تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
ژانرها
ويمكن معرفة ما لهذه الموقعة التي لم تستغرق أكثر من أربع ساعات من الأهمية إذا علمنا أن الترك لم تكن هزمت في البحار إلى ذلك اليوم. أما الخسائر فلا يمكن تقديرها بالتحقيق، غير أنه من المؤكد أن خسائر الترك كانت ضعفي خسائر الخلفاء، وأن ما نجا من سفنهم لم يتجاوز الخمسين.
وكان المنتظر بعد هذه الهزيمة المنكرة أن تفقد الدولة سيادتها على البحار، إلا أن ذلك لم يكن، وغاية ما أثرت أنها برهنت لدول أوروبا أنه يمكن التغلب على الترك. أما تأثيرها في سيادة الترك في البحر الأبيض خاصة فكان ضئيلا جدا؛ إذ إنهم بعد الهزيمة بمدة وجيزة أنشئوا لهم أسطولا بلغ عدد سفنه 250. ومما يبرهن على قلة تأثيرها أيضا أن البندقية نقضت عهودها مع حليفتيها، وطلبت إلى الباب العالي أن يعقد معها صلحا على انفراد، وقبلت أن تبقى قبرس في قبضة الباب العالي، وأن تدفع له الثمن الذي كلفه فتحها إياه.
بقيت بعد ذلك الدولة ربع قرن في مسالمة مع البندقية ، وذلك لا يرجع إلى تأثير المعاهدة فقط، بل إلى تأثير نفوذ بعض أزواج السلطان؛ إذ لما تولى مراد الثالث (982-1003ه/1574-1595م) الملك بعد موت أبيه سليم الثاني - وكان ضعيفا - ترك مناصب الدولة تباع لمن يدفع فيها أكبر قيمة، وكان طوع إرادة نسائه وخاصة حظيته «صفية»، وأصلها من سبي البندقية؛ فتسلطت عليه في مصلحة وطنها.
ولما مات هذا السلطان خلفه ابنها محمد الثالث (1003-1012ه/1595-1603م)، وهو واحد من أبناء مراد الثالث البالغ عددهم 102، وقد قتل منهم محمد هذا ثمانية عشر عند توليته عرش الخلافة، ولم تضعف في أيامه سلطة «صفية»، وبقيت هي صاحبة النفوذ والسلطان.
وكان أكبر مساعد لها في هذه المدة «سيكالا»، وهو من عنصر جنوى؛ تزوج بإحدى حفيدات سليمان الأكبر، وارتقى في الجيش العثماني بما كان له من الذكاء والحظوة، ولقد أدى خدمة عظيمة للترك في عام (1004ه/1596م)؛ وذلك أنه بعد أن حارب الترك جنود النمسا وترنسلوانيا واستولوا على «إرلو»، قضوا في مكافحتهم في سهل «كرزت» ثلاثة أيام بانت الهزيمة بعدها في الترك، وفكر السلطان مرتين في الهرب، فحمل سيكالا على جيوش الأعداء، وشتت شملها وأفنى من رجالها خمسين ألفا.
على أن هذا النصر لم يخلص الدولة من الثورات العسكرية والحروب الخارجية، وما كانت تشعر به البلاد من الاستياء العام، وأوضح دليل على وهن نفوذها أن النمسا حينما عقدت معها صلحا في عهد السلطان أحمد الأول (1012-1026ه/1603-1617م) وكان يناهز الرابعة عشرة من عمره؛ لم تعاملها إلا معاملة النظير للنظير، لا الضعيف للقوي، ومنعت ما كان مفروضا عليها من الجزية السنوية.
ثم سادت السكينة في الأصقاع التركية الشمالية؛ لأن يدي إمبراطور النمسا كانتا مغلولتين في حرب الثلاثين سنة،
8
وكان من مصلحته أن يكون على وفاق تام مع الترك، على حين أن الدولة نفسها لم تر فائدة من مهاجمته؛ لأنها كانت إذ ذاك قد استرجعت كل فتوحها.
وفي سنة 1032ه تولى السلطان «مراد الرابع» أريكة الملك (1032-1049ه/1623-1640م)، وكان شديد البأس، ولوعا بالحرب، إلا أنه رأى أن يبرم عقد صلح من جديد مع إمبراطور النمسا ليضمن به بقاء السكينة والهدوء في أجزاء الدولة العثمانية مدة النصف الأول من القرن السابع عشر، حتى يتمكن من توجيه كل قواه إلى الفرس.
صفحه نامشخص