تاریخ نحو عربی
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
ژانرها
ما نريد أن نلفت النظر إليه هو أن الشذوذ ليس نقيض القاعدة، أو خروج عن النظام فقط، إنما هو أيضا مرتبط بطبيعة العلم. فمن طبيعة العلم أن يكشف ما هو خارج نظامه على أنه شاذ؛ أي أنه يخرج «غير المفهوم طبقا للإطار المعرفي الحالي».
26
العامل والشذوذ مجرد مثلين للمشكلات الكبرى للنحو العربي. لا شك في أن هناك ما هو أكثر؛ فالخلافات النحوية كثيرة. وهذه الخلافات لا سيما الكبرى منها ترتبط بمشكلات نحوية بعينها، وهو أمر جيد؛ لأنها تشير إلى أن النحو علم يعي موضوعه. وتبعا لما نقترحه يمكن أن يوصف مؤرخو النحو تاريخ النحو استنادا إلى مشكلاته الكبرى. مثلا يمكن أن يعلموا المراحل التاريخية ويبرزوها في تاريخ النحو تبعا للمشكلة الكبرى أو المشكلات التي دار حولها الخلاف، وما إذا كان الخلاف يشير إلى عوامل ثقافية كالتي أثارها ابن مضاء وعلاقتها بالعوامل الثقافية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن توفر لهم مشكلات النحو الكبرى مخططا تاريخيا لتناسل المشكلات من بعضها البعض وتناسل الحلول التي قدمها النحاة. مشكلات النحو الكبرى تختلط في تاريخ النحو برد النحاة على بعضهم البعض، وبوسائل الخلاف فيما بين النحاة؛ لذلك فإن دراسة مؤرخي النحو لكتب الخلاف بين النحاة ستساعد على رسم المخطط التاريخي لمشكلات النحو.
الفصل الثاني
النحو في حدود المعيار
تكاد تجمع المصادر على أن أبا الأسود الدؤلي هو واضع النحو العربي. غير أن «الوضع » المنسوب لرجل واحد تبدو الكلمة غير المناسبة لفهم عملية معقدة كنشوء علم من العلوم؛ فما يبرر القيمة الحقيقة لوضع علم من العلوم ليس العقل الخاص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما العقل الجماعي للعلماء؛ لذلك فمشكلة نشأة النحو العربي أشد تعقيدا مما ذكر في المصادر القديمة.
ومع تحفظي على فكرة الوضع إلا أنني سأوافق عليه، لكن ليس من جهة أبي الأسود الدؤلي أو من جهة غيره العلماء؛ إنما من جهة أن بعض الأفكار تفرض نفسها على المشهد الفكري بقوة هائلة. وفق سوزان لانغر في كتابها «الفلسفة بنغمة جديدة»؛ فإن الأفكار التي تفرض نفسها تعد بحل كثير من المشكلات على نحو آني. أكثر من هذا تبدو هذه الأفكار كما لو أنها ستحل المشكلات الأساسية، وتضيء المشكلات الغامضة؛ لذلك يرحب بها الجميع كما لو أنها المفتاح السحري لعلم جديد، أو كما لو أنها يمكن أن تكون المركز المفهومي الصالح لبناء تحليلي شامل.
1
ما الفكرة التي فرضت نفسها على المشهد الفكري لمرحلة الدؤلي التاريخية؟ سأبني إجابتي على الربط الذي تورده المصادر بين وضع أبي الأسود الدؤلي النحو وبين ضبطه المصحف بالشكل. فهذا الربط يشير إلى أن أبحاثه النحوية انصرفت إلى ضبط أواخر كلمات القرآن؛ أي إن الفكرة التي فرضت نفسها هي فكرة أن يكون هناك علم يضبط أواخر كلمات القرآن من جهة، ومن جهة أخرى يصون اللسان العربي من الخطأ. وعلى الرغم من النقد الموجه حديثا إلى هذه الفكرة فإنها أبعد الأفكار أثرا، وأشدها وعدا بصفتها بداية، ومن منظورها فإن الدؤلي في تاريخ النحو العربي يشبه طاليس المالطي في تاريخ الفلسفة اليونانية؛ إذ إن الدؤلي عرض المشكلة، وحدد اتجاه وطابع النحو؛ لذلك فأهمية أبي الأسود الدؤلي في تاريخ النحو تكمن في أنه عرض مشكلة، وليس لأنه حلها.
في إطار الأفكار التي تفرض نفسها، سأختبر نشأة النحو العربي في حكايات نشأته. وسأنطلق من فرضية هي أنها حكايات ألفت لاحقا، لكن تأخر تأليفها لم يكن ليمنع مؤلفيها من أن يضفوا بتأليفها المشروعية على نشأة النحو لحفظ اللسان العربي، وأنهم لخصوا بها فكرة النحو الأولى حين تصوروه في نموذج نافع؛ فالمعرفة النافعة المرتبطة بنشأة أي علم هي المعرفة المرتبطة بحياة الناس، ولا يوجد أفضل من ارتباط القرآن باللغة العربية، وارتباطهما معا بحياة المسلم اليومية.
صفحه نامشخص