نصب هناك مدافعه وشرع يضرب الرس كما ضربها إبراهيم باشا في طليعة القرن الماضي، فدافع أهلها على عادتهم حتى الرمق الأخير. قتل أميرهم ولم يسلموا. قد أقام ابن سعود ثلاثة أشهر في الرس، منذ منتصف ربيع الثاني حتى منتصف رجب، بينما كان ابن الرشيد في الشنانة، وهم يتناوشون ويتهاجمون ويتطاردون كل يوم، فمل أهل نجد هذه الحال وخافوا أن يسري الهواء الأصفر إليهم، فرفعوا أصواتهم متذمرين شاكين.
سمع ابن سعود الشكوى فأرسل رسولا من كبار بريدة اسمه فهد الرشودي إلى ابن الرشيد يدعوه للصلح، فضحك ابن الرشيد وقال متهكما متهددا: من يبغي حكم نجد لا يتضجر، وهل يصالح من بيده قوة الدولة؟ لا والله، لا صلح قبل أن أضرب بريدة وعنيزة والرياض ضربة لا تنساها مدى الدهر. وأنتم يا أهل القصيم لا يغرنكم ابن سعود، لا يغرنكم شاب طائش يبغي الدراهم ليأخذها لأمه الفقيرة.
رجع فهد الرشودي يحمل هذا الكلام إلى ابن سعود، فألقاه في مجلسه دامع العين، وختمه قائلا: «والله يا أهل نجد، ما رأيت هناك إلا ظالما عتيا كفرعون، ولا يبغي لنا غير ما كان من فرعون لبني إسرائيل.»
وكان الرشودي رجلا حصيفا رصينا يحترمه الناس، فأثرت كلماته فيهم تأثيرا شديدا، ولكن بادية ابن سعود كانت قد تفرقت، ولم يبق لديه غير ثمانمائة من الحاضرة وثلاثمائة من رؤساء القبائل. أما السبب في تفرق البدو فهو أنهم كانوا قد ملوا الحالة كما أسلفنا القول، وكان فوق ذلك وقت الربيع فذهبوا يرعون مواشيهم. ولم يكن لابن سعود أن يكرههم على البقاء؛ لأنهم لم يكونوا من الجند، بل من أولئك الذين يجيئون الأمير متطوعين متكسبين.
على أن هذه الحال لم تنحصر في بادية ابن سعود فقط، بل كانت قد ظهرت كذلك في عسكر ابن الرشيد. فقالت البادية تخاطبه: «هلكت مواشينا وهلكت أولادنا جوعا، فإما أن نرحل جميعا فنمشي وراءك، وإما أن نرحل نحن ونتركك وراءنا.» فأجابهم ابن الرشيد: «وكيف نرحل ولا ركائب عندنا لعساكر الدولة.»
4
فقال رجال شمر: «كل قبيلة منا تقدم الركائب لقسم من العسكر.» فقبل ابن الرشيد وأمر أن توزع أمتعة العسكر أحمالا على شمر. ولكن عندما اعتزموا الرحيل هجم ابن سعود عليهم بخيله ليحول دون ذلك، فتصادموا وتقارعوا من صلاة الفجر حتى غروب الشمس. خرج ابن الرشيد مع ذلك من الشنانة، وكانت البادية التي ارتحلت قبله، قد تركته وراءها، فراح ابن سعود يطارده إلى أن أذنت الشمس بالمغيب. نصب ابن الرشيد خيامه إذ ذاك خدعة للمبيت، فخدع ابن سعود ورجع بخيله بعد أن أقام هناك بعض الحرس والكشافة، عندئذ شرع ابن الرشيد يتأهب للرحيل.
قد كانت خطة عبد العزيز الحربية أن ينهك خصمه بالمفاجآت والمناوشات فيضربه بعد ذلك الضربة القاضية. عندما عاد مساء ذاك اليوم إلى الرس جاءه وهو جالس إلى العشاء أحد الكشافة يقول: رحل ابن الرشيد. فقام ورجاله عن العشاء وسارعوا إلى الخيل يتقفون العدو، فرأوا عندما قربوا منه سوادا ظنوه غنما فأغاروا عليها، فإذا بها عسكر الترك، وكان قد جن الليل فنازلوهم ساعة دون نتيجة تذكر، ثم عادوا إلى الرس.
أما ابن الرشيد فكان قد نزل الجوعي، ودنا من قصر هناك يعرف بقصر ابن عقيل فيه سرية لابن سعود، فهم في صباح اليوم التالي بالهجوم عليه.
ولكن ابن سعود قبل رجوعه إلى الرس الليلة السابقة ترك حراسه وكشافته حسب العادة في مكان معلوم، ومعهم رجال من أسرته زودهم بهذه التعليمات: إذا رحل ابن الرشيد وقرب الخنق (درب بين جبلي أبان)، فأرسلوا أخبروني وأنتم تقفوه لتظلوا عالمين بمسيره، أما إذا مشى إلى قصر ابن عقيل فعليكم أنتم يا أهل سعود أن تسبقوه إلى القصر لتشجعوا أهله وتقولوا لهم: إننا مسارعون إلى إنجادهم. زحف ابن الرشيد إلى القصر الذي لم يكن يخشى عليه إلا من المدافع؛ لأنه حصن منيع، فسبقه بنو سعود إليه، وكانوا قد أرسلوا يخبرون عبد العزيز.
صفحه نامشخص