تاریخ مسرح
تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر
ژانرها
إهداء
مقدمة
تمهيد
مارون النقاش
المسرح في مصر
دار الأوبرا الخديوية
يعقوب صنوع والحقيقة الغائبة
ريادة مسرحية مجهولة لمحمد عثمان جلال
الفرق المسرحية العربية
الفرق المسرحية الصغرى
صفحه نامشخص
المسرح المدرسي
النقد المسرحي
نماذج من المسرحيات العربية
المصادر والمراجع
إهداء
مقدمة
تمهيد
مارون النقاش
المسرح في مصر
دار الأوبرا الخديوية
صفحه نامشخص
يعقوب صنوع والحقيقة الغائبة
ريادة مسرحية مجهولة لمحمد عثمان جلال
الفرق المسرحية العربية
الفرق المسرحية الصغرى
المسرح المدرسي
النقد المسرحي
نماذج من المسرحيات العربية
المصادر والمراجع
تاريخ المسرح في العالم العربي
تاريخ المسرح في العالم العربي
صفحه نامشخص
القرن التاسع عشر
تأليف
سيد علي إسماعيل
إهداء
إلى زوجتي الحبيبة
إلى ابنتي الكبرى ... ابتسام
إلى ابنتي الصغرى ... أميرة
أهدي إليكم هذا الكتاب من أرض الكويت التي شهدت تواجدكم فيها فترة قصيرة تمنيت أن تطول.
د. سيد علي إسماعيل
مقدمة
صفحه نامشخص
الحديث عن تاريخ المسرح العربي، في القرن التاسع عشر، حديث شيق، يستمتع به كل قارئ ودارس. فالشخصية العربية تحن دائما إلى معرفة تاريخها الأدبي والسياسي والفني، وتسعى إلى هذه المعرفة بكل جهد دون كلل أو ملل. وظل القارئ العربي أسيرا لبعض الكتابات القليلة التي تطرقت إلى الحديث عن تاريخ المسرح في العالم العربي، خصوصا في القرن التاسع عشر. وهذه الكتابات، رغم قلتها، إلا أنها غطت معظم المعلومات المتاحة في هذا التاريخ. هكذا أيقن الناس، وأنا منهم بالطبع. بل إن من يتطرق على إعادة كتابة تاريخ المسرح العربي في هذه الفترة، كأنه يتطرق إلى الكتابة عن المستحيل.
وأحمد الله عز وجل، على أنني خضت ذلك المستحيل في هذا الكتاب، كما خضته من قبل ثلاث مرات. ففي المرة الأولى، كتبت أول كتاب - في المكتبة العربية - عن إسماعيل عاصم (1840-1919)، أحد الرواد المسرحيين العرب، وجمعت فيه كل إنتاجه المسرحي، فضلا عن إنتاجه في الشعر والمقامة والمقالة الصحفية. وقبل صدور هذا الكتاب، كان هذا الرائد من المجهولين؛ لذلك نعته بأشهر مجهول في تاريخ المسرح العربي. وفي المرة الثانية، استطعت أن أجمع خمس مخطوطات مسرحية، للأديب العربي الموسوعي محمد لطفي جمعة (1886-1953)، ونشرتها لأول مرة، مع نقد وتحليل لها. وآخر محاولاتي في خوض المستحيل، كان كتاب «الرقابة والمسرح المرفوض». ذلك الكتاب الذي يعد أول كتاب في المكتبة العربية عن الرقابة المسرحية، لما فيه من وثائق وتقارير رقابية، منذ عام 1923، تنشر لأول مرة في العالم العربي.
ومن الجدير بالذكر أنني في هذه المحاولات، كنت أبحث وأنقب في الدوريات القديمة وأنبش في الوثائق والمخطوطات، حتى استطعت الحصول على معلومات جديدة، لم يتطرق إليها أحد من قبل، فخرجت هذه المحاولات قوية، ولاقت استحسان معظم من قرأها. وهذا الاستحسان في ظني، راجع إلى الجديد والطريف في هذه الكتب.
وعندما تصديت إلى الكتابة عن تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر، وضعت في اعتباري محاولات الأساتذة الأجلاء، ممن سبقوني في الكتابة عن هذا الموضوع. تلك المحاولات التي هيمنت على المكتبة العربية بأسرها ... وهنا صممت على أن يكون كتابي هذا، هو المحاولة الرابعة ... أي أضمنه أشياء جديدة لم يتطرق إليها أحد من قبل، كمحاولاتي السابقة.
ولعل القارئ يقع في حيرة من أمره ويتساءل: ماذا يمكن أن يضاف إلى تاريخ المسرح العربي، خصوصا في القرن التاسع عشر؟! ورغم ثقتي بأن هذه الحيرة ستتلاشى عند القارئ شيئا فشيئا، كلما توغل في قراءته لصفحات هذا الكتاب، إلا أنني سأوجز بعض الأمور الجديدة التي جئت بها في هذا الكتاب، ولم تكن معروفة من قبل.
فمثلا حديثي عن منطقة الأزبكية بالقاهرة، تلك المنطقة التي اشتهرت بوجود الأوبرا في القرن الماضي، سيجد القارئ أنها أيضا كانت تزخر بمسارح أخرى سمعنا عنها، ولم نقرأ عن نشاطها وتاريخها، مثل مسرح الكوميدي الفرنسي، ومسرح حديقة الأزبكية، والسيرك، والأبيودروم. والقارئ سيجد حديثا مفصلا يكتب لأول مرة عن هذه المسارح. بل سيجد أيضا تاريخا وثائقيا جديدا، ينشر لأول مرة أيضا، عن الأوبرا نفسها، رغم شهرتها وتاريخها. هذا بالإضافة إلى إعطاء بعض الفرق المسرحية حقها، وبعثها من جديد بالصورة اللائقة كجوق السرور، الذي اعتبرته بعض الكتابات الحديثة من الفرق الصغرى، رغم أنه كان من أكبر الفرق المسرحية العربية في القرن الماضي. ولم يتوقف الجديد في هذا الكتاب عند هذا الحد، بل تطرق إلى الشخصيات المسرحية، مثل محمد عثمان جلال، الذي أثبت أنه أول رائد مسرحي مصري في الكتابة المسرحية، من خلال نشر وثيقة مسرحية له في عام 1871.
أما أهم جديد جئت به في هذا الكتاب، فكان الحديث عن «يعقوب صنوع»؛ ذلك الرائد المسرحي الأول للمسرح العربي في مصر، كما هو معروف وراسخ في الأذهان ... بل إنه أكثر الرواد شهرة لما كتب عنه حتى الآن. وسيندهش القارئ عندما أقول له: إنني في دراستي عن صنوع - في هذا الكتاب - أنكرت ريادته، ووضعت شكوكا كثيرة حول نشاطه المسرحي في مصر، تلك الشكوك التي وصلت في النهاية إلى حد إنكار نشاطه المسرحي برمته في مصر.
وأخيرا أتوجه بالشكر إلى مؤسسة المرجاح للنشر والتوزيع بدولة الكويت، على اهتمامها وجهدها في طبع هذا الكتاب لأول مرة في الكويت. كما أتوجه بالتحية إلى المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، الذي أصبح مؤسسة فنية علمية، تفخر بها دولة الكويت على كافة المستويات.
دكتور سيد علي إسماعيل
الكويت في: 28 / 9 / 1998
صفحه نامشخص
تمهيد
(1) مسرح الحملة الفرنسية
عرف العالم العربي المسرح الحديث عن طريق القطر المصري في عهد نابليون بونابرت، عندما احتل مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. فقد كان معه بين رجال البعثة العلمية الفرنسية اثنان من كبار الموسيقيين، يسمى أحدهما «ريجل» والثاني «فيلوت». وفي رسالة كتبها بونابرت إلى حكومة الدريكتوار يومئذ طلب فرقة من الممثلين. ووصلت الفرقة وبدأت التشخيص في منزل كريم بك ببولاق. وقد عثر بعض الباحثين على رسالة كتبها مسيو فيلوتو إلى الجنرال مينو وكان حينئذ بالإسكندرية قال له فيها: كلفت بأمر جناب القائد العام أن أسألك بأن تبذل الجهد في مساعدتنا على إتمام مرسح التشخيص الذي تقرر إنشاؤه هنا، فأرجوك أن ترسل إلينا كل ما عندك من الأوتار والعدد الفرنساوية.
وسمي المرسح الأول في مصر «مرسح الجمهورية والفنون»،
1
ويحفظ لنا التاريخ اسم مسرحيتين تم تمثيلهما به، وهما: رواية «الطحانين» ورواية «زايس وفلكور» أو «بونابرت في القاهرة». وقد اشترك في تشخيص المسرحية الثانية أغلب علماء فرنسا بمصر. وبعد أن غادر نابليون مصر لحق به ريجل وبقية رجاله،
2
بعد أن وضعوا اللبنة الأولى للمسرح الحديث في مصر، وفي العالم العربي. وعلى الرغم من أن تاريخ هذه اللبنة موغل في القدم، إلا أن بعض الصحف الفرنسية - التي كانت تصدر في مصر في تلك الفترة - احتفظت لنا ببعض الإشارات التي تؤرخها وتوثقها.
وكانت جريدة «كورييه دوليجيبت
COURIER DE L’EGYPTE » أول جريدة حاولت الترفيه عن جنود الحملة الفرنسية في مصر؛ وذلك بنشرها إعلانات عن نواد وملاه اجتماعية، كي ترغبهم في الاشتراك فيها من أجل التسلية. ففي عددها الثالث عشر في عام 1798، نشرت إعلانا عن ناد للاجتماعات بالقاهرة، قالت فيه: «نظرا لأن الفرنسيين الموجودين الآن في القاهرة، يحسون بحاجتهم إلى مكان للاجتماع، يستطيعون أن يجدوا فيه بعض الراحة خلال ليالي الشتاء الطويلة، فإن المواطن دارجيافل
صفحه نامشخص
DARGEAVEL
قد تكفل بالقيام بمشروع ناد خاص، يقدم لهم فيه كل ملذات المجتمع، وذلك بعد أن حصل على موافقة القائد العام. ووقع اختياره على منزل وحديقة واسعة في حي الأزبكية يستطيع الفرنسي أن يجد فيه بعض الترفيه. وربما يكون فوق ذلك وسيلة لجذب سكان البلاد ونسائهم إلى الدخول في مجتمعاتنا، وتعليمهم عن طريق غير مباشر العادات والأذواق والمودات الفرنسية.»
3
ولم تقتصر الجريدة على نشر هذا الإعلان فقط، بل أتبعته بإعلانات كثيرة عن وسائل الترفيه ذاتها. فنشرت إعلانا عن جمعية للتمثيل في القاهرة تقوم يوم 30 من شهر فريمير سنة 8 جمهورية [الموافق 20 / 12 / 1800] بتمثيل مسرحيتين إحداهما لفولتير والأخرى لموليير. ووالت النشر عن حفلات هذه الجمعية في كل مناسبة لها. وكتبت ذات يوم أن المواطنين أوديفير
AUDIFFERT
وهانج
HANNIG
قاما في القاهرة بتأليف فرقة موسيقية في إحدى الصالات الجميلة الفسيحة، وتعزف الفرقة كل عشرة أيام، إلا إذا كانت ستمثل في اليوم ذاته إحدى المسرحيات؛ ففي هذه الحالة تؤجل الفرقة الموسيقية حفلتها. وواصلت الإعلان عن حفلات هذه الفرقة، ووصفت هذه الحفلات في كثير من أعدادها.
4
وفي هذا الوقت تأتي إلينا أقدم إشارة عربية عن مسرح الحملة الفرنسية ، وهي ما ذكره الجبرتي في تاريخه ضمن حوادث شهر شعبان، وبالتحديد في يوم الحادي عشر منه عام 1215ه [الموافق 29 / 12 / 1800] عندما قال: «وفيه كمل المكان الذي أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكمدي؛ وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل، وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.»
صفحه نامشخص
5
وهذه الإشارة تناقلتها أكثر الكتب التي تحدثت عن تاريخ المسرح العربي، علما بأنها لم تتحدث عن أي شيء آخر في هذا المجال، أو تفاصيل هذه الإشارة. وبالبحث استطعنا الوصول إلى الوصف التفصيلي لحديث الجبرتي، من خلال وصف جريدة كورييه دوليجيبت عندما قالت: «أدت الفرقة المسرحية في يوم 10 الجاري مسرحية «فارس مدينة تيونفيل»
LE DRAGON DE THIONVILLE
ومسرحية «الأصم»
LE SOURD ، ويعتزم القائد العام توسيع قاعة المسرح لكي تستوعب ضعف عدد المتفرجين الذين يمكن أن تستوعبهم الآن. وإذا كان لدينا متسعا فائضا على صفحات هذه الجريدة كنا قد تكلمنا في العدد رقم 50 منها عن سلامة ذوق المواطن «فوفى»
FAUVY
الضابط في سلاح المهندسين، والجهود التي بذلها في زخرفة هذه القاعة الجميلة.»
6
وتتوالى إشارات جريدة كورييه، حتى تصل إلى وصف تفصيلي لإحدى المسرحيات الممثلة، قائلة: «أدت الفرقة المسرحية في يوم 25 مسرحية «المحامي باتلان والطحانين»
L’AVOCAT
صفحه نامشخص
وهي أوبرا صغيرة حديثة ألفت في مصر. كلمات المواطن «بالزاك»
BALZAC
عضو لجنة الفنون. الموسيقى للمواطن «ريجيل»
RIGEL
عضو المجمع. التمثيلية عبارة عن فهم خاطئ يستغله منافس لبث الخلاف بين عشيقين وينتهي أمرها برد ابنة أحد الطحانين إلى شاب في مستوى والدها مع القضاء على آمال موثق عجوز يهيم بحبها. إن في هذه التمثيلية شيئا من السذاجة في انتصار الحب البريء والعودة إلى المساواة. لقد أعجب الحاضرون بالموسيقى كثيرا لأن ألحانها عذبة وذوقها جميل. وفي اعتقادنا أن المؤلف الذي أنتج للمرة الأولى مسرحيات من هذا النوع سوف يرضي الجمهور بمواهبه ويعوضه عن أب كان مشهورا ومذهلا بحق ... لقد شهد هذه المسرحية عدد كبير من الوجهاء والأتراك في القاهرة، كما شاهدها كثير من المسيحيين والسيدات الأوروبيات.»
7
وإذا كانت إشارة الجبرتي، تعد أول إشارة لعربي تحدث عن المسرح الفرنسي وهو في مصر، فإن ما ذكره الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، في فترة تواجده في فرنسا (1826-1831)، يعد الإشارة الثانية لكاتب عربي تحدث عن المسرح الفرنسي أيضا، ولكن وهو في فرنسا. ويجب علينا أن نقر بأن الطهطاوي، هو أول عربي تحدث عن تفصيلات المسرح الغربي، قبل أن يتحدث عنها الرائد الأول للمسرح العربي «مارون النقاش» في كتابه «أرزة لبنان». فالطهطاوي تحدث عن شكل المسارح بما فيها من إضاءة وبنوارات، ومكان الأوركستر والكواليس ووظيفتها، وأيضا خشبة المسرح والديكور وكيفية تغيير المناظر حسب الموضوع الممثل، وكذلك عن الإعلان المسرحي ووظيفته، وأخيرا عن أنواع التمثيل وبالأخص البانتومايم.
يقول الطهطاوي في كتابه تحت عنوان «في متنزهات مدينة باريس»: «... فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى «التياتر» و«السبكتاكل» وهي يلعب فيها تقليد سائر ما وقع. وفي الحقيقة إن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرا عجيبة. وذلك لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى، وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات، فكم فيها من المبكيات ... وصورة هذه «التياترات» أنها بيوت عظيمة لها قبة عظيمة، وفيها عدة أدوار كل دور له «أود» [بنوارات] موضوعة حول القبة من داخله. وفي جانب من البيت مقعد متسع [خشبة المسرح] يطل عليه من سائر هذه «الأود» بحيث إن سائر ما يقع فيه يراه من هو في داخل البيت، وهو منور «بالنجفات» العظيمة. وتحت ذلك المقعد محل للآلاتية [الأوركستر]، وذلك المقعد يتصل بأروقة [الكواليس] فيها سائر آلات اللعب، وسائر ما يصنع من الأشياء التي تظهر، وسائر النساء والرجال المعدة للعب، ثم إنهم يصنعون ذلك المقعد كما تقتضيه اللعبة، فإذا أرادوا تقليد سلطان مثلا في سائر ما وقع منه، وضعوا ذلك المقعد على شكل «سراية» [الديكور] وصوروا ذاته، وأنشدوا أشعاره ، وهلم جرا. ومدة تجهيز المقعد يرخون الستارة [فترة الاستراحة] لتمنع الحاضرين من النظر، ثم يرفعونها ويبتدئون باللعب. ثم إن النساء اللاعبات والرجال يشبهون العوالم في مصر [الراقصات] ... ومن العجائب أنهم في اللعب يقولون مسائل من العلوم الغريبة والمسائل المشكلة ويتعمقون في ذلك وقت اللعب، حتى يظن أنهم من العلماء ... واللعبة التي تظهر تكتب في ورق [الإعلان] وتلصق في حيطان المدينة، وتكتب في التذاكر اليومية ليعرفها الخاص والعام ... وبالجملة فالتياتر عندهم كالمدرسة العامة، يتعلم فيها العالم والجاهل. وأعظم «السبكتاكلات» في مدينة باريس المسماة «الأوبره» وفيها أعظم الآلاتية وأهل الرقص، وفيها الغناء على الآلات والرقص بإشارات كإشارات الأخرس [البانتومايم]، تدل على أمور عجيبة، ومنها «تياتر» تسمى: كوميك فيغنى فيها الأشعار المفرحة. وبها «تياتر» تسمى: «التياتر الطليانية» وبها أعظم «الآلاتية»، وفيها تنشد الأشعار المنظومة باللغة الطليانية.»
8 (2) أقوال الرحالة
ومن البدايات المسرحية في العالم العربي، من خلال مصر أيضا، أقوال الرحالة،
صفحه نامشخص
9
وأهمهم على الإطلاق إدوارد وليم لين، الذي رصد لنا أول مسرحية، بصورة تفصيلية لفرقة المحبظاتية. وأهمية هذه الإشارة ترجع إلى أنها أول نص لمضمون مسرحية منشور من قبل لين في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» فيما بين عامي (1835-1838).
يقول إدوارد وليم لين: «يسر المصريون كثيرا بالعروض التي يقدمها المحبظون؛ وهم مهرجو المهازل المبتذلة. ويؤدي هؤلاء مهازلهم عامة خلال الاحتفالات التي تشبه الأعراس وحفلات الختان في منازل كبار القوم ... ويقتصر الممثلون على الصبية والرجال، أما المرأة فيقوم بدورها رجل أو صبي متنكرا في زيها. وسأعرض للقارئ نموذجا عن أحد عروضهم التي قدموها أمام الباشا منذ فترة وجيزة خلال احتفال أقامه بمناسبة ختن أحد أولاده ... واقتصرت شخصيات المسرحية على الناظر وشيخ البلد وخادمه وكاتب قبطي وفلاح مدين للحكومة وزوجته وخمسة أشخاص آخرين، مثل اثنان منهما دور طبالين وثالث عازف مزمار وظهر الاثنان الباقيان في دور راقصين.
دخل الناظر وعازف المزمار حلبة التمثيل بعد أن مهد لدخولهما هؤلاء الخمسة بتطبيلهم وتزميرهم ورقصهم. وسأل الناظر: «كم يبلغ دين عوض بن رجب؟» فأجابه الخمسة الذين يمثلون دور الفلاحين البسطاء: «اطلب من النصراني أن ينظر في سجله.» وكان الكاتب النصراني متمنطقا «دواية» كبيرة ومرتديا ثياب قبطي ومعتمرا عمامة سوداء، فسأله شيخ البلد: «كم هو المبلغ المكتوب ضد عوض بن رجب؟» فأجابه الكاتب: «ألف قرش.» فعاد الشيخ يسأله: «وكم دفع حتى الآن؟» فرد عليه الكاتب: «خمسة قروش.» فالتفت الشيخ إلى الفلاح قائلا: «لم لا تحضر المال يا رجل؟» فيجيبه الفلاح: «لا أملك قرشا منه.» فتعجب الشيخ: «لا تملك قرشا واحدا! اطرحوه أرضا.» فطرحوه وأحضروا قطعة أحشاء منتفخة تشبه كرباجا كبيرا وانهالوا يضربون الفلاح ضربا مبرحا. فراح يصيح بالناظر بصوت متهدج: «وشرف ذيل الحصان يا بيه! وشرف سروال زوجتك يا بيه! وشرف عصبة زوجتك يا بيه!» ولكن استنجاده ذهب أدراج الرياح، فضرب طوال عشرين دقيقة ثم زج به في السجن.
ثم ننتقل إلى مشهد الفلاح وزوجته التي أتت لزيارته تسأله: «كيف حالك؟» فيجيبها المسكين: «اعملي معروفا وخذي كشكا وبيضا وشعيرية إلى منزل الكاتب النصراني واستدري عطفه عله يطلق سراحي.» فأخذت الزوجة الأغراض في ثلاث سلات إلى منزل الكاتب، وسألت بعضهم: «أين هو المعلم حنا؟» فأتاها الجواب: «يجلس هناك.» فتوجهت إليه، وقالت له: «يا معلم حنا! أرجو أن تقبل مني هذه الهدية وتفك أسر زوجي.» - ومن هو زوجك؟ - الفلاح المدين بألف قرش. - أحضري عشرين أو ثلاثين قرشا، وادفعيها رشوة إلى شيخ البلد. فانصرفت المسكينة وعادت إلى شيخ البلد ومعها المال المطلوب. فسألها الشيخ: ما هذا؟ - خذها رشوة وفك قيد زوجي. - حسنا، اذهبي إلى الناظر.
فخرجت ورسمت جفونها بشيء من الكحل وحنت يديها بالحناء الحمراء، وانطلقت إلى الناظر. وألقت عليه التحية قائلة: عمت مساء يا سيدي. - ماذا تريدين؟ - أنا زوجة عوض المدين بألف قرش. - وماذا تريدين؟ - زوجي في السجن وأتوسل إليك لتطلق سراحه.
وراحت توزع ابتساماتها بينما كانت تتحدث إلى الناظر حتى تظهر له أنها لا تسأله هذه الخدمة دون أن تمنحه مقابلها مكافأة. وحصل الناظر بالفعل على مكافأته وحصلت هي على حرية زوجها. وقد مثل هؤلاء الخمسة هذه المسرحية أمام الباشا حتى يتنبه لمسلك المسئولين عن جمع الضرائب.»
10 (3) الوثائق
ومن الوثائق المهمة التي بين أيدينا، وثيقتان في عهد سعيد باشا، تتحدثان عن بدايات الفن المسرحي في مصر والعالم العربي. الأولى في 28 / 1 / 1858، وهي تتحدث عن وليمة ستقام في القلعة بأمر سعيد باشا، وكانت المعية السنية قد طلبت من «كنيك بك» أن يحضر فرقة تشخيصية للقيام ببعض التمثيل البهلواني لضيوف هذه الوليمة. والوثيقة الثانية كانت في 2 / 2 / 1858، وفيها نجد أمرا من المعية السنية إلى كنيك بك بمنع حضور المشخصين؛ لأن الحفلة اقترب موعدها، هذا بالإضافة إلى أنها ليست من الفخامة بمكان.
11
صفحه نامشخص
ومثل هذه الوثائق تؤكد بشكل قاطع أن القصور الخديوية كانت تحضر إليها الفرق التمثيلية، قبل أن يتوسع في هذا الأمر الخديو إسماعيل، كما هو معروف.
مارون النقاش
كان مارون النقاش، أول من خطر له إدخال فن التمثيل المسرحي في العالم العربي. وقد ولد مارون في مدينة صيدا بلبنان عام 1817 وتوفي في طرطوس عام 1855، وله من العمر 38 سنة. ويستفاد مما دونه عنه أخوه نقولا النقاش أنه كان منذ نشأته ولوعا بالعلم محبا للخلوة. وفي الثامنة عشرة من سني حياته كان ينظم الشعر الطلي البعيد عن التعقيد والركاكة. وأتقن علم الأرقام ومسك الدفاتر والقوانين التجارية؛ فكان موضع ثقة التجار في حل مشاكلهم وتصريف أمورهم. وأتقن اللغات التركية والإيطالية والفرنسية. وعين رئيسا للكتاب في جمرك بيروت وعضوا في مجلس التجارة.
ثم اشتغل بالتجارة وطاف مدن الشام، وحضر إلى الإسكندرية في سنة 1846 وزار القاهرة، ثم سافر إلى إيطاليا فأدهشه مسارحها وما يمثل فيها من الروايات. فلما عاد إلى بيروت ألف فرقة مسرحية من أصدقائه، ودربهم على تمثيل رواية «البخيل». فلما أتقنوها دعا إلى حضورها القناصل والأعيان في منزله بالشارع المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت سنة 1848. وفي سنة 1850 مثل رواية «هارون الرشيد» المعروفة باسم «أبي الحسن المغفل». وكان حاضروها نخبة من الوجهاء وأهل الفضل من الوطنيين والأجانب. وقد شجعه الجميع وأثنوا على همته، فرأى أن ينشئ مسرحا خاصا إلى جانب بيته. فتم له ذلك بفرمان سلطاني. وممن عاونوه في التمثيل بشارة مرزا وخضرا اللبناني وحبيب مسك وعبد الله كميد ونقولا نقاش وسعد الله البستاني. (1) أول خطبة عن التمثيل
لما احتفل بتمثيل أول رواية - في العالم العربي - من روايات النقاش في سنة 1848، وقف مارون النقاش خطيبا بين الحاضرين وألقى خطبة بدأها بحمد الله، وأشار إلى نهضة البلاد، وسبب نهوض الغربيين وعلى انحطاط الشرقيين بأسباب أربعة، وهي: (1)
أنهم أنانيون لا يدركون ماهية المصلحة الوطنية العامة. (2)
التواكل والكسل. (3)
التعجل في اقتطاف ثمار الغرس. (4)
الخجل الممتزج بالكبرياء، والحياء المختلط بالتجبر.
1
صفحه نامشخص
وبعد أن شرح كل واحد من هذه الأدواء والعلل طفق يشرح ما وعاه صدره من حركة التمثيل في أوروبا. وإليك أيها القارئ النص الكامل لهذه الخطبة العظيمة، والتي تعد أول وثيقة عن المسرح العربي، بصفة عامة، وعن التمثيل في لبنان بصفة خاصة: «أحمدك يا من نشرت النصيحة والحذر، من طي التقليدات والحكايات، وعلمت عبادك الجد والعبر، على نفقة الهزل والروايات، حمدا من عبد ساح بحب الوطن، والتمس من جودك إيهاب الفطن؛ لأنك أنت المعين المفيد، والمعزي الفريد ... وبعد، فيقول المحتقر طبعه وذكاه، المفتقر لمساعدة مولاه، مارون بن إلياس النقاش، أفاض الله على روحه غيث الإغاثة والإنعاش: إنني إذ لاحظت أهالي بلادنا مبتدئة بالنجاح، ومتقدمة يوما فيوما إلى الفلاح، فأيقنت أن المراحم الإلهية، قد نظرتها بعين العناية الأزلية، وافتقدتها بتلك المواهب الاعتيادية لأجل ترجيع مجدها، وإعادة عزها وسعدها. غير أني مع ذلك أرى أن أهالي البلاد الإفرنجية، لم تزل راجحة على أهالي هذه البلاد العربية، فائقة بالعلوم والفنون، والترتيب والتمدن والشئون، فعند ذلك أطمعني الأمل، بجهد المطالعة والعمل؛ لعلي أقف على حقيقة تفاوتهم العظيم، وأكشف غشا الحجاب عن فقرنا المستديم. على أننا نحن أحق بهذا الإعزاز، وكان الأولى أن نكون نحن المالكين هذا الامتياز؛ لكوننا نحن الأصول وأولئك الفروع، وهم السواقي ونحن الينبوع، فبعد عناء ونصب، وكد وتعب، قد وقفت على أسباب نزع فخارنا، وسلب مجدنا واعتبارنا، كما أنني قد وقفت أيضا على أسباب دوام الحالة التي نحن فيها، وعدم رجوع الماء إلى مجاريها. فالأسباب الأولى أعرضت عن إظهارها، وعدلت عن إخبارها؛ هربا من الإسهاب والتطويل، وحذرا من القال والقيل. والأسباب الثانية لا بد أن أذكر شيئا منها، وأروي بالاقتصار حديثا عنها؛ لكي نتقرب إلى ما يجدي تقربه، ونتجنب ما يقتضي تجنبه.
وهذه هي الأسباب، لتكون أنموذجا لذوي الألباب؛ السبب الأول: هو تركنا حب الوطن والمقام، وعدم تفتيشنا على النفع العام؛ لأن كلا منا لا يفتكر إلا بنفسه، غير مهتم بأبناء جنسه، مع أن الأورباويين بحبهم لوطنهم وبلادهم، يبذلون نفوسهم فضلا عن مالهم وجهادهم. الثاني: هو حالة تهاونا وكسلنا وعدم غيرتنا؛ لأنه يوجد بحمده تعالى بهذا الأوان، جمهور عظيم من التلامذة الأعيان وجهابذة المعاني والبيان، مزينين بالنجابة والفصاحة، مكللين بالبراعة والملاحة، متقنين اللغات والعلوم، مزهرين في سماء المعارف كالنجوم، ولكنهم مع ذلك كل منهم يتنعم ويكتفي بتوفيقه، ويتكل معتمدا على رفيقه، ويلقي الحملة مستندا على صديقه، مع أنه كان المتوج عليهم أن لا يدفنوا ما وزن الله إليهم، بل يشرع كل واحد بفتوح ومباشرة، ليسهل الحمل عند المكاثرة. الثالث: هو فرط استعجالنا، وعدم صبرنا واحتمالنا، فإن كلا منا لا يريد أن يزرع اليوم أشجارا، إذا لم يتحقق أنه في غد يأكل منها أثمارا. والحال أن الأغراب يبتدئون في بلادهم بأعمال، مع عدم قابليتها للنهاية قبل مرور جملة أجيال، فلو كنا سالكين في طريقتهم، ومتشبهين في حقيقتهم، لكنا نكون الآن متنعمين بمتروكات آبائنا، ومورثين النعم والراحة لأبنائنا، الأمر المرضي للمولى الجليل، والمفيد الاسم والذكر الجميل. والسبب الرابع والأخير: هو خجلنا الممتزج بالتكبر، وحياؤنا المختلط بالتجبر؛ لأنكم يا ذوي العلوم والمعرفة، ومعشر الفهم والفلسفة، تخافون أن تخترعوا أمرا فلا يطرب، أو تترجموا كتابا فلا يعجب، فيقعدكم الزعل، ويمنعكم الخجل. ولكنني على نوع ما أعدكم مجبورين، وبعدم إظهار علومكم معذورين؛ لأن الأورباويين لحسن تصرفهم، وجودة تثقفهم وتلطفهم، عندما ينظرون أحدا من أقوامهم، مبتدعا قضية لنفع عامهم، فيرغبونه لإتقان ذلك المراد، ويتعصبون على مساعدته والإنجاد، فإن نجح وساد فينال إكليل المكافأة ويطنبون بمدحه والشكر، وإن عجز وعاد ، لا يفترون من دوام المساعدات ويقيمون عنه الحجج والعذر، فيزداد عندهم بهذا الوجه التقدم العظيم، ويتراكم في ديارهم النمو العميم. وإنما أهل هذه البلاد، والبعض ممن عليهم الاعتماد، فبالصد قد عودوا مواضيع أقوالهم، على ثلب وإعابة تأليفات أمثالهم، فمنهم من يشين ويتهكم ومنهم من يدين ويتحكم، فيجرحون المصنف بسيف التوبيخ والخجالة، وينسبونه إلى البرودة والبطالة، ويعيرونه بأنه أسرف زمانه بالتصانيف، وأضاع أيامه بالتأليف، وإن سمعوا بأمر ومصير، فيرتاحون على حجة العجز والتقصير، ومن قبل التجربة يحكمون بأنه في بلادنا لا يصير. وإن نظروا تأليفا فلا يلتفتون إلا إلى زخرفة الكلام، ولا ينقحون إلا على النثر والنظام، مسلوبين من الحسد والغرض، حتى إنهم يتركون الجوهر ويتمسكون بالعرض، مظنين باستهزائهم وإخراقهم للغير، أن ينالوا الفخر والخير، وليس الواقع كما يتوهمون، ولا الصيت بالتنكيت كما يزعمون، فإذا كان من العدل أن تظهروا الجراعة وتبينوا ما عندكم من البراعة، وتقدحوا النار من زنادها، وتعيدوا الأرواح إلى أجسادها.
وها أنا متقدم دونكم إلى قدام، محتملا فداء عنكم إمكان الملام، مقدما لهؤلاء الأسياد المعتبرين، أصحاب الإدراك الموقرين، ذوي المعرفة الفائقة، والأذهان الفريدة الرائقة، الذين هم عين المتميزين بهذا العصر، وتاج الألباء والنجبا بهذا القطر، ومبرزا لهم مرسحا أدبيا وذهبا إفرنجيا مسبوكا عربيا. على أنني عند مرورى بالأقطار الأوروباوية، وسلوكي بالأمصار الإفرنجية، قد عاينت عندهم فيما بين الوسايط والمنافع التي من شأنها تهذيب الطبائع، مراسحا يلعبون بها ألعابا غريبة، ويقصون فيها قصصا عجيبة. فيرى بهذه الحكايات التي يشيرون إليها، والروايات التي يتشكلون بها ويعتمدون عليها، من ظاهرها مجاز ومزاح، وباطنها حقيقة وصلاح، حتى إنها تجذب بحكمتها الملوك من أعلى أسرتهم، فيأتونها ويفوزون بحسن سياستهم ومسرتهم، وإذ كانت هذه المراسح تنقسم إلى مرتبتين، كلتاهما تقر فيهما العين؛ إحداهما: يسمونها بروزه، وتنقسم إلى كومديا ثم إلى دراما وإلى تراجيديا، ويبرزونها بسيطا بغير أشعار، وغير ملحنة على الآلات والأوتار. وثانيتهما: تسمى عندهم أوبره، وتنقسم نظير تلك إلى عبوسة ومحزنة ومزهرة. وهي التي في فلك الموسيقة مقمرة.
فكان الأهم والألزم بالأحرى ، أن أصنف وأترجم بالمرتبة الأولى لا الأخرى؛ لأنها أسهل وأقرب، وفي البداءة أوجب. ولكن الذي ألزمني لمخالفة القياس، وممارستي هذا المراس؛ أولا: لأن الثانية كانت لدي ألذ وأشهى، وأبهج وأبهى. ومن عادة المرء ألا يجود مما بيديه، إلا على ما مالت نفسه إليه. والمنصف حيثما يكون مناه، يطفح نحوه جود قريحته ونهاه. ثانيا: حيث ظن المرء بالناس، كظنه بنفسه بلا التباس، فترجحت آرائي ورغبتي وغيرتي، أن الثانية تكون أحب من الأولى عند قومي وعشيرتي؛ فلذلك قد صوبت أخيرا قصدي، إلى تقليد المرسح الموسيقي المجدي، فإن استصوب ساداتي فعلي، وساعدوني بحكمتهم على جهلي، ومدحوا ما يتقدم لديهم، وينجلي عليهم، فأنسب ذلك لحسن أخلاقهم، وأعده من لطفهم ومزاقهم، وإلا فلا أنسب الذنب إلا لشقواتي، وجزاء وتأديبا لغباوتي؛ لأني أكون اقتحمت ميدانا لست من رجاله، وركبت فرسا لست من أبطاله. ولكني مع ذلك أرجوهم لكي ينبهوني عما فرط، ويرشدوني بمعزل إلى إصلاح الغلط؛ لأن هذا الفن بحر زاخر، وفلك دائر، لا سيما أن المشتركين معي، للتشكل بهذا المظهر اللوذعي، الذين ساعدوني على هذا العمل، ووافوني وأنجدوني لبلوغ الأمل، لم يزالوا متجددين ومبتدئين بفعله، ولم يمر عليهم قبلا مظهر كمثله، فلا يخلو الأمر من أنهم يقعون في بعض ورطات، ويشجبون على بعض سقطات، يشعر بها من له المطالعة، على دقايق هذه الحقائق الساطعة، ولكنهم بالحقيقة معذورون نظرا لبداءتهم، وعدم وجود إمام كاف لهدايتهم، خصوصا نظرا لافتقارنا إلى المحلات اللائقة، والكواسم والطواقم
2
الموافقة. ومع ذلك فلي أمل متين، بحسن شئمكم الرهين، بأنكم لو رأيتم أعمالي غير كاملة، وأفعالي غير عاملة، فلا يقعدنكم الازدرا والملل، ولا يمنعنكم الضجر والزعل، بل كل من كان منكم لبيبا وغيورا وعنده إلمام بهذه الأمور، يتشجع ويزيد على تأليفي هذا المهان، تأليفا آخر ذا شأن.
على أن الذين ستأخذهم بعدى الحماسة، وتحثهم النخوة والفراسة، ويؤلفون أو يستخرجون أشياء بهذا الصدد، ملتمسين من الله العون والمدد، فإنهم سيفوقون علي بلا شك ولا إشكال؛ لأن الجوهر لا يظهر إلا بإعادة الصقال، لكون الإفرنج من ساعة كشفهم هذا الكنز المنجلي، لم يكن عندهم مثل مراسح ميلانو ونابولي، بل رويدا رويدا ابتدءوا بالتقدم، ومع مرور الزمان نالوا هذا التعظيم، فأنتم أيضا ستنظرون عند كثرة تكرارها، منافع تعجم الألسن عن وصف مقدارها؛ لأنها مملوءة من المواعظ والآداب، والحكم والإعجاب، لأنه بهذه المراسح تنكشف عيوب البشر، فيعتبر النبيه ويكون منها على حذر. وعدا اكتساب الناس منها التأديب ورشفهم رضاب النصايح والتمدن والتهذيب، فإنهم بالوقت ذاته يتعلمون ألفاظا فصيحة، ويغتنمون معاني رجيحة؛ إذ من طبعها تكون مؤلفة من كلام منظم، ووزن محكم، ثم يتنعمون بالرياضة الجسدية، واستماع الآلات الموسيقية، ويتعلمون إن أرادوا مقامات الألحان، وفن الغنا بين الندمان، ويربحون معرفة الإشارات الفعالة، وإظهار الإمارات العمالة، ويتمتعون بالنظارات المعجبة، والتشكلات المطربة، ويتلذذون بالفصول المضحكة المفرجة، والوقايع المسرة المبهجة، ثم يتفقهون بالأمور العالمية، والحوادث المدنية، ويتخرجون في علم السلوك ومنادمة الملوك؛ وبالنتيجة فهي جنة أرضية، وحافلة سنية، فأرجوكم أن تصغوا لها وتسمعوا، وهذا ضرب منها فتمتعوا.» (2) فصل في الكلام عن المراسح والروايات وكيفية تشخيصها بوجه العموم
إننا قبل أن نبتدئ بتحرير الروايات حسبما وعدنا بفاتحة كتابنا الحاضر وجدنا من الصواب أن نتكلم يسيرا على هذا الفن، ونأتي بكل إيجاز بما من شأنه أن ينبه أفكار من أراد تشخيص رواية ما؛ لأننا لو أردنا أن نتكلم عن هذه الخصوصات باتساع وإسهاب لكان يلزمنا لذلك كتاب مخصوص حجمه لا أقل من هذا، فنقول:
اعلم أن وجود هذا الفن في العالم هو قديم جدا، حتى قال بعض المؤرخين إنه من زمن أبينا إبراهيم، وإن ظننا ذلك مبالغة فلا نقدر أن نشك بما أجمعت عليه آراء المؤرخين بأنه من زمن الرومانيين وقبل مجيء سيدنا المسيح بأجيال عديدة، وإنما في أوائل الأمر كانوا يشخصون الروايات بخلاف أسلوب؛ أي إنهم في وسط النهار كان يجتمع البعض ويركبون خيولهم ويمرون بالأزقة والشوارع بإشارات وحكايات وتقليدات بها مواعظ وإنذار، حيث يقلدون مثلا السكر أو البخل ... وهلم جرا، ومن بعد ذلك صاروا يجتمعون بمحلات مخصوصة، وما زالوا يتفننون ويتقدمون إلى أن اتصل إلى ما اتصل إليه الحال بالأوروبا الآن حتى وجدت عندهم المراسح الشهيرة ذات الأكلاف والزينة المفرطة وعلى ما قيل إن بعضها يكلفهم عشرة مليونات فرنقا
3
صفحه نامشخص
وبعضها أقل وبعضها أكثر حتى بالغ بعضهم إلى خمسين مليون فرنقا وبناؤها منه على شكل بيضاوي، ومنه غير ذلك، وبها الغرفات العديدة والساحات المتسعة إلى المتفرجين ومحل مخصوص إلى الملك ومحلات أخر إلى أكابر الدولة والأمرا. وبها طواقم وأواني وثريات تدهش النظر، وبهذه المراسح العظيمة يبرزون روايات ملحنة وغير ملحنة، فالملحنة منها عدد قطع الموسيقة بها نحو مائتين قطعة واللاعبون أحيانا يبرزون بالمرسح بعدد لا أقل من ذلك بل أكثر، والمشخصون المذكورون نظرا إلى التكرار فقد برعوا بهذا الفن غاية البراعة حتى إن بعضهم يأخذ أجرته من صاحب المرسح مائة ألف فرنكا عن أربعة شهور، كما نقلوا عن راحيل الشهيرة التي ماتت من عهد قريب وخلافها. وإذا أرادوا أن يشخصوا لك بحرا فتتوهم كأنك بوسط هيجانه، أو برقا ورعودا فحالا تأخذ على رأسك وشاحا ليلا يصيبك المطر، أو حرشا فحالا تشعر بالوحشة وتطلب الاستئناس ... إلخ. أعني أن الوسائط الصناعية التي تقدمت عندهم لأعلى درجة مع المال الكثير الذي بين أيديهم يخولانهم لاختراعات وإبراز أشيا التي إذا نظرناها نظنها سحرا، وعلى هذا القياس فالذي شخصناه نحن في بلادنا ما كان سوى كالرمز فقط وكالظل بالنسبة إلى الحقيقة، وإنما نظرا لكونه بداءة مع عدم وجود الوسائط بين أيدينا نظير أولئك، فلا نعتد بضاعتنا من الدون بالنسبة إلى تلك، وحتى ذات الأوروباويين الذين شاهدوا رواياتنا أقروا بفضلها، ومع كونهم أغراب اللغة فكانوا يفهمونها جيدا وينسرون بها، وهذا أكبر شاهد على حسن سبكها وبراعة التلامذة الذين شخصوها. ومع ذلك نتأمل مع الزمن والوقت أن تتصل بلادنا إلى أعلى درجة في التمدن والغنى، وبالتتابع ينجح هذا الفن بها ويزهر كالأوروبا؛ لأننا كما تكلمنا بخطابنا الحاضر، نرى التقدم والنجاح آخذين مبدأ حسنا ولله الحمد بنظر وعناية الدولة العلية أبد الله أركانها. وهذا الأمر ظاهر مثل الصبح، فعلينا أن نطرح الكسل ونتعلق بأذيال العمل متوكلين على الله سبحانه وتعالى. وقد بقي علينا إذن أن نتكلم أيضا شيئا ما عما يخص ذات المرسح والمشخصين؛ لأنه قد خطر على بالي جملة تنبيهات أريد أيقظ بها فطنة القاري، فأقول:
اعلم كما أن الرواية تنقسم إلى جملة فصول هكذا أيضا كل فصل ينقسم إلى جملة أجزاء؛ فالفصل هو حد يفصل الرواية ويقسمها عدة أقسام، من واحد إلى خمسة (وإن وجد أكثر فيكون نادرا جدا لا يعول عليه، وأما الروايات المحزنة ما نظرت منها لا أقل ولا أكثر من خمسة فصول)، وفي نهاية كل فصل يصير تنزيل الستار الحاجب بين محل التشخيص وبين حاضري الرواية. ومحل التشخيص هذا يسمى عند الإفرنج شينه، والبنك الذي تطؤه المشخصون يسمى بانكو شيناكو، وتقسيم الرواية إلى فصول عديدة يوجد له لزوم كلي؛ أولا: لكي يأخذ المشخصون - أي اللاعبون - قسما من الراحة، حيث لا بد من إعطا فرصة مناسبة بين الفصل والفصل، ومثل ذلك المتفرجون. ثانيا: المعنى الكائن بنهاية كل فصل هو ذاته يطلب التقسيم كما سترى. ثالثا: بالرواية المضحكة والعبوسة يضطرون لذلك؛ حيث أحيانا يشخصون الفصل الأول في بيروت مثلا، والثاني بحلب، والثالث في بيت فلان، والرابع بالحرش الفلاني ... وهلم جرا، وقل وندر ببعض الروايات أن ينتقلوا هذا الانتقال بنفس الفصل بواسطة تغيير الستارات. وأما الروايات المحزنة فهي مستثناة عن هذا التغيير؛ حيث تتشخص الواقعة بمحل واحد بدون تغيير بكل الفصول. رابعا: يلتزمون أحيانا أن يشخصوا الفصل الأول بالنهار والثاني بالليل، (وعادتهم بتفريق الفصل إن كان حدوثه ليلا بتستير أنوار الشينة بخشبة أو نحو ذلك)، أو الفصل الأول اليوم والثاني بعد شهر أو سنة ... إلخ، فجميع هذه الأسباب وخلافها توجب إيجاد الفصول.
وأما الأجزا فهي عبارة عن تغيير عدد المشخصين زيادة كان أو نقصا، مثلا حينما ابتدأ الفصل كان موجودا بالمرسح شخص واحد؛ يوسف، فدخل إليه إبراهيم فصار الموجودين اثنين فهذا التغيير يسمونه جزءا، وبعد هذا دخل سليم فصار تغيير جزء آخر ثم خرج من المرسح أحدهم ، فهذا أيضا يسمونه جزءا ويعددون هذه الأجزا إلى نهاية الفصل. وتقسيم هذه الأجزا يقتضي اعتبارها من المشخصين جدا ليعرف كل منهم وقت دخوله وخروجه من المرسح. كما أنني أحرص كل الاحتراص على ملاحظة جهات العبور والخروج، وكل شخص يعرف جيدا الجهة التي يجب عليه أن يدخل منها والناحية التي ينبغي أن يخرج منها بكل جزء، وأيقظ أيضا فطنة المشخصين بأنه قبل بداءة كل فصل ينبغي على كل منهم أن يبحث ويتفطن عما يلزم أن يكون معه بذلك الفصل مثل مكتوب أو عقد أو فنار وما شابه ذلك ويحضر ذلك واضعا كل شيء بمحله حتى إذا ما جاء وقته يجده ولا يقع بالخجل أمام الجمهور، وقاكم الله من ذلك! وأما الشينه؛ أي هيئة المحل الذي يتشخص إلى الجمهور، أعني بيت فلان تاجر أو سراية فلان أمير ينبغي تتلاحظ قبل بداءة كل فصل، ويصير إظهارها بالتشخيص الممكن به إقناع النظر أن هذا هو المحل الفلاني مع وضع الأثاث والأواني اللازمة، وهذه لا تزاد ولا تنقص شيئا طالما التشخيص كائن في ذات المحل. والبانكو شينكو؛ أي التخت الخشب الذي توقف عليه المشخصون بحالة تشخيصهم الرواية يعجبني أن يكون ارتفاعه عن الأرض نحو ذراع أو ذراع ونصف بحسب اتساع وضيق المحل، وهكذا عرضه وطوله يكون بالنسبة إلى ذلك، ومن الأمام أوطى من الورا مقدارا مناسبا بالتدريج؛ لكي بهذه الواسطة ينظرون جيدا جميع الحاضرين بالسوية. وهذا التخت ينبغي أن يكون متينا قويا، وعند الاقتضا يمكن تغطيته بالحصر أو البسط والأقمشة.
خامسا: قال لي رحمه الله مرارا إن طلاوة الرواية ورونقها وبديع جمالها يتعلق ثلثه بحسن التأليف وثلثه ببراعة المشخصين والثلث الأخير بالمحل اللائق والطواقم والكسومة الملائمة. وبناء على ذلك نتكلم الآن قليلا عما يخص الأمر الثاني الذي هو عندي مهم جدا؛ وهو حسن التشخيص. وقولي الآن إنما هو إلى أصحابنا الذين ما حضروا التشخيص إلا ما ندر، وهم مبتدئين بهذا الفن، فينبغي لهم أن يتقنوا التشخيص بكل ما يلزم إظهاره من الإشارات الحسية والانفعالات النفسانية متصورين أن هذا الشيء الواقع مزاحا إنما هو حقيقة. هذا هو الأمر المهم بهذه الصناعة؛ لأن المشخص البارع عند الإفرنج حينما يكون دوره يقتضي له إظهار الانفعالات النفسانية المؤلمة كالغيظ والغضب ... إلخ، فيظهره بنوع حسي حتى إن البعض منهم يؤثر ذلك على صحتهم، حتى يفضى بهم الأمر بعد ذلك لمعاطاة العلاجات والأدوية لزوال المرض الذي يستحوذ عليهم من جرى ذلك. ونحن الآن لا نطلب من أصحابنا الوصول لهذه الدرجة بل نرجوهم الانتباه لذلك قليلا، وأشور عليهم ألا يزيدوا الحد أيضا بتكثير الإشارات والانفعالات، بل الموافق أن يكون كل شيء سائرا طبيعيا بالاعتدال كما لو كان الحادث الواقع أكيدا، حتى لا يضيع رونق الرواية وتعب المؤلف؛ لأنه إذا لم تحسن الإشارات فالرواية هي كالعدم. ولأجل إيقاظ فطنتهم قد وضعنا أحيانا بعض كلمات بنفس الرواية تدل على الحركة التي ينبغي أن تظهر من اللاعبين، كالخوف والاستهزاء ... إلخ، وعلى زكاهم حسن التصرف. أما المرحوم أخي المصنف قال: أما أنا فلا أستحسن هذه الإشارات، بل إنما أنا على رأي موليير (أشهر المؤلفين بهذا الفن) الذي قال: إن من لا يحسن تشخيص روايتي بدون إشارات تدل على ما ينبغي عمله فالأحسن أن لا يشخصها. والقصد بذلك ظاهر أن المعنى هو ذاته ينبه اللاعب للحركة اللازمة، وإني أنصح المشخصين وأوصيهم بألا يبدا منهم أقلها كلمة أو حركة أو إشارة أو لمس يشين الأدب؛ لأن هذه المراسح جعلت لاكتساب الآداب وليس النقايص. كما أنني أرجو من نباهة المشخصين أيضا باستثناء وقوفهم أو جلوسهم بالمرسح أن يلاحظوا جيدا؛ ليلا يعطون ظهورهم إلى الجمهور، لأن هذا شيء معيب في هذا الفن. (3) تنبيه
اعلم أن مؤلف الرواية عند الإفرنج لا يلتزم بتلحينها؛ حيث إن التلحين يختص بمعلم الموسيقة. فالمؤلف إذن يؤلف ويدفع كتابه إلى معلم الموسيقة، وذاك يلحن تلك الرواية بالألحان التي تناسب كل قطعة منها، ويتيسر له ذلك بأوفر سهولة؛ نظرا للقواعد والروابط الكتبية التي عندهم بهذا الفن، وإنما من حيث الحظ من الموسيقة لم يزل في بلادنا متأخرا . ويحتاج لعلم الألحان كد وتعب جزيل؛ لأنه لا توجد ولا رابطة للألحان سوى السمع والقياس على لحن ما من ألحان الأغاني الأخر. فلهذا رحمه الله احتمل أتعابا جزيلة من هذا القبيل؛ لأنه أخذ عليه أمر التلحين أيضا، ولا يخفى ما اقتضى لذلك من الاعتنا والتعب والتدقيق، حيث يجب أن الألحان توافق المعنى من حيث التوسل مثلا أو التهديد أو التذلل أو الحماسة ... إلخ، فيلزم لكل معنى لحن يناسبه حيث لا يوافق اللحن الذي يظهر منه النفور أو الغضب بمحل التوسل أو بألفاظ ذات تذلل ... إلخ.
ومع ذلك جميعه تلك الألحان التي ربطها عليها وإن تكن معروفة من كاتبه ومن أكثر التلامذة الذين اعتادوا على تشخيص رواياتنا، إلا أنها ربما تكون مجهولة عند الغير خاصة نظرا لقدميتها وعدم اشتهارها الآن. والعادة معلومة في بلادنا أنه بكل وقت تظهر أغاني جديدة وتترك السابقة حتى تصير كأنها منسية عند العموم؛ ولهذا فالاعتنا بذكرها الآن وترتيبها لا نعده أمرا كافيا للحصول على المرغوب، وإنما فضلنا هذه الإفادة القليلة عن تركها إتباعا لقول القايل: ما لا يدرك كله لا يترك كله، بنوع أنه إذا أراد أحد يشخص رواية ما فعلى كل حال يستعين بما سنحرره بهذا الخصوص على قدر الإمكان. وبناء على ذلك، وضعنا بكل فصل أرقاما من الواحد فصاعدا تجاه كل قطعة من الرواية وشرحنا بآخر الرواية بفصل مخصوص أنغام وألحان تلك القطع، فالرابطة إذن هي ظاهرة بأنه طالما لا يتغير الرقم فاللحن يكون هو هو.
إن المؤلف رحمه الله لم يدقق على ضبط الكلام العربي بالرواية الآتية، بل التفت إلى المعنى فقط. وقد ذكر ذلك أيضا برواية «الحسود السليط»؛ حيث قال إن رواية البخيل تعجبه من حيث ما حوته من الأمور المضحكة فقط وأنه لم يلتفت إلى ضبط عربيتها، فإذن نرجو كل من طالعها أن لا يلاحظ على ذلك ويعذر المؤلف؛ حيث إنها الرواية الأولى، وعدم الضبط الحاصل ببعض كلامها ليس هو عن عمد معرفة المؤلف رحمه الله، بل ربما كان عن قصد ليعطي جرأة إلى الآخرين ويألفوا بهذا الفن، ولولا ذلك أيضا ما كنت داعيكم تجاسرت على تأليف رواية «الشيخ الجاهل» المشحونة من غلط القواعد العربية؛ حيث إني ألفتها قبل ما التقطت ما التقطته من القواعد العربية، ومن شك بقولي فعليه أن يراجع رواية «الحسود السليط» بكل تدقيق فيعلم قدرة المؤلف بالعربية وقواعدها رحمه الله.
متى قلنا عن الرواية رواية مضحكة فهي الكوميدية؛ «وذلك لكي نستغني عن الألفاظ الإفرنجية»، ومثل ذلك حينما نقول رواية عبوسة فهي الدراما، ورواية محزنة فهي التراجيدية، وعندما نزيد لفظة ملحنة فهي بلا ريب الأوبرا. وإنما الأوبرا تقسم إلى قسمين؛ منها كلها ملحنة، ومنها شعر ونثر وتلحين. فإذن عندما تكون الرواية كلها ملحنة فنشير عنها بقولنا كلها ملحنة، وعندما لا تكون كلها ملحنة فنكتفي بالقول عنها إنها ملحنة. واعلم أنك سترى بالرواية الأسماء هكذا، مثلا: قراد هند «فالقصد بذلك أن الكلام الآتي هو من قراد إلى هند»، ومثل ذلك حينما نقول: أم ريشا عيسى، «فيكون الخطاب من أم ريشا إلى عيسى وهلم جرا»، وعندما نقول مثلا: الثعلبي ذاته، «فيكون كلامه لذاته كإنسان يخاطب ذاته بذاته يقصد بذلك أحيانا ألا يسمعه الأشخاص الآخرون وهم أيضا يوهمون الحاضرين أنهم غير سامعين مع كونهم سامعين، وسمعهم هذا لا ينافي عند مؤلفي هذه الصناعة.»
وعندما نقول مثلا: جوقة قراد: قراد جوقة، «فيكون الخطاب من الجوقة إلى قراد ومن قراد إلى الجوقة أيضا بوقت واحد وإن يكن الكلام واحدا؛ هو لأن أحيانا كثيرة الأشخاص يلحنون سوية كلاما واحدا ويكون لكل منهم قصد أو يكون القصد واحدا، وأحيانا أيضا يلحنون سوية ولكن كل منهم يكون كلامه مختلف عن الآخر، لا بل أحيانا يكون ضد الآخر ... إلخ.»
إن وجود هذه العلامة «...» تدل على الانتقال من معنى إلى معنى أو التفكير لإيجاد كمالة المعنى أو قطع الكلام من شخص ثاني وابتدا كلام جديد منه.
صفحه نامشخص
4
وإذا تطرقنا إلى نشاط مارون النقاش المسرحي، نجد أنه قدم مسرحية «البخيل» في بيته عام 1848، ودعا إليها قناصل البلدة ووجوهها، وفي بيته أيضا قدم مسرحيته الثانية «أبو الحسن المغفل» أو «هارون الرشيد»، وقد وصف لنا الرحالة الإنجليزي هذا الحفل بقوله: في بداية سنة 1850 قدم مارون النقاش مسرحيته، وقامت بتمثيلها عائلته - وهي عديدة الأفراد - وكان موضوع الرواية المعلن عنها «هارون الرشيد وجعفر» وهي مكتوبة ببيان عربي رفيع، تتخللها أشعار تنشد إنشادا ... أما المسرح فقد أقيم أمام البيت وكان على المثال الذي نحرص على تحقيقه في قاعاتنا التمثيلية. باب في الوسط تعلوه كوتان، وعلى جانب منه نافذتان، وكانت الكواليس في آخر الفناء ... كان هؤلاء قد شاهدوا في أوروبة أن المسرح له أنوار أمامية، وتقوم في مقدمته «كوشة» للملقن، فتوهموا أنها من لوازم المسرح الضرورية، فألصقوها حيث لا حاجة إليها ... أما الأزياء، فقد كانت تبدو، على الأقل، مطابقة للتاريخ. أما أدوار النساء فقد قام بها شبان ... نجحوا تماما في تنكرهم. ولما لم يكن بين الممثلين نساء، لم تقع عيني على امرأة بين الحضور، ولا في النوافذ المفتوحة المطلة على الحديقة ... وبالرغم من أن الحفلة كانت طويلة، بل طويلة جدا، لم يغادرها أحد من الحضور، بل كنت ترى على وجوههم أمارات البشاشة والمرح ... وما كاد الستار يسدل حتى رفع ثانية ليحيي الممثلون النظارة ويشكروهم، لا لأن أحدا من النظارة دعاهم إلى ذلك ... كان في التمثيل بعض الارتباك، كما كان الغناء رديئا، ولكن إخراج المسرحية، من الناحية الفنية، كان موفقا وقد دلت على مواهب كامنة عند المؤلف ... وبعد هذه المسرحية ... وبعد ما رآه مارون من التشجيع، حصل على فرمان عال بإنشاء مسرحه، الذي أقيم بجوار بيته خارج السور.
5
وكانت المسرحية الثالثة والأخيرة، التي كتبها النقاش، عبارة عن معالجة جديدة لمسرحية «طرطوف» لموليير أيضا، وقدمها بعنوان «السليط الحسود».
وكان مارون النقاش يؤلف المسرحية ويلحنها تلحينا يلائم مواقفها المختلفة. وقد وصف عمله ابن أخيه سليم النقاش، الذي حمل رسالته فيما بعد إلى مصر، قائلا: وقد جعل في هذا الفن تغييرا غير قليل، من أدخله إلى بلاد الشرق في اللغة العربية، وهو المرحوم عمي مارون النقاش. فإنه حين ساح في أوروبا ودوخ أقطارها، رأى حال الروايات عندهم، وما تجني منها بلادهم من الفائدة والانتفاع، فحملته الغيرة الوطنية والحمية السورية على إدخاله إلى بلاده. فعاد إليها وألف روايات لا ينتظر مثلها من مؤلف في فن لم يكن يعرفه غيره من أبناء وطنه، على أنه لا يستغرب من مثله. ولما رأى عدم ميل أبناء وطنه إلى هذا الفن المفيد نظرا لعدم معرفتهم بمنافعه، زاده فكاهة فجعله في الرواية الواحدة شعرا ونثرا وأنغاما، عالما أن الشعر يروق للخاصة، والنثر تفهمه العامة، والأنغام تطرب. ولا حاجة إلى ذكر ما تكبده من المصاعب والأتعاب في بادئ الأمر، حتى حمله الإعياء إلى القول في إحدى رواياته: إن دوام هذا الفن في بلادنا أمر بعيد. على أنه أجهد نفسه في جعل رواياته أدبية محضة؛ قاصدا بذلك تهذيب أبناء وطنه، فأتى بالمطلوب من الروايات؛ لأنها إنما تفيد إذا كانت أدبية، ترغب في الفضائل وتنهى عن الرذائل.
ومات مارون النقاش عام 1855، وهو أول المقتبسين من المسرحيات الفرنسية، وعمره لا يتجاوز ثمان وثلاثين عاما. ولقد أثر موت النقاش في تطور المسرح العربي، فلم يحرم المسرح من كاتبه الأول فقط، بل تحول المسرح الذي بناه بجوار بيته إلى كنيسة.
6
ومن الملاحظ أن شهادات المعاصرين لمارون النقاش تدل كلها على أصالة مسرحياته. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أنها لو لم تكن بهذه الأصالة لما حازت على ذلك النجاح في مدينة كانت العروض القادمة من أوروبا تفشل فيها.
كان فضل مارون النقاش بكل المقاييس عظيما؛ لأن عرضه ظل لسنوات كثيرة معيارا فريدا للمسرح العربي، سواء في النص الدرامي، أو في مبادئ الإخراج، وأصبح التوجه نحو الأدب المسرحي والمصادر الأدبية للبلاد الأخرى أمرا معتادا بالنسبة لأغلب الأشخاص الذين جاءوا بعده. فلم يقم هؤلاء بتعريب الموضوع ونقل مكان الأحداث إلى البلاد العربية فقط، ولم يبدلوا أسماء الشخصيات ويعدلوا النصوص الأصلية فحسب، بل كتبوا على أساسها أعمالا جديدة تماما تستجيب لأهداف وذوق المؤلف والجمهور العربيين.
7
صفحه نامشخص
وإذا كان القطر اللبناني شهد ميلاد الفن المسرحي في العالم العربي ، فإن القطر المصري كان الأسرة والبيت الذي ربى ورعى هذا الطفل، حتى أصبح شابا يافعا قويا، وما زال حتى الآن يرعى كل ميلاد لفن جديد على المستوى العربي.
المسرح في مصر
(1) الأزبكية
يعتبر المعز الأتابكي أزبك بن الظاهري، هو منشئ الأزبكية في عام 880ه، التي نسبت إليه. فقد كانت أرضا خربة لا يوجد بها غير مزار سيدي عنتر، وسيدي وزير، وقام بعض الملوك بحفر خليج إليها من فم الخور، وصار يعرف بخليج الذكر ضمن متنزهات القاهرة. وبني على ذلك الخليج قنطرة الدكة، وكان عليها دكة للمتفرجين ليجلسوا عليها، وكانت تعرف أيضا بقنطرة التركمان؛ لأن الأمير بدر الدين التركماني كان عمرها على خليج الذكر. واستمرت هذه البقعة إلى سنة 655ه، فتلاشى أمرها وصارت هذه البقعة خربة مقطع طريق مدة طويلة لا يلتفت إليها.
واستمر الحال على ذلك حتى جاء أزبك، وكان سكنه قريبا منها، فبنى في الأزبكية القاعات الجليلة والدور والمقاعد وغير ذلك، ومهدها وصارت بركة، وبنى حولها رصيفا متقنا محيطا بها، وأجرى إليها الماء من الخليج الناصري حتى تم له ما أراد. ثم شرع الناس في البناء عليها فبنيت القصور النفيسة الفاخرة والأماكن الجليلة، وتزايدت العمارات بها إلى سنة 901ه وصارت بلدة مستقلة، وأنشأ بها الأتابكي أزبك الجامع الكبير، ثم أنشأ حول الجامع البناء والربوع والحمامات وما يحتاج إليه من الطواحين والأفران وغير ذلك من المنافع. ولما تمت عمارتها أنعم السلطان قايتباي على أزبك بأرضها، بعد أن كانت وقفا على خزائن الإسلام. ثم سكن أزبك في تلك القصور إلى أن مات، وبه ذكرت الأزبكية.
وبعد أن صارت مدينة مستقلة بكيانها العمراني، امتدت إليها يد الإهمال فتلاشى أمرها مرة أخرى وخربت، حتى جاء عثمان كتخدا في عام 1145ه، فأعاد بناءها من جديد، فبدأ ببناء الصهريج والمسجد بالأزبكية بجوار مدفن الشيخ أبي طاقية الذي كان بجوار المسجد. لكن في فترة تواجد الحملة الفرنسية، تهدم بعض المسجد فنقلوا الشيخ من مدفنه هذا. وبعد خروجهم عمروا المسجد وقامت شعائره.
وفي هذا العام تم بناء مسجد الخواجا قاسم الشرايبي الذي بالرويعي المدفون فيه الآن السيد علي البكري، ثم بنى بها الشيخ زين الدين البكري منزله وأخذت الناس من حينئذ في العمارة بها حتى صارت نزهة للناظرين إلى سنة 1213ه؛ أي وقت دخول الحملة الفرنسية، فحصل بها تخريب. وبقيت على ذلك حتى سكن بها المرحوم محمد علي باشا ببيته الذي بالأزبكية، وهو بيت أيوب بك الكبير، وأصله بيت علي بك الغزاوي، فبدأت الأزبكية في العمران من جديد، فكثرت فيها المباني المنتظمة على الأساليب الجديدة، وتجددت القصور والبيوت التي حولها على هذا النظام البديع، وتجددت فيها العمائر العمومية الجميلة؛ تقليدا للبلاد الأوروباوية. ومما زاد في تحسينها فتح السكة الجديدة.
1
وامتدت يد الإهمال لآخر مرة في عمر الأزبكية، بعد عهد محمد علي، حتى جاء مؤسسها ومعمرها وبانيها الحقيقي الخديو إسماعيل؛ وذلك عندما عاد سنة 1867م من زيارته لمعرض باريس، بعد أن بهرته التحسينات الجارية في العاصمة الفرنسية، فأقدم على الأزبكية لتكون على شاكلتها. وبالفعل تم له ذلك في مدة قصيرة، لا تتناسب مع ضخامة ما تم إنجازه بالفعل. فخرجت الأزبكية نزهة من أجمل المتنزهات، ومكانا بديعا يخلب الألباب، تنيره الأنوار الغازية، وتزينه الفسقيات. وأقبل الخديو على الحي المحيط بالحديقة، فجعل ينتزع ملكية منازله الخشبية مقابل تعويضات، ويهب الأرض التي كانت قائمة عليها هبة إلى من شاء التعهد بإقامة مبان فخمة عليها. وبعد أن أوصله بالموسكي شرقا، تحول إلى غربيه، فأزال ما كان يعرف بباب الجنينة - وهو باب كان قائما على مدخل ذلك الحي، في نهاية الطريق الواصل ما بينه وبين بولاق - واختط إلى جنوبيه بميل نحو غرب الأحياء البديعة الآن بأحياء التوفيقية وعابدين والإسماعيلية، بعد أن أقام، في طرف الأزبكية الجنوبي، المسرحين الفخمين، وهما مسرح الكوميدي الفرنسي ودار الأوبرا الخديوية الذي أقام أمامها تمثالا برونزيا لأبيه إبراهيم باشا.
2
صفحه نامشخص
الخديوي إسماعيل.
والحقيقة أن تمثال إبراهيم باشا الموجود حاليا بميدان الأوبرا،
3
وتمثال محمد علي الكبير الموجود حاليا بميدان المنشية بالإسكندرية - أو كما كان يسمى في ذلك الوقت بميدان القناصل - قد تم صنعهما في آن واحد، وبالتحديد في عام 1868 بأمر من الخديو إسماعيل. وقد قام بتصميمهما الفنان الفرنسي «كورديه» متعهد هندسة توزيع المياه بالقاهرة في ذلك الوقت، وتكلفا 400 ألف فرنك.
4
وخير ختام لإتمام مظاهر المدنية الحديثة بمدينة القاهرة، وبالأخص منطقة الأزبكية
5
في عهد الخديو إسماعيل، ما قاله بيردسلي قنصل أمريكا في تقريره لوزارة الخارجية الأمريكية في 15 / 9 / 1873، عندما قال: «بلغ التجميل والتبديل في القاهرة من بضع سنوات، مدى يصعب على الأجنبي تقدير طبيعته ومداه حق التقدير ... ومنذ ست سنوات لم يكن الحيز الواقع بين القاهرة والنيل وبولاق إلا أرضا واسعة منخفضة، تغمرها مياه الفيضان ... وهذا الحيز اليوم هو الحي الجديد الجميل، ويسمى بحي الإسماعيلية تكريما لسمو الخديو. وقد ردم ... وقد خططت فيه طرق واسعة ... تحف بها الأشجار ومنحت الأرض بالمجان لمن يتعهد بأن يقيم عليها بناء معين الرسم. وهكذا أنشئت مدينة جديدة تماما تتألف من أبنية رائعة، تمتد من المدينة القديمة إلى ضفاف النيل فكأنها نشأت بفعل من السحر. كانت البقعة الشاسعة المعروفة باسم الأزبكية، تقوم على جوانبها مجموعات من الدور الأوروبية، يتألف منها الحي الإفرنجي ... وقد استحالت اليوم إلى حديقة عمومية رائعة الجمال ذات ممرات رملية وطرق ظليلة ومروج خضراء. ومما يأخذ فيها بالألباب، بحيرة صناعية هي آية في الجمال، وتحف بهذه الحديقة أبنية أخاذة المنظر منسقة على طراز واحد ... وشيد الخديو مسرحا كبيرا جدا للأوبرا الإيطالية وآخر أصغر منه للكوميديا الفرنسية. وبنيت حنفيات عمومية كبيرة ومساجد وقصور عديدة. وفي كل النواحي نشاهد آيات النشاط والتحسين، تذكر نشاط الغرب أكثر مما تذكر عادات الشرق.»
6
ومن الملاحظ أن جميع الكتابات التي تحدثت عن الأزبكية، أو عن مسارحها، لم تتحدث إلا عن مسرح الكوميدي الفرنسي، ودار الأوبرا الخديوية. واعتبرت هذه الكتابات أن هذين المسرحين هما وسيلتا الترفيه الوحيدتين في مصر في ذلك الوقت، وبالأخص للجاليات الأجنبية. والحقيقة أن الخديو إسماعيل أقام عدة منشآت ترفيهية أخرى بخلاف ذلك في منطقة الأزبكية. فقد أقام سيركا وملعبا للخيول - الأبيودروم - أو ملعبا للجمباز. وبعد أن تمت هذه المنشآت تم الإعلان عنها جميعا بإعلان في 21 / 11 / 1870، هذا نصه:
صفحه نامشخص
إعلان لجميع الناس وكل من أراد التروح والائتناس
ابتداء اللعب في التياترات أي الملاعب الإفرنجية الكائنة بالأزبكية من الساعة 8 وربع «أفرنكية» من المساء (أي على نحو الساعة 3 من الليل عربية)، وهذا بيان أثمان المحلات لمن أراد من أبناء العرب وحضرات الذوات الكرام ذوي الميسرات أن يغتنمن هذه الفرصات ويقتسم حظ هذه الخيرات قبل الفوات. 10 فرنك على الكراسي المتقدمة وراء طقم الموسيقى، 7 على الكراسي المتأخرة، 65 الخلوة الأرضية [يقصد البنوار]، 75 الخلوة من الدور الأول، 53 الخلوة من الدور الثاني، 2 المجلس على المدرج في الدور الثالث.
7
وبعد هذه الإطلالة السريعة على منطقة الأزبكية بما تم فيها من عمران ووسائل ترفيه، يجب علينا أن نتوقف عند تفصيلات تأريخية وتوثيقية بما يخدم موضوعنا، عن تاريخ التمثيل والترفيه في هذه المنطقة؛ لذلك سنتحدث عن حديقة الأزبكية، وملاعب الخيل والسيرك والجمباز، وأخيرا المسارح. (1-1) حديقة الأزبكية
أما حديقة الأزبكية فبعد تشجيرها وتزيينها وتنويرها بالغاز،
8
صدر أمر الخديو بتعيين موسيو باريليه الفرنسي ناظرا لها ولكافة المتنزهات الأخرى. وإذا كان التاريخ أثبت أن الخديو إسماعيل أنفق من مال الدولة أموالا طائلة لجعل القاهرة صورة أخرى من باريس؛ مما أدى إلى أزمة مالية استمرت سنوات طويلة، فإن هذا الإنفاق تمثل بصورة واضحة في أمر تعيين باريليه! فناظر حديقة الأزبكية باريليه كان يتقاضى راتبا سنويا قدره 30 ألف فرنك فرنسي، بالإضافة إلى منزل لإقامته، وأيضا 90 ألف فرنك فرنسي كتعويض لتركه العمل في باريس، بالإضافة إلى 20 ألف فرنك فرنسي نظير خدمته في مصر من تاريخ حضوره من فرنسا.
9
وكانت الحديقة في أول أمرها - كمتنزه - مباحة للناس في الليل فقط،
10
صفحه نامشخص
وفي عام 1871 أبيحت لهم في النهار، وكان هذا الأمر من الأمور المهمة لدرجة الإعلان عنه في الجريدة الرسمية، عندما قالت: «أبيحت للمتنزهين في النهار حديقة الأزبكية البهية التي هي من جملة الإصلاحات التنظيمية البلدية العمومية.»
11
ومن الأمور المعهودة في هذا الوقت أن الفرق الموسيقية الأجنبية، وبالأخص الإنجليزية، كانت تعزف قطعا موسيقية في حديقة الأزبكية طوال الليل، للتسرية عن المتنزهين.
12
أما القيمة الحقيقية لحديقة الأزبكية فكانت تتجلى في الاحتفالات الرسمية للمناسبات الكبرى، سواء للجاليات الأجنبية أو للمصريين، كالاحتفال بعيد الملكة فيكتوريا ألكساندرين، من قبل الجالية الإنجليزية في مصر في يونيو 1887،
13
واحتفال الجالية الفرنسية بعيد 14 يوليو التي أسهبت جريدة المقطم
14
في وصفه قائلة: «كانت جنينة الأزبكية أمس شعلة من نار بل سماء مرصعة بالكواكب والأنوار، وقد احتشد فيها ألوف من الناس يمتعون الطرف بمجالي الزينة الباهرة ومظاهر الرونق والبهاء، وأقيمت عند مدخلها البحري قوس نصر رسم على واجهتها إلى جهة الباب صورة فتاة في مقتبل العمر وزهرة الشباب رمزا إلى الجمهورية الفرنسوية، وكتب على الواجهة الثانية بأحرف من نور «14 يوليو». وقد قسمت الحديقة إلى فسحات منسقة ومماش رحبة محيط بها الأنوار من كل جانب وتظللها المصابيح المضيئة بالأضواء المختلفة الألوان، ونصب في وسط تلك الفسحات المنيرة سرادق عظيم استكملت فيه معدات الأبهة والكمال، وأقام به حضرة قنصل فرنسا الجنرال يستقبل كبار رجال الحكومة وقناصل الدول الجنرالية ونخبة الزائرين من الوجهاء والأعيان، وكتب أمامه بالنور الكهربائي الحرفان الأولان من لفظ الجمهورية الفرنسوية وبينهما هذه الألفاظ «14 يوليو». وقد وضعت أقواس من النور على مسافات متقاربة ونشرت الرايات الفرنسوية في جميع أنحاء الجنينة ونصب في وسطها سرادق بديع الشكل مزين بالأنوار والرياحين تعلوه الأشجار الباسقة، وعلى مقربة منه الراية الفرنسوية تنبعث منها الأنوار كأنها قبس من نار، وقد أقامت فيه الموسيقى العسكرية تصدح بألحانها الشجية والناس من حولها أزواج متخاصرون يخطرون ويرقصون. وقد وضعت المشاعل والأنوار صفوفا حول البحيرة وانعكست أنوارها في الماء فتراءى للناظر إليها كأن الماء فيها قد تحول إلى نور. وفتحت أبواب التياترو مجانا لكل من يريد حضور الرواية الوطنية التي مثلت فيه. ولما أزفت الساعة الحادية عشرة أشعلت الألعاب النارية وأطلقت الأسهم في السماء فسمع لها أصوات هائلة أشبه بهزيم الرعد العاصف. وكانت تنبعث الأنوار على أشكال مختلفة في الفضاء وتسقط بألوان بديعة تروق الناظر وتشوق الخاطر. وقد انقضت الليلة على تمام السرور والحبور واستمر الناس يتمتعون بمسراتها إلى أن تبلج وجه الصباح، ثم انصرفوا جميعا يثنون ويشكرون.»
15
صفحه نامشخص
أما بالنسبة للاحتفالات المصرية في حديقة الأزبكية، فكانت تتمثل في احتفالين بصفة خاصة، الأول الاحتفال بعيد الجلوس السلطاني، والآخر احتفال الجمعيات الخيرية، والمحافل الماسونية.
16
والاحتفال بعيد الجلوس كان يتخذ في الحديقة أشكالا خاصة، مثل عزف الموسيقى العسكرية، وإقامة السرادقات الخاصة بالغناء للمطربين، ومن أهمهم الشيخ يوسف المنيلاوي وعبده الحامولي ومحمد عثمان، بالإضافة إلى تمثيل بعض الفرق لمسرحيات تتناسب مع مناسبة الاحتفال.
17
وإذا أردنا أن نتحدث عن احتفالات الجمعيات الخيرية في حديقة الأزبكية، سنجد أن «الجمعية الخيرية الإسلامية» لإعانة الفقراء تأتي في المقام الأول لما لها من رعاية خديوية، وحضور من قبل الخديو وزوجته وبعض الأمراء كالأمير محمد علي. وفي احتفالات هذه الجمعية نجد الغناء من أشهر المطربين، والألعاب النارية والبهلوانية والسيماوية والمزمار البلدي وتمثيل الروايات ... إلخ هذه المظاهر.
18 (1-2) السيرك
وإذا تركنا حديقة الأزبكية إلى أماكن الترفيه الأخرى بخلاف المسارح، سنجد السيرك أو ملعب الجمباز الذي أقيم بجوار دار الأوبرا الخديوية،
19
وملعب الأبيودروم أو ملعب الخيول، وقد صممهما وبناهما المهندس فرانس
20
صفحه نامشخص
الفرنسي بمنطقة الأزبكية ضمن المنشآت الترفيهية، بأمر من الخديو إسماعيل. وكانت أدوات ملعب الخيول والسيرك يتم استيرادها من أوروبا كأطقم الخيول وأدوات الجمباز.
21
وتم افتتاح السيرك في 25 / 10 / 1869 - قبل افتتاح الأوبرا بخمسة أيام - تحت إدارة الخواجة تيودور رانسي. وتم الإعلان عن هذا الافتتاح بإعلان هذا نصه:
إعلان
من ملعب بهلوان الخيل الفرنساوي بالأزبكية سنة 1286 «تحت إدارة الخواجة تيودور رانسي»
في يوم السبت 11 رجب وفي كل ليلة من الساعة ثمانية إفرنجي بعد الغروب يجري بمحل ملعب البهلوان المذكور ملاعيب عظيمة خيلية مسلية ومضحكة وجمبازية يلعبها جميع الأسطاوات الشهيرة المركب منها طقم الملعب الخيالي الفرنساوي المذكور أعلاه وتفتح مكاتب شراء تذاكر التفرج على الألعاب المذكورة الساعة سبعة ونصف إفرنجي بعد الغروب.
أثمان تذاكر الدخول
5 فرنق: المحل من الدكك المخصوصة، 3 فرنق: المحل من الدرجة الأولى، 1 فرنق: المحل من الدرجة الثانية، وتفتح مكاتب شراء التذاكر بالنهار أيضا من الساعة واحدة إفرنجي إلى الساعة 4 بعد الظهر ، وفي يومي الأحد والخميس من كل أسبوع يجري نهارا؛ وذلك للعائلات التي لا يمكن حضورها للتفرج بالليل وابتداء الألعاب النهارية الساعة 3 إفرنجي بعد الظهر.
22
ولم يقتصر السيرك على عرض العروض البهلوانية فقط، بل تطرق إلى فن البانتومايم، والرقص الشعبي، وبدأ يعلن عن برنامجه التمثيلي، مع ذكر أفراد فرقة البانتومايم، وهم: فلسبي وفرسدريق وكريويست وسالون والآنسة آنا، وهذا ما نلاحظه من صورة الإعلان الآتي المنشورة على الغلاف الأخير من مجلة «وادي النيل»
صفحه نامشخص