تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
ژانرها
والأظهر أن الأحزاب التي دعت إلى خلع المستعين، وإجباره على الاستقالة أمروا بإبعاده إلى واسط، ولم يريدوا أن يصحبه إلا من لا يرتاب أحد في أمانته له وإخلاصه، فلم يجدوا أنسب من ابن طولون، وكان إلى ذلك العهد مكتسبا ثقة الطرفين، فعهدوا إليه تلك المهمة، فقام بها حق القيام. ثم إن الأحزاب في سامرا مع فوزهم بخلع المستعين وتولية المعتز أوجسوا شرا من بقاء الأول في قيد الحياة، فأوعزوا إلى الثاني أن خلافته لا ترسخ إلا بقتل المستعين. فكتبت فتيحة أم المعتز إلى أحمد بن طولون وهو في طريقه إلى واسط تحثه على قتل المستعين، وتعده بولاية واسط مكافأة له؛ فرفض ذلك أحمد بنفس أبية، فأرسلت حاجبا يدعى سعيدا وبيده أوامر إلى أحمد بن طولون مؤذنة بتسليم المستعين إلى سعيد، وعود أحمد إلى سامرا؛ فأذعن أحمد إلى الأوامر، فسلم المستعين إلى سعيد. فسار به في الصحراء تبعا للأوامر السرية التي كانت معه، وذبحه في فسطاطه، وعاد برأسه إلى المعتز، ورمى به الأرض بين أقدامه.
أما أحمد بن طولون فدخل إلى خيمة المستعين بعد ذهاب سعيد، فرأى الجثة بلا رأس، فعلم الدسيسة، وتكدر من هذا الفعل الوحشي الذي قضى بقتل البريء. ثم هم إلى الجثة فغسلها وكفنها، ونقلها إلى سامرا حيث صلي عليها ودفنت، وقد قال أحمد بن طولون عند استيلائه على مصر وسوريا ما مفاده: «وعدت بولاية واسط على أن أقتل المستعين؛ فأبيت محافظة على القسم الذي قسمته، وما زلت في تقوى الله، وقد كافأني من فضله بولاية مصر وسوريا، ولا يفلح الظالمون.»
وكانت مصر في أثناء جميع هذه الحوادث ينتابها ما ينتاب غيرها من الإمارات الإسلامية. فإن يزيد بن عبد الله الذي كان استخلفه المنتصر على مصر أصبح عليها أميرا عندما صار المنتصر خليفة، وبقي يزيد قائما بأعباء مصلحته طول مدة خلافة المستعين بالله. أما المعتز بالله فبعد ما جلس على دست الخلافة عزله في 3 ربيع أول سنة 253ه وولى مزاحم بن خاقان من أعيان الأتراك الذين ساعدوه في حصوله على الخلافة، ومن أعماله أنه أكثر من الإيقاع بسكان النواحي، وولى الشرطة أرجوز فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن المؤنثين والنوائح، وفي رجب منها منع من الجهر بالبسملة في الصلاة بالجامع، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجوز، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، ووكل بذلك رجلا من العجم يقوم بالسوط من مؤخر المسجد، وأمر أهل الحلق بالتحول عن القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع من المساند التي يستند إليها ومن الحصر التي كانت للمجالس في الجامع، وأمر أن تصلى التراويح في رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلونها ستا إلى رمضان سنة 253ه، ومنع من التثويب، وأمر بالآذان في يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأن تغلس بصلاة الصبح، ونهى أن يشق ثوب على ميت أو يسود وجه أو يحلق شعر أو تصيح امرأة، وعاقب في ذلك وشدد فيه.
وفي 5 محرم سنة 254 توفي مزاحم فتولى ابنه أحمد بن مزاحم، وفي تلك السنة استقال هذا؛ فعين المعتز مكانه باكباك أحد كبار الأتراك، وكان هؤلاء يتولون الإمارات اسما بلا رسم؛ لأنهم لم يكونوا يبرحون مجلس الخليفة. أما الأحكام في الإمارات فكانت موكولة إلى نواب يعهدون إليهم أمرها، وكان عدد مثل هؤلاء النواب في مصر يكثر أحيانا؛ فقد يكون منها نائب في الفسطاط، وآخر في الإسكندرية، وآخر في الصعيد ... إلخ، وكان يستبد أحدهم بالأعمال العسكرية، والآخر بالأعمال الإدارية، والآخر بالقضاء ... وهكذا، ونظرا لما كان لأحمد بن طولون من السمعة الحسنة انتخبه باكباك - المتقدم ذكره - وجعله قائدا للقوة العسكرية في الفسطاط. أما الإدارة المالية أو الخراج فعهد بها إلى أحمد بن المدبر ودعاه مفتش الخراج. (14-1) ابن المدبر
وابن المدبر هذا لم يكن من التدبير على شيء، بل كان عاتيا غشوما، فزاد الضرائب، وشدد الوطأة خصوصا على المسيحيين، وكان من دهاة الناس وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعا صارت مستمرة من بعده لا تنقض؛ فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي. أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من طرف الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم.
فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيد به، وقد كان عالما بذلك ؛ فجعل في حاشيته الخاصة نحوا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه.
فلما قدم أحمد بن طولون إلى الفسطاط؛ ليستلم زمام القوة العسكرية فيها قدم أحمد بن المدبر بحاشيته للقائه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، وقدم معه شقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام قد تقدمت الإشارة إليهم، وكان لهم خلق حسن، وطول أجسام ، وبأس شديد، عليهم أقبية ومناطق ثقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس. فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس.
فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه، فقال ابن المدبر: إن هذه لهمة عظيمة، ومن كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول: «قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك - كثره الله - فرددناها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيناهم بين يديك؛ فإنا إليهم أحوج منك.» فقال ابن المدبر لما بلغته الرسالة: «هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل؛ إذ كان يرد الأعراض والأموال، ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم.» ولم يجد بدا من أن يبعثهم إليه؛ فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، فكتب ابن المدبر فيه إلى الخليفة يغري به، ويحرض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون فكتم ما في نفسه ولم يبده.
وفي 25 رجب سنة 255ه كثرت دسائس الأتراك في بغداد بمساعدة الحاجب صالح بن واصف أحد قتلة المتوكل فأوعز إلى المعتز - وعمره إذ ذاك 24 سنة - أن يتنازل عن الخلافة، ولم يحكم فيها إلا 4 سنوات و6 أشهر؛ فتنازل في ذلك اليوم، فأودعوه السجن، وقطعوا عنه الغذاء، فمات جوعا بعد ستة أيام؛ فأقاموا عوضا عنه ابن عمه المهتدي بالله بن الواثق، وعمره 37 سنة. (15) خلافة المهتدي بن الواثق ثم المعتمد بن المتوكل (من 255-257ه/869-870م)
وفي أيام المهتدي بن الواثق ظهر لابن طولون عدو آخر في مصر هو إبراهيم الصوفي مأمور إقليم إسنا، وكان قد وضع يده على البلاد التي حوله، وقتل كل من كان يحاول مقاومته؛ فأنفذ إليه ابن طولون فرقة من جيشه، فحاربها، وغلبها؛ فرجعت متقهقرة إلى قرب إخميم، وهناك أتتها نجدة اتحدت معها؛ فتغلبت على جيوش ابن الصوفي ففر المذكور في البرية ملتجئا إلى الواحات في بطن الصحراء الكبيرة مع من بقي معه من الرجال.
صفحه نامشخص