تاریخ نحو عربی

علی الشدوی d. 1450 AH
34

تاریخ نحو عربی

تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية

ژانرها

يعني أنه ما زال يفكر في إطار فكرة الدؤلي ومعاصريه عن مهمة علم النحو. إنني أظن أن هذين النوعين من النحو؛ أعني نحو أبي الأسود المعياري، ونحو سيبويه الوصفي ضروريان لتقدم علم النحو. من يجرؤ من النحويين الآن على أن يتمنى أن أبا الأسود الدؤلي لم «يضع» علم النحو، أو أن كتاب سيبويه لم يظهر، وأن يكون اختفى بعد موته؟ إن لكل من المعيار والوصف النحويين دورهما، ومن المفيد لتاريخ النحو أن يبحث تاريخ تطورهما، وما قدمه كل واحد منهما. لا ينبغي أن نعتقد أن النظريات القديمة عقيمة وباطلة؛ لأن مسيرة العلم لا تقارن بالتحولات في مدينة؛ حيث تهدم البنايات القديمة لتحل محلها البنايات الجديدة، إنما يجب أن تقارن بتطور الأنواع الحيوانية التي تتطور وتنتهي إلى أن تصبح العيون العادية غير قادرة على أن تتعرفها، في حين أن العيون الخبيرة ستجد فيها دائما العمل السابق الذي قامت به القرون الماضية.

15

وإذا كانت عيون معاصري سيبويه عادية فقد وجدت عينا سيبويه الخبيرتان في نحو الدؤلي ما ينتفع به. وقد أدى لزومه الخليل بن أحمد الفراهيدي كما تكمل الحكاية إلى ما جعله يحدث انعطافا في فكرة النحو الأولى بفضل تأملات متجددة في اللغة لينجز بها كتابه، الكتاب الذي دشن فيه فكرة النحو الخالص، وأسس به فكرة دراسة النظام اللغوي ووصفه. وهكذا فإن فكرة نحو سيبويه ككل الأفكار التاريخية في مسار أي علم من العلوم؛ حيث تعيش الأفكار في وعي حامليها، ثم تندفع مثل غريزة من دون أن يستطيعوا تبرير ذلك. إن العقل هو الأداة التي توفر عليها سيبويه؛ لكي يقوم بهذا الانعطاف في تاريخ النحو العربي.

يظهر الانعطاف الذي أحدثه سيبويه في تاريخ النحو العربي حين نقارن النحو المعياري بالنحو الوصفي؛ فالنحو المعياري يجزئ الجملة؛ لكي يكتشف الصحيح والخطأ. نقطة ضعف النحو المعياري أنه لا يفهم النظام اللغوي، ولا يصف اللغة؛ ولهذا ظل موضوع النحو ناقصا. لقد ظن النحويون المعياريون كالدؤلي أنهم يعرفون اللغة؛ لأنهم تصوروها بمعيار الصحة والخطأ؛ لذلك كان على النحو أن يتطور في اتجاه وصفي لكي يجلو فكرة المعياريين الغامضة عن اللغة. وقد حدث هذا التطور بالرجوع إلى نظام اللغة وإلى المفاهيم التي تصفه. لقد كانت مهمة سيبويه الوصفية أن يعثر على مفاهيم علم النحو في نحو أبي الأسود المعياري. وإذا ما كان لي أن أصنف النحويين إلى فئتين هما عمال النحو وعلماء النحو، فإن أبا الأسود الدؤلي عامل من عمال النحو، بينما سيبويه عالم من علماء النحو، ومقدمة الكتاب التي سماها القدماء رسالة الكتاب أو خطبته هي دفاع مطول عن استعمال المفاهيم التي تكونت مما جمعه أولئك العمال المجتهدون والمثابرون.

عرض الكتاب المفاهيم النحوية

رتبت محتويات رسالة الكتاب لسيبويه (مقدمته) كما سماها الزجاجي، أو خطبته كما سماها ابن جني وحدد نهايتها ب «هذا باب ما يحتمل من الشعر»

16

على النحو التالي: (1) باب علم ما الكلم في العربية. (2) باب مجاري أواخر الكلم من العربية. (3) باب المسند والمسند إليه. (4) باب اللفظ للمعاني. (5) باب الاستقامة من الكلام والإحالة. (6) باب ما يحتمل من الشعر.

يمكن أن نرسم شجرة لهذا الترتيب، وبغض النظر عن الأبواب الثلاثة الأخيرة التي تمثل المعرفة النحوية الأحدث في تلك المرحلة التاريخية، فإن الأبواب الثلاثة الأولى تتضمن سلسلة من المفاهيم النحوية التي تكون عندنا فكرة عن أن سيبويه ليس نحويا يعلم النحو، إنما عالم نحو يفكر بالنحو وهو ما هيأ رسالة الكتاب لكي تكون موضوع تفكير آخرين إلى حد أن الزجاجي شرحها. رسالة الكتاب هي فكرته الكبرى التي سبق غيره إليها، وتحليلها سيظهر الانعطاف الذي أحدثه.

ما يثير الانتباه في الأبواب الأولى السبعة الأولى منها هو إشارتها إلى جوانب أساسية ومركزية في النحو الخالص؛ كالقوانين التي تتحكم في ترتيب وتنظيم وتركيب الكلام، وتفهم من باب المسند والمسند إليه، وباب الاستقامة من الكلام والإحالة، ومعاني الكلام أو دلالته؛ أي العلاقات بينه وبين الأشياء والأفكار، ويفهم من باب اللفظ للمعاني، وباب ما يكون في اللفظ من الأعراض، والأهم كون الكلام يوجد في مجتمع. كما أنها تعرض بعض المجالات العلمية المحتملة؛ كالنحو من حيث هو الاعتبارات الشكلية للكلام، وفلسفة اللغة وتاريخها؛ من حيث هي الطبيعة الرمزية للغة والعلاقة بينها وبين الحقيقة، وأنظمة الاتصال كالعلاقة بين المتحدث والسامع.

صفحه نامشخص