تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم

جرجی زیدان d. 1331 AH
203

تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم

تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم

ژانرها

شكل 11-7: نقود الملك الظاهر بيبرس. (7) سلطنة بركة خان بن بيبرس (من سنة 676-678ه/1277-1279م)

فلما توفي بيبرس أقر الأمراء على مبايعة ابنه البكر محمد ناصر الدين بركة خان، ولكنهم كانوا قد أجمعوا بعد المشورة طويلا على أن يكتموا وفاة بيبرس؛ لئلا يطمع فيهم العدو، فأرسلوا جثته سرا إلى دمشق، وأشاعوا هناك أنه مريض فنقلوه إلى القاهرة في محفة، ثم استقدموا الجيوش جميعها إلى مصر فقدمت، وحالما أدخلوا الجثة إلى القعلة بايعوا ابنه البكر بركة خان، ولقبوه بالملك السعيد، وأقاموا الأمير بلباي أتابكا، وكان بلباي في الأصل مملوكا ابتاعه بيبرس بثمن بخس إلا أنه ارتقى في خدمته حتى صار أمين خزائنه ونائبه كما تقدم. ثم استحق بعد طول الخدمة الصادقة الأمينة أن يكون وصيا على ابنه في مهام السلطنة.

وكان للملك السعيد ثقة كبرى في بلباي حتى إنه ألقى إليه كل مهام الدولة؛ فسعدت مصر في بادئ الرأي، لكنها ما لبثت أن تعكر كأس صفائها بوفاة ذلك الوصي الأمين الحكيم، ولم يكن الملك السعيد يثق بأحد من أمرائه ليعهد إليه مهام الأمة، وكان يظن أنهم هم الذين سعوا في قتل وصيه، ولكنه لم يتأكد ذلك فنفر منهم فوقع اختياره على آق سنقر فاتح النوبة فولاه الأتابكية، وبعد يسير خنقه في أحد أبراج الإسكندرية فتباعد الأمراء عن هذا المنصب، وأرادوا بالسلطان سوءا لكنهم شغلوا عنه بثورة الدمشقيين.

وذلك أن شرف الدين سنجر الملقب بالأشقر كان واليا على دمشق تحت رعاية بركة خان، فادعى الملك لنفسه فبايعه أهلها، ولقبوه بالملك الكامل، فأسرع بركة خان إلى دمشق، ونزل بجيشه في القصر الأبلق الذي كان قد بناه أبوه، وبعد التحري عن أسباب تلك الثورة علم أنها دسيسة من أمرائه. فلما علم هؤلاء بظهور أمرهم عادوا بمن كان على دعوتهم من المماليك إلى القاهرة، وتحصنوا فيها فتبعهم بركة خان فامتنعوا عليه، وعجز عن قهرهم لكثرتهم، فالتجأ إلى قلعة الجبل فحاصروه فيها، وشددوا عليه الحصار فسلم فانحط قدره عندهم، وهموا بقتله فمنعهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، لكنهم أصروا على خلعه فخلعوه في ربيع أول سنة 678ه بعد أن حكم سنتين وثلاثة أشهر فبعثوه إلى قلعة الكرك منفيا، وحبسوه فيها، ثم عادوا إلى قتله فأنفذوا إليه من يقتله، ثم بلغهم أنه سقط عن جواده ومات. (8) سلطنة سلامش بن بيبرس (من سنة 678-678ه/1279-1279م)

فبايعوا أخاه بدر الدين سلامش، وسنه سبع سنوات وبضعة أشهر، ولقبوه بالملك العادل، وأقاموا الأمير سيف الدين بن قلاوون الألفي وصيا عليه، ولم يكن هم هذا الوصي إلا خلع ذلك السلطان الرضيع، وفي رجب من تلك السنة تمكن من مراده فبعثه إلى قلعة الكرك منفيا، واستلم هو زمام الأحكام، وطلب المبايعة فبايعه الناس، ولقبوه بالملك المنصور، وهو لقب ثاني سلاطين هذه الدولة. (9) سلطنة الملك المنصور قلاون (من سنة 678-689ه/1279-1290م)

وهو من مماليك آق سنقر الكاملي، وقدمه إلى الملك الصالح فأعتقه سنة 647ه، فلما تولى السلطنة قرب أنصاره، وأنعم عليهم، واستوزر فخر الدين، وكان كاتب سره الخصوصي، وبعث الأمير طرنطاي إلى دمشق لإخماد ثورة أهلها. فسار في فرقة من الجند فلاقاه الملك الكامل، ودافع دفاعا حسنا، ولكنه ألجئ في سنة 680ه إلى التسليم فقبضوا عليه، وجاءوا به إلى القاهرة، وأودعوه سجنا مظلما، وولوا على دمشق وسائر الشام الأمير حسام الدين لاجين.

وفي سنة 681ه عاد التتر إلى الشام بجيشين: الواحد تحت قيادة أبغا خان، والآخر مؤلف من ثمانين ألف فارس تحت قيادة أخيه منجوتيمور (منكوتمر) فحاربهم المصريون، وفازوا بهم، وقتلوا منجوتيمور، وفر أبغا خان إلى حمدان فسمه أخوه الثالث تيكودار أوغلان، وتولى الحكم بعده، ثم اعتنق الإسلام ولقب بأحمد خان، وكان إسلامه وسيلة لحقن الدماء؛ لأنه خابر قلاون مخابرة سلمية، وتعاهدا على حفظ الولاء، وما زال ذلك مرعيا إلى ما بعد قتل أحمد خان وتولية أرغون مكانه.

فكانت مصر في خلال ذلك مطمئنة في خارجيتها، فنشأت القلاقل في داخليتها بسبب تمرد بعض العامة. فغضب السلطان غضبا أعمى بصره، وأمر مماليكه أن يضعوا السيف فيهم، ولم يعد يميز المجرم من البريء، فساق الجميع بعصا واحدة، وأعمل فيهم السيف ثلاثة أيام متوالية حتى غصت الأسواق بجثثهم رجالا ونساء وأولادا. فجاء العلماء إلى السلطان، وأخذوا يخففون من غيظه، ويبينون له وجه عسفه. فانتبه لما جاءه من الاستبداد الفاحش فندم ندما لا مزيد عليه، وتكفيرا لذلك أمر ببناء البنايات والتكايا رحمة بالمساكين وذوي الأسقام، ومن أجل ذلك أيضا بنى المستشفى الشهير بالبيمارستان المنصوري بخط بين القصرين (في شارع النحاسين) وكان في الأصل قاعة لست الملك بنت العزيز بالله، ولها تاريخ ذكره المقريزي في صفحة 406 ج2. (9-1) ملابس المماليك

وكان المماليك إلى ذلك الحين يلسبون لباس الزينة بما يناسب جمالهم، كانت كلوتاتهم (للرأس) من الصوف الأزرق الغميض، وهي مضربة عريضة بغير شاش، وكانوا يربون ذوائب من الشعر خلفهم يجعلونها في أكياس حرير أحمر أو أصفر، وكانوا يشدون في أوساطهم بنودا بعلبكية عوضا عن الحوائص، وكانت خفافهم برغالي أسود، وكانوا يشدون فوق قماشهم إبزيم جلد وفيه حلق نحاس، وفي ذلك الإبزيم ملعقة من الخشب كبيرة وسكين كبيرة، وكانت لهم مناديل من الخام قدر فوطة كبيرة لمسح أيديهم. فلما تولى الملك المنصور قلاون أمر العسكر أن يغيروا هذه الملابس الشنيعة، ويدخلوا في الهيئة المطبوعة، وكانت خلع المقدمين من العنتابي فأمر لهم بالخلع المخمل الأحمر والأخضر بالفرو والسمور. ثم سار إلى حصن مرقد فحاصره 33 يوما فسلم، وفي سنة 684ه افتتح قلعة الكرك، وقبض على سلامش؛ لأنه كان يحاول الاستقلال عن مصر فقاده إلى القاهرة، وأودعه سجنا مظلما مكث فيه إلى ما بعد وفاة قلاون. (9-2) موت قلاون وآثاره

ولما اطمأن باله في داخليته عكف على تنظيم الوزارة، وما زال يعزل ويولي حتى أقر على وزارة شمس الدين سنة 685ه فبقي على دستها زمنا طويلا. ثم أوصى قلاون بولاية العهد لابنه علي، ولقبه بالملك الصالح (الثالث) وأخذ منذ ذاك الحين في تدريبه على الأحكام وإدارتها على أن يستخلفه عليها إذا طرأ عليه ما يستدعي غيابه عن مصر في حرب أو غيرها فلم يصح تقديره؛ لأن عليا أصيب بحمى شديدة ذهبت بحياته سنة 687ه فحزن قلاون حزنا شديدا، وكثرت هواجسه حتى كره الأحكام. ثم رأى أن يجرد حملة؛ لافتتاح طرابلس الشام تسلية له عن هواجسه، وكانت في حوزة الصليبيين منذ مائة وثمانين سنة لم ينازعهم أحد عليها. فسار إليها قلاون وافتتحها، وذبح من فيها وأخربها، ثم أعاد بناءها، وجعل عليها حامية.

صفحه نامشخص