تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
ژانرها
ثم دخل الفرنسيس المدينة وتجولوا في أسواقها لإعادة النظام والسكينة، ثم دخلت طائفة منهم الجامع الأزهر بخيولهم، وحطموا قناديله، وأزالوا بعض الآيات القرآنية المنقوشة على جدرانه، ثم غالوا فاتخذوا الجامع إصطبلا لخيولهم؛ فعظم استياء الناس، وأرسل المشايخ وفدا إلى نابليون يلتمسون إصدار الأمر بإخلاء الأزهر من الجند، فأجاب ملتمسهم بعد التحذير والتهديد.
فهدأت المدينة ورجعت المياه إلى مجاريها، وإن كان نابليون قلل بعد ذلك من اعتبار المشايخ في الديوان وغيره، وأصبح عملهم قاصرا على نشر المنشورات التي يحثون العامة فيها على التزام السكينة والخضوع للفرنسيس والاعتراف بما أبداه إليهم نابليون من الجميل.
وبعد أن أخمد نابليون الثورة تفرغ لتحصين مصر لصد غارات العثمانيين. وكان هؤلاء قد أخذوا يسعون في استرجاعها، وعقدوا لذلك معاهدة مع إنجلترا وروسيا، وعولوا في فتحها على تسيير جيشين إليها: الأول يزحف على «العريش» من جهة الشام، والثاني يجتمع في جزيرة «رودس» ومنها ينقله الأسطول الإنجليزي إلى سواحل مصر ، إلا أنهم أساءوا التدبير في إنفاذ هذه الخطة؛ إذ وصل الجيش الأول إلى العريش قبل أن يستعد الثاني للقيام؛ فتسنى لنابليون مقابلة كل منهما على حدة بجموع جيوشه، مع أنه كان يضطر إلى تجزئتها لو وصل الجيشان في وقت واحد.
فلما علم نابليون بذلك أسرع بمعظم جيشه للقاء جيش الشام، فبلغ العريش بعد أحد عشر يوما واستولى عليها عنوة، وسقطت «غزة» في يده بعد ذلك بقليل. وفي (اليوم الخامس والعشرين من رمضان سنة 1214ه/3 مارس سنة 1799م) بلغ «يافا» وحاصرها، ولما رأت حاميتها أن لا قبل لهم به استأمنوا إليه فأمنهم، ولكنه غدر بهم واستعرضهم جميعا رميا بالرصاص؛ وتلك وصمة كبرى في تاريخ حياته لا يغفرها له التاريخ مهما انتحل له من الأعذار، وإنه إنما قتلهم جميعا ليخلص من عبء ثقيل هو إطعامهم وحراستهم.
وبعد أن حصن يافا أسرع إلى حصار «عكاء»، فلم يقدر عليها لحسن دفاع حاكمها «أحمد باشا الجزار» ومساعدته بحرا بأسطول إنجليزي بقيادة «السير سدني سمث»، فرجع عنها بعد أن حاصرها 50 يوما.
ولم يكد يصل إلى مصر حتى جاءه خبر وصول البوارج العثمانية إلى الإسكندرية وإنزال 10000 من الأتراك بجهة «بوقير» يوم (9 المحرم سنة 1214ه/13 يونيو سنة 1799م)، فسار إليهم وهزمهم شر هزيمة.
على أن ذلك لم يطيب من خاطر نابليون؛ فإن انقطاع المواصلات عنه بمصر بعد تدمير أسطوله بموقعة «بوقير البحرية»، وعجزه عن الاستيلاء على عكاء التي هي في نظره مفتاح الشرق، وضياع أمله في فتح الهند؛ كل ذلك ملأه يأسا، وذهب أدراج الرياح ما كان له من الآمال في تكوين دولة عظيمة بالمشرق. ثم إن «السير سدني سمث» كان قد أرسل إليه طائفة من الصحف الأوروبية، فقرأ فيها أن الحرب تجددت بين فرنسا والنمسا، وأن الأخيرة استردت شمالي إيطاليا الذي كان قد استولى عليه هو قبل مجيئه إلى مصر؛ فعول في الحال على أن يعود إلى فرنسا سرا، فغادر مصر يوم (19 ربيع الأول سنة 1214ه/22 أغسطس سنة 1799م) بعد أن عهد بقيادة الجيش للقائد «كليبر».
خرج نابليون من مصر وترك الجيش الفرنسي تهدده الأخطار من كل جانب؛ إذ كان عدده قد نقص كثيرا في معارك الشام وغيرها، ودب السخط في نفوس الجند وقلت أموال الخزينة، وأصبح الجيش في حاجة إلى الذخيرة والملابس، وأرسلت الدولة العثمانية جيشا آخر إلى العريش يقوده الصدر الأعظم، وأسطولا إلى دمياط؛ تريد إعادة الكرة على مصر، هذا إلى أن المماليك عادوا إلى مكافحة الفرنسيس. نعم، إنهم في جمادى سنة 1214ه هادنوا المماليك الذين كانوا قد تغلبوا على معظم الصعيد بزعامة رئيسهم مراد بك، بأن ولوا مرادا حكم بلاد الصعيد، بشرط أن يكون خاضعا لسلطتهم مستعدا لمعونتهم، ولكنه كان متربصا بهم النوازل حتى يستبد في قومه بملك مصر.
القائد كليبر (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
وكان «كليبر» من أكبر قواد الفرنسيس وأعظمهم مهارة، إلا أنه أدرك صعوبة التغلب على هذه الأمور، ورأى من المصلحة أن لا يبقى بمصر، وعرض الصلح على الصدر الأعظم والسير سدني سمث، واتفق معهما على أن يخرج من مصر بجنوده وجميع مهماته، ويسافر إلى فرنسا على نفقة الدولة العثمانية، ويعرف ذلك «بمعاهدة العريش» (شعبان سنة 1214ه/يناير 1800م)، فلما علمت بذلك الحكومة الإنجليزية استنكرت تصرف السير سدني سمث، وأرسلت إليه الأوامر بأن لا يعقد صلحا مع الفرنسيس إلا إذا سلموا جميع جيشهم بمصر. فكان ذلك من الغلطات التي دونها التاريخ للحكومة الإنجليزية؛ إذ إن غرضهم الأصلي لم يكن إلا إخراج الفرنسيس من مصر، وها هو ذا قد عرض عليهم بلا ضرب ولا طعن. فأبلغ السير سدني سمث أوامر حكومته إلى كليبر، فانقطعت بذلك المفاوضات بين الطرفين.
صفحه نامشخص