تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
ژانرها
ثم دخلت سنة 616ه وقد غلت الأسعار في دمياط بما يفوق الحد فبلغت البيضة عدة دنانير، وكان رجال الملك الكامل ينفذون الأقوات إلى أهل دمياط بحيل مختلفة؛ مثل أن يأتوا بجمل، ويشقوا جوفه، ويملأوه فراخا وفاكهة وبقلا وغير ذلك، ثم يخيطون عليه، ويرمونه في النيل فيسير منحدرا مع المجرى؛ فإذا جاء أمام دمياط نزل من فيها إليه وأخذوه، واقتاتوا على ما في جوفه، وكان الإفرنج أحيانا يظفرون بهذه الحيلة فيأخذون تلك المؤن، وفي آخر الأمر زاد الضيق في المدينة، وكثرت الموتى جوعا، وامتلأت مساكنهم وطرقات البلد منهم، وعدمت الأقوات حتى لم يبق عندهم إلا بعض القمح والشعير.
وفي يوم الثلاثاء 25 شعبان سنة 616ه هجم الصليبيون على دمياط فاستولوا عليها، وكانت مدة الحصار جميعها 16 شهرا و22 يوما. فدخلوها وأحكموا السيف فيمن بقي فيها من الأحياء إلى أن تجاوزوا الحد في القتل، وكانت الأبخرة الفاسدة تتصاعد عن جثث الموتى ما يلحق الأحياء بهم، وكانت تلك الجثث متراكمة في الأسواق والبيوت وعلى الأسرة، فكان يموت الابن جوعا وليس من يسعى في دفنه فيبقى في مكانه فيلحقه الأخ ثم الأم ثم الأب وهكذا. (أ) مدينة المنصورة
واتصل ذلك بالسلطان الملك الكامل فرحل بعد سقوط دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم ورأس بحر دمياط؛ ليمنع الصليبيين من المسير إلى داخلية القطر بحرا، وحيز في محلة المنزلة، وأقام معسكره هناك. أما الإفرنج فحصنوا دمياط، وجعلوا جامعها كنيسة على اسم القديسة مريم، وبثوا رجالهم في القرى يقتلون وينهبون ويأسرون، وبعثوا جميع من أسروا من المسلمين إلى عكا بحرا. أما الملك الكامل فأخذ في تحصين معسكره في المنزلة؛ فأمر ببناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق، وصارت تدعى بعد ذلك الحين «المنصورة» إشارة إلى انتصاره على الصليبيين هناك، وكتب إلى المسلمين في سوريا يستحثهم على محاربة الإفرنج، وإخراجهم من ديار المسلمين.
أما الصليبيون فتركوا أمتعتهم ومؤنهم في دمياط بعد أن أقاموا فيها حامية، وساروا إلى أن وصلوا تجاه المنصورة في ما هو أمام سراي المنصورة الآن وعسكروا هناك، وكان عدد الصليبيين إذ ذاك نحو مائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس. فقدم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدتها مائة قطعة. فأصبح المسلمون في ضيق. فأمر الملك الكامل أن ينادى بالمسلمين للجهاد من سائر أنحاء القطر؛ فاجتمع الناس من سائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ونودي بالنفير العام أيضا فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي؛ فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان؛ ليحولوا بين الإفرنج ودمياط، وسارت الشواني ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون فانقطعت الميرة عن الإفرنج من البر والبحر.
وفي أثناء ذلك أتت النجدات للملك الكامل من الشام والشرق يتقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى. فتلقاهم الملك الكامل، وأنزلهم عنده بالمنصورة في 13 جمادى الآخرة، وتتابع مجيء الملوك حتى بلغت عدة جيوش المسلمين نحو أربعين ألف فارس فحاربوا الصليبيين في البحر والبر، وأخذوا منهم ست شوان وأسروا منهم ألفين ونيفا. فتضعضع الإفرنج، وضاق بهم المقام، فخابرهم الملك الكامل بأمر الصلح؛ ليخرجهم من بلاده، فعرض عليهم أن يعطيهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر الأماكن التي فتحها السلطان صلاح الدين إلا الشوبك والكرك؛ لأنهما أصبحتا ملكا خاصا له نالهما بالإرث من السلطان صلاح الدين، وطلب إليهم في مقابل ذلك أن يردوا له دمياط، وينسحبوا من القطر المصري.
فأصر الصليبيون على طلب تينك المدينتين، ومبلغ 300 ألف دينار تعويضا لما سببه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق بهدم أسوار بيت المقدس، فامتنع المسلمون عن التسليم لهم بذلك. ثم بعثوا سرية من رجالهم؛ لتسير سرا من وراء معسكر الصليبيين، وتخرق سد ترعة المحلة، وكان النيل في معظم ارتفاعه فطافت مياه الترعة حتى أغرقت جميع الأرضين التي تفصل جيش الصليبيين من دمياط، فأصبحوا على مثل الجزيرة، وقد حال الماء بينهم وبين نجدة أصحابهم؛ فخافوا سوء المصير، وباتوا يشكون من قلة الطعام وكثرة المياه، ولم يكن باقيا بينهم وبين دمياط إلا طريق ضيق، فأمر السلطان بنصب الجسور عند أشمون طناح فعبرت العساكر عليها، وملكت تلك الطريق؛ فاضطرب الصليبيون، وضاقت عليهم الأرض. (ب) انسحاب الصليبيين من دمياط
واتفق مجيء مرمة عظيمة مددا للصليبيين حولها عدة حراقات، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلتها شواني المسلمين حتى ظفروا بها. فاتصل ذلك بالإفرنج فزاد خوفهم، وندموا على رفضهم المعاهدة كما طلبت إليهم. فطلبوا الأمان على أن ينسحبوا من القطر المصري جميعه، ولا يطلبوا لذلك مقابلا، فقبل السلطان الكامل في 7 رجب سنة 618ه بأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فأعطى الصليبيون ملك عكا ونائب البابا رهنا، وأعطى الملك الكامل ابنه الملك الصالح وكان سنه 15 سنة وجماعة من الأمراء. فسار الصليبيون إلى دمياط، وسلموها إلى المسلمين في 19 رجب بعد أن كانوا قد أجهدوا أنفسهم في تحصينها وخرجوا من القطر، وبعد خروجهم بقليل جاءت نجدة عظيمة في البحر إلى الصليبيين، فشكر المسلمون الله لتأخرها إلى ذلك الحين، ولما بلغ الصليبيون مكانهم أرسلوا الملك الصالح ومن معه إلى أبيه فأرسل لهم رهنهم، وتفرق الناس إلى بلادهم، ودخل الملك الكامل دمياط بإخوته وعساكره، وكان ليوم دخوله إليها احتفال عظيم.
ثم عاد إلى المنصورة، وجلس في قصره فيها، وبين يديه أخواه: الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق، وغيرهما من أهله وخواصه، وهم في سرور واحتفال، وبين يديهم المغنون فأمر الملك الأشرف جاريته فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا وقومه
وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
صفحه نامشخص