل بالألوف حتى إنه لم تمض بضعة أيام حتى فني ثلاثون ألفا منها، عند هذا اضطر الجيش أن يترك قسما كبيرا من المدافع والمئونة على قارعة الطرق.
لما شاهد الأعداء هذا الموقف الفظيع أرادوا أن يغتنموا الفرصة، وكانوا محتلين جميع معابر البريزينا، وهو نهر عرضه مائة وعشرون قدما، فاستحكموا في منافذ مختلفة ظنا منهم أن الجيش الفرنسي لا بد أن يمر منها. إلا أن نابوليون، بعد أن خدع العدو بحركات متباينة، زحف إلى قرية ستودزياكا وألقى جسرين على النهر مر عليهما الدوق ده ريجيو فهاجم العدو وقاتله ساعتين متواليتين حتى تمكن من إبعاده إلى جسر بوريزوو.
ولكن نابوليون لم يتملص من الروسيين إلا ليشاهد جيشه متساقطا تحت قساوة البرد! قال أحد الشهود: كانت الأيدي تجلد على الحديد والدموع تتجمد على الخدود، وكنا في حالة من الخدر والجمود صعب علينا بها أن نتبين بعضنا بعضا ... وقال الدكتور لاري: كما نمشي في صمت رهيب ... وكان الموت مرتسما على شحوب الوجوه بشيء من البله!»
بعد مرور يومين من إرسال نابوليون هذه المذكرة الشؤمى جمع قواده الممتازين في معسكره العام، وأطلعهم على أنه يرغب في تركهم والذهاب إلى عاصمته التي توجب عليه الظروف أن يسرع إليها. قال: «إني أغادركم لأصحب معي ثلاثمائة ألف جندي؛ إذ إننا يجب علينا أن نشهر حربا أخرى؛ لأننا، للمرة الأولى، قمنا بحملة لم تنجز الحرب ... لقد قهرنا ولم يكن قاهرنا سوى عناصر الطبيعة في هذا الفصل الرهيب؛ إلا أن حملة روسيا إنما هي أمجد وأشرف حملة يسجلها التاريخ الحالي.»
وفي الخامس من شهر كانون الأول أخذ الإمبراطور طريق باريس تاركا قيادة الجيش العامة لملك نابولي.
قال بنجمين كونستان: «لقد هدم شتاء 1812-1813 الرهيب آمال الجيش الفرنسي، فرأت بولونيا وبروسيا والبافيير والرين نابوليون المنهزم عائدا إلى فرنسا! ...» لما وصل الإمبراطور إلى باريس أظهر استياء شديدا من تصرف خيرة رجال الإمبراطورية، ساعة انتهى إليهم أن نابوليون قد قتل في موسكو، فقال: «ولكن ملك روما! قسمكم! مبادئكم! أين كل هذا؟ إنكم لتصورون المستقبل مظلما في عيني.» إلا أنه لم يلبث طويلا أن أخذ يفكر في الأمر الضروري الذي جاء من أجله، وما عتم الأمر أن أصدر مجلس الشيوخ مرسوما بتجنيد ثلاثمائة وخمسين ألف رجل.
في أثناء ذلك كانت بقايا حملة روسيا قد اجتازت بولونيا واجتمعت على حدود ألمانيا، وبالرغم من انكسارها وتشتتها ومكابدتها قساوة العناصر الطبيعية لم تقف عن مقاتلة الروسيين في كرونو تحت قيادة المرشال ناي، منذ ذلك الوقت أصبح بلاتوو بالرغم من مطاردته للفرنسيين وقد خشي أن يتبارى وهذه الفئة القليلة من البسلاء الذين ما زالوا يمثلون شرف الجيش الكبير وشجاعته ومجده. إلا أن الفرنسيين كانوا قد وصلوا إلى عهد لم يبق فيه شأن للنبوغ والبطولة، فإذا كان النصر لا يزال يماشيهم في وسط آلامهم وتعاستهم فإن الحظ ليعاكسهم ويخونهم؛ إذ إنه بعد أن وهبهم حلفاء أقوياء أقدم على سلخهم عنهم واحدا بعد الآخر وتحويلهم جميعهم إلى أعداء متمردين.
هو ذا الجحفل البروسياني المساعد قد بدأ يتحرك، فلقد شرع قائده الجنرال بورك الذي أخذ تعليماته من وزارة برلين يداول مع الروسيين؛ وفردريك غليوم، الذي لا تزال ولاياته تحت تصرف الجيوش الفرنسية أو تهديدهم، قد أنكر جهرا ما أمر به سرا، على أن يعود فيتظاهر بالعداء عند سنوح الفرصة.
في الثامن من شهر كانون الثاني عام 1813 ترك مورات الجيش الفرنسي ليعود إلى نابولي بعد أن سلم القيادة العامة لأوجين. فلما بلغ الإمبراطور هذا العمل الفجائي الذي اعتبره هزيمة مريبة كتب إلى شقيقته كارولين ما يلي: «إن زوجك إنما هو رجل باسل في ساحات الحروب، ولكنه أضعف من امرأة ساعة لا يرى العدو، إذن فهو لا ينطوي على شجاعة أدبية.» ثم كتب إلى مورات نفسه يقول: «لقد سببت لي جميع الأضرار التي استطعتها منذ سفري من ويلنا، فيظهر أن لقب ملك قد برم رأسك .» عندما ترك مورات المركز الخطير الذي وضعه فيه نابوليون، صرف لتاجه من الاهتمام فوق ما صرف لمجده، وسيجيء يوم يخسر فيه أحد هذين من غير أن يستطيع صيانة الآخر. كم أن الحوادث تسرع في سيرها! فلقد ولج نكران الجميل نفوس هؤلاء الذين يرجع إليه فضل مقامهم السامي وشهرتهم وحظهم!
قبل أن يغادر نابوليون باريس، جرب أن يضع حكومته في مأمن من الخطر الذي قد يوقعها فيه غيابه، فعهد بالسلطة السامية إلى الإمبراطورة ماري لويز، بعد أن أسس إلى جنبها مجلسا نيابيا. وكأنه تنبأ أن هجومه هذه المرة لن يكون على جيوش القيصر فحسب، بل إن حلفاءه الألمانين والنمسويين وغيرهم، الذين بقوا دائما أعداء سريين له، لا بد أن يشهروا العداء في وجهه، فرأى أن الثلاثمائة والخمسين ألف جندي غير كافين للحملة، وأصدر أمرا بتجنيد مائة وتسعين ألفا أخر. أما الشعب، فبالرغم من أن حماسه لم يبق كما كان عليه عهد مارنغو وأوسترلتز، لم يجد مفيضا من النزول في أمره على الإذعان للتضحية التي تتطلبها الظروف. على أن الفئة الغنية من الأهالي، وإن كانت أشد من غيرها تمسكا بالمدافعة عن أرضها، إلا أنها أخذت تسعى إلى التملص من التجنيد بدفع المال عوضا عن الرجال.
في أثناء ذلك كان ملك بروسيا قد أعلن عداءه لنابوليون والدخول في الحملة التي تجهز ضده، إلا أن هناك عدوا آخر لم يجد بدا من المجاهرة بالخصومة بين سلطات الشمال، وهو برنادوت، الذي عزم على أن يقاتل الفرنسيين بعد أن ضمن له القيصر عرش السويد وجعله ينتظر تاج فرنسا! بعد حملة موسكو وانكسار الجيش الفرنسي خيل لبرنادوت أن الوقت قد حان لبلوغ أربه. ترك نابوليون قصر سن كلود في منتصف شهر نيسان ليسرع إلى الميعاد الذي ضربته له أوروبا الشمالية في ألمانيا.
وصل نابوليون إلى أرفورث في الخامس والعشرين من شهر نيسان، في حين كان المرشال ناي يستولي على ويسنغل بعد موقعة جعلته يقول: «إنه لم ير قط حمية وثباتا أشد من اللذين رآهما في فرقة المدفعية .»
حمل الإمبراطور معسكره العام إلى ويسغنل وألقى ثلاثة جسور على نهر السال الذي كان الجيش الفرنسي معسكرا على شواطئه تحت قيادة أوجين. وفي أول شهر أيار زحف المرشال ناي إلى الأمام مع فرقة سوهام فاجتاز مضيق بوزرنا، الذي تحميه ستة مدافع وثلاثة صفوف من الخيالة، وهو يهتف «ليحي الإمبراطور!» وتبعته فرق جيرار ومرشان وبرينيه وريكار، وما هي إلا بضع ساعات حتى طرد الفرنسيون خمسة عشر ألف خيال من خيالة القائد ونتزنجرود، كانوا في السهل الممتد من مرتفعات ويسنغل حتى الألب. وحدثت بعد ذلك موقعة لوتزن فكان النصر فيها حليفا للفرنسيين، الذين أبلوا بلاء حسنا وأظهروا شجاعة لم يظهروها قبل ذلك فخاطبهم نابوليون بقوله:
أيها الجنود
إنني مسرور بكم! فلقد اخترقتم كل حاجز بما أوتيتموه من البسالة! لقد شتتم الجيش الروسي والبروسياني، الذي قاده الإمبراطور إسكندر وملك بروسيا، فأضفتم كوكبا جديدا إلى مجد نسوري، إذن فستوضع موقعة لوتزن فوق مواقع أوسترلتز ويينا وفرييدلان والموسكووا! ...
عندما قهر جيش إسكندر وفريدريك غليوم أسرع بالمرور إلى شاطئ الألب الأيمن.
في الحادي عشر من شهر أيار كان نابوليون مستوليا على دريسد، وفي اليوم التالي ذهب لملاقاة ملك السكس الذي دخل إلى عاصمته دخولا احتفاليا. وفي الثامن عشر منه خرج الإمبراطور من دريسد ليتجه إلى لوزاس فيتابع وقائعه، وما هي إلا أيام قلائل حتى قيض له انتصارات عديدة. في التاسع عشر من شهر أيار قاتل لوريستون الجنرال يورك في ويسي؛ في العشرين والواحد والعشرين ربح الإمبراطور بنفسه موقعتي بوتزن وورتشن، وفي الثاني والعشرين طارد الجنرال رينييه فرقة الحرس الروسية وشتتها على مرتفعات جبل ريشنباك. إلا أن هذه المعركة الأخيرة لم تنته إلا وقد حملت نابوليون خسارة أفظع من جميع الخسائر التي قاساها حتى اليوم؛ ففي نحو الساعة السابعة من المساء كان مرشال القصر الكبير دوروك يتحدث والمرشال مورتيه والجنرال كيرجنر، على مرتفع صغير يبعد مسافة كبيرة عن نيران العدو، فمرت رصاصة فتحت بطن دوروك وألقت الجنرال كيرجنر ميتا.
لم يكد الإمبراطور يبلغه هذا النبأ الموجع المشئوم حتى أسرع إلى دوروك، الذي كان لا يزال يتنفس بعد، فلما أبصر المرشال نابوليون بالقرب منه أخذ يده فضغط عليها وأدناها إلى شفتيه قائلا: «لقد وقفت حياتي لخدمتك، ولا آسف عليها إلا لأنها قد تفيدك بعد!» فأجابه الإمبراطور: «إن هناك حياة أخرى يا دوروك فستنتظرني فيها وسنجتمع يوما.» فقال دوروك: «أجل يا صاحب الجلالة، ولكن سيكون ذلك بعد ثلاثين سنة، عندما تنتصر على جميع أعدائك وتحقق آمال وطننا ... لقد عشت عيشة رجل شريف، فلا أوبخ نفسي على شيء، وأترك ابنة ستكون جلالتك أبا لها.» فتفطر قلب نابوليون لدى سماعه كلام دوروك وأخذ يده اليمنى بيده، وبقي ربع ساعة ورأسه مستند إلى يد رفيقه اليسرى من غير أن يقوى على التلفظ بكلمة، حتى قطع دوروك السكوت ليوفر بعض الآلام على روح الرجل العظيم، الذي بقي صديقه عندما أصبح مولاه، فقال له: «آه يا مولاي! اذهب! فهذا المشهد يؤلمك!» فأذعن نابوليون إلى هذا الرجاء الأخير وترك دوروك من غير أن يستطيع أن يقول له إلا هذه الكلمات: «وداعا إذن يا صديقي!» ولقد احتاج إلى الاتكاء على المرشال سول وكولنكور ليعود إلى خيمته، التي لم يشأ أن يقابل فيها أحدا طوال الليل.
في اليوم التالي، انتصر الجنرال رينييه انتصارا جديدا على الروسيين في معركة كورليتز، وفي الرابع والعشرين اغتصب المرشال ناي ممر نيس، وفي الخامس والعشرين، صباحا، كان على مسافة من كيس يستعد إلى دخول بونتزلو التي وصلها الإمبراطور في المساء.
مائتا ألف روسي وبروسياني ونمسوي، يقودهم إمبراطور روسيا وملك بروسيا وأمير شوارتزنبرج، كانوا يعبرون بوهيميا بسرعة عظيمة ليشنوا الغارة على السكس ويستحكموا على شاطئ الأيلب الأيسر، وكان مائة ألف رجل بقيادة بلوخر وساكن يتحركون في السيليزي، ومائة وعشرة آلاف رجل بينهم كتائب متطوعة تمثل الوطنية الجرمنية يزحفون على جميع الخطوط التي تصل هامبرج ببرلين لملاقاة الفرنسيين.
لم تكن الكتائب الغفيرة يوما من الأيام لتستطيع أن تقف في وجه الفرنسيين ما لم تشتت شملها الثورة الفرنسية التي يمثلها أبر أبنائها نابوليون بونابرت. لقد سعى الحلفاء سنين طوالا لقهر ذلك الجندي العظيم من غير أن يبلغوا منه لبانة، حتى لم يبق لهم من وسيلة إلا أن يستميلوا إليهم ولدين من أولاد تلك الثورة نفسها، فيتسللوا على يدهما إلى مداخل الفن العسكري والرقية الحربية اللذين شيدا عظمة أمهما فرنسا، ولقد أتيح للحلفاء ذلك؛ إذ إن مورو آثر أن ينضم إلى إسكندر روسيا ويتفيأ ظلال العلم الموسكوي في جيش بوهيميا الكبير على أن يبقى أمينا للعلم الفرنسي، وإذ إن برنادوت، كما جاء في الجريدة الرسمية «الميموريال»، سلم أعداء فرنسا مفتاح سياستها وعلمهم فن جيوشها ودلهم على طريق الأرض المقدسة.
كان برنادوت يقود جيش برلين! ...
ثم إن مورات أيضا كان على وشك أن يتمرد على أمانته ويفقد مجده، فلقد كتب على إحدى صفحات مستقبله أنه سيجحد ويخون المحسن إليه، صديقه وأخاه! إلا أن ساعة الخيانة والعار لم تكن قد حانت بعد، ففي الرابع عشر من شهر آب ظهر مورات مرة أخرى في ساحة الحرب في دريسد ليحارب أعداء نابوليون وفرنسا.
زحف نابوليون لملاقاة الإسكندر وملك بروسيا، فاغتصب معابر بوهيميا واستولى على كوبل ورمبرج وجور جنثال، وبعد أن دنا إلى مسافة عشرين ميلا من براغ، عاد إلى زيثو ليلحق بجيش السيليزي. في الواحد والعشرين، وصل إلى لوونبرج صباحا فألقى جسورا على نهر بوبر وعبره، بالرغم من نيران العدو الذي قهره وطارده إلى كولدبرج. وفي الثالث والعشرين جرى قتال جديد؛ فإن الجنرال جيرار شتت شمل كتيبة مؤلفة من خمسة وعشرين ألف بروسياني، وما هي إلا مدة قصيرة حتى انهزم الحلفاء أمام الكتيبة المائة والخامسة والثلاثين، إلا أن جميع هذه الانتصارات لم تؤثر على تقدم جيش بوهيميا الكبير الزاحف إلى عاصمة السكس زحفا هائلا.
عندما علم نابوليون بحركة جيش بوهيميا، ترك قيادة جيش السيليزي للمرشال ماكدونالد، وأسرع مع ناي لنجدة دريسد. أيصل في الوقت المعين؟ كانت المدينة مزنرة بكتائب لا يحصى عددها تعبر من جميع الجهات لسحق الجيش الضعيف الذي يقوده المرشال سن سير. في تلك الآونة كان الملك المسن شاخصا من نوافذ قصره إلى خرائب القرى الجميلة التي تحيط بعاصمته، وقد مزج أحزانه وآلامه بالحزن والألم اللذين سببهما انكسار كتائبه. كان كل شيء يبشر بأن دريسد ستقع في قبضة الجيش النمسوي-الروسي، وأن المرشال سن سيرلن يستطيع أن يقاوم طويلا بعد في شوارتزنبرج.
ولكن ظهر نابوليون فجأة؛ في السادس والعشرين، الساعة العاشرة صباحا، اجتاز الإمبراطور جسر دريسد على صهوة جواده تتبعه كتائبه الباسلة، فعادت الآمال إلى الصدور وأشرقت الوجوه ببريق من القوة كأن شعب دريسد قرأ على هذه الأسرة الحربية دلائل السلام والراحة. وأول ما قام به نابوليون أنه صعد توا إلى القصر وطمأن الأسرة المالكة التي كانت تفكر في الهرب، ثم خرج من القصر وملء رغباته، أن يعرف بنفسه، كم هو عدد الأعداء، وما هو مركزهم وحركاتهم، فمشى مسرعا لهذه الغاية إلى أحد أبواب المدينة.
في الساعة الواحدة وصل نابوليون إلى أطراف ضاحية بيلنيتز، وفي الساعة الثالثة أعطيت إشارة القتال بثلاث إطلاقات من مدافع الجيش النمسوي-الروسي فهب العدو الكامن على جميع المرتفعات المزنرة بها المدينة ووثب إلى السهول صارخا: باريس! باريس! إلا أن الجندي الفرنسي ما لبث أن أشعر بقوته وبسالته أمام إمبراطوره الحارس على شرف نسوره، فما هي إلا هنيهة حتى حمي وطيس المعركة وتساقطت القنابل على المدينة، عند هذا فهم نابوليون أن الوقت أصبح حرجا جدا، وأنه لا ينبغي أن يتهامل في إنقاذ عاصمة الحليف الوحيد الذي بقي له فأشار إلى مورات وخيالته بأن يهجموا على جناح العدو الأيمن، وإلى فرقة الدوق ده تريفيز بأن تهاجم الجناح الأيسر، ثم أشار إلى أربع فرق من الحرس الحديث يقودها قوادها البسلاء دوموتيه، باروا، ديكوز وروجه الذين وضعوا هم أنفسهم تحت أوامر أمير موسكووا الباسل بأن تمر من بابي بيزنا وبلوين.
غير ظهور هذين الصفين مشهد الحرب؛ إذ انحنى كل شيء أمام الحرس الحديث وتقهقر، وطورد العدو في جميع طرقه هاجرا السهول التي أغار عليها بحمية وبسالة؛ عند هذا صرخ أمير شوارتزنبرج قائلا: «الإمبراطور في دريسد! فلم يبق سبيل إلى الشك، ولا ينبغي لنا إلا أن نجمع بعضنا بعضا.»
لا نجد بدا هنا من اجتزاء فقرة صغيرة، وردت في قصة ما حدث في دريسد كتبها أحد السكسونيين، وهو الماجور أودلوبن، الذي شهد الموقعة بنفسه، قال: «اخترق نابوليون على جواده نيران الحرب تحت رذاذ من القنابل ليستولي على باب البحيرة وحاجز ليبوديسولد، وبعد أن توقف فترة من الوقت هجم إلى ساحة القتال! قتل أحد الضباط إلى جنبه وجرح كثيرون من معاونيه.»
لم يقف دوي المدافع إلا في الساعة التاسعة من المساء. أما نابوليون فبقي على صهوة جواده حتى الساعة الحادية عشرة يتفقد ساحات القتال، ويتعرف إلى مراكز العدو لكي يهيئ خططه لموقعة اليوم التالي. في منتصف الليل، دخل إلى القصر؛ إلا أنه قبل أن يأوي إلى سريره نادى إليه برتيه وأملى عليه أوامره، التي بلغت في الحال إلى جميع القواد، لكي يكون كل منهم على أتم الاستعداد. منذ الصباح كان الإمبراطور على جواده بالرغم من الوحول والأمطار، وما هي إلا بعض ساعات حتى نشبت معركة هائلة شوهد فيها مورات ممتشقا حسامه ووشاحه المزركش بالذهب يتطاير على كتفيه، وقد هجم بنفسه على فرقة المشاة النمسوية ... ومرت ساعات، وإذا بجناح الحلفاء الأيسر قد انسحق، وإذا بالجناح الأيمن قد انسحق أيضا. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر كان نابوليون قد ربح موقعة دريسد، فخشي الأمراء المحالفون أن يفقدوا مواصلاتهم مع بوهيميا، فاضطروا أن يتقهقروا تاركين في قبضة المنتصر ثلاثين ألف أسير، وأربعين علما، وستين مدفعا.
أصابت القنبلة الأولى التي انطلقت من مدافع الحرس الإمبراطوري الجنرال مورو فجرحته جرحا مميتا، كأن السماء أبت على قاهر هوهنلندن أن يجسم جريمته وعاره في ساحات الحروب، فأوقفته عند حده في وسط الروسيين في أول موقعة عالج فيها حسامه الخائن في سبيل أعداء وطنه، عند هذا خيل لنابوليون أن العناية الإلهية قد رجعت إليه؛ إذ رأى الخيانة تطعن في صميمها وتعاقب في أحد أخصامها القدماء، ولكن ما خيل إليه وهم إنما هو سيزول قريبا، فهو ما لبث أن شعر بأن يدا تجرده من مركزه الأول وقد تنحى عنه الروح الحر الذي انتصب ضده في وسط الشباب الألماني؛ سينتهي الرجل السياسي في نابوليون. ولكن بما أن النبوغ سيبقى وفيا له، والشعب الفرنسي مجسدا فيه، سيهوي عن العرش من غير أن يهوي عن مجده، ويسقط من غير أن يقف عن الذهاب صعدا في سماء الأجيال.
إن قيصر روسيا وملك بروسيا وأمير شوارتزنبرج هربوا مرة أخرى من وجه نسر فرنسا حاملين معهم مورو يحتضر، إلا أن أحد قواد نابوليون الجنرال فاندام، الذي يتكل كثيرا على بسالة كتائبه وشجاعته الذاتية، حاول بقبضة من الجنود أن يقطع المرور عن جيش كامل، ويظهر أنه نسي ملاحظة الإمبراطور وهي «أنه يجب أن يبنى للجيش الهارب جسر من ذهب أو يشيد في وجهه حاجز من نحاس.» وذهب عنه أن القوة التي لديه عاجزة عن أن تشيد هذا الحاجز النحاسي فألقى بنفسه في مضايق كولم، وحاول أن يوقف هناك الجيش الكبير القهور في دريسد، ولكن بعد جهود عظيمة ومقاومة يائسة حملت العدو خسائر لا تحصى رأى القائد الفرنسي نفسه ملتويا تحت قوة الجيش الغفير فتوارى في المعركة وظن أنه قتل، وما هي إلا فترة من الوقت حتى أسرت فرقته بكاملها، وعلم بعد ذلك أنه هو نفسه سقط أسيرا في قبضة الجيش النمسوي-الروسي، فهذا الانكسار الذي كلف الجيش الفرنسي أكثر من عشرة آلاف رجل عكر موقعة دريسد.
زحف نابوليون إلى السيليزي تاركا جيش بوهيميا فالتقى بفرقة ماكدونلد على مرتفعات جبل هوشكيرش في الرابع من شهر أيلول. وفي اليوم نفسه قاتل الجيش العدو فهزمه من مرتفعات جبل وولنبرج وطارده طوال نهار اليوم الخامس حتى أوصله إلى كورليتز، وفي اليوم السادس عاد إلى دريسد، على أن المرشال أودينو لم يكن حظه في زحفه إلى برلين أسعد من حظ ماكدونلد في السيليزي، فلقد قوتل في كروس برن في الرابع والعشرين من شهر آب، وناب عنه المرشال ناي الذي، بعد أن انتصر بعض انتصارات في اليوم الخامس من شهر أيلول، أصيب في اليوم التالي بكسرة فظيعة في جوتربوك حيث قاتله برنادوت وبولوف.
جرت بعد ذلك حوادث أليمة ساعدت على إضعاف الإمبراطور نابوليون، فلقد نهج ملك البافيير نهج إمبراطور النمسا بخرقه حرمة المعاهدات والقيام في وجه فرنسا، وطرد ملك ويستفالي، جيروم بونابرت، من عاصمته، واضطر أن يهرب إلى الرين، فأدرك نابوليون آنئذ أن موقفه على شواطئ الأيلب أصبح مهددا بخطر عظيم، وأخذ يفكر في أن يدنو من حدود فرنسا محتفظا قدر إمكانه بمظهره المنتصر، ولكنه أدرك أيضا أن قواته لا تستطيع أن تقف طويلا في وجه جيش لا يحصى عدده؛ لأن أوروبا جميعها تغذيه برجالها كلما ضعف ورق، فشعر أنه بحاجة قصوى إلى تجنيد عسكري جديد، وطلب من مجلس الشيوخ مائتين وثمانين ألف رجل، فلم يرفض مجلس الشيوخ طلب الإمبراطور.
في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول وصل نابوليون إلى ليبزيك، حيث كانت مجتمعة فرق فيكتور وأوجرو ولوريستون، فتبعه الحلفاء عن كثب، وتمكنوا أن ينضموا كتلة واحدة حول الجيش الفرنسي الذي أوقفه عن زحفه شوارتزنبرج وجيولاي بننكسن وكوللوريدو وبلوخر وبرنادوت وسدوا عليه الجهات الأربع.
الفصل العشرون
في السادس عشر من شهر تشرين الأول، الساعة التاسعة صباحا، أعلنت الحرب في جنوب ليبزيك على يد أمير شوارتزنبرج، إلا أنه لم تلبث أن أصبحت حربا عامة اشترك فيها مائتا مدفع. جنح النصر في بادئ الأمر إلى جهة الحلفاء الذين كانوا يهددون قريتي مركليبرج ودوليتز وتمكنوا من إضعاف ميمنة الفرنسيين، وإذا بمشاة بونياتووسكي وأوجرو وخيالة الجنرال ميلهو أتيح لها أن توقف انتصار العدو عند حده، في حين كان فيكتور ولوريستون يحافظان، في الوسط، على فاشو ولبيبر فلولكوتينر بالرغم من جهود أمير ورتنبرج والجنرالين كورزاكوف وكلينو.
إلا أن الإمبراطور لم يكتف بذلك حتى يقاوم مقاومة صحيحة ويحافظ على مراكزه، فكان بحاجة إلى فوز باهر وانتصار مؤكد، فأشار إلى مكدونالد وسيبستياني بأن يهجما على كلينو من اليسار، وأمر مورتيه بأن يذهب لدعم لوريستون بفرقتين من الحرس الحديث، وأرسل أودينو ليدعم فيكتور من اليمين، في حين كان كوريال زاحفا إلى دوليبز ليعضد بونياتووسكي، وفي حين كانت مائة وخمسون مدفعا من مدافع الحرس يديرها الجنرال دروو زاحفة لتحمي هذه الحركات المختلفة.
أتيح لجميع القواد والجنود أن يحققوا آمال القائد العظيم؛ فلقد تمكن فيكتور وأودينو أن يطردا أمير ورتنبرج حتى كوسا، وتمكن مورتيه ولوريستون أن يطردا فرقة كلينو، وقدر لماكدونلد وسيبستياني وبونياتووسكي أن يقضوا على محاولات البروسيانيين والروسيين والنمسويين. فلما رأى الإمبراطور إسكندر أنه يوشك أن يخسر موقعة فاشو صحت عزيمته على أن يضحي، ليس بجيشه الاحتياطي فحسب بل بحراسه أنفسهم، فأسرع إلى النقطة الأكثر خطرا من سواها وأشار إلى الكوزاك من فرقة الحرس بأن هجموا على الخيالة الفرنسية، فهذه الجرأة المدهشة أنقذت جيش الحلفاء من انكسار تام، ولقد استرجع الكوزاك أربعة وعشرين مدفعا من ستة وعشرين، كان الجيش الفرنسي قد غنمها من الروسيين، وظهر عقيب ذلك الجيش الاحتياطي النمسوي.
لم تنحصر المواقع في فاشو فقط بل سمع دوي المدفع في جهة لندنو والبارثا؛ فلقد خلص بلوخر إلى أن يلوي كتيبة مارمون في البارثا، أما جيولاي فقد كان في لندنو أقل حظا من الجنرال برتران الذي دافع عن طريق فرنسا وأنقذه.
خسر الحلفاء عشرين ألف رجل في فاشو، وخسر الفرنسيون ألفين وخمسمائة بين قتيل وجريح. أصيب الجنرال لاتور موبور
1
برصاصة أطارت له فخذيه ... أثنى الإمبراطور نابوليون على تصرف قواده فيكتور، مارمون، ناي، أودينو، ماكدونلد وأوجرو وغيرهم ... وخص بالثناء بسالة لوريستون وجرأة بونياتووسكي الذي رفعه إلى رتبة مارشال.
كانت الحرب أعيدت في اليوم التالي لو لم تضطر الأمطار الغزيرة والطرق الموحلة، التي أخرت وصول الجنرال بننكسن، أن يؤجل العدو القتال إلى الغد. في الثامن عشر من الشهر، عند بزوغ الفجر، كان الحلفاء يتأهبون للقتال، إلا أن الإمبراطور كان قد تنبأ عن كل ذلك فصرف الليل بإعداد العدة، فكان يركض من خيمة إلى خيمة فيوقظ ناي في ريدنيتز، ويزور برتران في لندنو، ويعطي أوامره في جميع الأماكن.
في الساعة العاشرة دوت المدافع في جميع الجهات، وحول الأعداء جهودهم نحو قريتي كونيوبتز وبروبستيد اللتين يعلقون على أخذهما ربح المعركة. حاولوا أربع مرات أن يستولوا على بروبستيد، وأربع مرات ارتدوا مقهورين. في الساعة الثالثة بعد الظهر كان الفوز لا يزال في جانب الفرنسيين، إلا أن حادثا من تلك الحوادث التي لا يستطيع الفن العسكري أن يتنبأ عنها، والتي كثيرا ما غدرت نابوليون منذ سنة في ساحات القتال، جرى على حين غرة، فقلب الأمور بطنا على ظهر؛ انتقل الجيش السكسوني والخيالة الورتنبرجوية إلى جهة العدو وأخذا يقاتلان معه، أما القائد العام زيشو، الذي بقي أمينا للعلم الفرنسي، فلم يستطع أن يبقى تحت قيادته إلا خمسمائة رجل. فهذا الانقلاب الفجائي الذي حدث في ساحة القتال نفسها فتح فراغا عظيما في الصفوف الفرنسية، وأخلى للحلفاء المركز الخطير الذي عهد إلى الجيش السكسوني بالمدافعة عنه. وما هي إلا بعض ثوان حتى تمكن العدو، وكان برنادوت، من عبور البارثا واحتلال ردينتز وأصبح على مسافة نصف فرسخ من ليبزيك، إلا أن نابوليون وصل في تلك الآونة مع كتيبة من الحرس فأنعش وجوده حماس كتائبه، وما هي إلا ساعة حتى استرجعت ردنيتز وعاد النصر إلى الجيش الفرنسي. ولكن في الساعة السابعة مساء، جاء القائدان سوبيه وديلولوي إلى الإمبراطور، وأعلماه أن ذخائر الحرب قد نفذت ولم يبق في حوزتهم منها إلا نزر قليل قد لا يكفي لإضرام القتال أكثر من ساعتين؛ كان الجيش قد أطلق في الخمسة أيام الماضية أكثر من مائتين وعشرين ألف قنبلة مدفع.
لم يبق لنابوليون في مثل هذا الموقف إلا أن يتقهقر من معابر لندنو، التي دافع عنها الجنرال برتران مدافعة شديدة ضد فرقة جيولاي النمسوية. وفي الساعة الثامنة مساء ترك الإمبراطور معسكره ودخل إلى ليبزبك، فبات في أحد الفنادق هناك؛ فندق عساكر بروسيا.
صرف نابوليون الليل في إعطاء أوامره إلى الدوقين ده باسانو وده فيسانس. وفي التاسع عشر من الشهر، عند بزوغ الفجر، كان القسم الأكبر من الجيش قد تم تقهقره، فلقد عبر فيكتور وأوجرو في الأول، وعهد إلى مارمون بالمدافعة عن ضاحية الهال، وإلى رينييه عن ضاحية روسنثال، وإلى ناي عن الضواحي الشرقية. أما لوريستون وماكدونلد وبونياتووسكي فقد عهد إليهم بالبقاء في أحياء الجنوب والمحافظة على شواطئ نهر الألستر
2
إلى أن تتمكن كتيبتا ناي ومارمون من عبور النهر. قال نابوليون لبونياتووسكي، وهو يعطيه أوامره: «أيها الأمير، ستدافع عن ضاحية الجنوب.» فأجاب بونياتووسكي: «لدي قليل من الرجال يا صاحب الجلالة.» فأجاب نابوليون: «ستدافع بما لديك.» فقال بونياتووسكي: «آه يا مولاي، إننا دائما مستعدون لأن نموت في سبيل جلالتك.» ولقد بر القائد البولوني العظيم بكلامه؛ إذ إنه قضي عليه أن لا يرى الإمبراطور بعد ذلك!
بينما كان الحرس يدافعون عن الضواحي تحت أسوار ليبزيك صوب السكسونيون مدافعهم على الكتائب الفرنسية من أعالي هذه الأسوار. كان جسر الألستر ملغما، ولقد عهد إلى الكولونيل مونتفور بنسفه ساعة يمر آخر صف من صفوف الجيش على الشاطئ الآخر حتى يتأخر زحف الأعداء، إلا أن الكولونيل مونتفور ظن أن الفرنسيين قد عبروا جميعهم الجسر الملغم فأشعل النار في الألغام وتهدم الجسر، قبل أن تمر أربع فرق من الجيش كانت لا تزال في الضواحي. ما الذي سيحل بهؤلاء البواسل الذين يقودهم ماكدونلد، رينييه، لوريستون وبونياتووسكي؟
لقد دهمهم العدد الغفير فلم يبق لهم سبيل للمقاومة ولقد سدت في وجوههم طريق التقهقر على يد فرنسية! ألقى ماكدونلد نفسه في مياه الألستر ونجا سباحة، ودفع بونياتووسكي جواده إلى النهر فسقط في لجة ولم يظهر بعد ذلك؛ وتوارى رينيه ولوريستون عن الأنظار فظن أنهما قتلا أو غرقا! اثنا عشر ألف رجل قتلوا أو أصبحوا في قبضة الأعداء في ذلك الحادث المشئوم!
وما هي إلا ليلة وضحاها حتى كان الحلفاء أسياد ليبزيك؛ وجيء بملك السكس إلى برلين ليكفر عن أمانته لفرنسا، أما برنادوت، الذي شاطر أعداء الاسم الفرنسي سكرة الانتصار، فقد جلس إلى خوان الملوك العظماء الذين يتابعون ضد نابوليون تجديد الحق الإلهي!
بعد أن أدى نابوليون إلى ضحايا هذه النكبة الفظيعة ما حق لهم من الحزن والألم، حاكم في مجلس حربي الكولونيل مونتفور الذي أشار بنسف جسر الألستر على حين فجأة، ثم أكمل زحفه إلى أرفورث التي وصلها مع أركان الجيش في الثالث والعشرين من الشهر.
في الخامس والعشرين منه غادر الإمبراطور أرفورث وتابع سيره إلى الرين، فأقبل النمسويون والبافاريون لملاقاته وحاولوا أن يقطعوا عليه المرور في هانو، إلا أن نكبة ليبزيك لم تضعف من قوى الفرنسيين إلى درجة أنهم يعجزون عن قهر الحلفاء الخائنين الذين حاولوا أن يقطعوا عليهم خط التقهقر؛ فسيمر الإمبراطور على بطون ستين ألفا من النمسويين والبافاريين الذين يقودهم فريد ويحرسهم ثمانون مدفعا. خسر البافاريون عشرة آلاف رجل في معركة هانو، وقتل ستة من قوادهم، فضلا عن أنهم تركوا في قبضة المنتصر كثيرا من المدافع والأعلام.
في الواحد من شهر تشرين الثاني وصل الإمبراطور إلى فرنكفور، فكتب منها إلى ماري لويز يبشرها بوصول عشرين علما استولي عليها في معارك فاسو وليبزيك وهانو؛ وفي اليوم التالي دخل إلى مايانس في الساعة الخامسة صباحا حيث بقي عدة أيام يهتم بتنظيم الجيش الذي سيعسكر على خط الرين، وسافر في الثامن منه ليلا إلى فرنسا، وفي اليوم التالي، الساعة الخامسة مساء، كان في سن كلود.
إن نابوليون، الذي كثيرا ما عود الباريسيين أغاني النصر والفتوحات الغراء، رأى نفسه للمرة الثانية وفي مدة سنة واحدة يعود إلى عاصمته وقد خانه حلفاؤه والحظ وطاردته جيوش أوروبا جميعا، ولم يبق لديه إلا بقايا جيش سقط في ساحة الشرف تحت طعنات الخيانة والقدر!
أترى تنسى فرنسا أنه لم يشهر الحرب إلا من أجلها، فتستعد لأن تقول له، كما قال سيد روما لفاروس
3
في الزمن الغابر: «أرجع إلي كتائبي!» لا، فالشعب الكبير لن يلطخ مجده بهذه العبارة الظالمة وهذا الجحود الأليم؛ لن يكون حظيا عنيدا كمجلس الشيوخ، ولا راشقا بالقلاع كالفرقة التشريعية؛ إنه سيستأسف على الهفوات السياسية التي اقترفت بحق التقدم والفلاح، ولكنه لن يستثمرها لرشق العتاب واللوم.
في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني طلبت الحكومة تجنيد ثلاثمائة ألف رجل، فوافق أعضاء مجلس الشيوخ على هذا الطلب.
عندما وصل نابوليون إلى باريس انتهى إليه أن تحزبات عدائية تحاول أن تضع يدها على إدارة الفرقة التشريعية، فاتخذ عندئذ سلطته الديكتاتورية، التي يجيد إدارتها عندما تدعوه الظروف إلى ذلك، وأصدر مرسوما يقضي بأن يترك له حق اختيار رئيس هذه الفرقة، ووقع اختياره على الدوق ده ماسا. في التاسع عشر من شهر كانون الأول سنة 1814 استلم نابوليون رسالة من كارنو يقول له فيها إنه ينضم إليه في خدمة مقاصده. يا للتباين الغريب! فإن كارنو، الذي كان آخر عنصر من عناصر الجمهورية والذي بقي غريبا عن أبهة الإمبراطورية الجديدة، لم يطل عليه الأمر حتى دنا من ذلك الذي قاوم سلطته وعظمته، في حين كان مورات، أحد أمراء الإمبراطورية الأول وصهر نابوليون وصديقه القديم الذي غمره بالنعم ومهره بتاج عظيم، يغتنم الفرصة السانحة ليخون المنعم عليه ويهب النمسويين والروسيين نجدة تلك البسالة الفرنسية التي كثيرا ما كانت شؤما عليهم.
في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني، الساعة الثالثة صباحا، ترك الإمبراطور باريس وزحف لملاقاة الحلفاء الذين عزموا أن يشنوا الغارة على المقاطعات الشرقية، بعد أن أحرق أوراقه السرية وعانق امرأته وولده ... للمرة الأخيرة! وفي السابع والعشرين منه وصل إلى سن ديزيير فطرد منها العدو الذي مضى عليه يومان وهو يقترف جميع أنواع الرذائل، عند هذا فرح السكان فرحا عظيما، وأظهر له الكولونيل بولان، وهو جندي مسن، عواطف الأهلين الذين تألبوا زرافات حول منقذهم الأعظم. وبعد مرور يومين استولى نابوليون على مدينة بريين وقصرها، اللذين كانا في قبضة بلوخر، بعد أن قتل من رجالة أربعة آلاف. أما البروسيون، فلكي يضمنوا تقهقرهم، أعملوا النار في المدينة.
في الواحد من شهر شباط عبر بلوخر
4
وشوارتزنبرج إلى الروتيير وديانفيل حيث كانت فرقة حرس الجيش الفرنسي، وقد صور لهما أنهما سينتصران انتصارا سهلا، إلا أن القائدين دوهسم وجيرال خدعاهما بأن أجاد الأول الدفاع عن الروتيير والآخر عن ديانفيل؛ ولقد عرف المرشال فيكتور أن يحافظ طوال النهار على مركزه في مزرعة جيبري، إلا أن كتيبة من الحرس ضلت السبيل في الليل فسقطت في كمين نصب لها وبقيت في قبضة العدو.
إن موقعة بريين والدفاع عن الروتيير وديانفيل وجيبري افتتحا حملة 1814 افتتاحا مجيدا، إلا أن بلوخر وشوارتزنبرج كانا يهيئان قوات عديدة خشي نابوليون أن تحيط به، وتقطع عليه طريق عاصمته، إذا هو أصر على البقاء في مراكزه في نواحي بريين. وكانت بعض الكتائب العدوة تتجه إلى سنس عن طريق بارسوو أوب وأوكسير. في ذلك الحين شعر نابوليون بأنه من الواجب عليه أن يسرع لوضع باريس في مأمن من المداهمة، فانحدر إلى تروا، التي دخلها في الثالث من شهر شباط، ثم إلى نوجانت التي احتلها أركان جيشه في السابع منه، ولقد كانت غايته أن يفرق بين الجيشين البروسياني والنمسوي الكبيرين اللذين لم يكن يستطيع أن يقاتلهما معا، فنجحت خطته هذه نجاحا باهرا في شانبوبرت في العاشر من شهر شباط، إلا أن طعناته سقطت هذه المرة على الروسيين. فإن القائد العام أوسووييف، الذي يقود اثنتي عشرة كتيبة، نكب نكبة فظيعة بأن أخذ أسيرا هو وستة آلاف من رجاله وترك الباقين غرقى في أحد المستنقعات أو قتلى في ساحة الحرب، بعد أن ترك أربعين مدفعا وجميع ذخائره في قبضة المنتصر.
في اليوم التالي كان دور بلوخر؛ فلقد أدركه نابوليون في مونميرال وقاتله ساعتين متواليتين حمله فيهما خسائر لا يحصى عددها؛ وفي الغد فاز الفرنسيون فوزا آخر، فلقد أسرت كتيبة من الأعداء كانت تحاول أن تحمي تقهقر بلوخر، وذلك في شاتوتييري التي دخلها الفرنسيون مع البروسانيين والروسيين. بات نابوليون ليلته في قصر نيل ... كانت بقايا جيوش الأعداء تسرع في تقهقرها الذي كان يشبه الهرب فأدركها الفلاحون في الغابات، وأسروا منها عددا غفيرا جاءوا به إلى الفرنسيين. إلا أن هذه الجيوش المحالفة، وإن كانت تضعف كل يوم؛ فإنها لم تكن إلا لتزيد رغبة في القتال؛ إذ إن أوروبا جميعها كانت تغذيها بكتائبها.
تمكن بلوخر الذي تهدمت فرقته في شاتوتييري في الثاني عشر من شهر شباط، أن يدخل إلى فوشان في الرابع عشر منه؛ فهذه القرية التي هاجمها الدوق ده راكوز أخذت واسترجعت مرات عديدة، بينما كان القتال حاميا وطيسه، هجم الجنرال غروشي
5
إلى مؤخر العدو وأعمل فيه السيف، عند هذا أشار نابوليون إلى كتائبه الأربع بالهجوم، وما هي إلا هنيهة حتى استولت على ألفي رجل من رجال الحلفاء، ثم هجمت خيالة الحرس جميعها؛ وهكذا تشتت العدو في مجاهل الليل من غير أن يجد ملجأ له، تاركا في قبضة الفرنسيين ألف رجل بينهم القائد العام نفسه. خسر الحلفاء في موقعة فوشان عشرة آلاف أسير، عشرة أعلام، عشرة مدافع وكثيرا من القتلى والمجاريح.
اضطر نابوليون، لكي يزحف لملاقاة الكتائب التي تتهدد باريس من جهة رنس وسولسون، أن يترك لبغض الملازمين العناية بردع شوارتزنبرج عن بلوغ شواطئ الأوب والسين، إلا أن الجنرال يسيم النمسوي، الذي لم يكن أمامه سوى قوات أقل من قواته بكثير، تقدم إلى الأمام بعد أن أوقفه الجنرال بورمون يومين كاملين تحت أسوار نوجانت. فلما بلغ الإمبراطور نابوليون تقدم شواتزنبرج ترك مارمون ومورتيه على شواطئ المارن وأسرع كوميض البرق إلى الجهة التي يتهددها الجيش النمسوي. في السادس عشر من شباط وصل إلى شواطئ الأيبر، وفي اليوم التالي زحف إلى نانجي حيث كانت الفرقة الروسية، التي يقودها ويتجنستن، الذي جاء يعضد الجيش النمسوي البافاري، وكانت كتيبة روسية أخرى بقيادة الجنرال باهلن معسكرة في مورمانت، فقاتل الإمبراطور هذين القائدين وشتتهما أفظع تشتيت. عند هذا استولى الجنرال جيرار على قرية مورمانت التي دخلتها الفرقة الثانية والثلاثين بانتصار باهر، وأتيح للخيالة التي يقودها الجنرالان فالمي وميلهو، وتعضدها مدفعية الجنرال دروو، أن تخترق مربعات المشاة الروسيين وتستولي عليها بجملتها، وكانت تضم أكثر من ستة آلاف رجل، أما القائد العام ويتجنستن فقد نجا بنفسه وهرب إلى نوجان، وكان أعلن أنه سيكون في باريس في الثامن عشر من الشهر.
صرف الإمبراطور الليلة التي بين السابع عشر والثامن عشر من الشهر في قصر نانجي، وقد عزم أن يزحف في اليوم التالي إلى مونترو، التي كان على فيكتور أن يتقدم الجيش النمسوي إليها ويستحكم فيها في السابع عشر مساء . إلا أنه عندما مثل الجنرال شاتو أمام مونترو في الساعة العاشرة من صباح اليوم الثامن عشر، كان الجنرال بيانشي قد احتل هذا المركز الخطير منذ ساعة، واستحكمت كتائبه على المرتفعات التي تغطي جسور المدينة؛ ولكن الجنرال شاتو، وإن لم يكن لديه من الرجال عدد غفير يوازي عدد العدو، إلا أنه لم يصغ إلا إلى شجاعته وهاجم العدو ببأس غريب فلم ينجح وارتد إلى الوراء؛ لأن الكتائب التي كان عليها أن تصل إلى مونترو في مساء اليوم المنصرم لم تكن قد وصلت كما توقع، سوى أن القوة التي أظهرها في الدفاع فسحت مجالا لوصول كتائب أخرى يقودها الجنرال جيرار؛ وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الإمبراطور فأعاد وجوده الحمية والنشاط إلى صدور الكتائب، وهجم بنفسه بين كرات المدافع وقنابل البنادق، ولما سمع الجنود يظهرون استياءهم من تعرضه لهذا الخطر قال لهم: «هيا أيها الأصدقاء، ولا تخافوا؛ فإن القنبلة التي ستقتلني لم تذوب بعد.»
كان العدو قد جنح إلى سهول سورفيل عندما أرغمه الجنرال باجول أن يرمي بنفسه في مياه السين والأيون. أما الحرس فلم يحتج إليهم ليشتركوا في القتال، ولم يظهروا إلا ليبصروا العدو هاربا في جميع الجهات، ويحضروا انتصار فرقتي جيرار وباجول. أما أهالي مونترو فقد اشتركوا في هذا الانتصار بأن أطلقوا بنادقهم من شرفات منازلهم على النمسويين والورتنبرجوازيين. لقد خسر الجيش الفرنسي خسارة أوجعت قلب الإمبراطور؛ فإن الجنرال شاتو أصيب بقنبلة قتالة على جسر مونترو، جزاء تلك البسالة النادرة التي أبرزها في المعركة.
بعد أن وزع نابوليون المكافآت على القواد الذين أبلوا بلاء حسنا في هذه المعركة التفت إلى الذين أبطئوا في زحفهم أو تهاملوا في قيادتهم، فوبخ الجنرال مونبرن على تركه غاب فونتنبلو للكوزاك من غير مقاومة، إلا أن التوبيخ الذي خرج من فم نابوليون، وكان له دوي في جميع أوروبا، وأثر تأثيرا كبيرا هو الذي وجه إلى المرشال فيكتور. جاء في المذكرة ما يلي: «كان على الدوق ده بللون أن يصل إلى مونترو في السابع عشر مساء ، ولكنه توقف في سالنس، فهذه هفوة فظيعة؛ لأن احتلال جسور مونترو كان أتاح للفرنسيين أن يدركوا النمسوي منغمسا في الجريمة.»
ولم يكتف الإمبراطور بهذا التوبيخ العلني بل أرسل إلى المرشال فيكتور الإذن بالانفصال عن الجيش وسلم القيادة للجنرال جيرار. أما فيكتور، الذي أحزنه موت صهره الجنرال شاتو الباسل، فلم يبق ساكنا لدى هذا العزل، بل جاء إلى الإمبراطور وقال له: «إن المشقات التي كابدها الجيش إنما هي التي سببت هذا التأخير.» وزاد على ذلك بقوله: إنه إذا اقترف هفوة فالطعنة التي حلت بأسرته كفرت عنها تكفيرا عظيما، عند هذا تمثلت لنابوليون صورة شاتو المحتضر وفطرت قلبه، فاغتنم المرشال هذه السانحة ليقول له بشفقة: «أنا ذاهب لآخذ بندقية، فلم أنس مهنتي القديمة، وسترى فيكتور مصطفا في صفوف الحرس.» فالتوى نابوليون لدى هذه اللهجة النبيلة، وبسط له يده قائلا: «إذن فابق يا فيكتور، لا أستطيع أن أعيد إليك جيشك لأني سلمته إلى جيرار، ولكني أعطيتك كتيبتين من الحرس، فاذهب واستلم قيادتهما.»
في الثالث والعشرين من شهر شباط دخل نابوليون إلى تروا ...
انتهى إلى نابوليون وهو في تروا، أن الجنرال بلوخر يحاول الزحف إلى باريس فأسرع حالا للدفاع عن عاصمته، وفي السابع والعشرين مساء وصل إلى جوار مقاطعة لاوب والمارن فصرف الليل في هربيس، واستقر في دير هناك لا يحتوي إلا على غرفة واحدة.
وفي اليوم التالي بلغه أن مورتيه ومارمونت اندحرا أمام بلوخر في طريق مولان، وجيش هذا كان يربو على الجيش الفرنسي، فزحف مسرعا إلى هذه الجهة وحمل أركان جيشه إلى قصر إسترني حيث صرف الليلة التي بين الثامن والعشرين من شهر شباط وأول آذار. كان الجيش العدو قد أصبح على مقربة من باريس فأخذ نابوليون يفكر في الوسيلة التي تمكنه من إيقافه. أما بلوخر، فلما علم بدنو الإمبراطور، أخذ يحتال للتملص منه وهرب مسرعا في طريق سولسون؛ عند هذا استلم مورتيه ومارمونت أمرا بمطاردة البروسيانيين، فنفذاه تنفيذا جميلا؛ إذ إن زحفهما إلى سولسون، الذي كان موآزرا زحف الإمبراطور، حصر بلوخر بين جيشين فرنسيين أوشك البروسيانيون أن ينكسروا انكسارا فظيعا، حتى إن هربهم لم يكن ليستطيع أن يوصلهم إلا إلى تسليم أو إلى مذبحة فظيعة تحت أسوار سولسون؛ ولكن الحكمة لم تكن تريد أن يتلاشى البروسيانيون؛ فعندما أوشك بلوخر أن يقع تحت طعنات الكتائب الفرنسية التي تحرجه وتزنره فتحت له سولسون أبوابها وكان عليها أن تقاومه.
كان نابوليون في فيسم لما انتهى إليه ماذا جرى في سولسون فكان سخطه مضارعا لدهشته، وأصدر حالا مرسومين؛ يأمر في الأول الفرنسيين جميعهم بأن يسرعوا إلى السلاح لدى دنو الأعداء، وضمن الآخر العقاب الذي يلحق بالخائنين لكل موظف يحاول أن يبرد عزائم المواطنين.
كان المفوضون الإنكليز، في معاهدة جرت في شومون في أول آذار، قد أخذوا عهدا على جميع سلطات البر أن لا تلقي السلاح إلا بعد أن تعيد فرنسا إلى حدودها القديمة.
كان الجيش الفرنسي يكاد يدرك بلوخر في كراوون ويقاتله قتالا تاما عندما أرسل الدوق ده فيسانس برقيات إلى الإمبراطور، يعلن له فيها، أن العصبة تتطلب منه ليس أن يتخلى عن فتوحات الجمهورية والإمبراطورية فحسب، بل أن يكون هذا التخلي كفاتحة للمداولات، وأن يمتنع المفوضون الفرنسيون عن إظهار مطاليب معاكسة لمقاصد السلطات العليا؛ إلا أن مفوضي أوروبا القديمة كانوا يعلمون جيدا، أن الرجل الذي ارتفع فوق الأمجاد القديمة والحديثة، والذي يمثل فرنسا الفتاة، لن يهبط من ذلك العلو ليذعن إلى ملوك لا يزالون يحملون على جباههم الملكية آثار قدميه، إذن فمن البديهي أن تكون هذه المطاليب شهر حرب جديدة لا مفاوضة في صلح، ومن البديهي أيضا تجاه هذه المطاليب أن يخلد نابوليون إلى القتال، فزحف إلى لاون التي كان الجيش البروسياني محتلا مرتفعاتها. أما بلوخر، فعلى ما حل به من الانكسارات العديدة، لم يأل جهدا في تغذية جيشه بالرجال حتى أصبح وهو على رأس مائة ألف مقاتل.
في العاشر من شهر آذار، الساعة الرابعة صباحا، بينما كان نابوليون يستعد للهجوم على البروسيانيين جيء إليه بجنديين من الدراغون أخبراه بأن فرقة الدوق ده راكوز دوهمت فجأة في الليلة نفسها وشتت تشتيتا تاما، فأوقف نابوليون لدى هذا النبأ الأمر بالهجوم الذي كان أعطاه إلى قواده، إلا أن العدو، الذي بلغته حوادث الليل، أعلن القتال بسرعة كبيرة، وبعد معركة هائلة أبلى فيها فيلق شربنتيه بلاء حسنا، أخذ نابوليون يفكر في التقهقر. فغادر شافينيون في الحادي عشر صباحا، وصرف النهار التالي في سولسون التي ترك فيها الدوق ده تريفيز ليحول دون جيش بلوخر، وانحدر إلى رنس التي كان العدو قد استولى عليها بعد قتال جرى بينه وبين الجنرال كوربينو فدخلها عنوة في الليل الواقع بين الثالث عشر والرابع عشر من شهر آذار.
بقي الإمبراطور ثلاثة أيام في رنس صرفها في التدبيرات العسكرية والتنظيمات الإدارية. وفي حين كان الجنرال ميزون على الحدود الشمالية يدافع عن المراكز التي عهد إليه بحراستها، وكان كارنو يحبط مساعي الإنكليز على مقربة من إنفرس، كانت حظوظ الحرب تنقلب على نابوليون في جميع جهات الإمبراطورية. لقد قوتل سول في أورتز وتقهقر إلى تارب وتولوز، وضعف أوجرو في ليون حتى أخذ يستعد للتخلي عنها والاستحكام وراء الإيزير؛ وفتحت بوردو أبوابها للإنكليز منتظرة قدوم الدوق دانكوليم، ووصل الكونت دارتوا إلى بورغونيا، وأخيرا أتيح لشوارتزنبرج، الذي لم يبق ماكدونلد وأودينو قادرين على إيقافه، أن يهدد باريس التي بدأت العصبة الملكية تنتعش فيها من يوم إلى يوم.
شعر الإمبراطور بأنه لم يبق يستطيع أن ينجو إلا بضربة قاضية فلم يتردد أن وجه هذه الضربة إلى شوارتزنبرج الذي بدأ دنوه يدب الذعر في العاصمة؛ ولقد ترك لمارمونت ومورتيه العناية بالوقوف في وجه بلوخر وصيانة باريس من جهة أيسن والمارن، وكأنه خشي عدم نجاح هذه الخطة، فأشار إلى أخيه جوزيف بأن لا ينتظر حتى يستفحل الخطر لوضع الإمبراطورة وملك روما في مأمن، ثم زحف إلى أبرناي ليأخذ من الوراء النمسويين الذين حسبهم قد وصلوا إل نوجانت.
في العشرين من آذار التقى نابوليون بجيش شوارتزنبرج الذي كان زاحفا بجملته إلى مدينة أرسيس ليجتاز الأوب ويصل بسرعة إلى سهول شمبانيا؛ فهذا الانقلاب الفجائي الذي حصل في جيوش الحلفاء، قلب خطط الإمبراطور بطنا لظهر؛ لأنه رأى نفسه أمام قوة تضارع قوته ثلاث مرات في حين كان يظن أنه سيجد فرقة من الحرس لا غير؛ إلا أنه لم يتردد تجاه هذا الانقلاب أن أعطى أمثولة في التضحية الشخصية بأن ألقى نفسه في المعمعة غير مكترث بالخطر المحدق به. جاء في مذكرة سنة 1814 ما يلي: «ألقى الإمبراطور نفسه في وسط المعمعة غير عابئ بالخطر المحدق به، وإذا بقنبلة تنفجر تحت قدميه حجبته وراء غيمة من الدخان والغبار، فظنه الجنود قد مات، إلا أنه ما لبث أن نهض فألقى بنفسه على جواد آخر وراح يقف مرة أخرى في وجه المدافع! ... إن الموت لا يريده.»
لم تستطع موقعة أرسيس أن تمنع النمسويين من عبور الأوب، على ما أظهر الجيش الفرنسي من الجهود المدهشة، وما أبرز القائد العام من البطولة العجيبة، فتراجع الإمبراطور بنظام تام بعد أن حمل الأعداء كثيرا من الخسائر، إلا أن شوارتزنبرج لم يلبث أن أخلى له الطريق الذي يوصل إلى بلوخر، وفي اليوم نفسه غادر أوجرو ليون لبيانشي وبوبنا.
أما الآن فقد أصبح طريق باريس مفتوحا، من غير معارضة، في وجه الحلفاء، الذين والوا زحفهم إلى العاصمة الكبيرة طاردين أمامهم بقايا الجيش الذي سحقوه. عندما علم الإمبراطور بانكسار قواده وبالخطر العظيم الذي يهدد العاصمة لم يتردد أن أسرع إلى باريس بعد أن أرسل الجنرال ديجان، مساعده؛ ليبشر الباريسيين بأنه يطير إلى إنقاذهم، وفي الثلاثين مساء كان الإمبراطور على مسافة خمسة فراسخ من عاصمته عندما تبلغ أن الوقت قد فات، وأن هذه المدينة الكبيرة قد سلمت، وأن الأعداء ستدخلها في اليوم التالي. هذا النبأ المشئوم أوقف نابوليون عن الزحف فرجع إلى فونتنبلو! أما جوزيف، فعندما علم بدنو الحلفاء، خف إلى تعجيل سفر الإمبراطورة وملك روما! ... قيل إن الملكة هورتنس، التي حزنت لرؤيتها الإمبراطورة وولدها يغادران العاصمة لأصحاب الدسائس والمؤامرات، ألحت على ماري لوزي بالبقاء قائلة لها بلهجة حملت معاني النبوءة: «إذا تركت التويلري لن تعودي إليه»، إلا أن جوزيف أصر على عزمه وأخذ ماري لويز. قال المؤرخ بونس ده ليرولت: «إن الأمر المدهش الذي حدث في ذلك الوقت إنما هو العناد الذي أظهره ملك روما، الذي لم يشأ أن يترك القصر، فهذا العناد كان شديدا، إلى درجة أن جوزيف اضطر أن يستعمل القوة لإخراج الأمير الطفل. كان صراخ ملك روما يمزق الفؤاد، ولقد كرر مرارا عديدة قوله: قال لي والدي لا تذهب! ... حتى إن جميع الحضور لم يتماسكوا من ذرف الدموع لدى هذا المشهد المؤلم! لا يتصور للقارئ أنه يسمع حكاية ملفقة فإن هذا المشهد الموجع جرى أمام شهود صادقين. قد يكون أحدهم قد أوحى إلى الأمير الطفل ما يجب أن يقول، ولكن الغرابة هي في اختياره اللهجة التي استعملها في التعبير.»
بعد أن سافرت ماري لويز وولدها جرى في باريس الاستعداد للدفاع، إلا أن الفوضى كانت سائدة في جميع الدوائر، ولا سيما في الدائرة الحربية، التي نهج فيها رئيسها الدوق ده فيلتر نهجا غريبا ألقى على رأسه شبهات صارمة! كان السلاح ينقص من جهة، والمئونة من جهة أخرى، وكانت يد خفية تشل الدفاع في جميع الجهات وتساعد على الهجوم. ولكن، بالرغم من جميع الموانع التي قاساها الحماس الوطني، قام الحرس الوطني الذي يقوده مونساي الباسل بأعمال عظيمة في موقعة ثلاثين آذار؛ ولقد اشترك تلاميذ ألفور والمدرسة الحربية مع الحرس الوطني في الدفاع عن مدينتهم الجميلة. أما الحلفاء فقد قاسوا مقاومة شديدة في كليشي، حيث كان مونساي المحترم وولده وعدد من رجال الفن المشهورين والكتبة الممتازين جاءوا يدافعون عن مدينتهم الجميلة، وقد تركوا أعمالهم في سبيل الواجب، نذكر منهم إيمانوئيل دوباتي، شارله، أوبرت، موكن وهوراس فرنه. قال مونساي يحث الرجال: «لقد أحسنا البداية فيجب أن نحسن النهاية. هنا قتالنا الأخير فلنقم بجهود أخيرة، فالشرف والوطن يأمراننا بذلك!»
إلا أن الشجاعة كان يجب عليها أن تقهر وتتراجع أمام العدد، كان يحب عليها أن تقهر في كل مكان وتضؤل في وسط الجبن والخيانات. أما مونساي، فإذا رأى تحت أسوار باريس نزوات الشباب الفرنسي، فإن الذين بدءوا مثله سيرون ما هو مؤلم وينتهون بأسوأ حظا منه؛ فلقد ترك مارمونت نفسه يغلف بجنود العصبة الملكية، ولقد أكدوا للأمير ده بنيفان أن العاصمة لن تنجو إلا بتسليم؛ أما هو، فلكي ينقذ العاصمة، سلم الإمبراطورية! في الواحد والثلاثين من شهر آذار دخل الغرباء إلى باريس منتصرين ليقلبوا عرش نابوليون، والذين فتحوا لهم الأبواب هم الرجال أنفسهم الذين وضعوا في الثلاثين من شهر آذار عام 1806 أنظمة السلالة الوراثية الجديدة! •••
روما، فيينا، برلين، مدريد، نابولي، ليسبون، موسكو، يا عواصم أوروبا القديمة لقد انتقم لك! لقد قاست باريس في دورها سيادة الغرباء المتغطرسين، وأصبح التويلري واللوفر في قبضة الروسيين والجرمانيين، وعسكر الكوزاك في مراكز الثورة، وسيعود البوربونيون! لقد خيل للبربرية أنها انتصرت، وانتهت مهمة الأريستوقراطيين، أما البربرية والأريستوقراطية فإنهما لعلى خطأ مبين!
لم تنتصر الأريستوقراطية والبربرية على الديموقراطية والترقي؛ لأنهما قد احتلتا مدينتهما؛ فإن كانت العصبة نشرت سيادتها على باريس، فالفرنسيون لا يزالون أسيادا على الحلفاء؛ إذ إنهم سيثابرون على تعليم هؤلاء الحلفاء الفن والرياضيات والصناعة والعادات والشرائع، ويبثون فيهم أفكارهم الحرة التي بنوا عليها أساس إمبراطوريتهم!
الفصل الحادي والعشرون
لم تسفر جهود الملوك منذ خمس وعشرين سنة إلا عن انتصار واحد سينقلب عليهم بعد حين! إن الرجل الكبير لن يهبط من المركز السامي الذي يشغله في التاريخ إذا هبط عن العرش؛ لأنه إذا فقد تاجا فهو يبقي كل مجده وكل نبوغه وكل عظمته الأدبية، وهكذا الشعب الكبير فإنه سيبقى شعبا ثوريا فيحافظ على سلطته الحضرية ويثابر على سيادته في العالم الراقي. هذا هو سلوك الحكمة العلياء! فإن تحرير البشرية التدريجي، وتحرير العمل، وتقديس حقوق الأهلية، وتأسيس أريستوقراطية الفضائل والنبوغ والخدم، أعني تنظيم الديموقراطية الحقيقية، إنما هي الغايات السامية التي شخصت إليها فكرتها النبيلة - فكرة الحكمة العلياء - والتي ستثابر على تحقيقها في كرور الزمن!
لقد أصبحت عاصمة الإمبراطورية وقد احتلتها الجيوش الغريبة، فلم يبق الحلفاء يكترثون بنابوليون ولا بأسرته، سوى أن إمبراطور النمسا بقي وحده يفكر في ملك روما وأمه؛ وأما الإسكندر فقد اتخذ موقفا يمت إلى الاعتدال والكرم، وصرح أنه سيحترم مشيئة الشعب الفرنسي، ودعاه إلى تأليف حكومة ملائمة له، دعوة وهمية تقيم فئة من عملاء العصبة الملكية تراجمين للأمنية الوطنية.
مثل لدى إمبراطور روسيا وفد بين أعضائه الكونت فران
1
الخطير ليجيب دعوة القيصر ويقول له ما ترغب فرنسا! أما الكونت ده نسلرود، الذي يعرف فكرة سيده، فقد أطلع الوفد على أن رغبته إنما هي أمنية الرجل الأوتوقراطي،
2
الذي وإن كان صرح بسلطة فرنسا الحرة معترضا على تالليران الراغب في عودة البوربونيين، لم يكن ذلك التصريح إلا مشهدا من رواية مضحكة، إلا أنه إنما كان في غنى عن إلحاح أمير بنيفان (تالليران) ليعلم أن لويس الثامن عشر كان مبدأ، وأن العصبة حاربت لأجل هذا المبدأ؛ ولكنه أراد أن يخفي فكرته الخصوصية وفكرة حلفائه وراء نفوذ إحدى الفرق الكبيرة في الأمة، التي كانت تعتبر كعنصر الشعب الوحيد؛ وعندما أسمعه تالليران مطاليب بعض العصب الفرنسية، التي تنادي بعودة البوربونيين، طمأنه إلى أنه سيحقق جميع ذلك حتى سقوط نابوليون نفسه، وإصعاد لويس الثامن عشر إلى العرش على يد مجلس الشيوخ، الذي لم يكن في الماضي يرفض شيئا من نابوليون، وفي الثاني من شهر نيسان تم رجاء تالليران؛ فإن مجلس الشيوخ صرح بسقوط نابوليون بونابرت وأسرته عن عرش فرنسا، ثم نادى زعيم أسرة البوربون ليسترجع تاج آبائه. وفي حين كان تالليران مالكا في العاصمة لصالح الغرباء والبوربون بصفته رئيس حكومة مؤقتة، كان نابوليون في فونتنبلو تحف به فرقة من الحرس الأمناء تتحفز لتنتقم من العار الذي لحق بباريس، ولكن يحيط به أركان جيش لا يبدون مثل الحماس الذي يبديه الحرس النشيط.
في الليل الواقع بين الثاني والثالث من شهر نيسان قدم الدوق ده فيسانس وأعلن لنابوليون أن الأمراء، الذين عفا عنهم مرارا عديدة أيام كان يستطيع أن يوصد في وجوههم مقدراتهم الملكية بعد أوسترلتز ويينا ووكرام، يرفضون أن يتداولوا معه ويطلبون تنازله؛ فسخط سخطا شديدا لدى سماعه هذا الادعاء وحدثته نفسه بادئ ذي بدء بالعودة إلى السلاح، ولكنه لم يجد حوله إلا سكونا كالحا؛ فإن رفاقه القدماء الذين رفعهم إلى أقصى مراتب الجندية أصبحوا اليوم من رجال حكومة سقطت لا يريدون أن يشتركوا في سقوطها. قال مونتسكيو،
3
الفيلسوف الفرنسي الكبير: «أسبغ على رجل نعما فأول فكرة توحيها إليه، هي أن يبحث عن الوسائل التي تمكنه من المحافظة عليها.» فهذه الفكرة التي اختبرها نابوليون اضطرته أن يكتب بيده الأسطر التالية:
لقد صرحت السلطات المتحالفة أن الإمبراطور نابوليون إنما هو العثرة الوحيدة في سبيل إعادة الأمن إلى أوروبا؛ إذن فالإمبراطور نابوليون الذي يود أن يكون أمينا على قسمه، يصرح بأنه مستعد أن ينزل عن العرش ويغادر فرنسا لا بل الحياة لأجل طمأنينة الوطن، غير منفصل عن حقوق ولده وحقوق الإمبراطورة وتثبيت شرائع الإمبراطورية.
كتب في قصرنا في فونتنبلو، 4 نيسان 1814
نابوليون
وعهد إلى كولنكور بأن يأخذ هذه الفتوى إلى باريس وصحبه ناي وماكدونلد. إلا أن الدوق ده فيسانس (كولنكور) لم يصحب إلى نابوليون في فونتنبلو إلا طلب تنازل آخر، وهو أن يجرد من حق الملك الأمير الإمبراطوري وسائر أسرة نابوليون، فلم ينزل الإمبراطور عند هذا الطلب الصارم، وصحت عزيمته على مواصلة الحرب فأخذ يفكر في القوات الباقية له في الشمال والجنوب وفي الألب وفي إيطاليا، إلا أن آماله بقيت من غير تحقيق بالرغم من أنه حث رجاله على الزحف إلى الألب؛ إذ إن رفاقه القدماء لم يوافقوه على عزمه هذا ...
شعر نابوليون أن جنود لودي وأركول ليسوا إلى جنبه ليتبعوه، وأن أشراف الحكم الإمبراطوري الوراثيين تعبوا من حمل السلاح بعد أن ذاقوا عذوبة القصور ورفاهيتها فأخذ القلم، وما هي إلا بعض ثوان حتى سلم كولنكور الفتوى التي طلبها الحلفاء، وهذه هي:
لقد صرحت السلطات المتحالفة أن الإمبراطور نابوليون إنما هو العثرة الوحيدة في سبيل إعادة الأمن إلى أوروبا، إذن فالإمبراطور الذي يود أن يكون أمينا على قسمه يصرح بأنه يتنازل هو وأولاده عن عرشي فرنسا وإيطاليا، وأنه ما من تضحية ، حتى التضحية بالحياة، تتردد أمام مصالح فرنسا.
نابوليون
قال البارون فن:
4 «آه! لو أن نابوليون الساخط رضي في تلك الآونة أن ينزل من مركزه السامي إلى مركز القواد الثانويين، لوجد هناك شبانا يتحفزون للنزول عند رغائبه! كان عليه أن يخطو بضع خطوات ليحييه جميع جنوده في أسفل سلالمه! ولكان حماسهم أنعش روحه لو عمل تلك الخطوات! إلا أن نابوليون ينوء تحت عادات مملكته، ويصور له أنه يسقط إذا هو مشى من دون القواد العظام الذين أعطاه إياهم التاج.»
كان الإمبراطور يريد القواد البواسل، الذين أقسموا له في الماضي أن يتبعوه إلى مصر، ولكنه لم يجدهم حوله، ذلك لأن الجمهورية التي رفعته وهبته موكبا من الأبطال؛ ولأن الإمبراطورية رفعت هؤلاء الأبطال إلى مقام الأسياد العظام الذين لم تبق لديهم القوة ولا الإرادة ليحولوا دون سقوط تلك الإمبراطورية!
ماذا يحل الآن بسيد أوروبا المخلوع؟ أي حظ يفرض للرجل الذي وضع عاليا جدا والذي تستطيع ذراعه أن تحرك العالم في كل حين؟ إلى أي مكان يجب أن يبعد؟ بقي الحلفاء مترددين بين أن يبعدوه إلى كورفو أو إلى كورسكا أو إلى جزيرة ألبا،
5
إلى أن اختاروا هذه الجهة الأخيرة، وصحت عزيمتهم على إجراء معاهدة تقرر مقدرات الأسرة الإمبراطورية جميعها. إلا أن نابوليون سخط سخطا شديدا، وقال: «ماذا تفيد المعاهدة ما زالوا يرفضون أن يقرروا معي ما يتعلق بمصالح فرنسا؟» ثم حاول أن يسترجع تنازله، إلا أن الوقت كان قد فات وتمت التضحية، في الحادي عشر من شهر نيسان وقع الحلفاء المعاهدة التي رفضها نابوليون، وفي اليوم التالي دخل الكونت دارتوا إلى باريس. كان البوربونيون يدركون كل الإدراك، أن الفرح الذي استولى على الشعب، إنما هو بعودة السلام إلى فرنسا لا بعودة السلالة القديمة، فوعدوا الشعب بتنظيمات حرة وباحترام مصالح فرنسا الجديدة، لم تظهر الثورة يوما من الأيام نفوذها العظيم بأجلى مما أظهرته اليوم؛ إذ إنه في الحين الذي سقط فيه النبوغ لانحيازه عن تلك الثورة بعد أن أوصلها إلى أقصى درجات العظمة والمجد ، وجد أعداؤها أنفسهم مضطرين أن يؤيدوها ويمهروها بضمانات وآمال!
في الليلة التي تلت وصول الكونت دارتوا إلى باريس، جرى في فونتنبلو حادث خطير لا يزال سره مجهولا إلى يومنا هذا، فلقد شوهدت حركة غريبة في القصر، فأسرع خدم نابوليون إلى غرقته الخاصة به وظهرت عليهم أقصى درجات القلق والحزن، ثم جيء بالأطباء وأوقظ الأصدقاء الأمناء برتران وكولنكور وماره من نومهم! كان الإمبراطور، الذي رفض توقيع معاهدة نيسان والذي انتهى إليه أن امرأته وولده قد منعا من الذهاب إليه، يقاسي أوجاعا شديدة إلى درجة أنهم ظنوا أن هناك تسميما، إلا أن الأدوية التي عولج بها خففت من آلامه، وما برحت أن شفته شفاء تاما. أما الكتبة وبعض المؤرخين، الذين حاولوا أن يؤكدوا أن نابوليون شاء أن ينتحر في ذلك الوقت، فقد زعموا أنه قال ساعة شفائه: «إن الله لا يريد!» ولكن بعض ملازمي الإمبراطور صرحوا أن الآلام التي كابدها في تلك الليلة السرية إنما هي نتيجة طبيعية للضيقة الروحية التي يقاسيها منذ أكثر من عشرة أيام، ونفوا الإشاعة التي راجت حول فكرة التسميم. أما الإمبراطور فلم يظهر شيئا مما قاساه في الليل، وكان نهوضه في الصباح كسائر أيامه، سوى أنه أظهر نفسه أكثر رضوخا من ذي قبل؛ إذ طلب المعاهدة التي أشاح عنها بوجهه حتى الآن ووقعها بإمضائه.
لم تكن ماري لويز، التي استقبلت في رامبولليه إمبراطوري النمسا وروسيا اللذين منعاها من الذهاب إلى فونتنبلو، تنتظر إلا رحيل زوجها حتى تتجه إلى فيينا مع الأمير الطفل الذي اشترك الإمبراطور فرنسوا، جده العظيم، في سحق مستقبله. إذن فلقد انتهى كل شيء معا! لذة العظمة السياسية النبيلة، وتعزية الحياة الزوجية العذبة! عبثا حاول الكولونيل، مونتولون أن يؤكد للإمبراطور غيرة كتائبه واستعدادهم لإعادة الحرب، فلقد أجابه السيد المخلوع: «فات الوقت ولا أرغب في شهر حرب أهلية!» ولقد فات الإمبراطور أن آخر قنبلة قد أطلقت في العاشر من شهر نيسان، في معركة تولوز، على يد المرشال سول، الذي لم يطلع على حوادث باريس وفونتنبلو، والذي وضع ختم المجد على الصفحة الأخيرة من المواقع الخالدة التي شهرها الجيش الكبير!
كان على بعض المفوضين الذين اختارهم الحلفاء أن يصحبوا نابوليون إلى جزيرة ألبا، ففي العشرين من شهر نيسان، الساعة الثانية عشرة ظهرا، نزل الإمبراطور إلى فناء «الجواد الأبيض»، حيث كان يجتمع الحرس الإمبراطوري، فلم يجد حوله إلا بعض الأمناء بينهم الدوق ده باسانو والجنرال بليار؛ فلما دنا الإمبراطور من الجنود ارتعشت قلوبهم وامتلأت أعينهم بالدموع! أما هو فأعلن بإشارة أنه يريد التكلم، وساد سكوت مهيب كأنما شاء الجنود أن يلتقطوا الكلمات الأخيرة من فم الرجل العظيم، قال: «أيها القواد، والضباط، ويا جنود حرسي القديم إنني أودعكم؛ إني مسرور بكم منذ عشرين سنة، فلقد وجدتكم في كل حين على طريق المجد الخالد!
لقد سلح الحلفاء أوروبا بأسرها ضدي، وخان قسم من الجيش واجباته، ورغبت فرنسا نفسها في مقدرات أخرى!
كنت أستطيع معكم ومع البواسل الذين بقوا أمناء على عهدي أن أمد الحرب الأهلية ثلاث سنوات بعد، ولكن هذا كان جر على فرنسا ويلات لا تنطبق على الغاية التي سرت في سبيلها!
كونوا أمناء للملك الجديد الذي اختارته فرنسا، لا تهجروا يوما هذا الوطن الغالي الذي قاسى آلاما وتعسا! أحبوه دائما، أحبوه بإخلاص، هذا الوطن الغالي!
لا تحزنوا على حظي، فسأكون دائما سعيدا عندما أعلم أنكم سعداء!
كنت أستطيع أن أموت، فلا شيء أهون لدي من ذلك، ولكني سأتبع دائما طريق الشرف؛ علي أن أكتب الأعمال التي قمنا بها.
ليس بوسعي أن أعانقكم جميعا، إلا أني سأعانق قائدكم ... اقترب يا جنرال ... (يضم الجنرال بتي بين ذراعيه) جيئوني بالنسر! ... (يقبله). أيها النسر المحبوب! ألا فلتدو هذه القبلات في قلوب جميع البواسل! ... وداعا يا أولادي! ... فستتبعكم تمنياتي إلى حيث تكونون، حافظوا على تذكاري.»
عند هذا تصاعدت الزفرات من صدور الجنود، وتساقطت الدموع من جميع الأعين المحيطة به؛ أما هو فسلخ نفسه عن هذا المشهد المؤلم وقفز إلى مركبة كان فيها الجنرال برتران . توارى نابوليون عن فونتنبلو يصحبه المرشال الكبير والقائدان دروو وكامبرون وبعض الذين أرادوا أن يشتركوا في إخلاص هؤلاء المحاربين البواسل. كان نابوليون يسمع أينما وصل هتاف «ليحي الإمبراطور!» متصاعدا في طريقه، فيتفطر ويدب العزاء في قلبه، وكأنه فهم أن الشعب، بالرغم من سقوطه، لا يزال متعلقا به، فقال في نفسه: «لن يقوى البوربونيون أن يمحوا في فرنسا عبادة اسمي!»
التقى الإمبراطور، بين ليون وفالنس، بالمرشال أوجرو، الذي كان قد تناوله بفلتة لسانه في إحدى خطبه؛ إذ قال: «إن نابوليون لم يعرف أن يموت كجندي!» ولكن الإمبراطور الذي كان يجهل تلك الإهانة المضحكة التي وجهها إليه رفيقه في معركة أركول نزل من مركبته ليعانقه، فلما دنا منه نزع قبعته عن رأسه، في حين أن المرشال تكلف إبقاء قبعته مدة المقابلة حتى في ساعة التوديع أيضا. وبعد مرور ساعة من الزمن، أبصر نابوليون في طريقه بعض شرذمات من فرقة أوجرو حيته التحية التي كانت تقوم بها وهو على العرش، وقال له بعض جنودها بصوت عال: «مولاي، إن المرشال أوجرو باع جيشك!»
اضطر نابوليون أن يتجنب المرور في أفينيون التي هيج فيها العصاة، الذين قتلوا المرشال برون قبل سنة، تمردا في الأفكار ينبئ عن مقصد مشئوم! وفي مساء السادس والعشرين وصل إلى مقربة من لوك، فبات ليلته عند أحد أعضاء الفرقة التشريعية، ولما كان من غد واصل سيره إلى فريجوس، فأقام أربعا وعشرين ساعة بهذه المدينة، ثم أبحر إلى جزيرة ألبا في الساعة الثامنة مساء.
يا للمطابقة الغريبة بين وجوه حياة البطل العظيم التي تدهش أحيانا في تباينها! لقد رأته فريجوس، لدى عودته من مصر، وقد واكبه مارمون ومورات وبرتييه وغيرهم، مبحرا إلى فرنسا لينزع السلطة السامية من ممثليها ويضع أساس إمبراطورية رحبة عظمى، ورأته بعد خمس عشرة سنة، وقد جرده الغرباء من تلك السلطة، مبحرا من فرنسا لا ليتولى زمام أمة كبيرة، أو ليحاول أن يقبض على ناصية أعظم عرش في العالم، بل لينزوي في أعماق جزيرة صغيرة من جزر البحر المتوسط ، وقد خانه أو تخلى عنه رفاقه القدماء وأقرباؤه. خانه مورات ومارمون، وتخلى عنه برتييه وغيره! ... هكذا شاءت الحكمة العلياء، والله لا يجري شيئا من غير تدبير! فلنترك عظمته تعمل ما بدا لها!
في الثالث من شهر أيار، في اليوم نفسه الذي وصل فيه لويس الثامن عشر إلى باريس، حل نابوليون في مرفأ بورتو-فراجو، فخف كبار موظفي جزيرة ألبا لتحية سيدهم على الباخرة الإنكليزية التي أقلته، وفي اليوم التالي نزل الإمبراطور إلى اليابسة فحيته مائة مدفع ومدفع، وأسرع لملاقاته جميع الأهلين يتقدمهم المجلس البلدي والإكليروس.
شرع نابوليون يهتم بتنظيم دوائر الجزيرة كأن إقامته بها ستطول كثيرا، وكأن نشاط نبوغه لن يضجر في محيط ضيق كهذا، ثم جد في درس منتوجات الأرض ومصادر الصناعة، وطاف جميع جهات الجزيرة مهيئا في كل مكان معدات لتحسين هام. وفي السادس والعشرين من شهر أيار وصل كامبرون مع بسلاء الحرس القديم، الذين شاءوا أن يشاطروا الإمبراطور منفاه، وما هي إلا أيام حتى قدمت الأميرة بولين والسيدة ليثيثيا إلى جزيرة ألبا وعزمتا ألا تفارقا نابوليون بعد.
كان نابوليون ينتظر بفارغ صبر وصول أنباء من فرنسا، ومثلما كان في الماضي يطالع جرائد أوروبا بلهف عظيم، وهو على شواطئ النيل؛ ليعلم هل حان الوقت لعبور البحر والذهاب إلى فرنسا لقلب «الديركتوار»،
6
مجلس الشعب، هكذا اليوم فإنه يطالع الصحف اليومية ليعلم كيف تتحمل الأمة الفرنسية الغرباء والبوربون، وكيف ينهج البوربون والغرباء مع الأمة الفرنسية، أما من جهة التجاديف اليومية، التي كانت الجرائد توجهها إليه، فلم يكن يعيرها اهتماما كبيرا. قال ذات يوم للجنرال برتران الذي جاءه بالصحف الفرنسية: «أتراني ممزقا اليوم؟» فأجابه المرشال الكبير: «لا يا مولاي، فليس لجلالتك ذكر اليوم.» فقال نابوليون: «إذن فإلى الغد، إنها لحمى متقطعة ستزول قريبا.»
إلا أن الحكومة، التي ندبتها العصبة إلى فرنسا، ظهرت بمظهر جدير بمصدرها. فإن وعود الكونت دارتوا بقيت من غير تنفيذ، وأسس لويس الثامن عشر شرائعه التنظيمية
La charte
7
على الملذات والحق الإلهي، وعاد الأشراف إلى عسفهم وجورهم، والإكليروس إلى مظالمهم وموبقاتهم، ووقعت امتيازات السلطة على رأس المهاجرين، وسقطت أحقادها واحتقارها سقوط الصاعقة على الجيش القديم، وراح الأشراف يشيدون بذكر كادودال الذي نفذ فيه حكم الإعدام سنة 1804 لاشتراكه مع بشاغري بتهيئة الآلة الجهنمية لقتل نابوليون،
8
ويطنبون بمورو الذي قتل في دريسد في حين كان يحارب ضد وطنه في صفوف الروسيين، وينادون برفع تمثال لبيشاغري! ثم إن جميع الأعمال الخطيرة التي قام بها الشعب الكبير في عهد الجمهورية والإمبراطورية حذفت من تاريخها، أو بقيت فيه ملطخة بالاختلاس والتمرد اللذين عزيت إليهما؛ كما أن الأمير، الذي كان يعيش خاملا بين أعداء فرنسا في حين كانت الجيوش الفرنسية تنتصر في فلوروس ولودي ومارنغو وأوسترلتز، أصبح يزعم أنه ساد في فرنسا عهد أوسترلتز ومارنغو! فضلا عن أن الصحافة، التي كان من واجبها أن تقف في وجه المذاهب الخطلة وتتمرد على الميول المشئومة، استسلمت إلى القوة التي وضعت لها كمامة في فمها، وعالجت المراقبة نفوذها بالرغم من الشرائع التنظيمية.
كان الإمبراطور قد تنبأ عن هفوات البوربونيين، في الوقت نفسه الذي تنازل فيه، وتوقع احتمال عودته إلى العرش. ننقل عن الميموريال (مذكرات نابوليون) هذه الفقرة التي تكلم فيها عن آخر أيامه في فونتنبلو قال: «قلت في نفسي إذا أراد البوربونيون أن يبدءوا بسلالة خامسة، فلا يبقى علي أن أقوم بشيء هنا؛ إذ تكون مهمتي قد انتهت، ولكن إذا أصروا صدفة على إكمال الثالثة فلا أتأخر عن الظهور، إلا أنهم تمسكوا بعاداتهم القديمة فكانوا أولئك الأسياد الإقطاعيين، وأبوا إلا أن يكونوا زعماء ممقوتين لحزب ممقوت!»
إذا قيل عن نابوليون عام 1814 إنه جدد سرير البوربون؛ فإن البوربون في دورهم سيفتحون له طريق العرش. لم يكد نابوليون يتعرف موقف فرنسا ويبلغه ما سيئول إليه أمره بعد معاهدة فيينا، حتى صحت عزيمته على الخروج من جزيرة ألبا من غير أن يطلع أحدا على عزمه هذا إلا القائدين دروو وبرتران.
في السادس والعشرين من شهر شباط عام 1815، الساعة الواحدة بعد الظهر، نبه نابوليون حرسه إلى تهيئة معدات السفر، فعلا الهتاف من جميع الجهات، واهتز هؤلاء البواسل اهتزازا باسلا زاده هيجانا ظهور والدة الإمبراطور وشقيقته في شرفة القصر، ولم يكن يسمع في تلك الآونة إلا هذه العبارة خارجة من أفواه الأبطال: «باريس أو الموت!» وما هي إلا فترة من الوقت حتى نشر على أهالي جزيرة ألبا نداء مؤداه أن الإمبراطور نابوليون سيفترق عنهم، ولقد جاء في هذا النداء ما يلي: «إن الإمبراطور نابوليون مضطر إلى مغادرة جزيرتكم، ولقد عهد بقيادتها إلى الجنرال لابي، الذي شاءت الحكمة العلياء أن ينخرط في سلك المجد، وعهد بالإدارة إلى مجلس مؤلف من ستة من الأهالي، وبحماية القلعة إلى شجاعتكم وغيرتكم. إن الإمبراطور مسرور جدا من تصرف الأهلين، ولكي يؤكد لهم ثقته بهم يترك والدته وشقيقته تحت حمايتهم، ثم إن أعضاء المجلس وجميع الأهالي يستطيعون أن يتكلوا على محبة نابوليون لهم، وعلى حمايته الشخصية.»
في الساعة الرابعة مساء كان الأربعمائة رجل من الحرس القديم على ظهر الباخرة أنكونستان، في حين كانت خمس بواخر صغيرة أخرى تقل مائتين من المشاة، ومائة من الخيالة الخفيفة
9
البولونية، وكتيبة من الجنود، وفي الساعة الثامنة تماما صعد الإمبراطور إلى الأنكونستان يصحبه القائدان برتران ودروو، وما هي إلا هنيهة حتى بشر المدفع بأوان الرحيل وسارت البواخر في عرض البحر.
كانت الريح في البدء هادئة ساكنة، إلا أنها ما لبثت أن أخذت تعصف بشدة حتى خيف على المراكب من خطر داهم، وفكر بعضهم في الرجوع إلى المرفأ، أما نابوليون فلم يذعن، واستمرت المراكب في جريها؛ وكان الإمبراطور مهتما بإملاء نداءاته للشعب والجيش فينسخها جنوده، حتى إذا كان أول آذار، الساعة الثالثة، دخل خليج جوان حيث نزع عن قبعته شارة جزيرة ألبا وأشار إلى جنوده بنزعها عن قبعاتهم، ورفع العلم المثلث الألوان بين هتاف «ليحي الإمبراطور! لتحي فرنسا!» وفي الرابع من شهر آذار وصل الإمبراطور إلى دينيي
10
حيث نشر النداءات الباهرة التي أملاها على ظهر الباخرة أنكونستان، والتي ستهيج بشدة، وطنية الشعب والجيش. نعرب هنا قطعتين منها مؤرختين عن خليج جوان في أول آذار، عالج فيهما نابوليون كل ما أوتيه من قوة الإنشاء السامي والبيان الساحر الخلاب.
نداء إلى الشعب الفرنسي
أيها الفرنسيون
إن خيانة الدوق ده كاستيكليون سلمت ليون إلى أعدائنا من غير مقاومة، ولقد كان الجيش الذي عهدت بقيادته إليه يمثل، بعدد كتائبه، بسالة الجحافل ووطنيتها، اللتين كانتا تستطيعان أن تقاتلا فرق الجيش النمسوي بفوز عظيم، وتدركا مؤخرة الجناح الأيسر من الجيش العدو الذي كان يهدد باريس.
إن انتصارات شامبوبير، ومونميرايل، وشاتو تييري، وفوشان، ومورمان، ومونترو، وكروان، ورنس، وأرسيس سور أوب، وسن ديزييه؛ وإن تمرد الفلاحين البواسل في لورين، وشمباني، والألزاس، والفرانش كونته، وبورغونيا، ثم إن المركز الذي اتخذته في مؤخرة الجيش العدو، بعد أن نحيته عن مخازنه، وحظائر ذخائره، وجميع عدته وأمتعته، كل ذلك كان يضعه في موقف مقنط ويؤكد لنا النصر. لم يوشك الفرنسيون يوما من الأيام أن يصلوا إلى عظمة أبعد من تلك، ولكانت صفوة رجال الجيش العدو قد فقدت من غير وسيلة، وصادفت قبرها في تلك الأرجاء الرحبة التي كثيرا ما أغارت عليها من غير شفقة، لو لم تسلم خيانة الدوق ده راغوز العاصمة وتهدم نظام الجيش. إن التصرف غير المنتظر الذي تصرفه هذان القائدان اللذان خانا وطنهما وأميرهما والمحسن إليهما معا قلب مقدرات الحرب ظهرا لبطن.
ألا إن قلبي، وإن تمزق لدى هذه الأنباء والظروف الخطيرة، إلا أن نفسي بقيت ثابتة لم تتزعزع. لم أنظر يوم ذاك إلا إلى صالح الوطن، ونفيت نفسي على صخرة في وسط البحار! لقد كانت حياتي مفيدة لكم، ويجب أن تبقى بعد. لم أسمح للعدد الكبير من المواطنين الذين أرادوا أن يرافقوني بأن يشاطروني حظي؛ إذ اعتقدت أن وجودهم في فرنسا يفيدها، ولم أصحب معي إلا نزرا من البواسل لحراستي.
لقد اصطفيتموني للعرش فأصعدتموني إليه، وكل عمل أجراه غيركم هو عمل غير شرعي! منذ خمس وعشرين سنة وفرنسا تذهب صعدا في مذاهب الرقي، فتتسلق مراقي نظم جديدة ومجد جديد، لا يضمن ثباتها إلا حكومة وطنية وسلالة نشأت في هذه الظروف الجديدة. إن أميرا يتحكم في شأنكم وتجلسه على عرشي، القوة نفسها التي هدمت حدودنا، قد يحاول عبثا أن يدعم نفسه بمبادئ الحق الإقطاعي، وقد لا يستطيع أن يضمن الشرف والحقوق إلا بفئة قليلة من أعداء الشعب الذي أنكرها منذ خمس وعشرين سنة في جميع مجالسنا الوطنية، عند هذا يصبح أمنكم الداخلي وحرمتكم الخارجية وقد عبث بهما إلى الأبد.
أيها الفرنسيون، لقد سمعت من منفاي شكاياتكم وأمانيكم، إنكم تنادون بالحكومة التي اخترتموها لكم والتي هي وحدها شرعية؛ إنكم تشكون سباتي الطويل، إنكم توبخونني على تضحيتي بمصالح الوطن الخطيرة في سبيل راحتي.
فها أنذا قد اجتزت البحار في وسط ألوان من المخاطر، وجئت إليكم أسترجع حقوقي التي هي حقوقكم. أما جميع الذي عمله الغرباء منذ الاستيلاء على باريس، فسأنكره في كل حين!
أيها الفرنسيون، ما من أمة، مهما كانت صغيرة، لا يحق لها أن تتملص من عار الرضوخ لأمير انتدبه عدو انتصر انتصارا وقتيا. عندما دخل شارل السابع إلى باريس وقلب عرش هنري الخامس الزائل، عرف جيدا أنه يتناول عرشه من شهامة بسلائه لا من أمير إنكلترا.
أما أنا فلأجلكم وحدكم، لأجل بسلاء الجيش، أخرج من كل واجب مجدا خالدا!
نداء إلى الجيش
أيها الجنود
إننا لم نكن مقهورين؛ فإن رجلين خرجا من صفوفنا قد عبثا بأكاليل غارنا، ببلادهما، بأميرهما وبالمحسن إليهما.
أيزعم هؤلاء، الذين شاهدناهم طوال خمس وعشرين سنة يطوفون أوروبا بأسرها ليهيجوا علينا الأعداء، هؤلاء الذين صرفوا حياتهم في مقاتلتنا في صفوف الجيوش الغريبة، لاعنين فرنسا الجميلة، أيزعم هؤلاء أن يقودوا نسورنا ويوثقوها، في حين أنهم لم يكونوا يستطيعون أن يثبتوا أنظارهم فيها؟ أنطيق نحن أن يرثوا من ثمرات أعمالنا المجيدة؟ وأن يستولوا على انتصاراتنا وممتلكاتنا، ويفتروا على مجدنا ويبهتوه؟ آه لو بقي حكمهم لفقدنا كل شيء، حتى تذكار تلك المواقع الخالدة!
بأي عناد وتصلب يفسدونها، ويحاولون أن يذعفوا ما ينظر إليه العالم بدهشة وإعجاب!
أيها الجنود، لقد سمعت صوتكم من منفاي، وجئتكم خلال جميع العراقيل والمخاطر!
إن قائدكم، الذي دعي إلى العرش باختيار الشعب وصعد على أعلامكم، قد رد إليكم اليوم فتعالوا إليه.
اسلخوا تلك الألوان التي ألفتها الأمة، والتي كانت طوال خمس وعشرين سنة سببا للتوفيق بين أعداء فرنسا جميعهم، وارفعوا هذه الشارة المثلثة الألوان فلقد حملتموها في مواقعنا المجيدة!
يجب علينا أن ننسى أننا كنا أسياد الأمم، ولكن يجب علينا ألا نتحمل أحدا يتحكم في شئوننا! استرجعوا تلك النسور التي حملتموها في أولم، وأوسترلتز، ويينا، وإيلو، وفرييدلان، وتودلا، وأكموهل، وأسلنغ، ووكرام، وسمولنسك، والموسكوا، ولوتزن، وورتشن ومونميرايل! أتعتقدون أن هذه القبضة من الفرنسيين المتجبرين تستطيع أن تتحمل نظرات تلك النسور؟ لا! فسيرجع هؤلاء من حيث أتوا، وهناك، إذا شاءوا، سيحكمون كما زعموا أنهم حكموا منذ تسع عشرة سنة.
إن ممتلكاتكم، ومقاماتكم، ومجدكم، وممتلكات أبنائكم ومقاماتهم ومجدهم لم تؤت أعداء ألد من هؤلاء الأمراء الذين انتدبهم الغرباء عليكم؛ فهم أعداء مجدنا، لأن تاريخ تلك الأعمال المجيدة، التي خلدت الشعب الفرنسي الذي وقف في وجههم ليتملص من عبء نيرهم، إنما هو الحكم عليهم وإنكارهم!
إن قدماء جيش سامبري-موز، والرين، وإيطاليا، ومصر، والمغرب، والجيش الكبير إنما هم في أشد حالة من حالات خفض الجناح، لقد هتكت حرمة جراحاتهم الشريفة، وخص بالجزاء والشرف هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل العدو!
أيها الجنود، تعالوا اصطفوا تحت أعلام قائدكم؛ فإن وجوده لا يتكون إلا من وجودكم وليست حقوقه إلا حقوقكم وحقوق الشعب، وما صالحه وشرفه ومجده إلا صالحكم وشرفكم ومجدكم. سيمشي النصر مشية الخيلاء، وسيطير النسر بالألوان الوطنية من جرس إلى جرس حتى قبة نوتردام،
11
عند هذا يحق لكم أن تشيروا إلى جراحاتكم بشرف ومجد، عند هذا يحق لكم أن تطنبوا بالذي تكونون قد عملتموه، عند هذا تصبحون منقذي الوطن.
وعندما تشيخون، ويحيط بكم مواطنوكم مصغين إليكم باحترام، تحدثونهم عن أعمالكم المجيدة، تستطيعون أن تقولوا بفخر: وأنا أيضا كنت جنديا في هذا الجيش الكبير! الذي دخل مرتين أسوار فيينا، وروما، وبرلين، ومدريد، وموسكو، والذي أنقذ باريس من اللطخة التي لوثتها بها الخيانة واحتلال العدو! المجد لهؤلاء الجنود البواسل ! وعار دائم على الفرنسيين المجرمين الذين قاتلوا خمسا وعشرين سنة مع الغرباء ليمزقوا أحشاء الوطن!
كانت هذه اللهجة تبشر فرنسا الجديدة بعودة ممثلها العظيم إليها، وتعلن لها أن الديموقراطية قد وجدت بطلها وحاميها، أما الشعب والجيش فأسرعا بحماس شديد لملاقاة المنفي العظيم!
في الخامس من شهر آذار وصل نابوليون إلى مدينة كاب، فاستقبلته هناك مظاهرات الفرح التي انطلقت في جميع الجهات التي مر فيها، وعندما مر بسن بونه خف الأهلون لاستقباله، وطلبوا إليه أن يتطوعوا في خدمته ويصحبوه إلى باريس، أما هو فأجابهم: «لا، إن شعوركم الشريف ليؤكد لي أني لم أنخدع، فهو خير ضمان لتعلق جنودي بي، فابقوا في بيوتكم براحة وأمان!» ولكن نابوليون عندما قرب من غرونوبل، توقع حدوث مظاهرات عدائية من قبيل رجال السلطة والقائد العسكري. كان الجنرال مرشان قد جرد كتيبته على طريق لامور ليقطع المرور على نابوليون، فالتقى حرس الإمبراطور بهذه الكتيبة بالقرب من لافريت، وعبثا حاول أن يقنعها بأن تفتح له الطريق وتنضم تحت علم الجيش القديم. فلما علم نابوليون بهذا الحادث، خف بنفسه إلى الحرس، ووقف أمام الكتيبة قائلا: «ماذا يا أصدقائي، ألم تعرفوني، فأنا إمبراطوركم، فهل فيكم من يريد أن يقتل قائده وإمبراطوره؟ إنه لقادر فها أنذا!» عندما تلفظ بهذه الكلمات كشف عن صدره، أما ضابط الأوامر فأراد أن يستفيد من هذا ليشير بإطلاق النار، إلا أن صوته لم يلبث أن خنقه هتاف: «ليحي الإمبراطور!» الذي ردده الفلاحون المتألبون على حافات الطريق ألف مرة مع الجنود! وما هي إلا لمحة عين حتى كانت الكتيبة قد انضمت إلى بسلاء جزيرة ألبا، وحتى كان ضابط الأوامر قد توارى عن الأعين بفضل سرعة جواده، ثم والى الإمبراطور سيره في جهة غرونوبل بين الجموع الغفيرة، التي كانت تزداد حينا بعد حين، ولما وصل إلى فيزيل رأى حماس الشعب الدوفينوازي ينمو شيئا فشيئا، وسمع الجميع يصرخون من مختلف الجهات: «هنا ولدت الثورة، هنا طالب آباؤنا في الأول بامتيازات الرجال الأحرار، وهنا أيضا تنبعث الحرية الفرنسية وتخفي فرنسا شرفها واستقلالها!» أما نابوليون فلما مر أمام قصر لستيكيير الجميل، الذي عقدت فيه الجمعية الوطنية للمرة الأولى في سنة 1788، لم يتمالك أن صرخ بدوره: «أجل، من هنا خرجت الثورة الفرنسية!» وكأنه قال في نفسه: «وهنا أيضا ستنال الثورة الفرنسية نصرا جديدا على الحكومة القديمة!»
أجل، بينما كان الإمبراطور مستسلما لمشاعره وتأملاته في وسط تلك السكرة العمومية التي أحدثها وجوده في كل مكان، اخترق الجمع ضابط من الكتيبة السابعة، وأعلن لنابوليون أن كتيبته، وعلى رأسها الكولونيل، تتقدم بخطى سريعة لتحيي بطل فرنسا. كان من عادة الإمبراطور أن يبقى هادئا، في الظاهر، في مثل هذه المواقف المجيدة في حياته، ولكنه لم يتمالك أن أظهر التأثير العميق الذي استولى عليه، وقد خيل إليه أن هذا الحادث سيحمله إلى التويلري، وبرز وجهه متألقا بالفرح والآمال، ذلك الوجه الذي اشتركت أتعاب الجسد وآلام الروح في إعطائه لونا أشهب كالحا! وبعد أن أظهر للضابط حبه واحترامه للكتيبة وقائدها الكولونيل، وخز جواده فانطلق به إلى الأمام، كأنما هو يرى أمامه قوس نصر كاروسيل، وما هي إلا مدة قصيرة حتى سمع هتاف الكتيبة السابعة ممزوجا بهتاف الجموع الغفيرة التي تواكبه، كان الكولونيل سائرا في الطليعة، وهو رجل طويل القامة جميل الطلعة، خرج من غرونوبل في الساعة الثالثة بعد ظهر السابع من شهر آذار، ولما كان على بعض خطوات من المدينة أخذ نسرا، فنشره على مرأى من الجنود، وصرخ قائلا: «هو ذا العلم المجيد الذي كان يقودكم إلى المواقع الخالدة! والذي قادكم مرارا عديدة إلى النصر يتقدم نحونا الآن لينتقم من البلايا العديدة التي حلت بنا! فلقد حان الوقت لنطير تحت علمه الذي ما برح علمكم أنتم! إن من يحبني يتبعني! ليحي الإمبراطور!» فردد الجنود بحماس عظيم: «ليحي الإمبراطور!» واندفعوا كالسيل الجارف للسلام على أعظم الفاتحين، أما الكولونيل الباسل النبيل لابيدوايير، فقد ترامى بين ذراعي الإمبراطور، الذي ضمه إلى صدره قائلا له بعطف شديد: «كولونيل، إنك تعيدني إلى العرش!»
قال لاس كاز: «لم يكابد الإمبراطور في جميع المواقع التي شهرها أخطارا كالتي كابدها وهو داخل إلى غرونوبل؛ فلقد هجم عليه الجنود بكل ما في الغضب من الهول حتى ظن بادئ ذي بدء أنه سيمزق إربا إربا، ولكن ذلك لم يكن إلا هذيان الحب والفرح.»
بقي نابوليون يومين في هذه المدينة، وفي التاسع من شهر آذار غادر غرونوبل فوصل إلى ليون في اليوم التالي، في الوقت نفسه الذي تركها به الكونت دارتوا، بعد أن قام بجهود خائبة ليقنع الجنود بالدفاع عن قضية البوربونيين، ولكن بينما كان نابوليون يجتاز فرنسا في وسط الهتاف المتواصل، كان البوربونيون يحاولون أن يضعوا ثمنا لرأسه، ونادت معاهدة فيينا أوروبا بأسرها للانضمام تحت السلاح، إلا أن جميع ذلك لم يمنع نابوليون عن الدنو من باريس يوما فيوما، ففي اليوم الثالث عشر من آذار بات ليلة في ماكون، في حين كان المرشال ناي يستعد للانضمام إليه، وفي الرابع عشر منه وصل إلى شالون، وفي الخامس عشر إلى أوتون، وفي السابع عشر إلى أوكسير، حيث وجد الكتيبة الرابعة عشرة وقد قدمت من أورليان لتلاقيه، وحيث اجتمع بالمرشال ناي باسل البسلاء، الذي جاء يكلل عمل لابيدوايير، والذي ملأ وجوده آمال الإمبراطور.
كانت الحكومة الملكية في إبان ضيقة شديدة، فطلبت إلى المجالس أن تنقذها بوضع قوانين مؤقتة، وأجبرت كبرياء الكبار أن تتدلى إلى ملاطفة الجنود في دورهم. ولكن ذهب جميع ذلك أدراج الرياح ... إذ إن المجالس أصبحت عديمة النفوذ في الأمة، وإذ إن الأمراء أصبحوا ولا نفوذ لهم على الجنود، الذين لم يكونوا ليجيبوهم غالبا بسوى الرفض الممزوج بعبارات قاسية مرة. إذن فما من شيء كان يستطيع أن يوقف نابوليون.
في التاسع عشر من شهر آذار ترك نابوليون أوكسير، ووصل إلى فونتنبلو في الساعة الرابعة من صباح اليوم العشرين. كان لويس الثامن عشر قد غادر العاصمة في الليلة نفسها ليبلغ الحدود البلجيكية بسرعة. إذا قلنا إن زحف الإمبراطور من خليج جوان إلى باريس لم يكن سوى فوز مستمر، فإن تقهقر الملك من باريس إلى غاند لم يكن سوى هرب سريع . كان البوربونيون قد انخدعوا بأسباب سقوط نابوليون وطابعه؛ إذ خيل إليهم وصرحوا أن الذي يتصرف بالعروش والإمبراطوريات، قد وسم انقلاب السيادة الإمبراطورية بالطابع الإلهي؛ ليبطل في فرنسا سلطة ما يسمونه التمرد والكفر؛ ولقد قالوا أكثر من مرة إن الحكمة العلياء قد ضربت في نابوليون روح العصر والثورة والفلسفة الجديدة. أما الحكمة العلياء التي أشاحت بنظرها عن الماضي وشخصت به إلى المستقبل، والتي قادت جميع الثورات لتدعم الشعوب لا لتجدد الملوك؛ الحكمة العلياء التي لم تنزع حمايتها من الرجل العظيم، الذي كثيرا ما ماشته، إلا لتقاصصه على اقترابه كثيرا من أفكار المجتمع القديم ورجاله، فقد كان من واجبها أن تعلن عن مقاصدها بوضوح وجلاء وتكشف، ببعض حوادث خطيرة، غرور الأمراء الذين استطاعوا أن ينخدعوا بمقاصدها الثابتة. وإذن فقد سمحت للإمبراطور الذي تركته يسقط بأن ينهض فجأة من سقوطه، ويسترجع الصولجان، لا ليجدد سلالته ويدعمها، بل ليؤدي إلى العالم شهادة بسلطة الثورة السامية، وبضعف الحكومة القديمة. أما الآن، وقد أديت هذه الشهادة، فإن الحق الإلهي الذي جاء من الخارج يعود إليه مع البوربون، وستدخل سلطة الشعب إلى التويلري مع نابوليون بفوز مبين!
في العشرين من شهر نيسان سنة 1814 أبصرت فونتنبلو الإمبراطور المخلوع، وقد تركه رفاقه القدماء، ينفصل عن حرسه ليذهب أسيرا إلى جزيرة ألبا، وفي العشرين من شهر آذار سنة 1815 رأت فونتنبلو نابوليون في وسط حرسه، تحيط به الكتيبة المقدسة،
12
ويتبعه هتاف الشعب والجيش، وهو على وشك أن يذهب إلى عاصمته لكي يسترجع السلطة السامية التي فوضتها إليه الأماني الوطنية مرة أخرى.
الفصل الثاني والعشرون
وصل الإمبراطور إلى أبواب باريس في مساء عشرين آذار، وكان العلم المثلث الألوان يخفق على التويلري منذ الساعة الثانية بعد الظهر، أما الذي رفعه فقد كان أكسلمان الباسل.
تحفل الشعب والجيش حول نابوليون وتهافتا إليه كما جرى في غرونوبل. وفي نحو الساعة التاسعة من المساء، عندما دخل إلى التويلري، استقبله جمع من الضباط وقد تراموا عليه بحماس وشوق حتى اضطر أن يقول لهم: «إنكم تخنقونني!» أما السيد ده مونتاليفه، الذي خدمه بإخلاص ونشاط في عهد النعمة وبقي وفيا له في العهد المشئوم، فقد جاء لملاقاته وأخذه بين ذراعيه، ثم حمل الإمبراطور إلى إحدى الغرف، حيث كانت تنتظره الملكة هورتانس مع عدد غفير من موظفي الإمبراطورية القدماء.
وفي اليوم التالي استعرض الإمبراطور جميع كتائب العاصمة، وقال لها: «أيها الجنود، لقد جئت إلى فرنسا مع تسعمائة رجل لأنني كنت أتكل على محبة الشعب وتذكار الجنود القدماء، فلم يخدعني انتظاري! إن مجد الأعمال التي قمنا بها إنما جميعه للشعب ولكم!
أيها الجنود، إن عرش البوربونيين لغير شرعي؛ لأنه رفع على أيد غريبة؛ لأن أماني الأمة التي عبرت عنها جميع مجالسنا الوطنية قد طاردته؛ ولأنه لم يضمن إلا مصالح فئة قليلة من الرجال المتصلفين الذين خالفت مزاعمهم حقوقنا. إن العرش الإمبراطوري يستطيع، وحده، أن يضمن حقوق الشعب، ويؤيد الصالح الأول وهو مجدنا.
أيها الجنود، سنزحف لنطرد من الحدود هؤلاء الأمراء الغرباء؛ أما الأمة فستدعمنا، ليس بأمانيها فحسب، بل بالحث والتحريض. إني والشعب الفرنسي، نتكل عليكم، لا نريد أن نتحكم في شئون الأمم الغريبة، ولكن الويل لكل من يريد أن يتحكم في شئوننا!»
تلقى الجنود هذه الخطبة، بمثل الحماس الذي تعودوا أن يبدوه لدى خطب نابوليون، ودوى الفضاء بهتاف «ليحي الإمبراطور!» وإذا بكتيبة جزيرة ألبا ظهرت، يقودها كامبرون، الذي لم يتح له أن يصل إلى باريس في الوقت الذي وصلها به الإمبراطور. عندما أبصر نابوليون هذا المشهد صرخ قائلا: «هؤلاء هم ضباط الكتيبة التي صحبتني في أيام الشقاء. إنهم أصدقائي جميعا، ولقد كانوا أعزاء على قلبي! كنت كلما رأيتهم، تتمثل لي جحافل الجيش في مختلف ألوانها؛ إذ إن بين هؤلاء البواسل الستمائة رجالا من جميع الجحافل، كانوا يذكرونني جميعهم بتلك المواقع الخالدة الطيبة الذكر؛ إذ إنهم جميعا يحملون جراحات شريفة أصيبوا بها في تلك المواقع المجيدة! أما إذا أحببتهم، فإني إنما أحب فيهم بسالتكم وإخلاصكم يا جنود الجيش الفرنسي. إنهم يحملون إليكم النسور! فلتكن هذه الأعلام صلة المجد بينكم جميعا!
لقد ألقت علينا الخيانات والظروف وشاحا أسود! ولكنها عادت اليوم إلى التألق بمجدها القديم، بفضل الشعب الفرنسي وفضلكم. أقسموا أنها ستكون دائما حيث يكون صالح الوطن! أقسموا أن الخائنين، والذين يريدون أن يغيروا على أراضينا، لن يستطيعوا يوما أن يتحملوا نظراتها!»
فأجاب الجنود: «نقسم!» وفي حين كانوا يمرون أمام الإمبراطور، كانت الموسيقى تعزف لحن الثورة: «لنسهر على سلام الإمبراطورية!»
كان الشقاء والبوربونيون قد وفقوا بين نابوليون والديموقراطية، التي قاست أكثر من مرة سقوطها في عهد الإمبراطورية، ولكي يجعل الإمبراطور هذا التوفيق أكثر ثباتا، أعطى كارنو وزارة الداخلية، ودعا بنجمان كونستان إلى مجلس الشورى؛ ما دل على اعترافه بسلطة الرأي العام، ونزوله على التحريض في سبيل الحرية الذي كان يمثله، في أشكال مختلفة، هذا الرجلان العظيمان. ولقد تحدث نابوليون إلى بنجمان كونستان عن طابع السياسة الجديدة التي ود أن يتخذها، ومن غير أن يعدل عن الأفكار التنظيمية، أو يظهر استعداده إلى تشجيع التذكارات الديموقراطية التي اشتركت في إرجاع العرش إليه، صرح بأنه ينزل عند مطاليب الشعب حتى وعند أهوائه أيضا، وأنه سيسير في الطريق التي تنقاد فيها الأفكار. نعرب هنا فقرة من هذا الحديث، الذي خرج من فم نابوليون، وأبقاه الكاتب الكبير الذي وجه إليه، قال: «لقد استراحت الأمة اثنتي عشرة سنة من أية حركة سياسية، ولقد مضى عليها سنة كاملة وهي مستريحة من الحرب، فهذه الراحة المزدوجة جعلتها بحاجة إلى النشاط. إنها تريد، أو يخيل إليها أنها تريد حكومة ومجالس، سوى أنها لم ترد ذلك قبل الآن. لقد ترامت على قدمي عندما وصلت إلى الحكم، ويجب أن تذكر ذلك أنت الذي حاول الاعتراض. أما الرغبة في التنظيمات، والمباحثات، والخطب فقد ظهر لي أنها تعود ... إلا أن الذي يريدها إنما هو الأقلية فقط، فلا تخطئ؛ لأن الشعب أو الجمهور، إذا أردت، لا يريد سواي. أو لم تشاهد ذلك الجمهور يتحفل حولي، وقد تهافت إلي من أعالي الجبال، مناديا بي، باحثا عني، محييا إياي؟ لست كما قيل عني إمبراطور الجنود فحسب، بل أنا إمبراطور الفلاحين والسوقة وفرنسا ... ثم إنك لترى، بالرغم من الماضي ، ذلك الشعب الكريم عائدا إلي، ذلك لأن ثمة جاذبية بيننا! ... وما علي إلا أن أعمل إشارة أو أن أحول نظري حتى تجد الأشراف وقد ذبحوا جميعا في جميع المقاطعات، ولكني لا أريد أن أكون ملك المذابح! لقد أردت إمبراطورية العالم، ولذا كنت بحاجة إلى سلطة لا حد لها، أما إذا شئت إمبراطورية فرنسا وحدها، فقد تكفي لذلك شريعة أو سنة ... هات أفكارك لأرى. انتخابات حرة؟ وزراء مسئولون؟ الحرية؟ أريد جميع ذلك ... لا سيما حرية الصحافة ... فأنا رجل الشعب؛ وإذا رغب الشعب في الحرية فأنا مدين له بها، لقد اعترفت بسلطته، إذن فيجب علي أن أصغي إلى إرادته حتى وإلى أهوائه. لم تحدثني نفسي يوما بأن أرهقه في سبيل ملذاتي، لقد كان لي مقاصد كبيرة إلا أن الحظ قضى عليها، فلم أبق ذلك الفاتح، ولم أبق أستطيع أن أكونه؛ وجل ما أرغب فيه هو أن أعلي شأن فرنسا وأعطيها حكومة توافقها ... لا أمقت الحرية قط، أما إذا نحيتها في الماضي، فلأنها كانت تقف في طريقي، ثم إن أعمال السنين الخمس عشرة قد تهدمت، ولم يبق سبيل لترميمها إلا إذا ضحي بعشرين سنة وبمليونين من الرجال ... بيد أني أرغب في السلام، ولا سبيل إليه إلا بقوة الانتصارات، وإني لأتنبأ عن حرب طويلة يجب أن تدعمني الأمة فيها.»
كانت زعامة البوربونيين قد امحت في فرنسا الشعبية، وحل محلها الإعجاب بنابوليون، إلا أن السلام كانت أمنية الشعب، ولكن الحرب كان لا بد منها.
في أثناء ذلك جرى حادث خطير في ما وراء الألب؛ فإن مورات، الذي كان مهددا بمعاهدة فيينا، أخذ يحاول أن يهيج إيطاليا على النمسا زاعما أن الملوك لا يحفظون له حرمة، ما جعل الملوك يتصورون أن الإمبراطور لم يخرج من جزيرة ألبا، إلا بعد أن تفاهم وصهره مورات واتفقا على شهر الحرب، فهذا التصور كان كافيا لأن يجعل ديوان فيينا أصم عن مطاليب نابوليون السلمية، وجعل الوزراء النمسويين يتمسكون بالمعاهدة التي عقدت في الخامس والعشرين من شهر آذار، عام 1815 والتي اتفقت فيها العصبة على أن لا تلقي السلاح إلا بعد أن تسقط العرش الذي استرجعه الإمبراطور بطريقة عجيبة.
أما نابوليون، الذي بقي له أمل ضئيل بفصل النمسا عن العصبة ودفع السلطات الباقية إلى إلقاء السلاح، فقد كتب إلى جميع أولياء الأمر رسالة بهذا الموضوع، إلا أن الأمراء المتحالفين لم يتنازلوا أن يجيبوه على مفاتحته هذه، عند هذا اتضح لنابوليون أنه أصبح من الواجب أن يسرع بالاستعداد إلى الحرب.
في الثاني عشر من شهر حزيران ترك الإمبراطور العاصمة واتجه نحو الحدود البلجيكية، وفي الرابع عشر منه وصل إلى أفيسن حيث أذاع الكلمة التالية: «أيها الجنود، هذا اليوم عيد تذكار مارنغو وفرييدلان، فيجب أن نزحف لملاقاة هؤلاء الذين يريدون النيل من استقلال فرنسا وحقوقها المقدسة.
أيها الجنود، علينا أن نقاسي زحفا متواصلا شاقا، وأن نشهر مواقع عديدة، ونتحمل أخطارا جمة، ولكن النصر سيكون لنا، على كل فرنسي يضم في صدره قلبا شريفا أن ينتصر أو يموت!»
وفي حين كان نابوليون يحرك شجاعة جنوده، كانت الخيانات تلج من جديد صفوف الفرنسيين؛ فإن الجنرال بورمون وبعض الضباط قد انحازوا إلى الأعداء، عندما بلغ نابوليون هذا النبأ الفجائي، تقدم من ناي وقال له: «ماذا تقول عن رفيقك يا مرشال؟» فأجابه باسل البسلاء: «مولاي كنت أتكل على بورمون اتكالي على نفسي.» فاستطرد نابوليون قائلا: «لا بأس يا مرشال؛ فإن الزرق يظلون زرقا في كل حين، وفي كل حين يظل البيض بيضا!»
في الخامس عشر من الشهر افتتحت الحملة بموقعة فلوروس، فانهزم البروسيون بعد أن خسروا خمسة مدافع وألفي رجل. كانت الجيوش العدوة التي وقفت في وجه نابوليون، والتي يقودها ويللنكتون وبلوخر، تعد أكثر من مائتين وثلاثين ألف رجل، ولم يكن الجيش الفرنسي ليعد أكثر من مائة وعشرين ألفا، أما نابوليون فلكي يتملص من الخطر الذي قد ينجم عن هذه الأكثرية الساحقة، أخذ يحاول أن ينحي الإنكليز عن البروسيين، فنجحت خطته هذه نجاحا باهرا في موقعة لينيي في السادس عشر من حزيران؛ إذ إن بلوخر، الذي قاتله الإمبراطور على حدة، قد انكسر انكسارا تاما، وترك خمسة وعشرين ألف رجل في ساحة القتال، إلا أن هذه الخسارة الكبيرة لم تؤثر كثيرا على جيوش لا يحصى عددها.
كان على نابوليون بعد أن انتصر ذلك الانتصار الباهر، أن يشهد في ساحات واترلو آخر نكبة يضمرها له الحظ القاهر، ففي الثامن عشر من شهر حزيران، بعد معركة دامت ثماني ساعات متوالية، خيل للجيش الفرنسي أن الفوز سيكون في جانبه، ولكن في الساعة الثامنة والنصف أزعج الرصاص الكتائب الأربع، التي أرسلت إلى سهل جبل سن جان لتعضد الفرقة المدرعة، فمشت بالسلاح الأبيض تستولي على المدفعية، إلا أن هجوما عالجته بعض كتائب إنكليزية تمكن من تشتيتها، حتى أوصلها إلى ما وراء الوادي؛ فلما أبصرت الجحافل المجاورة بعض جماعات من الحرس منهزمة، صور لها أنها من الحرس القديم، وارتفع عند هذا صراخ: «لقد خسر كل شيء! لقد انهزم الحرس!» وسمعت أصوات تصرخ: «ليهرب من يقدر!» وما هي إلا هنيهة حتى شمل الخوف جميع الجنود وتفرقوا تفرقا فظيعا، أو امتزجوا بعضهم ببعض حتى أصبحوا كتلة مبهمة من المستحيل إعادة تنظيمها، وهبط الليل على تلك الكتائب المبعثرة فلم تستطع أن تتجمع وتتبين خطأها، فتعلم أن الوهم إنما هو الذي سبب ذلك التشويش، أما حظائر المؤنة وكل ما كان في ساحة القتال فقد بقي في قبضة العدو.
إن هفوة صدرت من المرشال غروشي اشتركت في القضاء على جيوش الإمبراطور؛ فلقد عهد إلى المرشال غروشي أن يطارد فرق بلوخر البروسيانية، ولكنه تركها تزحف إلى ساحة واترلو من غير أن يوقفها هو بنفسه، كما طلب منه ذلك الجنرال جيرار. كان غروشي يعتقد نفسه دائما أمام البروسيانيين، في حين لم يكن أمامه سوى فرقة صغيرة من جيشهم. أما هذه الهفوة التي ارتكبها المرشال فقد غيرت بأقل من ساعة، ليست مقدرات موقعة هائلة فحسب، بل مقدرات أوروبا بأسرها.
كان نابوليون يعلم حق العلم الروح السائدة في مجلس الممثلين، فاتضح له عند هذا أن نبأ تشتيت جيشه سيقيم عليه صواعق الحكومة ويقعدها، وشعر بضرورة رجوعه بأسرع ما يكون إلى عاصمته ليهدئ الفوضى البرلمانية. في العشرين من شهر حزيران، الساعة التاسعة مساء، وصل إلى باريس يصحبه الدوق ده باسانو والقواد برتران، دروو، لابيدوايير وغوركو.
إلا أن ممثلي فرنسا كانوا قد أذعنوا لإشارة لافاييت، الذي قال: إن وجود نابوليون عالة على سياسة فرنسا. فهلل البوربونيون والغرباء لهذه الفكرة، ورحبوا بها أيما ترحيب! أما الرجال المخلصون لنابوليون فقد تركوا لليأس سبيلا إليهم، ونصحوا الإمبراطور بأن يرضخ للقدر المحتوم الذي يتقاضاه تضحية جديدة؛ عند هذا شعر نابوليون بأن القضاء أصبح لا مرد له، وأن أصدقاءه وأعداءه يجمعون الكلمة على ضرورة تنازله، فصرح أنه عزم على التنازل لابنه. ولكن أعداء السلالة الإمبراطورية، الذين انتصروا في مجلس الممثلين، نحوا طلب إصعاد نابوليون الثاني إلى العرش، وألفوا لجنة من خمسة أعضاء لتشكيل حكومة مؤقتة وهم: فوشه، كارنو، فرونيه، كينيت وكولنكور.
عندما علم نابوليون بهذا النبأ استسلم لسخطه الشديد فصرخ قائلا: «لم أتنازل لديركتوار جديد! بل تنازلت لابني، فإذا لم يريدوا ذلك يكون تنازلي وهميا! تعلم المجالس حق العلم أن الشعب والجيش والرأي العام كلهم يرغبون في ذلك بل يريدون! لقد رأى الغرباء بأم عينهم أن عشرين آذار لم يكن مسألة حزبية، بل نتيجة تعلق الفرنسيين بي وبسلالتي.» كانت باريس تضم في أحشائها عددا كبيرا من الوطنيين الذين كانوا يفكرون في أنه من الواجب تحصين البلاد قبل كل شيء، وأن هذا التحصين لا يتم بدون ذراع الإمبراطور ونبوغه واسمه، وكان الجنود يشتركون معهم بهذا الرأي، إلا أن الأكثرية كانت تصرخ من جميع الجهات: «لا إمبراطور! لا جنود!» سوى أن وجود نابوليون في باريس كان يخيف المجالس، ويدب الريبة في نفس فوشه، الذي كان يدير الحكومة المؤقتة ويتداول مع الخارج، فعهد إلى كارنو بأن يذهب إلى الإمبراطور ويبته على ترك العاصمة، فلما وصل كارنو إلى الإليزه وجد نابوليون وحده في الحمام، ولما أطلعه على الغاية من زيارته، تعجب الإمبراطور المخلوع من القلق الذي يحدثه وجوده في باريس، فقال لكارنو: «أنا لست إلا مواطنا بسيطا، بل أقل من مواطن بسيط.»
في الخامس والعشرين من شهر حزيران اتجه نابوليون إلى ملميزون،
1
حيث وجه إلى الجيش نداء نأخذ منه هذه الفقرة: «أيها الجنود، قليل من الجهود بعد وتنحل العصبة. أنقذوا شرف الفرنسيين واستقلالهم، وكونوا حتى النهاية هؤلاء الذين عرفتهم منذ عشرين سنة فتصبحوا لا تقهرون!»
في السابع والعشرين من حزيران، عندما شاع نبأ دنو الحلفاء من باريس، كتب نابوليون إلى الحكومة المؤقتة يطلب منها أن تقبله كجندي، قائلا إنه لم يعدل عن أشرف واجب وطني في تنازله عن السلطة، وإن دنو الأعداء من العاصمة لا يترك ريبة بنواياهم السيئة. إلا أن طلبه هذا رفض بتاتا، فسخط نابوليون لهذا الرفض سخطا شديدا، وحدثته نفسه بأن يسترجع قيادة الجيش ويحاول إسقاط الحكومة كما عمل في الثامن عشر من برومير، ولكن الدوق ده باسانو حوله عن هذه الفكرة، بقوله له: إن الظروف الحالية لم تبق هي نفسها التي كانت في العام الثامن، فاضطر نابوليون أن يذعن، وترك ملميزون واتجه إلى روشفور، وفي نيته أن يبحر إلى الولايات المتحدة.
استلم الجنرال بيكر، وهو الذي عهدت إليه الحكومة المؤقتة بحراسة سيده العظيم في ملميزون، أمرا بمرافقة نابوليون حتى روشفور، وبأن لا يتركه إلا عندما يصبح في عرض البحار؛ أما الجنرال الباسل هذا فقد قال للإمبراطور وهو يقترب منه: «لقد عهد إلي بأمر شاق، وسأفعل ما بوسعي لمرضاتك.» ولقد بر الجنرال بكلامه؛ إذ إنه لم ينس قط أن يؤدي إليه ما يجب أن يؤدي للعظمة الساقطة والنبوغ التعس.
ترك نابوليون ملميزون في التاسع والعشرين من شهر حزيران، ووصل إلى روشفور في الثالث من تموز، وفي اليوم التالي أقبل عليه شقيقه جوزيف. وفي الثامن من شهر تموز أبحر نابوليون وفي نيته أن يتجه إلى الولايات المتحدة، وفي الرابع عشر منه كان في جزيرة إكس ينتظر جواب أميرال الباخرة الإنكليزية على كتاب أرسله إليه مع لاس كاز وسافاري، يسأله فيه عما إذا كان الوزراء الإنكليز لم يرسلوا إليه أمرا يقضي بعدم تعرضه له في المرور. إلا أن الأميرال ظل ساكتا مدة طويلة حتى عيل صبر الإمبراطور؛ ولما أرسل لاس كاز مرة أخرى إلى الأميرال ميتلان، علم منه أنه يرغب في إقلال نابوليون إلى إنكلترا، حيث يجد ما يليق به من الإكرام.
عندما حمل لاس كاز هذا النبأ إلى الإمبراطور، جمع هذا رفاقه حوله، وأخذ رأيهم في القسمة التي قدرت له، وما لبث أن صحت عزيمته على الالتجاء إلى كرم الشعب الإنكليزي وحلوله ضيفا على إنكلترا، فأخذ قلما وكتب هذه الكلمة إلى الجلالة الملكية، قال: «أيتها الجلالة الملكية، لقد تممت مهنتي السياسية بعد أن رأيتني هدفا للتحزبات التي تتقاسم بلادي ولبغضاء السلطات الكبرى في أوروبا. إني أجيء، كما جاء تميستوكل، لأحل ضيفا على الشعب البريطاني، الذي أضع نفسي تحت حماية شرائعه، تلك الحماية التي أرجوها من جلالتك الملكية التي أعتبرها كأعظم وأكرم وأثبت جلالة بين جميع أعدائي.»
حمل لاس كاز وغوركو هذه الرسالة إلى الأميرال ميتلان، وأبلغاه أن نابوليون سيتجه في اليوم التالي صباحا إلى باخرته، وفي الخامس عشر من تموز، عند بزوغ الفجر، حملت الباخرة «ليبرفيه» الرجل العظيم إلى الباخرة «بللروفون». وفي حين أوشك نابوليون أن يصعد إلى هذه الباخرة الأخيرة، رأى الجنرال بيكر يدنو منه ليودعه، فقال له بحدة: «تنح يا جنرال، فلا أريد أن يتصور البعض أن فرنسيا سلمني إلى أعدائي.» ثم مد له يده ولم يبعده، إلا بعد أن ضمه إلى صدره للمرة الأخيرة.
عندما شاع على شواطئ إنكلترا أن الإمبراطور أصبح على مقربة منها، خف الأهلون من جميع الجهات وأحدثوا على الشواطئ شبه مظاهرة لنابوليون؛ فهذا الاحتفاء الذي أبداه الشعب، كان يختلف كل الاختلاف عن القدر الذي خصصته الحكومة البريطانية للإمبراطور. أحيطت الباخرة بللروفون بالمراكب المجهزة بالمدافع، وأعطيت أمرا بإطلاق النار على المتظاهرين لتنحيتهم؛ إلا أن إنكلترا بأسرها لم تتردد، بالرغم من هذه الأوامر الوحشية، أن أسرعت لتشاهد بطل فرنسا عن كثب، في حين كان البحر يمتلئ رويدا رويدا بالمراكب المدرعة، حول الباخرة التي كانت سجنا للرجل العظيم، أما نابوليون فقد كان يحترق صبرا، في وسط تلك المظاهرات التي قامت بها الأمة، التي كثيرا ما كانت عدوة له؛ ليعلم أية قسمة تضمرها له الحكومة البريطانية، ولكن لم يمر وقت طويل، حتى قدم اللورد كيث إلى الباخرة بللروفون، حاملا أمرا وزاريا يعين جزيرة سنت هيلين سكنا «للجنرال بونابرت»، فلما علم نابوليون من فم الأميرال عزم الديوان الإنكليزي هذا، استسلم للغضب والسخط، واعترض بكل قواه على اختراق حرمة حقوق البشر، قال: «إني ضيف إنكلترا لا أسيرها، ولقد جئت بإرادتي أضع نفسي تحت حماية شرائعها، إنهم يخترقون حرمة حقوق الضيافة المقدسة، فلن أرضى مختارا بالإهانة التي تصوبونها إلي!»
أما إنكلترا، فلكي تجعل المنفى أشد ظلما على نابوليون، أرادت أن تحصر حاشيته في ثلاثة لا غير، وحذفت من رفاقه سافاري ولاللمان، اللذين اعتقدا أن سيضحى بهما على المقصلة، التي نصبها لويس الثامن عشر في الرابع والعشرين من شهر تموز. وأما نابوليون فاسترأى لاس كاز في ما إذا كان من الممكن احتمال حياة كهذه، فأخذ لاس كاز يعزيه بقوله: «من يعلم ماذا يخبئ الوقت؟» ثم أشعره بأنه يستطيع أن «يعيش في الماضي»، فأجابه الإمبراطور: «إذن فسنكتب مذكراتنا. أجل، يجب أن نعمل، فالعمل هو منجل الوقت، ثم إنه من الواجب علينا أن نقوم بما قدر لنا.» وهكذا عاد نابوليون إلى نفسه! فإذا كانت رداءة الرجال ولؤمهم ونكرانهم الجميل قد دفعته فترة إلى اليأس وأرهقته بالغموم؛ فإن ذكريات مجده القديم لترفعه عن هذا اليأس وتلك الغموم.
في الرابع من شهر آب خرجت الباخرة بللروفون من المرفأ، ولكنها لم تتجه إلى الجنوب بل سارت في مياه المانش؛ فأدرك نابوليون أنه سينتقل إلى باخرة أخرى، وهي النورثنبرلان، التي ستقله إلى سنت هيلين.
نعرب هنا الكلمات القوية التي وجهها إلى اللورد كيث، ساعة حمل هذا إليه النبأ المشئوم بإقلاله إلى جزيرة سنت هيلين، والتي أرسلها نابوليون إلى الأميرال، قال: «إني أعترض اعتراضا علنيا، أمام السماء الرجال، على الظلم الذي لحق بي، وعلى اختراق حرمة حقوقي المقدسة بالتصرف، بالقوة الجبرية ، بشخصي وبحريتي، لقد جئت مختارا إلى بللروفون لدى إلحاح الأميرال نفسه، الذي قال إن لديه أوامر من الحكومة باستقبالي والذهاب بي إلى إنكلترا مع حاشيتي، إذا راقني ذلك، وما كدت أصل إلى بللروفون حتى رأيتني في وطن الشعب البريطاني. أما إذا كانت الحكومة، عندما أصدرت أوامرها لأميرال بللروفون باستقبالي مع حاشيتي، قد أرادت أن تنصب لي كمينا فقد أساءت إلى الشرف وأهانت علمها.
إذا نفذت إنكلترا هذا العمل، فمن العبث بعد أن يتكلم الإنكليزيون عن شهامتهم وشرائعهم وحريتهم؛ لأن الوفاء البريطاني يكون قد ضاع في ضيافة بللروفون.
إني ألجأ إلى التاريخ، فسيقول غدا إن عدوا شهر الحرب عشرين سنة على الشعب الإنكليزي جاء بملء اختياره، وفي أيام تعسه، يفتش عن مأوى له تحت شرائعه.
ولكن بأي لسان أجاب الشعب في إنكلترا على مثل هذه الشهامة؟ لقد تظاهر بمد يد مضيافة إلى هذ العدو، ولما سلم نفسه بوفاء وإخلاص ضحي به!»
في السابع من شهر آب ترك الإمبراطور الباخرة بللرفون، ونقل إلى الباخرة نورثنبرلان، التي يقودها المير كوكبرن، فاغتنمت هذه الفرصة لتجريد حاشيته من سلاحها، ولكن بقية من الحياء جعلت سبيلا لاحترام سيفه. أما أمتعته فقد وقف عليها الأميرال نفسه، يعاونه ضابط من ضباط الجمرك، فجرد من أربعة آلاف ليرة ذهبية، ولم يترك له إلا ألف وخمسمائة لتساعده على قضاء حاجات خدمته. وعندما حان الوقت للافتراق عن الأصدقاء الأوفياء الذين قضي عليهم ألا يقاسموه سجنه ومنفاه البعيد، ترامى سافاري باكيا على قدميه وقبل يده. قال لاس كاز: «فعانقه الإمبراطور وهو هادئ ساكن، ومشى إلى الزورق، وكان في الطريق كلما التقى برجل حياه برأسه تحية لطيفة. أما جميع الذين تركناهم وراءنا، فكانوا يبكون، ولم أتمالك أن قلت للورد كيث، الذي كنت أتحدث معه في تلك الآونة: لاحظ يا ميلورد إن الذين يبكون هنا إنما هم الخالدون!»
إلا أن الوزراء الإنكليز استاءوا استياء شديدا من العناية، التي أبداها الأميرال ميتلان وبحريته، نحو نابوليون، لقد وبخوا هذا الأميرال على إعطائه أسيره اللقب الذي كان يحمله وهو على العرش، وأصروا إصرارا صارما على أن لا يكرر هذا العمل بعد على ظهر النورثنبرلان، ثم إنهم صرحوا في تعليماتهم، أن لقب «جنرال» هو وحده الذي يجب أن يطلق على الطاغية المخلوع؛ فلما علم نابوليون بجميع هذه الصغائر صرخ قائلا: «ليطلقوا علي الاسم الذي يختارون، فلن يمنعوني عن أن أكون أنا!»
في الحادي عشر من شهر آب خرجت النورثنبرلان من قناة المانش، ولما مرت على مرتفع رأس الهوغ أبصر نابوليون شواطئ فرنسا، فحياها باسطا ذراعه نحو تلك الشواطئ، وصرخ بصوت متفطر قائلا: «وداعا يا أرض البواسل! وداعا يا فرنسا المحبوبة! بعض خائنين يحذفون منك وتظلين سيدة العالم!» هذه هي الكلمات الأخيرة التي ودع بها الرجل الكبير الأرض النبيلة للشعب الكبير!
الفصل الثالث والعشرون
ذات يوم، بينا كان الإمبراطور يتمشى على ظهر الباخرة حسب عادته بعد الظهر، هبت زوبعة هائلة، فلم يشأ أن يدخل إلى مخدعه وطلب أن يجيئوه «بالريدنكوت»
1
الأشهب اللون، الذي كان الإنكليز أنفسهم لا ينظرون إليه إلا باحترام وإعجاب.
كانت قراءة الجرائد تستغرق معظم وقته على ظهر الباخرة، إلا أنه لم يكن يطالعها إلا على سبيل التسلية. وكان كثيرا ما يقع فيها على تجاديف وافتراءات مصوبة إليه، ولكن جميع ذلك لم يكن يستطيع النيل منه. قال للاس كاز ذات مرة: «لم يكن السم ليستطيع يوما أن يؤثر في ميتريدات، وهكذا الافتراءات منذ عام 1814؛ فإنها لا تستطيع أن تؤثر في!» وميتريدات هذا كان عدوا للرومانيين، قيل إنه تعود السم منذ الصغر، حتى لم تبق تؤثر فيه عوامله مهما كانت شديدة. دامت حروبه مع الرومانيين من العام 90 إلى 63 قبل المسيح من غير انقطاع.
في الخامس عشر من شهر تشرين الأول وصلت الباخرة نورثنبرلان إلى مرفأ سنت هيلين، وفي السادس عشر منه نزل الإمبراطور إلى اليابسة مع الأميرال والجنرال برتران، فحل في البدء في بريار عند أحد تجار الجزيرة السيد بلكومب. لم تكن إقامته هناك إلا إقامة مؤقتة؛ لأن سكنه الأخير كان قد عين في لونكوود، وهو منزل حاكم الجزيرة، إلا أنه لم يكن قد أعد بعد لاستقباله. صادف نابوليون في منزل بلكومب كل الإكرام الذي يليق به، فلم يضجر ولم يتذمر من شيء؛ لأن هذه العيلة الكريمة لم تعدم وسعا في توفير أسباب الراحة والتسلية للأسير العظيم.
لم يخرج نابوليون مدة إقامته ببريار إلا مرة واحدة ليزور ضابط فرقة سنت هيلين، فكان يصرف وقته في كتابة مذكراته التي كان يمليها تارة على لاس كاز، وطورا على ابنه، وحينا على مونتولون أو على غوركو وبرتران؛ أما نزهاته اليومية فكانت تنحصر في أروقة حدائق بريار، أو في أحراجها التي كانت ملأى بالوهاد واللجج.
كان يحرث حديقة السيد بلكومب عبد مسن يدعى طوبيا وهو هندي استولى عليه أحد النوتيين الإنكليز وباعه سلعة بخسة؛ فكان الإمبراطور، كلما مر أمام هذا العبد المسكين، يقف وقفة المتأمل ويبدي له اهتماما بأمره، حتى إنه حدثته نفسه بأن يدفع ثمن تحريره، ولم يكن يتحدث عن الاستيلاء عليه إلا بسخط شديد، وذات يوم بينا كان واقفا أمامه، أخذ يحدث نفسه بما يلي: «يا لها من آلة بشرية! لو كان طوبيا بروتوس
2
لما تردد أن انتحر، ولو كان أزوب
3
لتوصل أن يكون مستشار الحاكم، ولو كان مسيحيا صميما لحمل قيوده على مرأى من الله وباركها. أما طوبيا فإنه ليرضخ لمشيئة القدر فينحني ويشتغل بطوية سليمة.» وبعد أن أنعم النظر فيه بعض ثوان ابتعد وهو يقول: «كان لهذا الرجل أهل وملذات وحياة خاصة به، ولقد اقترفوا جريمة فظيعة بحمله إلى هذه الجهة ليموت تحت أثقال الاستعباد.» ثم توقف أمام لاس كاز فجأة وقال له: «ولكني أقرأ في عينيك؛ فأنت تفكر أنه ليس بالمثل الوحيد في سنت هيلين! اعلم يا عزيزي، أنه ليس هناك أقل تشابه، فلو كانت الجناية أكبر من تلك لأيدت الضحايا وسائل غير هذه. لم يحملونا آلاما جسدية، ولو حاولوا ذلك لكنا خدعنا ظالمينا فإن لنا نفسا! ... ثم إننا لنبقى شهداء قضية خالدة! ... فهناك ملايين من البشر يبكوننا ، والوطن يتنهد حزنا علينا، والمجد مرتد ثوب الحداد! ... إن للشقاء بطولته ومجده أيضا! ... لو مت وأنا على العرش، في وسط غيوم عظمتي، لبقيت مشكلا في نظر الكثيرين، أما اليوم، وقد حل بي الشقاء، فيستطيع العالم أن يدينني عاريا!»
في الثامن عشر من شهر كانون الأول غادر نابوليون بريار واتجه إلى لونكوود، فهذا المأوى الجديد مهد له راحة أوفر من تلك، إلا أنه لم يصادف فيه تنكيدا من قبل سجانيه أقل من التنكيد الذي صادفه من قبلهم وهو في بريار؛ إذ إن السجانين وضعوا له خفراء تحت نوافذه، وضربوا حوله نطاقا من التحزر الظالم.
ذات يوم، في أواخر شهر كانون الأول، بينما كان يتنزه على ظهر جواده، اضطر أن يترجل بسبب الأوحال المتراكمة على الطريق، وإذا برجليه تغرقان في الوحول حتى الركبتين فقال: «إنها لصدفة مشئومة.» ولما تملص من هذه الورطة استطرد قائلا: «لو كنا توارينا في هذه المستنقعات، لقال عنا المراءون في أوروبا، إننا غرقنا بسبب جرائمنا.»
كان جميع الإنكليز الذين يمرون بهذه النواحي، يتوقفون في سنت هيلين ليتفرجوا على ضحية حكومتهم، على الرجل الأشهر، أما نابوليون، فكان يستقبلهم بترحاب شديد. وفي أول كانون الثاني سنة 1816 اجتمع رفاق نابوليون، وصحت عزيمتهم على أن يرفعوا إليه تهانئهم بمناسبة عيد رأس السنة، ولكن نابوليون، الذي ذكرته هذه التهانئ بأيام عظمته السالفة، لم يظهر على وجهه ما أحدثه في نفسه الفرق بين هذه التهانئ العائلية في لونكوود، والاحتفالات الفخمة في التويلري، وتكلف استقبال ندماء التعس والشقاء، وأبقاهم عنده لتناول الغداء على مائدته، قال لهم: «إنكم أصبحتم لا تؤلفون إلا قبضة من الرجال في طرف العالم، فيجب أن ينحصر عزاؤكم في حبكم بعضكم بعضا.»
كان كل يوم يرى حول لونكوود جمع من النوتيين، وقد ازدروا بالأوامر وبالخفراء أيضا، وجاءوا يتفرجون على هيئة البطل الأسير، فكان نابوليون يقول: «يا للمخيلة من سلطة قاهرة! إنها لتسطو على جميع الرجال! هؤلاء ناس لا يعرفونني، ولم يقع نظرهم علي يوما، إلا أنهن سمعوا بي. أجل، إن المخيلة لتسود على العالم بأسره!»
لم يعتم الاعتقال والهواء الرديء في سنت هيلين أن حملا ثمارهما المشئومة؛ فإن صحة الإمبراطور لم تلبث أن أخذت تسوء من يوم إلى يوم، ولقد أخطأ من زعم أن تركيبه الجسدي كان قويا، وأصاب من قال: «ليس جسده من حديد بل روحه.» سوى أن قليلا من الرجال كابدوا من الأتعاب والمشقات ما كابده نابوليون. يذكر البعض أنه قطع المسافة التي بين فاللادوفيل وبورغوس، وهي خمسة وثلاثون فرسخا، بخمس ساعات ونصف على ظهر جواده.
حملت الجرائد إلى سنت هيلين نبأ موت مورات، وعذاب بورليه، وإعدام ناي،
4
فلما قرأ لاس كاز على مسمع من الإمبراطور الجريدة التي تحمل نبأ موت ملك نابولي مورات، تلك الميتة الفظيعة، أخذ نابوليون يده بشدة وصرخ قائلا: «لقد كان الكالابريون أكثر إنسانية وكرما من الذين أرسلوني إلى هذا المكان.» في أثناء ذلك كان غضب الأريستوقراطية الحالية قد اشتد وتعاظم، واكتسحت رجعة 1815 فرنسا بأسرها؛ فإن دم لابيدوايير وناي وشرتران وموتون دو فرنه كان قد امتزج بدم برون وراميل.
لم تلبث الوزارة الإنكليزية أن اختارت لنابوليون سجانا آخر هو هدسن لوو! ... هدسن لوو! لا يلبث المقت والهول أن يحركا جميع النفوس الشريفة لدى ذكر هذا الاسم ... أي كيث وكوكبرن، لقد تركتما في قلبيكما بقية من الإعجاب والاحترام للبطولة والمجد والنبوغ وعظمة الشهرة والحظ؛ إنكما لم تفقها جيدا الخدمة التي عهدت إليكما! بل صور لكما، عن حسن نية، أن قد عهد إليكما بحراسة بطل فرنسا ... لقد أخطأتما الذكاء، وسقيا لهذا الخطأ! هو ذا سجان آخر فتح له في تنفيذ مآرب أسياده العظام فوق ما فتح لكما، فسيعلمكما ما كان يتطلبه منكما الانتقام والخوف، وما يستطيع أن يقوم به، بسنوات قلائل، هواء كهواء سنت هيلين ورجل كهدسن لوو!
لم يعرف كاتب من الكتبة أن يصور هذا «الخوف» الذي ذكرناه، بمثل العبارة التي صوره بها شاتوبريان عندما لفظ في مجلس الأعيان هذه الكلمات الخالدة؛ إذ قال: «كان الريدنكوت الأشهب وقبعة نابوليون موضوعة على رأس عصا على منحدر برست، تثبان بأوروبا إلى حمل السلاح!»
كان أول ما عمله هدسن لوو أن قرأ على مسمع من الإمبراطور نشرات تصور حكم نابوليون وطباعه بألوان ذميمة، وكانت إحدى هذه النشرات صادرة عن الكاهن ده براد سفير فرسوفي، إلا أن خباثة من هذا النوع لم تكن سوى ضرب من الشيطنة عند رجل متخلق بأخلاق السير هدسن. ولقد أراد هدسن لوو أن يحضر إليه جميع خدم الإمبراطور، لكي يسألهم كلا بمفرده، عن السبب الذي يدعوهم إلى البقاء في سنت هيلين بعدما سمعوا بآذانهم ما جاء بحق سيدهم في النشرات التي قرأها؛ فهذا المنهج أثار سخط الإمبراطور، وجرحه جرحا عميقا نفذ إلى صميمه، وعندما انتهى السير هدسن من استشارة الأوفياء تلك الاستشارة المهينة، جنح إلى لاس كاز ومونتولون، وقال لهما إنه مسرور وإنه سيطلع حكومته على أن كلا منهم أمضى بملء اختياره وإرادته، ثم أخذ يطنب بمناظر الجزيرة، وقال: إن الإمبراطور وحاشيته غير محقين بتذمرهم؛ ولما أظهرا له أنه ليس هناك شجرة واحدة يستظلونها، تحت سماء محرقة كهذه السماء، أجاب بخبث: «سنزرع!» وذهب عنهما من غير أن يزيد كلمة على ما قال.
كانت صحة الإمبراطور تضعف شيئا فشيئا، وفي أواخر نيسان رأى نفسه مضطرا أن يعدل عن التمتع بالحرية القليلة التي تركت له، وحرم نفسه من الخروج إلى النزهة. جاء الحاكم ليراه، فاستقبله المريض العظيم وهو مستلق على مقعد طويل، وغير مرتد ثيابه. وبعد أن ذكره بأنه رفض الذهاب إلى روسيا أو إلى النمسا، وأنه لم يرد أن يدافع حتى آخر حدود الدفاع في فرنسا، وذلك ما قد يكون أناله شروطا ذات أهمية، استطرد قائلا: «إن أعمالك لن تشرفك في التاريخ! ثم إن هناك حكمة علياء منتقمة لا بد أن تثأر منك عاجلا كان أو آجلا! وقد لا يمضي وقت قصير حتى تكفر عن إثمك! ... لقد أظهر وزراؤك بتعليماتهم أنهم يريدون أن يتملصوا مني! ولكن لماذا لم يجرؤ الملوك الذين اضطهدوني أن يصدروا أمرا علنيا بموتي؟ فقد يكون هذا الأمر أكثر شرعا من ذاك؛ وقد تكون نهاية عاجلة قد أظهرت من الجرأة، من جهتهم، أكثر مما تظهره ميتة بطيئة كالتي حكموا علي بها.»
فلم يجب الحاكم بسوى التعليمات التي زعم أنها ألقيت عليه، والتي توجب ألا يخرج الإمبراطور من غرفته إلا ومعه ضابط يرقب خطواته؛ ما جعل الإمبراطور يقول له: «لو أعطيت تعليمات كهذه لما خرجت من غرفتي قط.» وفي تلك الآونة بشر السير هدسن نابوليون، بقرب وصول مركب، يقل قصرا من الأخشاب والأثاث والمأكولات إلى لونكوود، إلا أن نابوليون لم يظهر اكتراثا كبيرا بالآمال التي حاول الحاكم أن يدبها فيه، وأخذ يتذمر من تصرف الوزارة الإنكليزية، التي تمنع عنه جميع ألوان التعزية كالكتب والجرائد، وما هو أفظع من جميع ذلك الأنباء عن ولده وامرأته، قال: «أما من جهة المأكولات والأثاث فكلانا جندي يا حضرة السيد، فلا نعلق عليها أهمية كبرى، قد تكون زرت المدينة التي ولدت فيها، وقد تكون ولجت بيتي أيضا، فوقع نظرك على أثاثه البسيط الذي لم أخجل به يوما؛ إذن، فبالرغم من أني قبضت على ناصية عرش، ووزعت كثيرا من التيجان، لم أنس قط حالتي الأولى؛ فإن مقعدي هذا وسريري الذي ترى كافيان.»
ولما انصرف الحاكم من عند الإمبراطور، بعد أن عرض عليه مرارا عديدة عناية طبيبه الخاص ورفضها نابوليون، أطلع الإمبراطور حاشيته على جميع ما ورد في حديثه مع السير هدسن، وبعد أن سكت قليلا قال: «يا له من وجه مشئوم لئيم وجه هذا الحاكم! لم أقع في حياتي ولن أقع على رجل مثله! ...» وكأن هذه التصرفات الخسيسة، التي يبديها نحوه أعداؤه الألداء، لم تكن كافية لهدم حياته العظيمة، حتى جاءت بعض مخاصمات من قبل أوفيائه أنفسهم تزيد على تعسه وبؤسه. قال لاس كاز: تمكنت الفتنة من الانسلال بين أبطال الأمانة الذين جاءوا يشاطرون الإمبراطور نفيه وليالي شؤمه، حتى إن اثنين من هؤلاء صحت عزيمتهما على البراز يوما، فبلغ نابوليون ذلك، فجمع حاشيته وقال لها: «يجب أن تكونوا هنا عائلة واحدة، لقد تبعتموني لتخففوا من آلامي، إذن فكونوا جميعكم إخوة أو تصبحوا في نظري مؤلمين! تريدون أن تجعلوني سعيدا فكونوا إخوة أو تصبحوا في نظري عقوبة وعذابا! تريدون أن تتقاتلوا تحت نظري! ألم أعد غاية عنايتكم؟ ألا ترون أنظار الغرباء شاخصة إلينا؟ أريد أن تشربوا جميعكم من روحي ... أريد أن أرى جميع من يحيط بي سعداء، حتى عمانوئيل الصغير الذي ترونه أمامكم ...»
كان الإمبراطور يشعر بأن صحته أصبحت تتطلب عناية كبيرة، فأراد ذات يوم أن يستشير الطبيب «أوميارا»،
5
ليعلم منه إذا كانت وزارته ترضى بأن تجعله طبيب الحكومة الإنكليزية لدى نابوليون، فنزل الطبيب عند مشيئته بكل طيبة خاطر، وقال له إنه أصبح من الآن فصاعدا طبيب نابوليون.
بعد أن دعا الحاكم من غير جدوى «الجنرال بونابرت» ليتناول الغداء على مائدته، اتجه إلى لونكوود، في منتصف شهر أيار؛ ليخبر أسيره بأن قصر الأخشاب قد وصل؛ أما نابوليون فاستقبله استقبالا سيئا جدا، وصرح له بأن الأميرال، بالرغم من بعض مخالفات، قد استحق ثقته به وأن خلفه لن يوحي إليه مثلها. هذا التوبيخ جرح السير هدسن، فأجاب أنه لم يجئ ليتلقى دروسا، فقال له نابوليون: «لقد قلت يا حضرة السيد بأن التعليمات التي جاءتك أكثر هولا من تعليمات الأميرال، فهل هي تقضي أن أموت بالحديد أم بالسم؟ إني لأتوقع كل شيء من وزرائك، وها أنذا أنفذ الحكم في ضحيتك! لا أفهم كيف تستعمل السم، أما الحديد فقد وجدت له وسيلة! إذا حدثتك نفسك يوما بأن تخرق حرمة داخلية بيتي، فاعلم، أن الثالثة والخمسين الباسلة
6
لن تدخله إلا على جثتي!»
كان هدسن لوو يخشى أن لا ينتبه الإمبراطور أنه أسير في لونكوود، فأخذ كل يوم يذكره ذلك ببعض إهانات جديدة؛ أمسك أولا الرسائل التي ترده من أوروبا، وإن كانت قد أتت مفضوضة ومن طريق غير مشبوهة، زاعما أنها لم تمر تحت نظر المراقبة، ثم نظر في نفقات الإمبراطور فرأى أن عدد الأوفياء، الذين لم يريدوا أن يفترقوا عن سيدهم، إنما هو كبير جدا، حتى إن الإمبراطور، الذي صرف حياته أمام فوهات المدافع، لم يجد بدا من الاستسلام إلى الملل وصحت عزيمته على أن لا يغادر غرفته إلا ليزور مدام ده مونتولون في بيتها.
كان لهذه السيدة ولد في السابعة أو الثامنة من عمره يدعى تريستان، فحلا للإمبراطور أن يسمع منه أمثولاته يتلوها غيبا، ولما اعترف له الولد بأنه لا يدرس كل يوم قال له نابوليون: «ألا تأكل كل يوم؟» فأجابه مونتولون الصغير: «بلى يا مولاي.» - إذن فيجب عليك أن تشتغل كل يوم، إن من لا يشتغل لا ينبغي له أن يأكل. - إذن فسأشتغل كل يوم.
فضحك نابوليون وضرب بيده على بطن تريستان قائلا: «هو ذا نفوذ البطن الصغير، هو الجوع، هو البطن الصغير الذي يحرك العالم.»
وكانت عائلة بالكومب تزور نابوليون من وقت إلى آخر، فيظهر لها كثيرا من العطف والاحترام. لم يكن سيد الحروب يخشى على رزانته وشهرته الخالدة أن تضئلهما مجاراة الناس في تسليتهم، فكان يحلو له أن يصرف بعض ساعات في تعليم إحدى أوانس عائلة بالكومب لعبة «البلياردو». كما كان يحلو له، وهو في بريار، أن يشترك مع بعض الشابات في لعبة «الكولن مايار.»
قدمت بعثة من مفوضي السلطات الأوروبية إلى سنت هيلين، ورغبت في مقابلة نابوليون، إلا أن الإمبراطور رفض مقابلة مفوضي الحلفاء، قائلا للأميرال مالكولم، الذي قدم إلى لونكوود ليستأذنه بقبول هؤلاء المفوضين: «كلانا رجل يا حضرة السيد، وإني لآخذ رأيك. أترى من الحكمة أن أستقبل في بيتي مفوض إمبراطور النمسا، الذي تزوجت من ابنته بعد أن تمنى هذا الزواج ساجدا، والذي أرجعت إليه عاصمته مرتين متواليتين، أمن الحكمة أن أستقبل مفوضه الذي لا يحمل إلي سطرا واحدا ينبئ به عن صحة ولدي؟ وهل من الحكمة أيضا أن أستقبل مفوض الإسكندر الذي تمجد بصداقتي، والذي لم تقع بيننا سوى حروب سياسية لا دخل لها بالشخصيات؟ ألم يكن حريا بجميع هؤلاء الملوك أن يحفظوا في صدورهم ذرة من القلب؟»
إلا أن كلمات التوبيخ التي ما فتئ الإمبراطور يوجهها إلى هدسن لوو، ما لبثت أن أدبت السم في أحقاد هذا الحاكم، وضاعفت مظالم حراسته. ذات يوم أرسل السيد هوبهوز إلى الإمبراطور كتابا وضعه في حوادث الأيام المائة، وقد كتب عليه «إلى نابوليون الكبير!» فحجز الحاكم هذا المؤلف زاعما أن الكاتب أساء فيه إلى كستليراغ، وبعد أيام قلائل تجاسر أن يمثل أمام الإمبراطور الذي كان يتنزه في حديقته، وحاول أن يبرئ نفسه أمامه؛ إلا أن نابوليون، الذي ضاعف كلام الحاكم سخطه، قال له بحضور الأميرال نفسه ما يلي: «إنك لم تقد يوما من الأيام إلا شرذمات من المتشردين الخائنين والسفلة الأنذال! وإني أعرف أسماء جميع القواد الإنكليز الذين أبلوا بلاء حسنا، سوى أنني لم أسمع باسمك مرة إلا ممهورا بلقب قائد لصوص! إنك لم تقد رجالا شرفاء يوما من الأيام، ولم يتح لك أن تتعود الحياة معهم!» فأجابه السير هدسن بأنه لم يسع وراء المهمة التي عهدت إليه، فاستطرد نابوليون قائلا: «إن مثل هذه المراكز لا يسعى وراءها؛ إذ إن الحكومات تمنحها للذين يتقذرون!» عند هذا أعلن الحاكم لأسيره أن الحكومة الإنكليزية تصر بشدة على تخفيض نفقات لونكوود، فأجابه الإمبراطور: «لا ترسل إلي شيئا لغذائي، إذا شئت، فأذهب أتغدى على مائدة ضباط الثالثة والخمسين البسلاء، إني واثق من أني لا أجد بينهم من لا يرى نفسه سعيدا بإخلاء مركز لجندي قديم. اغرب من وجهي، ولا تمثل أمامي إلا عندما تصحب إلي أمرا بموتي، فتجد الأبواب جميعها مفتوحة في وجهك!»
عندما اتضح لهدسن لوو أنه أصبح عنوان الاحتقار في نظر نابوليون وجميع الفرنسيين في لونكوود، صحت عزيمته على إشراك الإنكليزيين في سنت هيلين بالموقف العدائي الذي يظهره نابوليون وأتباعه؛ فأخذ يشيع أن الأسير الفرنسي إنما يقصد بموقفه هذا أن يحتقر الأمة الإنكليزية، وأن هذا الاحتقار يشمل ضباط الفرقة الثالثة والخمسين بأسرها، ولما بلغت الإمبراطور هذه الإشاعة المختلفة، طلب إليه أكبر هؤلاء الضباط سنا، وهو الكبيتان بوينتون، وأخبره أن ما يدعيه الحاكم إنما هو افتراء محض، ثم استطرد قائلا: «لست امرأة مسنة، فأنا أحب الجندي الباسل الذي تعمد بالنار من أية أمة كان!»
بعد أن حاول السير هدسن لوو، من غير جدوى، أن يبرئ نفسه أمام نابوليون، لم يجد بدا من الالتجاء إلى إهانات جديدة، فطلب إليه الدكتور أوميارا، وقال له بعنف: «قل للجنرال بونابرت إنه من الواجب عليه أن يلطف تصرفاته معي، وإلا يضطرني إلى استعمال طرق جديدة.» ثم عزا إلى نابوليون موت الملايين من الناس، واستطرد قائلا: «إني أعتبر علي باشا السفاح أدعى إلى الاحترام من بونابرت.» ولكي ينفذ هدسن لوو تهديداته الشديدة عدل نفقات لونكوود تعديلا كبيرا، حتى إن نابوليون وجد ذات يوم أن الضروريات قد نقصت كثيرا على مائدة أتباعه، إلى درجة، أنه كاد ذات مرة لا يجد على مائدتهم ما يأكلونه. منذ ذلك الوقت أمر بأن يباع قسم من أوانيه الفضية؛ ليعوض بثمنها، ما كان يجتزئه الحاكم الظالم. أما هدسن لوو، الذي ساءه أنه دفع الإمبراطور إلى بيع أوانيه الفضية ليعيش، فلقد أراد أن يستفيد من هذه السانحة ليخترع طريقة جديدة في الإساءة إلى أسيره. كان هناك مشترون يتسابقون إلى الحصول على شيء من ممتلكات الرجل العظيم، حتى ارتفع سعر الصحن إلى مائة جنيه، فصور للحاكم أن يصدر أمرا يقضي بأن لا يباع شيء من هذه الأواني إلا للشخص الذي يعينه هو، إلا أن الإمبراطور قد فكر، من جهته، في إيقاف هذه المسابقة، وأمر بأن تحذف عن الآنية الفضية أية إشارة تدل على أنها صادرة عن بيته.
كانت هذه الغموم اليومية من أشد العوامل في إضعاف صحة الإمبراطور وتغيير ملامحه الطبيعية، إلا أن هذا الضعف لم يمنعه من مواصلة أعماله العقلية التي باشرها منذ وصوله إلى الجزيرة. ففي اليوم نفسه، الذي حاول فيه هدسن لوو أن يزعجه بإصدار الأمر المتعلق بالآنية الفضية، أملى على الجنرال غوركو موقعة مارنغو، وقرأ لاس كاز موقعة أركول التي كان أملاها قبل مدة.
ذات يوم قدم الكولونيل رياد إلى لونكوود، وطلب أن يمثل أمام الإمبراطور. كان يحمل مذكرة ضمنها السير هدسن مطاليب جديدة؛ وهذا ما جاء فيها: «على الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء مع الجنرال بونابرت أن ينزلوا عند جميع الأوامر التي تلقى عليه ، من غير أن يعترضوا على واحد منها، أما الذين يرفضون فيرسلون حالا إلى رأس الرجاء الصالح. كل من يسمح لنفسه بأن ينهج نهجا سيئا مع الحاكم أو الحكومة، يرسل حالا إلى رأس الرجاء الصالح، حيث لن يؤذن له بالعودة إلى أوروبا.» فلما قرأ الإمبراطور هذه المذكرة المجحفة التي أصدرها سجانه قال: «أفضل أن يذهب الجميع، على أن أرى حولي أربعة رجال أو خمسة مضطربين دائما أو مهددين في كل آونة بالإبحار عنوة. ألا فليطرد جميع الناس، وليضع خفراء على الأبواب والنوافذ، وليمنع عني حتى الخبز والماء، فلا يهمني كل ذلك. إن روحي حرة، وقلبي حر كما لو كنت في أوروبا أسن لها الشرائع.» على أننا لم نذكر جميع الأوامر التي أراد هدسن لوو أن ينزل الإمبراطور عندها، فلقد صرح فوق ذلك بأنه محظر على نابوليون أن يلج أي بيت كان، أو أن يتحدث مع أحد يصادفه في نزهاته، التي يقوم بها على ظهر جواده أو مشيا على الأقدام. وزاد على تصريحه هذا تصريحا آخر ينطوي، على أن الأوامر التي وضعت «للجنرال بونابرت»، تشمل جميع حاشيته.
قال نابوليون في إحدى شكاياته: «إنهم يختصرون حياتي بإغضابهم إياي!» ولقد أصاب في قوله؛ إذ إن الحمى بدأت تستولي عليه وتتمكن منه يوما بعد يوم، إلا أن رفاقه في أيام الشؤم رفضوا جميعهم مغادرته، بالرغم من شدة الشروط التي وضعها هدسن لوو سوى أن الإمبراطور طلب أن يوضع حد لهذه التهديدات اليومية بأن يذعن رفاقه إلى الذهاب لرأس الرجاء الصالح؛ أما هم فأصروا على البقاء إصرارا اضطر الإمبراطور أن يلزم الصمت.
في أواخر شهر تشرين الثاني سنة 1816 أصدر هدسن لوو أمرا بإبعاد لاس كاز إلى الرأس. أما لاس كاز، فبعد أن بقي مدة في رأس الرجاء الصالح، منح أمرا بالذهاب إلى أوروبا حيث قاسى كثيرا من الاضطهادات.
الفصل الرابع والعشرون
إن من البديهي أن حاشية نابوليون كانت تزعج منفذ مآرب «العصبة المقدسة»،
1
فلذلك أراد هدسن لوو أن لا تلطف غيرة الأوفياء وتعزيتهم عذابات الرجل الكبير وآلامه البطيئة، فأصدر أمره بإبعاد لاس كاز، وأخذ يحاول تنحية الطبيب أوميارا. قال له ذات يوم: «إني أرتاب بك!» ثم كتب إلى أوندرا ليؤذن له بإبعاد أوميارا عن سنت هيلين؛ إلا أن هذا الطبيب المخلص بقي يقتحم شبهة الحاكم، ولم يفتأ يزور مريضه العظيم موفرا له، ليس نجدة فنه فحسب، بل جميع وسائل التعزية التي أتيح له أن يبديها.
في السادس عشر من شهر أيار 1818 استلم الدكتور أوميارا كتابا من الليوتنان كولونيل إدوار وينيار يقول له فيه باسم هدسن لوو إن الكونت باثورست، أحد الوزراء الإنكليز، أصدر أمرا يقضي عليه بأن يكف عن ملازمة الجنرال بونابرت. قال أوميارا: «كانت الإنسانية، وواجبات مهنتي، وحالة نابوليون الصحية، تمنعني من النزول عند هذه الأوامر الوحشية ...» إلا أنه ما لبث أن رضخ مرغما، ولكنه أسرع بإعطاء مريضه التعليمات الطبية التي كان من الواجب أن يستعملها بعد سفره. أما نابوليون، فلما انتهى أوميارا من إعطاء تعليماته قال له بحدة: «عندما تصل إلى أوروبا تذهب بنفسك إلى شقيقي جوزيف، وتقول له إنني أرغب في أن يعطيك الرزمة المحتوية على الرسائل الخصوصية التي كتبها إلى الإمبراطور إسكندر وفرنسوا، وملك بروسيا وسائر أمراء أوروبا والتي سلمته إياها في روشفور، ثم تنشرها لتظهر عار هؤلاء الأمراء، وتكشف للعالم عن التوسلات الدنيئة التي كان يبديها لي هؤلاء التبعة عندما كانوا يطلبون إلي أن أبقي لهم عروشهم عندما كنت قويا؛ لما كانت السلطة في قبضة يدي كانوا يسعون إلى نيل حمايتي، وشرف الاتحاد معي، ويلعقون غبار قدمي. أما الآن، وقد أصبحت مسنا، فإنهم يظلمونني بخساسة وجبن ويفصلونني عن امرأتي وولدي. أرجو منك أن تقوم بما أعهد به إليك، وإذا قرأت افتراءات مصوبة إلي فلا تتأخر عن تكذيبها.»
بعد ذلك أملى الإمبراطور رسالة على الكونت برتوان، ذيلها بحاشية كتبها بيده، أوصى فيها ماري لويز بالدكتور أوميارا، ثم كلف الدكتور بأن يطلع أقرباءه على حالته. قال: «ستعبر لهم عما أحفظه لهم من الشواعر والمحبة ، كن ترجمان عاطفتي وإخلاصي لدى لويز المحبوبة ووالدتي المخلصة وبولين. إذا رأيت ولدي عانقه عني، وقل له: لا ينس أنه ولد أميرا فرنسيا! وأخيرا اجتهد في أن ترسل إلي معلومات صحية عن الطريقة التي يتعهدون بها ولدي.» قال ذلك وأخذ يد الدكتور وعانقه قائلا: «وداعا يا أوميارا، هي المرة الأخيرة التي أراك فيها. عش سعيدا!»
لم يكد أوميارا يغادر سنت هيلين، حتى اضطر غوركو بدوره أن يغادر هذه الجزيرة المؤذية بهوائها الرديء؛ ليوقف مجرى الداء الذي كان ينتهش جسده منذ زمن طويل، فعندما وصل الجنرال إلى أوروبا أذاع نبأ اشتداد المرض على الإمبراطور، فأسفت أسرة الرجل العظيم وحل بها حزن أليم، لا سيما أمه التي عندما علمت أن ولدها، الذي كان سبب سعادتها ومجدها، قد حرم طبيبا يتعهده في مرضه المميت جرحت في صميمها، ونفذ الألم إلى أعمق أعماقها، فطلبت إلى شقيقها الكردينال فيش أن يذهب إلى اللورد باثورست ويستدرجه لإرسال الطبيب أنتومرشي إلى سنت هيلين، فنجحت مساعي الكردينال لدى الوزير الإنكليزي، وما عتم الأمر أن أصدر الوزير أمرا بإرسال أنتومرشي مع كاهن ورجلين آخرين.
في الثامن عشر من شهر أيلول سنة 1819 وصل الطبيب أنتومرشي إلى سنت هيلين، إلا أن نابوليون، الذي لم يكن قد علم بوصول طبيبه الجديد لا من الكردينال فيش ولا من أحد غيره، تردد أولا باستقباله لأن كل من كان يجيئه من إنكلترا أو من قبل الوزارة الإنكليزية كان يوحي إليه مقتا شديدا؛ سوى أن أنتومرشي ما لبث أن بدد شكوك نابوليون لدى المقابلة الأولى. قال الإمبراطور لطبيبه الجديد: «إنك كورسكي، وهذه هي النظرة الوحيدة التي أنقذتك.» ثم صرف الطبيب من عنده، وما هي إلا هنيهة حتى طلبه الإمبراطور، وقال له: قل لي يا دكتور ماذا تظن؟ أتراني أقلق طويلا بعد خواطر الملوك؟
فأجابه أنتومرشي: ستعيش طويلا بعدهم يا مولاي. - أعتقد ذلك، فلن يستطيعوا أن ينفوا من أوروبا دوي انتصاراتنا، فسيجتاز العصور مصرحا بأسماء القاهرين والمقهورين، بالذين كانوا كرماء وبالذين لم يكونوا، وستقف الأجيال حكما بيننا ! - ولكنك لم تصل إلى نهاية حياتك يا مولاي، فلا يزال أمامك وقت طويل بعد. - لا، يا دكتور، فالمأرب الإنكليزي قد تم، ولا إخالني سأذهب بعيدا تحت هذه السماء الرديئة.
وبعد هنيهة استطرد قائلا: لقد حرمت نجدة الطب منذ أكثر من سنة، فكأن الجلاد رأى احتضاري بطيئا فأراد أن يعجله، لقد كنت حليما نحو الجميع، إلا أن الجميع خانوني، وغدروا بي، وصقلوا حديد قيودي.
بقي أنتومرشي ثمانية عشر شهرا يقاوم، بكل ما أوتيه من الخبرة الطبية والغيرة الروحية، استفحال داء عضال ملأ سجن لونكوود حزنا وحدادا، ولقد لاحظ قبل الساعة المشئومة أن عنايته ومساعيه تذهب أدراج الرياح؛ ففي منتصف شهر آذار عام 1821 كتب إلى الشفاليه كولونه، وهو حاجب السيدة ليتيسيا والدة نابوليون، رسالة يتنبأ له فيها عن نكبة قريبة جاء فيها: «إن الجرائد الإنكليزية تذكر دائما أن صحة الإمبراطور حسنة، فلا تصدق، وستبدي لك النكبة القريبة أن ما يذكرونه خطأ مبين.»
بعد مرور بضعة أيام قال نابوليون لأنتومرشي: لقد دنت الساعة يا دكتور، بالرغم من عقاقيرك، أفلا تصدق؟
فأجابه الطبيب: أقل من كل يوم. - حسنا، أقل من كل يوم! وهذا ضرب من التكتم الطبي. أي تأثير سيحدث موتي في أوروبا يا ترى؟ - لن يحدث تأثيرا قط يا مولاي. - أبدا؟ - لا؛ لأنه لن يحصل. - وإذا حصل؟ - إذن، يا مولاي، إذن ... - قل ... - إن جلالتك إنما هي معبودة البسلاء، فسيشملهم الحزن من جميع أطرافهم. - والشعوب؟ - تصبح تحت تصرف الملوك، وتمسي القضية الشعبية وقد خسرت إلى الأبد. - إلى الأبد يا دكتور! وولدي! أتظن ... - لا يا مولاي، لا، فإن هناك مسافة طويلة يجب أن تجتاز! - أهي أطول من التي اجتزتها؟ - وهناك عراقيل عديدة يجب أن تخترق! - ليست أكثر عددا من التي اخترقتها! إنه ليحمل اسمي يا دكتور! وإني لأترك مجدي وشعور أصدقائي، فهو ليس بحاجة إلى أكثر من ذلك ليجمع ميراثا.
قال أنتومرشي في نفسه: «إن كلامه هذا إنما هو هذيان والد في ساعة الاحتضار!» ولم يصر طويلا على تبديد هذا الوهم.
في التاسع عشر من شهر نيسان أعلن نابوليون بنفسه عن ساعته الأخيرة لأصدقائه ، الذين كانوا يظنونه قد تقدم إلى العافية، قال: «إنكم لم تخطئوا فأنا اليوم أعفى مني قبلا؛ ولكني أشعر بدنو أجلي، عندما أموت يعود كل منكم إلى أوروبا حيث يشاهد بعضكم أهله والآخر أصدقاءه، أما أنا فسأرى بسلائي في الشنزاليزه. أجل، سيخف إلى ملاقاتي كليبر، دوزه، باسيير، دوروك، ناي، مورات، ماسينا وبرتيه، وسيحدثونني عن الأعمال التي قمنا بها معا. سأطلعهم على الحوادث الأخيرة التي طرأت علي في حياتي، وعندما يرونني تدب فيهم حماسة المجد! أجل، سنتحدث معا عن حروبنا مع السيبيون والأنيبال والقيصر والفردريك! وسنطرب لهذه التذكارات!» ثم استطرد ضاحكا: «بشرط ألا يخافوا هناك مشهد تجمع هؤلاء المحاربين في مكان واحد.» وبعد هنيهة قال للدكتور أرنولت الذي كان إلى جنبه: «لقد كان من الواجب أن يسجنني وزراؤك بين أربعة حواجز في هواء قذر كهذا الهواء، أنا الذي اجتاز أوروبا على جواده! لقد قتلتموني مطولا، وكان هدسن الخسيس منفذ وزارتك! إنني لألقي، وأنا أموت على هذه الصخرة الموحشة، عار موتي وخزيه على الأسرة المالكة في إنكلترا!» وفي الواحد والعشرين من الشهر أحس نابوليون باشتداد الحمى، وأدرك أنه يسرع إلى الموت، فطلب أن يحضر إليه الكاهن فينيالي وقال له: «لقد ولدت في الدين الكاثوليكي وأريد أن أتمم الواجبات التي يفرضها.»
قال الدكتور أنتورمرشي: لا أعلم أية حركة فاجأها إذ ذاك على وجهي فساءته، فقال لي: أتستطيع أن تذهب بإلحادك إلى هذا الحد؟ أتقدر أن لا تؤمن بالله؟ بيد أن كل شيء يثبت وجوده، فضلا عن الأدمغة الكبيرة قد آمنت به. قال أنتومرشي: فأجبته أنني لم أشك يوما في وجوده، وأن جلالته قد أخطأ في تصفح وجهي. فأجاب نابوليون مبتسما: إنك طبيب يا دكتور. ثم زاد بصوت منخفض: «هؤلاء القوم لا «يخضخضون» إلا المادة فلا يصدقون شيئا.»
كان الإمبراطور لا يزال يرى نفسه، على ما هو عليه من الهزال المستمر، قادرا على النهوض من فراشه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يشأ أن يحمله أحد من أوفيائه، فقال لهم ذات يوم، وقد حاولوا أن يحملوه من غرفته التي أراد أن ينتقل منها إلى غرفة أخرى أطلق هواء: «لا، بل عندما أموت، أما الآن فيكفي أن تساعدوني.» وذات يوم طلب إليه الدكتور أنتومرشي، وقال له بسكون تام: «بعد موتي، الذي قرب كثيرا، أريد أن تشرح جثتي وألا تسمح لطبيب إنكليزي بأن يمد يدا إليها. أما إذا احتجت إلى مساعد، وكان لا بد منه، فالطبيب أرنولت هو وحده الذي يؤذن له بمساعدتك. أرغب إليك أن تأخذ قلبي فتضعه في روح الخمر، وتذهب إلى حبيبتي ماري لويز في بارم. ستقول لها: إنني أحببتها كثيرا ولم أقف يوما عن حبي إياها، وتطلعها على جميع ما شاهدت وجميع ما يتعلق بحالتي وبموتي، ثم إني أوصيك بأن تفحص معدتي فحصا مدققا، وتكتب عنها شهادة صريحة، مطولة، تسلمها إلى ولدي ... فالتقيؤ المتواصل يجعلني أعتقد أن المعدة، هي العضو الأكثر مرضا من جميع أعضائي، ولا يبعد أن تكون مصابة بالداء نفسه الذي حمل والدي إلى القبر، أريد أن أعني أنها مصابة بورم.
عندما أموت تذهب إلى روما، حيث تشاهد والدتي وجميع أسرتي؛ ستطلعهم على جميع ما لاحظت في ما يتعلق بحالتي، بمرضي وبموتي على هذه الصخرة الموحشة! ستقول لهم إن نابوليون الكبير قد أطلق أواخر أنفاسه في أشد حالة من حالات البؤس، محروما من كل شيء إلا من مجده، ستقول لهم إنه ألقى، وهو يموت، عار ساعته الأخيرة على جميع الأسر المالكة.»
إلا أن الهذيان ما لبث أن أقبل يشترك مع الحمى، فكأن ذلك الذكاء الغريب، الذي ظهر في العالم كأنه مشتق من الذكاء الإلهي، خضع لشرائع البشر. صرخ نابوليون في نزوة من نزوات الهذيان قائلا: «ستنجل، دوزه، ماسينا! آه! إن النصر قد تحقق! هيوا! أسرعوا! إلى الهجوم!» ثم قفز إلى الحضيض وأراد أن يخرج إلى الحديقة، فسقط إلى الوراء، في حين كان أنتومرشي مسرعا لأخذه بين ذراعيه. ولما سكنت سورة الهذيان وخفت وطأة الحمى، ظهر الرجل العظيم بهدوئه المعتاد وقال لأنتومرشي : «تذكر ما عهدت به إليك عندما أموت. افحص جثتي فحصا مدققا، ولا سيما المعدة، فلقد قال لي أطباء مونبللييه: إن الورم سيكون وراثيا في أسرتي ... يجب أن أنقذ ابني، على الأقل، من هذا المرض العضال. ستشاهده يا دكتور، وتقول له ماذا يجب أن يعمل، هذا آخر رجاء أنتظره منك.» وفي الثاني من شهر أيار، ظهرا، عاودته الحمى فقال لطبيبه مطلقا تنهدة عميقة: «أشعر بألم يا دكتور، فسأموت!» ولم يكد يتلفظ بهذه الكلمات، حتى فقد الرشد.
كان الكاهن فينيالي ينتظر كلمة من الإمبراطور ليقوم بواجبه الكهنوتي، فهذه الكلمة خرجت من شفتي الرجل العظيم في الساعة الثانية من بعد ظهر الثالث من شهر أيار. كانت الحمى قد سكنت قليلا، فأخرج جميع الناس من غرفة نابوليون، إلا الكاهن الذي ناوله القربان المقدس.
وبعد مرور ساعة زادت الحمى، إلا أن المريض بقي محتفظا بحواسه فأوصى القواد برتران ومونتولون ومرشان بألا يسمحوا لطبيب إنكليزي إلا الدكتور أرنولت أن يدنو منه ساعة يفقد الرشد، ثم قال لهم: «لقد دنت ساعة موتي، ولكن لدي ما أوصيكم به قبل فراقي الحياة. كما أنكم شاطرتموني النفي، هكذا ستكونون أمناء على اسمي فلا تفعلون شيئا يجرحه. لقد أثبت جميع المبادئ، وأنزلتها في شرائعي وأعمالي، إلا أن الظروف كانت صارمة لسوء البخت، فحرمت فرنسا من التعاليم الحرة التي هيأتها لها. كونوا أمناء على الأفكار التي دافعنا عنها والمجد الذي اكتسبناه، فما خارج ذلك إلا العار والمقت!»
وفي الليلة التالية هبت زوبعة هائلة في سنت هيلين فاقتلعت جميع أشجار لونكوود، ولم تبق على الصفصافة المحبوبة، التي كان ظلها العميق يحجب عن نابوليون حرارة الشمس في نزهاته اليومية.
في الرابع من شهر أيار كان الإمبراطور يواصل نزعه، وفي اليوم التالي، عند بزوغ الفجر، كان جسده يبشر بأن الروح تفارقه، وقد بدأ يثلج شيئا فشيئا، إلا أنه لا يزال يتنفس، ولا يتلفظ في هذيانه بسوى هاتين الكلمتين: «رأس ... جيش»، دنت الساعة الرهيبة، وقرب تنفيذ «المأرب الإنكليزي»، وستهتز أوروبا القديمة! إن بطل فرنسا الفتاة يلامس نهاية حياته العجيبة، فهو على وشك أن يطلق آخر نفس من أنفاسه، وهدسن لوو هو هنا يرقب أنفاسه، وقد عيل صبره؛ ليعلن إلى الأريستوقراطيين والملوك والمتسلطين أن واجبه قد تمم إلى النهاية، وأن الضحية قد حصلت.
إلا أن مشهدا يمزق الفؤاد جاء يسم ساعات البطل الأخيرة؛ فإن السيدة برتران، وهي مريضة أيضا، قد نسيت آلامها الشخصية وجاءت تحضر موت نابوليون، صاحبة معها ابنتها وأبناءها الثلاثة، الذين رغبوا في مشاهدة ملامح الرجل العظيم للمرة الأخيرة. عندما وصل هؤلاء الأولاد إلى سرير الإمبراطور تراموا عليه، مقبلين يده، ومرطبيها بالدموع، أما برتران الصغير، وهو أحد الأبناء الثلاثة، فقد أغمي عليه من شدة الألم. في تلك الساعة كان الجميع في حالة من الحزن لا توصف، ولم يكن يسمع إلا تنهدات وشهقات ... إن حادثا خطيرا يتهيأ للعالم ... في الساعة السادسة إلا الدقيقة الحادية عشرة فاضت روح نابوليون.
بعد أن شرحت جثة الإمبراطور، وضعت على سرير هناك، وغطيت بالوشاح الأزرق الذي كان البطل يرتديه في معركة مارنغو. بقي سكان الجزيرة مدة يومين متألبين حول ذلك الكفن المجيد؛ ولما نقل رفات الرجل العظيم، أخذ الجميع يتسابقون للحصول على كل شيء لامسته يده ليجعلوه ذخيرة ثمينة.
كان الثامن من شهر أيار ميعاد جنازة نابوليون، فدفن في مكان يبعد فرسخا عن لونكوود. أما قبره فأصبح، منذ اليوم الأول، قبلة التعظيم والإكرام، إلا أن هدسن لوو، عنصر الأحقاد التي كان عليها أن تتبع ابن الثورة الفرنسية العظيم إلى ما وراء القبر، لم يجد مفيضا من استشعار السخط لدى هذا المشهد، فوضع حول القبر حرسا دائما ليمنع أيا كان عن الدنو منه، ولكن مقر البطل الأخير لم يفرغ من الزوار، بالرغم من الاحتياطات التي اتخذت له.
سوى أن مدفن نابوليون في سنت هيلين لم يكن إلا وقتيا، فلقد قال نابوليون في إحدى وصياته المؤرخة في السادس عشر من نيسان سنة 1821: «أرغب أن يستريح رفاتي على شواطئ السين، في وسط ذلك الشعب الفرنسي الذي كثيرا ما أحببته.» ولكن، لكي تتحقق أمنية الرجل الكبير، كان من الواجب على الشعب الفرنسي أن يهز نير البوربونيين وأن تنعتق حكومته من النفوذ الأجنبي.
عندما انتهى إلى أوروبا دوي هذا الموت رفض الشعب أن يصدق؛ إذ إن فكرة الخلود كانت متحدة باسم نابوليون، إلى درجة أن الشعب لم يكن يرى فيه عنصرا من عناصر الفناء، وكان ينظر إلى حياته كأنما هي عير منفصلة عن مجده. أجل، إن الخوف الذي استولى على ملوك أوروبا القديمة بقي مستمرا في إقلاق مجالسها، وطعن رفات الرجل العظيم بالاضطهادات التي أثقلت على كاهله في حياته، كأن الذراع الرهيبة، التي قلبت كثيرا من العروش، لا تزال تستطيع أن تحرك الأمم من أعماق القبر. •••
مر تسع عشرة سنة على رقاد نابوليون في سنت هيلين، بالرغم من مطالبة الشعب بنقل رفاته إلى فرنسا؛ إذ إن المجالس كانت تخشى أن تضاعف قلق السلطة الجديدة، إذا هي أرجعت صورة نابوليون إلى وسط العواصف التي كانت تزعج الأسرة الأورليانية في فرنسا.
في أواخر شهر أيار سنة 1840، بعد مذاكرة شفهية جرت بين المسيو تيير واللورد غرانفيل، كتب المسيو غيزو، سفير الدولة الفرنسية في لوندرة إلى الفيكونت بلمارستون ما يلي:
إن الواضع اسمه أدناه، السفير المفوض من لدن جلالة ملك الفرنسيين، وفقا للتعليمات التي أعطيها من قبل حكومته، يتشرف بأن يطلع سمو وزير خارجية جلالة ملكة بريطانيا العظمى وإيرلندة، على أن الملك يرغب من صميم قلبه، أن ينقل رفات نابوليون إلى فرنسا ليستريح في الأرض التي دافع عنها ومجدها، والتي تحفظ باحترام كلي بقايا الكثيرين من رفاقه في الحروب الذين أخلصوا الخدمة لوطنهم، كما أخلصها هو.
إن الواضع اسمه أدناه، له ملء الثقة بأن حكومة الجلالة البريطانية لا ترى في رغبة جلالة ملك الفرنسيين إلا عاطفة أكيدة صالحة، وتسرع بإعطاء الأوامر اللازمة لنقل بقايا نابوليون من سنت هيلين إلى فرنسا ...
الإمضاء: غيزو
فأجابه اللود بللماريستون، الذي كان اللورد غرانفيل قد سبق له أن خاطبه في هذا الشأن بأن أرسل إليه نسخة البرقية التالية التي وجهها إلى السفير الإنكليزي في باريس :
من الفيكونت بللماريستون إلى الكونت غرانفيل
ميلورد، لقد احترمت حكومة جلالتها طلب الحكومة الفرنسية نقل رفات نابوليون بونابرت من سنت هيلين إلى فرنسا، فتستطيعون أن تؤكدوا للمسيو تيير أن حكومة جلالتها ترغب إلى فرنسا في أن تعتبر هذه السرعة، التي نعطي بها جوابنا هذا، كشهادة لرغبة الجلالة البريطانية في إخماد تلك الأحقاد الوطنية التي حكمت العداء بين الأمتين مدة حياة الإمبراطور، ثم إن حكومة الجلالة البريطانية لها ملء الثقة بأنه، إذا كان هناك باقيا أثر لتلك الأحقاد، فيجب أن يدفن في الضريح الذي سيضم رفات نابوليون، إن حكومة الجلالة البريطانية والحكومة الفرنسية تتخذان معا الاستعدادات اللازمة لنقل رفاته.
الإمضاء: بللماريستون
أسرع اللورد غرانفيل بإطلاع المسيو تيير على البرقية التي استلمها من لوندرة، فلما وثقت الحكومة الفرنسية من صحة عزيمة الوزارة الإنكليزية أسرعت بإطلاع المجالس على الخطة الوطنية الصرفة التي اتخذتها؛ ففي الثاني عشر من شهر أيار صعد المسيو ده ريموزا، وزير الخارجية، إلى المنبر ولفظ هذه الكلمات: لقد أمر الملك سمو الأمير الملكي البرنس ده جوانفيل، بأن يتجه بباخرته إلى جزيرة سنت هيلين ليحضر رفات الإمبراطور نابوليون.
ولقد جئنا نسألكم أن تهيئوا الأسباب اللازمة لاستقبالها بجدارة وإكرام في أرض فرنسا، وتشييد ضريح أخير لنابوليون. إن الحكومة، التي رغبت من صميم قلبها في تتميم واجب وطني، قد وجهت إلى إنكلترا طلبها الوديعة الثمينة التي ألقتها الحظوظ في قبضة يدها، ولم تكد مشيئة فرنسا تعبر عن فكرتها حتى نالت أمنيتها، وإليكم كلمات حليفتنا النبيلة: «إن حكومة الجلالة البريطانية ترغب إلى فرنسا أن تعتبر هذه السرعة، التي نعطي بها جوابنا هذا، كشهادة لرغبة الجلالة البريطانية في إخماد تلك الأحقاد الوطنية التي حكمت العداء بين الأمتين؛ فرنسا وإنكلترا، مدة حياة الإمبراطور، ثم إن حكومة الجلالة البريطانية لها ملء الثقة بأنه، إذا كان باقيا هناك أثر لتلك الأحقاد، فيجب أن يدفن في الضريح الذي سيضم رفات نابوليون.
إن إنكلترا مصيبة، أيها الأسياد، فهذا الإصلاح الشريف يوثق عري الاتحاد الذي يجمعنا، ويحجب آثار الماضي الأليم. لقد دنا الوقت الذي يجب فيه على الأمتين ألا تتذكرا إلا مجدهما. ستتجه البارجة، المعهود إليها بنقل رفات نابوليون، إلى مصب السين، حيث تقف أمام بارجة أخرى يعهد إليها بنقل الرفات إلى باريس، فستوضع في الأنفليد حيث تقام لها رتبة دينية فخمة وأبهة عسكرية حرية بها.
إن من حق تلك الذكرى الجليلة، أيها الأسياد، أن لا يعرض ذلك الضريح العظيم في مكان عمومي، بل يجب أن يشيد في مكان معتزل مقدس، يستطيع أن يزوره فيه كل من يحترم المجد والنبوغ، العظمة وسوء المصير.
لقد كان إمبراطورا وملكا، وكان سيد بلادنا الشرعي، إذن فمن الواجب أن يدفن في سن دنيس، ولكن لا يليق بنابوليون مدفن الملوك العادي، فيجب أن يسود بعد في وسط الضريح الذي سيرقد فيه جنود الوطن، والذي سيستوحيه في كل حين هؤلاء الذين سيدعون للدفاع عنه ... وسيوضع سيفه على ضريحه.
سيشيد الفن، في وسط الهيكل الذي وقفه الدين لإله الجيوش، ضريحا جديرا باسم الذي سيرقد فيه، وسيكون هذا الضريح على جمال بسيط، وظواهر فخمة، وهيئة صلبة لا تقهر كأنما هي تسخر من كرور الزمن. إن نابوليون لحري بضريح خالد كذكره.
لا نشك في أن المجلس سيشترك بعاطفة وطنية مع الفكرة الملكية التي نعبر عنها الآن.
إن فرنسا، وفرنسا وحدها، ستملك من الآن فصاعدا كل ما بقي من نابوليون، وإن ضريحه، كشهرته، لا يخص سوى بلاده؛ إذ إن سلطة 1830، إنما هي الوارثة الشرعية الوحيدة لجميع الذكريات التي تفتخر بها فرنسا.
لقد حق لهذه السلطة، التي عضدت جميع أمنيات الثورة الفرنسية، أن تمجد ضريح بطل شعبي؛ إذ إن هناك عنصرا واحدا لا يتهيب المقارنة بالمجد، هو الحرية!»
إن من الصعب أن نصف الحماس الذي هيجته هذه الكلمات في المجلس، حتى خيل أن شبح الرجل العظيم قد ظهر لدى صوت الوزير في وسط ممثلي فرنسا، وأن روح الحزب الحاقد، الظالم بآرائه، قد حكم عليه بالصمت فجأة لدى ظهور هذا الشبح، لكيلا يسمع إلا هتاف الإعجاب ومعرفة الجميل.
أما الحكومة، التي فرحت دون شك بالحماس الشديد الذي هيجته كلماتها النبيلة؛ فإنها أخذت تهتم بإعداد العدة للبعثة التي سيعهد إليها بإحضار البقايا الثمينة من سنت هيلين إلى فرنسا، فكلف الملك أحد أولاده، البرنس ده جوانفيل، بقيادة الأسطول المؤلف من البارجة لابيل بول والمركب البخاري لافافوريت، وفي السابع من شهر تموز أبحر الأسطول من تولون، وكان على البارجة لابيل بول البرنس، والقبطان هرنو، وتوشار، وروهان-شابو مفوض الملك، ولاس كاز الابن عضو مجلس النواب، والقائدان برتران وغوركو، والدكتور غيللار، والأب كوكرو، وسن دنيس ونوفراز خادما غرفة الإمبراطور في الماضي وبييرون وأرشامبول. كان هؤلاء الأشخاص يؤلفون بعثة سنت هيلين مع الأمين مرشان، الذي كان الإمبراطور يحبه كثيرا، والذي كان مبحرا في المركب لافافوريت الذي يقوده القبطان غوييت.
وكان الجنرال برتران قد رغب أيضا في أن يشرك بهذه الرحلة الصالحة ولده الصغير، أرثور، الذي ولد في سنت هيلين، والذي قدمته أمه إلى الإمبراطور «كأول فرنسي دخل إلى لونكوود من غير إذن الحاكم.»
مر الأسطول أمام جبل طارق في الخامس عشر من تموز، وفي اليوم التالي رسا في مرفأ كاديس.
في الرابع والعشرين من تموز توقف في مادير، وفي التاسع والعشرين منه كان يحتفل بذكرى ثورة 1830 في جزيرة تتريف.
في العشرين من شهر آب عبر خط الاستواء، وفي الثامن والعشرين منه كان في باهيا، التي بقي فيها حتى الرابع عشر من أيلول. وبعد مرور ثلاثة وعشرين يوما وصل الأسطول إلى مقربة من سنت هيلين.
رسا الأسطول في مياه سنت هيلين في الثامن من شهر تشرين الأول، ونزل مفوض الملك والسيد عمانوئيل ده لاس كاز إلى اليابسة، وفي اليوم التالي، الساعة الحادية عشرة، حذا حذوهما الأمير وحاشيته.
قال السيد عمانوئيل ده لاس كاز: «في الساعة الثانية والدقيقة العشرين دخلنا إلى السور ... وقد ظهر أمامنا الضريح ... لا شك أن قد أصبح ترابا ذلك الذي أدهش العالم بمجده وعظمته!
كشف البرنس ده جوانفيل عن رأسه، وسجد الأب كوكرو إلى يسار الباب، على أقدام السروة، يتلو صلاة ... أما نحن فكنا صامتين ... مسترسلين في التأملات ... شاخصين عن كثب إلى تلك الحجارة السوداء ... التي لم يكتب عليها شيء! إلا أننا لم نقو على سلخ أعيننا عنها ... دار البرنس دورة الضريح بهدوء تام، ثم عاد فقطف بعض ورقات من أغراس بصلية نبتت في الجهة التي يرقد فيها رأس الإمبراطور، وبعد ذلك نادى السيد هرنو، معاونه، وقال له ليعطي الجندي القديم حارس الضريح كل ما يستطيع أن يجمعه من الدراهم، فكان قبضة كبيرة من الذهب، وخرجنا.»
عندما ترك البرنس المكان الذي يضم رفات نابوليون، اتجه إلى المقر الكئيب الذي أطلق فيه الرجل العظيم أنفاسه الأخيرة. من لا يعلم أي تأثير استولى على سكان لونكوود القدماء ساعة ولجوا ذلك السجن؟! أجل، لقد أبصروا فيه عذاب ذلك الذي أحبوه فوق كل شيء، وشاهدوا موت ذلك الذي أعجبوا به فوق كل إنسان، ذلك الذي احترموه وكان في حياته موضوع عبادتهم، والذي لا يزال ذكره، بعد عشرين سنة مرت على موته، يملأ صدورهم ومخيلاتهم.
كانت الغرفة التي شغلها الإمبراطور قد استحالت إلى جدران أربعة لا غير؛ فلما دخلها البرنس وموكبه كشفوا عن رءوسهم جميعا، وحذا الإنكليز حذوهم، ثم عبروا إلى الغرفة التي مات فيها البطل، فوجدوا طاحونا للقمح يشغل معظم تلك الغرفة، التي لم تكن نوافذها وأبوابها وحيطانها وسقفها إلا لتبدي مشهدا قذرا من مشاهد التلف والدمار؛ أما غرفة النوم فكانت قد أصبحت مراحا للمواشي! عندما التفت البرنس ده جوانفيل ليخاطب الضباط الإنكليز وجدهم قد احتجبوا، فلا شك أن هؤلاء البسلاء قد خجلوا من تصرف حكومتهم الممقوت التي، بعد موت الضحية، احتفظت نحوها بأحقادها ومظالمها، كأنما هي لم تبق قادرة على النيل من شخص الرجل العظيم فتحاملت على خياله، على ذكره، وعلى كل ما يعزى إليه حتى على الأشياء اللاحياة لها، والتي أطلق فوقها آخر نفس من أنفاسه! أجل، لقد ترك الإنكليز الوحول والحشرات تقتحم الأماكن التي خلدها نفي نابوليون وقدستها ساعته الأخيرة، والتي لم يجرؤ حفيد هنري الرابع ولويس الرابع عشر أن يلجها إلا حاسر الرأس! أيتها الأريستوقراطية الإنكليزية ، إنك لن يتاح لك أن تنسي الأجيال، أن بين ذلك السقف الذي ينهار وتلك الأخشاب التي تضمحل، قد ارتفع صوت عظيم صارخا في مسامع العصور الآتية هذه الكلمات الخالدة: «لقد قتلتموني مطولا، وكان هدسن الخسيس منفذ مآرب وزراتك! إنني لألقي، وأنا أموت على هذه الصخرة الموحشة، عار موتي وخزيه على الأسرة المالكة في إنكلترا.»
في الخامس عشر من شهر تشرين الأول، الساعة الثانية عشرة والربع ليلا، بدأت أعمال الحفر على مشهد من مفوضي الأمتين الفرنسية والإنكليزية؛ فلما حفرت خمس أقدام من التراب الرطيب، صادف الحفارون قشرة سميكة صلبة ظنوها في البدء البلاطة التي تغطي القبر، ولكن عندما رجعوا إلى التقرير الذي وضعه هدسن لوو عن الضريح، اتضح لروهان-شابو أن هناك قشرتين من التراب مكلستين تكليسا متينا تعلوان البلاطة، فعلم المفوضون عند هذا أن القشرة السميكة الصلبة، التي صادفها الحفارون، هي إحدى تينك القشرتين المكلستين اللتين ذكرتا في التقرير، واستمر الحفر.
قال السيد أرثور برتران: «كنا نتنفس بصعوبة، ولقد خيل إلي أن قلبي ينسحق في صدري وهو يخفق خفقانا شديدا! لم يكد غطاء التابوت المصنوع من الحديد الأبيض ينشق حتى وقع نظرنا على مادة بيضاء، كانت نسيجة من الأطلس، رفعها الدكتور غيللار مبتدئا بكشف الرجلين حتى انتهى إلى الرأس؛ تراءى لنا نابوليون كأنه لا يزال حيا، وقد خرجت أصابع رجليه من الحذاء الذي تعفنت خيوطه. كانت قبعته موضوعة على ركبتيه، ويده اليسرى مستريحة على فخذه.
ليس هناك جلد على عظم بل يد حية، بيضاء، من لحم ... أما رأسه فقد احتفظ بتقاطيعه، إلا أن البشرة استحالت إلى لون أصفر، وأما الخدان فقد هبطا، وأعارا أسفل الوجه شكلا مستطيلا.
أبصرنا بعض أسنان بيضاء انفرجت عنها الشفتان، وكانت شعور الذقن التي قصت في الليلة التي تلت الوفاة قد نبتت ... أما جفناه فكانا مغمضين! فهو لا يستطيع أن يرانا، وأما نحن فمن خلال دموعنا نراه!»
وقال السيد عمانوئيل ده لاس كاز: «أجل، هذا نابوليون، نابوليون المجرد من الحياة، ولكنه لم يتهدم! لو شهد والدي هذا المشهد أي تأثير كان قد استولى عليه؟ لا شك في أنه كان قد فقد تجلده وقواه دون احتمال تجربة كهذه ... أما أنا فيخيل إلي أن جميع ما حولي إنما هو شكل مادي لحلم سماوي! ...»
لا تسل عن دهشة السيد غيللار الذي لامس الجثة وحده، من وجودها في حالة صيانة تامة بالرغم من أنها لم تحنط. بعد أن سكب الدكتور بعض قطرات من «الكريزوت»، وضع الحرير المبطن والغطاء الحديدي والصفحة الرصاصية في التابوت الرصاصي الجديد الذي وضعت عليه صفيحة كبيرة كتب عليها بأحرف من ذهب:
نابوليون
إمبراطور وملك
مات في سنت هيلين
في 5 أيار
سنة 1821
ثم وضع التابوت في ناووس من الأبنوس حفر عليه بأحرف من ذهب:
نابوليون
وعندما انتهت الرتبة الدينية مشى الموكب إلى جمس توون في نحو الساعة الثالثة والنصف، فلاحظ الجمهور، في ساعة الرحيل، وجود الماجور جنرال شورشيل الذي قدم بحالة حداد كبير، يصحبه ضابطان إنكليزيان، والذي وقف حاسر الرأس بالرغم من المطر المتساقط، كأنه أراد بذلك أن يثبت للعيان أن بسلاء بريطانيا العظمى يستنكرون فظاعة الجريمة التي اقترفت بحق القائد العظيم من ناحية الوزارات الأوروبية.
كانت الشمس تنحدر إلى المغيب فأنارت أشعتها الأخيرة خروج نابوليون من أرض المنفى ودخوله إلى أرض أبناء فرنسا. لم يكد المركب الذي يقل التابوت يبتعد عن الشاطئ حتى أعلنت بعض إطلاقات من المدافع، خرجت من الحصون والمراكب، أن المنفي العظيم يعود على طريق الوطن عودة «إمبراطور»، وتحت حماية العلم الشريف، الذي غرسه مرارا عديدة بيديه المنتصرتين على أبراج جميع العواصم الأوروبية.
في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1815 قدم أميرال إنكليزي باسم الأريستوقراطية البريطانية وجميع أمراء البيت البوربوني ورأى كيف يدفن حيا في سنت هيلين ممثل الديموقراطية الفرنسية؛ أما اليوم فنحن في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1840 أمام سنت هيلين، ونشاهد قائدا إنكليزيا يقاسم أميرا من أسرة البوربون الفخر والغيرة في إرجاع مصطفى الشعب إلى وطنه، في إرجاع منفي عام 1815 وعدو البوربونيين والإنكليز!
لقد مشى الإمبراطور نابوليون، بعد عشرين سنة على طريق فرنسا! وتحت العلم المثلث الألوان سار إلى المقر الأخير الذي عينه هو بنفسه، فعندما وصل إلى الباخرة واخترق صفوف أركان الجيش صدحت الموسيقى ودوت الطبول!
في الثامن عشر من تشرين الأول مشى الأسطول على بركات الله، وفي الثاني من تشرين الثاني التقى بباخرة هولندية أعطته أنباء عن باريس بتاريخ 5 تشرين الأول. كانت هذه الأنباء تنطوي على محاكمة البرنس لويس ومعاهدة 15 تموز، وإطلاق القنابل على مدينة بيروت، ومحاصرة سوريا وعرض استعفاء الوزارة الفرنسية.
2
عند هذا خشي الأمير ده جوانفيل من تعد، يطرأ على الباخرة التي تقل رفات نابوليون، فحصنها بالمدافع العديدة، إلا أن هذه المدافع لن تجيب على التي دمرت بيروت؛ إذ إن الباخرة لابيل بول عندما رست في مرفأ شربور، في الثلاثين من شهر تشرين الثاني، انتهى إليها أن معاهدة 15 تموز قد نفذت تنفيذا مطلقا من غير أن تحدث مقاومة من ناحية فرنسا، وأن الوزير الذي اعتقد أنه يرى في هذه المعاهدة إهانة موجهة إلى بلاده قد اضطر إلى الاستعفاء مع جميع رفاقه؛ إذن فبدل أن تؤخذ رفات نابوليون إلى هيكل «مارس»، تحت عناية تيير، سيستقبلها بعض الكتبة الذين شاء سوء المصير أن ينضموا إلى أعلام الغرباء في عهد المصائب والنكبات!
الفصل الخامس والعشرون
إن جميع مدن فرنسا البحرية طمعت في شرف استقبال رفات نابوليون في مرافئها، لا سيما طولون، التي تعتبر نفسها كمهد لمجد البطل، إلا أن الحكومة وقع اختيارها على الهافر؛ لأنها آثرت المسافة الأكثر قربا من البحر إلى باريس لتخفي، قدر المستطاع، بقايا الرجل العظيم عن حماس الجماهير.
إن هذا المنهج الذي نهجته الحكومة إنما هو مسيء إلى عاطفة الشعب، إلا أن الوزارة الجديدة لم تجد بدا منه، وبين وزرائها الذين خدموا الإمبراطورية في الماضي خدما كبيرة، رجال يأتمرون بأمر رجال أولي مبادئ غير مبادئهم.
عندما دخلت لابيل بول إلى خليج شربور حيتها مدفعية المتاريس بإطلاقات جاوبتها مدافع الحصون في الأبعاد. وفي مساء الثامن من شهر كانون الأول وصلت الجنازة تجاه الهافر، وكانت السماء تنفرج عن قمر جميل. ولما كان غد تحرك حرس المدينة والضواحي، في الساعة الخامسة صباحا؛ ليحتفلوا بمرور خيال البطل. قال لهم مدير السين الأدنى: «ستؤدون إلى هذا الرجل العظيم الإكرام الأخير بالسكينة والاستحقاق الجديرين بجماهير، لمسوا بأيديهم، تأثير سلطته المحامية وانعطافه الخاص.»
وكانت ثلاث بواخر تواكب لابيل بول وهي النورمندي والفلوس والكوريه، فلما دخلت النورمندي الحاملة الأعلام الوطنية والعلم الملكي إلى مجرى نهر السين على دوي المدافع، وتحت سماء صافية الأديم كسماء أوسترلتز، كان شاطئا النهر يغصان بجماهير لا تحصى، وقد تصاعد من بينهم هتاف حماس شديد وإطلاقات نارية شقت عنان الفضاء.
وفي المساء، توقف الموكب في فال ده لاهاي لينتظر أسطول السين الأعلى الذي سيقل الإمبراطور حتى كوربفوا.
وفي العاشر من الشهر، ظهرا، دخل الأسطول إلى روان. كانت هذه المدينة الصناعية الكبرى، التي تعشقت نابوليون تعشقا صحيحا، تستعد منذ أيام كثيرة لاستقبال رفات الرجل العظيم، فنصبت له قوس نصر في وسط النهر، ورفعت على الشاطئين أعمدة هرمية كتبت عليها أسماء أهم انتصارات الإمبراطورية.
كان شعب غفير يملأ شاطئ السين؛ وكان الهتاف «ليحي الإمبراطور!» يتصاعد من جميع الجهات، من حرس المدينة الوطني وضواحيها إلى جميع الكتائب المحافظة، وكان الكردينال الأسقفي في روان قد خرج من كنيسته، منذ الساعة السادسة من الصباح، على رأس إكليروسه المؤلف من أكثر من مائتي كاهن، واتجه إلى شاطئ سن سوفر الذي اتجهت إليه السلطتان المدينة والعسكرية والمجلس البلدي. عندما دخلت المراكب بين الجسرين توقفت لادوراد، وبدأ الكردينال الأسقفي بالاحتفال الديني، في حين كانت مدافع الحرس الوطني، المركزة على مرتفعات سنت كاترين، ومدافع المراكب الراسية تطلق بين فترة وأخرى قنابل عديدة، فتجاوبها لادوراد حالما تنتهي، ولما تمت الحفلة الدينية أعلنت نهايتها مائة إطلاقة مدفع.
منذ ذلك الحين لم يبق الأمر مقتصرا على نقل رفات بطل إلى مقره الأخير، بل أصبح يشير إلى قدوم أمير عظيم إلى عاصمته قدوم منتصر، إذ امحت جميع دلائل الحداد، وناب عنها رنين الأجراس في الفضاء، ودوي الطبول في السهول، وأصوات الموسيقى تصدح بألحان النصر، واستعراض الجنود لتحية الإمبراطور! إذن فلقد مر نابوليون تحت قوس النصر الذي نصبه له هؤلاء الروانيون البسلاء، مرور فاتح عظيم، في حين كان القدماء من جنود الجيش الكبير يلقون عليه من أعلى الجسر أكاليل الخالدين وغصون الغار، وفي حين كانت مائة إطلاقة وإطلاقة تعلن للأبعاد أن الموكب قد تابع سيره.
حدد دخول المحمل الإمبراطوري إلى باريس في الخامس عشر من شهر كانون الأول؛ ففي الساعة الخامسة من صباح هذا النهار، حرك دوي طبول الحرس الوطني ومدفع الأنفليد العاصمة بأسرها، وما هي إلا فترة من الوقت حتى اندفعت الجماهير إلى الطرق والأسواق التي سيمر فيها الموكب، بالرغم من البرد القارس والظلمة القاتمة. ولما بزغت الشمس كان الحرس الوطني والكتائب المحافظة تحت السلاح، ووراءهم ما ينيف عن سبعمائة أو ثماني مائة ألف نفس ينتظرون بفارغ الصبر مرور الموكب.
كان الأسطول قد وصل إلى كوربفوا في الرابع عشر من الشهر، فخف جمهور من المعجبين بالرجل العظيم ليكرموا رفاته، بالرغم من البرد الشديد، وكان بينهم عدد من الجنود القدماء، بقايا نبيلة من الجيش الكبير، وقد جاءوا من أقاصي البلاد ليشهدوا هذا الاحتفال، من غير أن ينتبهوا إلى أن وجود الذين حطمت سيوفهم إلى جنب البطل في موقعته الأخيرة، قد يخجل الخائنين الذين، في تلك الساعة المشئومة، قد عهدوا بشهرتهم الناشئة إلى حظ ويللنكتون وبلوخر! صرف هؤلاء البسلاء ليلة الرابع عشر إلى الخامس عشر على جسر نويلي، تحت برد لا يطاق، وقد اعتبروا أنفسهم سعداء لتمكنهم من التعسكر مرة بعد مع نابوليون، بعد خمس وعشرين سنة مرت على معركة واترلو، والاشتراك في التكريم المتأخر الذي تقيمه معرفة الجميل الوطنية لقائدهم الخالد.
في اليوم الخامس عشر، الساعة الثامنة من الصباح، أبصر هؤلاء القدماء شيخا مسنا مرتديا لباسا أسود، وقد تدلى وشاحه القاتم على ذراعه، وسيفه يهرول بالقرب من المحمل متكئا على رجلين يشاطرانه حزنه. كان هذا الشيخ الرجل الذي بقي سنين عديدة يخدم الوطن بكل ما أوتيه من خبرة في فن الجراحة؛ كان هذا الشيخ رئيس جراحي الحرس الإمبراطوري وجميع الجيوش الفرنسية في عهد نابوليون، كان هذا الشيخ المواطن الصالح الفضيل الذي أثنى عليه منفي سنت هيلين ثناء جميلا في مذكراته، كان هذا الشيخ لاري المحترم، وقد جاء متكئا على ولده وعلى أحد جراحي الجيوش القدماء السيد تشارنر، الذي اشترك في الكتيبة المقدسة في موسكو والذي صحب الإمبراطور إلى ويلنا. أجل، لقد تمكن هذا الشيخ الطاعن في السن، بهذا العضد المزدوج، أن يتبع على قدميه، من المركب إلى الأنفليد، رفات ذلك الذي أحبه حبا يقرب من العبادة.
عندما أنزل المحمل الإمبراطوري من لادوراد إلى اليابسة، ووضع في المركبة المأتمية تحت قوس النصر، الذي نصب تجاه الباخرة، شوهد عدد غفير من القواد يتسابقون، كالبارون لاري، للدنو من نابوليون، وبينهم وزير الحربية السابق ديسبان كوبيير، الذي أقبل بلباس قائد الفرقة الخفيفة الأولى الذي كان يرتديه في واترلو. في تلك الساعة سمع هتاف «ليحي الإمبراطور!» إذ إن رفات الرجل العظيم كان قد لمس الأرض الفرنسية.
برحت المركبة الإمبراطورية، كوربفوا، في نحو الساعة العاشرة من الصباح، فوصلت تحت قوس نصر النجمة في الساعة الحادية عشرة والنصف. في تلك الآونة انطلقت إحدى وعشرون قنبلة مدفع، معلنة للباريسيين أن الذخيرة المنتظرة منذ أمد بعيد تستريح تحت أحد التماثيل التي رفعها البطل لمجد فرنسا.
اجتاز الموكب، بخطى بطيئة، ممر الشنزاليزه المحفوف بنصف مليون من النظارة المتحمسين، وفي نحو الساعة الواحدة والنصف وصل إلى الأنفليد، في حين كان الأسطول الذي أقل المحمل الإمبراطوري من روان إلى كوربفوا يرسو أمام الجسر،
كانت الساعة الثانية بعد الظهر عندما أعلن المدفع وصول المركبة الإمبراطورية إلى شباك الأنفليد، فحمل بحريو لابيل بول بين أذرعهم الوديعة الثمينة التي جاءوا بها إلى فرنسا، وعهدوا بها بعد ذلك إلى ضباط الحرس الوطني والجيش الذين كان عليهم أن يحملوها إلى الكنيسة، حيث كان ينتظرها أسقف باريس على رأس إكليروسه.
كان الملك والوزراء والمرشالية والأميرالية وفرق الدولة الكبرى منتظرين تحت القبة، أما كبار الموظفين فلم يتمكنوا بدون جهد جهيد من اختراق الجماهير المحتشدة والوصول إلى الكنيسة، وأما سفراء أوروبا القديمة فقد بقوا متنحين كأنهم أدركوا، ولا شك، أن أوروبا القديمة لا ينبغي لها أن تحضر حضورا علنيا هذا المهرجان، الذي تقيمه فرنسا الفتاة، وأنه من الفظاعة أن يمثل أحقاد الأحزاب القديمة بعض مسببيها في هذا المهرجان.
عندما انطلقت القنبلة الأولى؛ لتعلن وصول المحمل إلى شباك الشرف، اتجه أسقف باريس وإكليروسه إلى باب الكنيسة ليتسلموا جثة الإمبراطور، ولما دنا المحمل من المرتبة، التي أعدت في المكان نفسه الذي سيبنى فيه الضريح النهائي لنابوليون، نزل الملك عن عرشه واتجه أمام الموكب حتى مدخل القبة، فقال له البرنس ده جوانفيل: «إني أرفع إليك يا صاحب الجلالة جثة نابوليون التي جئت بها إلى فرنسا نزولا عند أوامرك.» فأجاب الملك: «أتقبلها باسم فرنسا.»
كان سيف الإمبراطور محمولا على مخدة بين ذراعي الجنرال أتالن، فأخذه الملك من يدي المرشال سول وسلمه إلى الجنرال برتران قائلا له: «جنرال، أعهد إليك بوضع سيف الإمبراطور المجيد على محمله.» ثم عاد الملك إلى مكانه، ووضع المحمل على المرتبة. عند هذا بدأت الرتبة الدينية، ولما انتهت الذبيحة رش الأسقف الماء المقدس على الجثة، ثم قدم الرشاشة إلى الملك، الذي قام بهذا الواجب الأخير وانصرف. •••
في الخامس عشر من شهر كانون الأول سنة 1840؛ أي يوم مهرجان الإمبراطور نابوليون، كان الكاتب الفرنسي العظيم فيكتور هيغو يشاهد الموكب من على منصة في ساحة الأنفليد، فكتب هذه الرءوس الأقلام التي نعرب إلى القراء فقرة منها، قال: «خرجت في الساعة الحادية عشرة من الصباح إلى الشوارع، فألفيتها قفراء، وكانت المخازن مقفلة، ولم يكن يرى هنا وهناك إلا بعض نساء عجائز يمرون من فترة إلى أخرى، فشعرت إذ ذاك بأن باريس بأسرها قد اندلقت في جهة واحدة من المدينة، كما يندلق السائل من قدح منحن، برد قارس، شمس جميلة، ضباب خفيف في السماء، السواقي مجلدة ...
هي الساعة الثانية عشرة والنصف.
في طرف الساحة، صفان من الخيالة يمران بهيئة صلبة؛ هما جنود السين، مقدمة الموكب. الشمس تقوم بواجبها فتظهر بمظهر جميل، نحن في شهر أوسترلتز.
بعد قبعات جنود السين المصنوعة من الشعر، خوذات حرس باريس البلدي النحاسية، ثم أعلام الرماحة المثلثة الألوان يلاعبها الهواء بشكل لطيف.
إن الموكب الذي يتخلله القواد والمرشالية إنما هو في مظهر باهر، والشمس المنعكسة تمر بهيئة فخورة صلبة، تعقبها المدفعية والمشاة كأنهما سائرتان إلى الحرب.
هناك تمثال كبير للويس الرابع عشر، متقن الصنع، مذهب بالشمس، يرى كأنه شاخص إلى هذه الفخفخة بدهشة وذهول.
ظهر الحرس الوطني على الجياد، فارتفعت دمدمة من وسط الجماهير، بيد أنه في نظام تام! ولكنه كتيبة لا مجد لها، وهذا ما يفتح ثقبا في موكب كهذا. إنهم يضحكون ...
ثمة كتائب عديدة من مشاة الحرس الوطني تمر في ظلال هذه السماء الشهباء. وفجأة انطلقت المدافع في ثلاث جهات مختلفة، وسمع دوي الطبول في مطارح السهول البعيدة.
ظهرت مركبة الإمبراطور، وظهرت الشمس ساطعة سطوعا جميلا.
يرى في الأبعاد، من خلال البخار والشمس، بين شجرات الشنزاليزه والتماثيل البيضاء المنتصبة كالأشباح شيء يتحرك، كأنه جبل من ذهب. إنه يقترب شيئا فشيئا. لقد ارتفعت دمدمة شديدة فغلفت هذه الرؤيا، كأنما هذه المركبة تسحب وراءها هتاف المدينة بأسرها كما تسحب المشاعل دخانها ...
هي الساعة الواحدة والنصف.
بدأنا نتبين شكل المركبة التي تقل المحمل الإمبراطوري، هي ذي جياد المرشالية والقواد تحف بالمركبة، وهؤلاء الستة والثمانون ضابطا يحملون أعلام الست والثمانين مقاطعة. ما من مشهد أجمل من مشهد هذه الفرقة التي ترتعش فوقها غابة من الأعلام.
هو ذا جواد أبيض مجلل بالسواد من قمة رأسه إلى حوافر قدميه يقوده خادمان مرتديان لباسا أخضر مذهبا. لقد ظنه البعض جواد الإمبراطور فهتفوا صارخين: «هو ذا جواد مواقع الإمبراطور!»
المدافع تستمر في إطلاق القذائف ...
هؤلاء هم بحريو لابيل بول الخمسمائة يمشون وراء الجواد الأبيض في صفوف صلبة؛ المسدسات في وسوطهم، والفئوس في أيديهم، والسيوف إلى جنبهم.
لقد قربت المركبة تتقدمها أركان جيش لابيل بول التي يقودها البرنس ده جوانفيل على جواده. فهي في مظهر عظيم. هي قطعة كبيرة مذهبة تقوم طوابقها الهرمية على أربعة دواليب مطلية بالذهب. لقد استطعت أن أتبين، تحت الشفافة البنفسجية التي تغطيها من أعلاها إلى أسفلها، نسور الطابق الأسفل، الانتصارات الأربعة حاملة شبه تابوت على قطعة من الذهب، أما التابوت الحقيقي فهو غير منظور، لقد وضع في قبو الطابق الأسفل، وهذا ما أضعف التأثير. هنا عيب هذه المركبة، فهي تحجب الذي يرغب الشعب أن يراه، والذي طالبت به فرنسا وانتظره الجميع، هي تحجب الذي تفتش عنه الأعين: تابوت نابوليون.
لقد وضعت شارات الإمبراطور على التابوت الكاذب، وهي التاج والسيف والصولجان والرداء. هناك عيب آخر، إن الذهب الذي تكلمت عنه ليس سوى ذهب كاذب؛ فهو خشب وكرتون. هذه هي الحقيقة. كنت أرغب للمركبة الإمبراطورية مظهرا أصدق من هذا. على أن صناعة هذه المركبة ليست مجردة من الفن الجميل، بالرغم من أنها تتردد بين الصناعة العصرية والقديمة.
ثمة كتلتان من الأعلام التي غنمت من جميع أوروبا تخفقان خفقانا جميلا على مقدم المركبة ومؤخرها. أما وزن المركبة فيبلغ ستة وعشرين ألف ليبرة، ووزن المحمل وحده يبلغ خمسة آلاف.
ما من مشهد أدهش وأجمل من مشهد الجياد الستة عشر التي تقود المركبة. إنها لبهائم مخيفة معممة بريش أبيض، ومجللة من الرأس إلى الحوافر بأقمشة ذهبية لا تدع سبيلا لأن يرى منها إلا العيون، وهذا ما يعطيها لا أعلم، أية هيئة رهيبة من هيئات أجياد أشباح!
وصل نابوليون أمام شباك الأنفليد. هي الساعة الثانية إلا العشر الدقائق.
لا تستطيع المركبة أن تلج باحة الأنفليد؛ لأن الشباك التي وضعها لويس الرابع عشر، لا يبلغ ارتفاع بابها مستوى هذه المركبة، فانحدرت إلى الجهة اليمنى، ودخل البحريون إلى الطابق الأسفل، ثم خرجوا يحملون التابوت الحقيقي وذهبوا به إلى الكنيسة.
كانت الساعة الثالثة عندما أعلنت المدافع أن الرتبة الدينية قد انتهت في الأنفليد ...»
وهكذا انتهت حياة هذا الرجل العظيم الذي أبى الأشراف إلا أن يروا فيه مغتصبا ظالما، وفاتحا نهما، في حين كان العملة والفلاحون والجنود يرون فيه «رجل الشعب»، رسول الله، ونتاج النبوغ في العالم .
صفحه نامشخص