تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
ژانرها
والسبب في عدم اضمحلال هذه المعامل جملة في أيام محمد علي يرجع إلى أمرين؛ أولهما: أنه كان القابض على زمام مالية البلاد، فكان ينفق على هذه المعامل كل ما تحتاج إليه. ثانيهما: أن المحصولات التي كان يشتريها من الأهالي كان لا يدفع ثمنها نقدا، بل كان يبادل بها منهم مصنوعات المعامل. على أن معظم المعامل - كما سبق - أغلق في أواخر أيامه، وبادت البقية الباقية منها في أيام عباس الأول. (4-3) الأشغال العامة
قام محمد علي بعدة أشغال عامة عظيمة، عادت على البلاد بالمنفعة الجليلة والفوائد التي لا تزال مصر تجني ثمارها إلى الآن. ومن أعظم هذه المشروعات ثلاثة: حفر ترعة المحمودية، وإصلاح مرفأ الإسكندرية، وإنشاء القناطر الخيرية. «أولا» ترعة المحمودية:
لا يخفى أن تجارة مصر في ذلك الوقت كانت تتوقف على نهر النيل وفروعه المنتشرة في أنحاء البلاد، وكان أهم الثغور التجارية حينئذ دمياط ورشيد، غير أنهما لوقوعهما عند مصبي النيل تسد فرضهما رمال البحر وغرين النهر؛ مما يجعلهما غير صالحين للسفن الكبيرة التي تنقل التجارة الخارجية. ولاحظ ذلك محمد علي فعزم على تحويل مجرى تلك التجارة إلى الإسكندرية رغم ما بها من العيوب؛ لأنها معرضة للرياح الشمالية الغربية، وماء البحر عندها ضحضاح، فرأى أن من أعظم المشروعات المفيدة لذلك حفر ترعة تربط الإسكندرية بالنيل، فحفرها وسماها «المحمودية» نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فأفادت هذه الترعة البلاد فائدة كبرى؛ إذ أصبحت تجري فيها السفن ذاهبة إلى الإسكندرية حاملة حاصلات البلاد في زمن قصير بدون مشقة كبيرة. وقد جمع الألوف من العمال وسخرهم لحفرها من جميع مديريات القطر، حتى تمت في أقرب وقت مع الأبنية اللازمة لها. وقد بلغت نفقاتها 300 ألف جنيه، كما أورده «كلوت بك» في كتابه على مصر.
ومن فوائد هذه الترعة أيضا أنها كانت سببا في عمران البلاد التي مرت بها وإحياء أراضيها من العطف إلى الإسكندرية، بعد أن كان أكثرها غير صالح للزراعة.
أما مدينة الإسكندرية فإنها تغيرت بسببها تغيرا عظيما، وجرت شوطا بعيدا في الثروة والعمارة، وبقيت هذه الترعة أعظم طريق للتجارة بين مصر والإسكندرية حتى أنشئت السكة الحديدية. «ثانيا» ميناء الإسكندرية:
بعد أن حفر محمد علي باشا ترعة المحمودية، كلف «موجيل بك» أن يصلح مرفأ الإسكندرية حتى يتسنى له بناء عمارة بحرية يحقق بها ما تطمح إليه نفسه، ويجذب بها التجار الأجانب إلى الثغر؛ تسهيلا لبيع حاصلات البلاد التي كانت جميعها في قبضة يده. فأصلحه وبنى فيه دار صناعة بحرية وأحواضا لبناء السفن؛ فاتسع بذلك نطاق المدينة، وانتابها التجار من كل حدب وصوب، وأصبحوا يتنافسون في شراء حاصلات مصر، حتى إن إحدى الشركات التجارية الإنجليزية اشترت في عام من الأعوام محصول القطن كله. «ثالثا» القناطر الخيرية:
هذه من أجل مشروعات محمد علي باشا وأعظمها فائدة للزراعة، وقد كان لها الفضل الأكبر في تنظيم الري في الوجه البحري.
وقد قيل إن نابليون لما قدم إلى مصر في غارته المشهورة أدرك الفائدة التي تنجم عن إنشاء قناطر على النيل عند تفرعه لتنظيم المياه في الفرعين وقت انخفاضه؛ لأنه إذا حجزت المياه عن أحد الفرعين اتجه ماء النيل كله إلى الفرع الآخر، فيرتفع سطحه على سطح النيل الأصلي، وتفيض المياه منه إلى الترع فتروي الأراضي، وقال نابليون عندئذ: «إن هذه الفكرة لا بد أن تخرج يوما ما إلى حيز الوجود.»
فلم يمض طويل عهد حتى تحقق ذلك القول، وظهر المشروع إلى حيز الوجود على يد البطل العظيم محمد علي باشا. ومن أهم الأمور التي حدت به إلى إنفاذه انتشار زراعة القطن في الوجه البحري؛ إذ كان ينمو في فصل الصيف ويروى فيه.
وأول فكرة خطرت لمحمد علي لتدارك ذلك أن يزاد في عمق الترع حتى تنصب فيها مياه النيل وقت انخفاضه، فترفع منها بالسواقي والشواديف وغيرها من آلات الرفع إلى الأرض التي يراد ريها. غير أنه اتضح أن إنفاذ هذا المشروع يتطلب أموالا جمة وجهدا عظيما من الحكومة والأهلين لا يكاد يكون في الإمكان.
صفحه نامشخص