مقدمة في تاريخ الاقتصاد1
مبدأ الفيزوقراطيين
آدم سميث1
الاقتصاديون المرتابون أو البسيميست
مقدمة في تاريخ الاقتصاد1
مبدأ الفيزوقراطيين
آدم سميث1
الاقتصاديون المرتابون أو البسيميست
محاضرات في تاريخ المبادئ الاقتصادية والنظامات الأوروبية
محاضرات في تاريخ المبادئ الاقتصادية والنظامات الأوروبية
تأليف
محمد لطفي جمعة
مقدمة في تاريخ الاقتصاد1
ظهور الاقتصاد في الشرق
كان أول ظهور فكرة تتعلق بالاقتصاد السياسي في الشرق، وكان مصدر تلك الفكرة الحكومات الدينية التي كانت سائدة في الشرق لذلك العهد وهي ما يسمى بالثيوقراطية. وقد ظهر الاقتصاد في تلك الحكومات بمظهرين: الأول مظهر حماية الصنائع والفنون بتحريمها على غير من لم يرثوها عن آبائهم، وحصرها في النسل خلفا عن سلف من أكبر حرفة، وهي حرفة الملكية إلى أصغرها وهي حرفة الفلاحة. والمظهر الثاني تقسيم الأمة إلى فئات وفرق لا تتعدى فئة منها على صنائع وامتيازات فئة أخرى، وكان هذا في الهند ومصر، ولا تزال آثاره موجودة بالهند باسم «كاست».
غاية هذين النظامين
وكانت الغاية المقصودة من هذين النظامين الاحتفاظ بالصنائع والفنون وحمايتها، وامتياز الأشراف - أي الفئة القوية في الأمة - بالفنون الراقية الشريفة كالحرب والسياسة، واقتناع عامة الشعب - أي الضعاف - بالصنائع الوضيعة. ولكن من يريد تعليل هذا التقسيم تعليلا فلسفيا يمكنه أن يقول بأنه ليس في الصناعات وضيع؛ لأنها كلها من ضروريات الحياة القومية، وكلها محتاج إليها المجموع، وإن صح وصف البعض بالرضيع والوضيع، صح كذلك وصف أعضاء البدن كذلك مع عدم استغناء الإنسان عن بعض أعضائه لقيام كل منها بوظيفة لا غنى عنها، هذا صحيح من الوجهة الفلسفية، ولكن من الوجهة الاجتماعية كان نظام التقسيم والتوريث قاسيا غير موافق لحاجات الشعوب، ثم إنه كان يؤدي بالفنون إلى الركود والموات، وبأهل الصنائع إلى الكسل والإهمال.
هذا بقطع النظر عن بعض حسنات هذا النظام الاقتصادي الذي تقدمت بفضله بعض الصنائع، وقد تلاه ظهور بعض المبادئ الاقتصادية النافعة كمبدأ تقسيم الأعمال الذي افتخر به آدم سميث.
المبادئ الاقتصادية الشرقية
أول ما يجد الباحث في كتب الشرق عن المبادئ الاقتصادية هو اهتمامهم بالوجهة الأدبية من الاقتصاد، أو بعبارة أخرى اهتمامهم بالوجهة الاقتصادية من علم الأخلاق، كذم الشراهة والتحذير من حب المال والتهالك في جمعه، وكالأمر بالأمانة في المعاملات، وبالعدل في الكيل والوزن وإعطاء كل ذي حق حقه، ومراعاة العقود وكذم الكبر والطغيان الصادرين عن الغنى، ومدح القناعة وذم التبذير والتقتير، والحث على الاعتدال والإحسان إلى الأجير والمحتاج. أما رأيهم عن تكوين الثروة فكان رأيا دينيا؛ لأنهم قالوا بتعلق ذلك بإرادة الله، وإن كان يعول فيه على شيء من همة الأفراد ونشاطهم.
انتقاد تلك النظامات
والذي كان ينتقد على هذه النظامات هو تسخيرها لإرادة الفرد، وجعله أداة للمجموع، وتقييد أعماله وأوقاته بحيث كان عبارة عن آلة متحركة تعمل ما تؤمر به بدون إرادة، وكان ذلك لا شك لاختلاط السلطتين الدينية والدنيوية، فلما تقدمت الأمم زالت تلك القيود شيئا فشيئا بانفصال السلطتين، ودخلت المسائل الاقتصادية في حيز الحياة الاجتماعية المستقلة تمام الاستقلال عن الحياة الدينية.
الاقتصاد عند اليونان
فأنتم ترون أيها الإخوان أن أول من ظهرت لديهم أفكار اقتصادية كانوا المشارقة، ثم تلاهم اليونان أصحاب المدنية الكبرى.
وأول من كتب من علماء اليونان في الاقتصاد الحكيم هسيود مؤلف كتاب «الأعمال والأيام»، ومعظم أفكار هذا الفيلسوف ومبادئه يشبه مبادئ وأفكار المشارقة التي سبق الكلام عليها.
ثم جاء أفلاطون وألف كتاب «الجمهورية» الشهير. وليس في هذا الكتاب فصول خاصة بالاقتصاد، إنما وردت فيه عرضا عبارات اقتصادية غايتها وضع الفرد تحت تصرف الهيئة السائدة في كل الشئون، وتلاشي شخصيته حيال شخصية الحكومة. وكانت غاية أفلاطون من هذا الكتاب هي وصف حياة اجتماعية خيالية تسعى سعيا متواصلا للسعادة البشرية المطلقة، وهو بذلك أول من ابتدع طريقة الكتابة عن الإيتوبيات
utopie ، فالحال الاقتصادية التي وصفها كانت هي التي يريد تحقيقها في جمهوريته الخيالية.
ثم تلاه زنيوفون الذي كتب كتابا واحدا خاصا بالاقتصاد، وقد ظهرت في هذا الكتاب همة رجال الأعمال الحقيقية، أما الكتاب فاسمه
Acconomicus
أي التدبير وقد قصره على فن التدبير المنزلي ليس إلا، ويمتاز هذا الكتاب ببعض مبادئ جديدة أصبحت بعد قرون طويلة علما على فئة من الاقتصاديين الفرنساويين، اسمهم الفيزوقراطيون سيأتي الكلام عليهم بالتفصيل، فمن تلك المبادئ تفضيل زينوفون الزراعة على سائر الفنون، ومنها احترام حق الملكية، ومنها تقليل ساعات العمل، بحيث يصبح في وسع أهل المدينة التفرغ لبعض الأعمال العقلية والأدبية.
وزينوفون هذا هو أول من أوصى بالمتاجرة مع الأمم الأجنبية، وتقوية الصنائع وعقد المعاهدات الدولية.
ثم جاء بعد زينوفون أرسطو وهو أول من قال بامتزاج سياسة الحكومة بالحياة الاقتصادية، وسبب وجود هذا الرأي في مؤلفاته هو حال جمهورية أثينا في عهده؛ لأن شئونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما كانت ليفصل بعضها عن بعض.
وكان أرسطو لا يعتبر المال غاية إنما وسيلة لسعادة المجموع. وهو يخالف أفلاطون مع أنه تلميذه في أمور كثيرة، أهمها إنكاره رجوع أصل الهيئة الاجتماعية إلى الحاجة الاقتصادية، وقوله بأن حب الاجتماع فطري في الإنسان؛ ولذا كان يحارب مبدأ أفلاطون القائل بتقييد حرية الفرد، وجعله تحت تصرف الحكومة، ويحارب فكرة الاشتراك في الملك والنساء التي قال بها أفلاطون في جمهوريته، ويقول: إن الملك الفردي إحدى غرائز البشر. ومن الغريب أن أرسطو هذا دافع عن الرق في مصلحة السعادة، وكان يسمى العبيد أدوات حية لا إرادة لها، وسيأتي الكلام عن ذلك.
الاقتصاد عند الرومان
ليس للرومان في المسائل الاقتصادية شأن يذكر، ووظيفتهم في العالم التي يعترف بها التاريخ كانت حربية سياسية، وليس لهم عمل معروف فيما يتعلق بالمعاملات بين الأمم، وتشجيع الصنائع وتقوية الفنون. ولسي فيما كتبه فلاسفتهم أمثال شيشرون وسينيكا وبليني الكبير إلا دلائل واضحة على تقهقر الصنائع والفنون، وفساد الأخلاق والحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويرى المطالع في ما دونه بليني حسرة على استعمال نقود الذهب، وتلهفا على العهد القديم عهد المبادلة النوعية، ومما يذكر عن الرومان بغضهم للربا، وتحريمهم إياه نحو عام 341ق.م، فقد قال عنه شيشرون خطيبهم الشهير باللاتينية:
quid fenerari? quid hominem occi der?
أي أن الربا يشبه في بشاعته قتل الإنسان. على أن الاقتراض بالربح كان مباحا في قوانين الألواح الاثني عشر، كذلك أباحه الإمبراطور جوستينيان ، وجعل قيمته من 4 إلى 8 في المائة .
الاقتصاد في القرون الوسطى
القرون الوسطى أو القرون المظلمة كانت مملوءة بالحوادث السوداء، وعهد الاقتصاد فيها كان عهد الالتزام
feudalisme ، فكان من المستحيل وجود نظامات اقتصادية في ذلك العهد؛ لذا لم يبدأ عهد الاقتصاد السياسي الحقيقي إلا بزوال الرقيق، وبزوال عهد الالتزام، وبتكوين المدن. ولما كانت جمهوريات إيطاليا ومدنها المستقلة هي الأولى في الظهور، كان كذلك ظهور الحياة الاقتصادية لأول الأمر بها.
الاقتصاد في العهد الحديث
أول ظهور الاقتصاد السياسي بمظاهره الحديثة في فرنسا على عهد الملك لويس الخامس عشر تقريبا؛ فقد نشأ فريق من المفكرين العلماء، ونهضوا بهذا العلم وهؤلاء العلماء أطلق عليهم لقب الفيزوقراطيين؛ أي القائلين بحكم الطبيعة، وكان ظهورهم في أوائل القرن السابع عشر.
مبدأ الفيزوقراطيين
وضع أنطون مونكرتيان اسم الاقتصاد السياسي في أوائل القرن السابع عشر علما على العلم الذي يعرف الآن بهذا الاسم. وفي هذه التسمية خطأ؛ لأن الاقتصاد هو علم تدبير ثروة الأمة، وليس له في السياسة دخل، ومنشأ الخطأ هو العلاقة بالأمة كمجموع، وإلا فإنهم يطلقون على العلم نفسه اسم التدبير المنزلي إذا كان المقصود به تدبير ثروة الفرد. وعلى ذلك كانت آراء فلاسفة اليونان.
وقد شاع هذا الاسم واستعمل لأن المشتغلين بالعلوم والسياسة في القرن السابع عشر وما بعده كانوا يقولون بأن الاقتصاد فرع من سياسة الأمة؛ لذا كتب جان جاك روسو مقالة في دائرة المعارف الفرنسوية عن الاقتصاد السياسي، فقال: إن هذا العلم لا يفصل عن السياسة؛ لأنه فرع من الحكومة قائم بتدبير المنزل العام. وبعبارة أخرى هو علم تقدم البلاد ونجاحها، وإن العلماء قد ذكروا طرقا شتى لإنجاح البلاد بالماديات، وتدبير الثروة الشعبية.
فبعضهم كان يقول بإكثار مقدار النقود فيها؛ لأن كثرة النقود حصر للثروة، وهذا رأي فريق النقديين «بوليونيست»، وقال فريق إن وسيلة تقدم البلاد تكون بتنمية المتاجر وتشجيعها، وهم يسمون بالتجاريين أو المركنتيليست، وقام كذلك فريق أدخل العلوم الاقتصادية في عالم الخيالات، ورسم خططا لا يمكن تنفيذها غايتها الوصول إلى تقدم البلاد، وهذا الفريق يسمى بالإيتوبيست من كلمة إتيوبي أو إرم ذات العماد، وهي تسمية مجازية لمن يريد تحقيق ما لا يحقق، ومنها جمهورية أفلاطون التي سبق ذكرها.
وأنتم ترون أن العلم الاقتصادي كان بين أصحاب هذه المبادئ المتضاربة المتناقضة في فوضى لا نظام لها، بل لم يكن في الواقع علم اسمه علم الاقتصاد، إنما مجموعة آراء مختلفة دعت إلى القول بها رغبة العلماء في تقدم أوطانهم، واشتباك هذه الآراء وتضاربها كان لا شك دليلا على أنه قد آن الأوان لظهور العلم الحقيقي، ونضاج الأفكار واستعدادها للنبوغ فيه، كل هذا كان في بداية القرن السابع عشر؛ أي منذ ثلاثة قرون بالضبط.
عند ذلك ظهر فريق من العلماء، وعلى رأسهم عالم اسمه ديكناي
De Quesnay
كان طبيبا للملك لويس الخامس عشر، ومشتغلا بالزراعة والأدب والاقتصاد الزراعي، وقد كتب هذا العالم مقالة في دائرة المعارف الفرنسوية في باب الاقتصاد السياسي، قال فيها جملة كانت هي أساس مبدأ الفيزوقراطيين، والتي صار من يوم التصريح بها رئيسا أو مؤسسا لمدرسة الفيزوقراطيين، هذه الجملة هي: «إن البشر محكومون بقوانين وسنن يعوزهم فهمها ليطيعوها.»
ثم أخذ يتسع هذا العالم في مبدأه، ويلتف حوله العلماء القائلون برأيه، وكان الفضل لهم وله في الإلمام بعلم الاقتصاد السياسي بمجموعه، ولكن لم يقصدوا بالعلم سوى الاقتصاد الاجتماعي؛ لأنهم قالوا بأن الحوادث الاجتماعية مرتبطة بروابط ضرورية واجبة الوجود، لا بد للحكومات من فهمها والسير بمقتضاها، وكانت مؤلفات هؤلاء العلماء الفيزوقراطيين تنتشر من سنة 1756 إلى سنة 1778.
ومما يجدر بالذكر أن جان جاك روسو كان من معاصري هؤلاء العلماء، ولكن لم يكن يتأثر بمبادئهم على الإطلاق، وإن كان الناظر لأول وهلة في مؤلفات هذا الفيلسوف، يخيل له أنه من الطبيعيين في كل شيء، فإنه كتب كتاب العقد الاجتماعي
Contrat Social ، وهو في هذا الكتاب يقول كما يقول الفيزوقراطيون بوجود نظام طبيعي، ولكن التناقض البين بين مبادئ روسو والفيزوقراطيين كائن في أنه يعترف بوجود النظام الطبيعي، إنما تلك الحالة الطبيعية أو النظام الطبيعي قد شوهتها النظامات الاجتماعية والسياسية.
أما الفيزوقراطيون فكانوا يعتقدون بأن النظامات الاجتماعية لا سيما الملكية ليست إلا نتيجة لازمة للنظام الطبيعي، أو بعبارة أخرى هي ثمرة وزهرة هذا النظام، وإنها كذلك قد شوهتها الحكومات بأعمالها، ولكن إذا انتهت تلك الأعمال المتلفة عاد النظام الطبيعي إلى حاله الأولى.
ثم إن الفيزوقراطيين كانوا يقولون بأن الواجب والمنفعة متفقان أو هما أمر واحد، أما جان جاك روسو فكان يقول بتضاربهما وتناقضهما.
النظام الطبيعي
رأيتم أن واضع أساس مدرسة الفيزوقراطيين هو أول من قال: بوجود قواعد طبيعية ينبغي فهمها والعمل بمقتضاها، وأن مجرد فهمها يقضي بالعمل عليها وبها، وثمرة مجموع هذه القوانين قد سماه هؤلاء العلماء، بالنظام الطبيعي أو
Ordre Naturel ، وقد جعلوا هذا النظام علما قائما بذاته له قواعد ونظامات، فكانوا يقولون بأن الفيزوقراطية هي علم النظام الطبيعي كما نقول إن الجغرافيا هي علم سطح الأرض، وهم يريدون بذلك أن الفيزوقراطية ليست الحال الطبيعية بذاتها، التي كان يدعو روسو إلى العودة إليها بدون قيد أو نظام.
فالنظام الطبيعي - كما قلت لكم - هو مجموع قواعد طبيعية ينبغي فهمها والسير عليها، ولكن لا بد من البيان، فإن هذه القواعد ليست هي التي تسير بمقتضاها الهيئات الاجتماعية الحيوانية، أو القواعد التي تسير عليها الأجسام الحية بالمعنى الطبي أو الفيزيولوجي إنما النظام الطبيعي هو مجموع القواعد التي ارتبطت بها سعادة البشر. النظام الطبيعي هو النظام الذي أرادته العناية لهناء الإنسانية، هذا النظام الطبيعي هو النظام الذي ينبغي لنا أولا أن نتعلم كيف نفهمه، ثم نتعلم كيف نسير بمقتضاه.
ولكن كيف يمكن لنا معرفة هذا النظام الطبيعي الذي ارتبط به هناء البشر؟
إن هذا النظام إنما يعرف بوضوحه وظهوره وحقيقته، أو بعبارة أخرى هو النظام الذي يتضح لأهل البصيرة وأصحاب العقول النيرة أنه هو أحسن نظام ينبغي العمل بمقتضاه، وأساس هذا النظام الطبيعي هو احترام حق الملكية، والسلطة التي تحافظ على هذا الحق. وهذا النظام كسائر الأمور الأبدية قديم لا يزول ولا يتغير، وهو هو بعينه لسائر الأمم وفي سائر الأزمان.
وغني عن البيان أن هذا التعبير الجديد عن النظام الطبيعي هدم النظامات الاقتصادية التي سبقته؛ لأنه كما ترون نظام مبني على الحرية يربط منفعة الشخص بمنفعة المجموع؛ لأن هذا النظام الطبيعي لا يحتاج في تطبيقه إلا لترك الأمور تجري في أعنتها بدون قيود، فيترك مجال العمل للأفراد واسعا حرا، وتتعلم الجماعات والقائمون بأمرها طرق السير بمقتضى تلك القوانين، وهذا هو ما يعبر عنه عندنا أهل الشرق بقولهم: دع الخلق للخالق.
المحصول الخالص
إن النظام الطبيعي الذي سبق ذكره هو في نظر الفيزوقراطية نظام شامل لكل شئون الحياة الاجتماعية، إنما الذي يهمهم ويلفت أنظارهم هو نصيب الأرض في الإخراج، وسترون بالبرهان أن هذا الرأي هو من الخطأ بمكان عظيم، ولكنه في الوقت نفسه الرأي الوحيد الذي امتاز به جماعة الفيزوقراطيين، وأن الفيزوقراطيين وصلوا إلى هذا الرأي - أي تقدير الأرض أكثر من قدرها الحقيقي - بالفكرة الآتية: قالوا إن المحصول الخالص هو الفرق بين النفقات التي يتكلفها المحصول وبين الثروة التي تنتج عن الانتفاع بالمحصول، وقد ظن الفيزوقراطيون أن هذا المحصول الخالص لا يوجد إلا في الزراعة؛ وبناء على هذا الرأي كان الفيزوقراطيون يعتقدون أن الصناع والعمال إنما هم فريق جدب لا يخرج للناس شيئا، ولا يخلق للمجموع ثروة جديدة.
إن الصناع والتجار يربحون أكثر من الزراع، ولكن هذا الربح ليس مما يحصلونه هم بأعمالهم، إنما يكسبونه، والفضل في رجوع هذه الثروة إليهم راجع إلى همة المزارعين، بل الصناع هم الخدم الذين يأخذون أجرهم بعد مروره بأيدي المزارعين المخرجين الأول، هذا الخلاف الأساسي بين الزراعة والصناعة هو النقطة الكبرى التي دار الجدل عليها، بل هو أصل الفرق بين المبادئ الاقتصادية؛ لأن محصول الأرض هو من صنع الله القادر على أن يخلق، ومحصول الصنائع والفنون هو من صنع البشر العاجزين. وحقيقة الأمر كما سيظهر لكم أنه ليس في العالم ما يخلق وما يفقد (بضم اليائين)، وكل شيء هو كائن في الطبيعة وعائد إليها. إن في الحياة الاقتصادية قانونا عاما هو قانون المزاحمة وبقاء الأفضل، وكما أن هناك فرقا بين نفقة المحصول الزراعي وبين الثمن الذي يباع به ، كذلك يوجد فرق بين نفقة المحصول الصناعي، وبين الثمن الذي يباع به، وقد تكون صناعة أربح من زراعة في هذا الباب والعكس بالعكس.
فينتج من هذا أن ما يسميه الفيزوقراطيون بالمحصول الخالص
net
إنما هو وهم باطل، وحيث إن كل فكرة وإن عدها أهل جيل وهما كانت في نظر أصحابها حقا لا شك فيه، كذلك كانت فكرة المحصول الخالص، فلا بد كذلك من تعليل معقول. وتعليل قول الفيزوقراطيين بالمحصول الخالص هو أنهم نشأوا في وسط كانت الأشراف تعيش فيه من خير الأرض، ويعيشون بسعة هذا هو العهد عهد لويس الخامس عشر الذي سبق الثورة الفرنسوية بقليل كان الأشراف كأغنى أهل الأرض، وعمالهم من المزارعين والفلاحين، والطبقات النازلة كأشقى أهل الأرض، وكان الأشراف فوق غناهم الزائد لا يدفعون الضرائب إنما يدفعها الشعب الذليل، كلما زاد فقر الشخص ارتفع قدر الضريبة التي يدفعها، فبهرت تلك الثروة الفيزوقراطيين ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في أسبابها، بل قفزوا إلى النتائج واستنتجوا بغير روية أن هذه الثروة الطائلة الآتية من المحصول الزراعي هي صادرة لامتياز الأرض والزراعة على غيرهما من أسباب الرزق.
نتيجة هذه الفكرة الفيزوقراطية
كان لهذه الفكرة الفيزوقراطية نتيجة ناشئة عن أمر واحد، ولكنها شملت عدة أمور منها: (1)
أنه حدث رد فعل ضد التجارة؛ لأنها أصبحت معدودة من الفنون الجدبة العاقر. (2)
ارتفاع قدر الزراعة في نظر الجمهور. (3)
ثم إن الاهتمام العظيم بالزراعة أدى إلى نتيجة لا ينتظرها الفيزوقراطيون، وهي ابتداء فكرة الحماية الجمركية، مع أن الفيزوقراطيين كانوا - قبل كل شيء - كما ذكرت لكم يحبون الحرية في الحياة الاقتصادية والتجارية، وهم القائلون: دع الخلق للخالق. (4)
والرأي الرابع هو اعتقاد الناس بأن الزراعة وحدها هي المحركة لقوى الحياة.
تداول الثروة
إن الفيزوقراطيين بعد أن تكلموا عن المحصول تناولوا ببحثهم موضوع تداول الثروة. فأعطوا نظرية تحليلية أرادوا أن يثبتوا بها أن الثروة تتداول بذاتها وبطبيعتها، وقد وضع العالم ديكناي مؤسس هذه المؤسسة الاقتصادية جدولا اقتصاديا مشهورا قسم فيه المجموع إلى ثلاثة أقسام كبرى: (1)
الفريق المخرج أو المحصل ، وهو فريق المزارعين والفلاحين عدا الأجراء وأصحاب المناجم وأصحاب صيد البحر. (2)
فريق الملاك الذين لهم حق الملك على الأرض والسيادة على محصولها. (3)
وفريق كافر وهو فريق المشتغلين بالتجارة والصنائع والأعمال المنزلية والفنون الحرة، كالمحامين والأساتذة والقضاة والأطباء.
ثم فرضوا أن محصول مملكة من الممالك هو خمسة ملايين من الجنيهات مثلا، فقسموها كما يأتي:
مليونان يقتضيها تحسين الثروة، وهو جزء من الثروة لا يمكن تداوله؛ لأنه يبقى على طبيعته أرضا وعددا وأنعاما، وهو يبقى في يد المزارعين.
مليون يعطى لفريق العمال وأرباب الصنائع.
مليونان يرجعان إلى فريق الملاك وأصحاب الحق على الأرض.
فماذا يجري بعد تقسيم الأموال على هذه الصفة؟
يقول الفيزوقراطيون إن المليونين الذين يحصل عليهما فريق الملاك يرد مليون منها إلى الفلاحين، ويدفع المليون الآخر إلى الصناع لقضاء الأعمال التي يحتاج إليها الملاك.
فيكون مجموع ما يحصل عليه فريق العاقرين - أي الصناع - هو مليونان: واحد من المزارعين وواحد من الملاك. ولكن فريق العمال محتاج إلى مواد أولية كالطعام واللباس، فهو يرد المليونين إلى المزارعين للحصول على ما يحتاج إليه، وبهذا يرد مبلغ الخمسة ملايين إلى المخرجين الأول أي المزارعين، وهكذا يحدث في كل عام.
والذي يدهشنا نحن الآن هو أن الفيزوقراطيين لم يلتفتوا إلى أمر مهم، وهو أن الملاك حصلوا على خمسي المحصول؛ أي على مليونين من خمسة بدون أن يفعلوا شيئا، وهذا ناشئ من أن الفيزوقراطيين كانوا يعدون حق الملكية حقا سماويا مقدسا لا يمكن منازعته.
وهذا راجع إلى ما ذكرته قبل بالإجمال، وهو أن الفيزوقراطيين عاشوا في العهد القديم، فرأوا أن الهيئات الاجتماعية كان يسودها أبدا فريق ممن لا يكلفون الأعمال؛ لذا ساروا على هذا الوهم فيما يتعلق بملك العقار، وكان في ذلك مثلهم كمثل أرسطو فيلسوف اليونان الذي قال بضرورة بقاء الرق؛ لأن النظام الاجتماعي في عهده كان يقضي بوجود العبيد.
وقد دافع الفيزوقراطيون عن حق الملكية دفاعا شديدا، وأبدوا أدلة استفاد بها المحافظون من الاقتصاديين قرنا كاملا، وهاك تلك الأدلة: (1)
أن صاحب الأرض يقوم بالنفقات الأولية، وهو ما يسمى بتصليح الأرض وجعلها نافعة وقابلة للزرع، فهو إذا ربح 5/2 المحصول إنما يربح لأنه هو الذي أعد الأرض بل أوجدها على حالتها الحاضرة.
ولكن لم يلاحظ الفيزوقراطيون - رحمهم الله - أنه لو فرضنا أنني أنفقت على أرضي أربعة آلاف جنيه، وكان محصولي منها في العام 500 جنيه أمكنني استرداد هذه النفقة في ثماني سنين، وأن ما أحصل عليه بعد ذلك ليس حقا لي إنما هو من قبيل ربح أرباب الأموال، الذين يعمل لهم العمال في المعامل وهو فريق ال
Capitalistes . (2)
الدليل الثاني: النفع الاجتماعي من بقاء حق الملكية، وبيان ذلك هو أن بدون حق الملكية لا يمكن مطلقا أن تزرع الأرض، فتبقى كلها بدون زرع. ولكن أظنكم فطنتم إلى ما هناك من التناقض بين الدليلين الأول والثاني، فإن الدليل الأول يقول بأن الأرض لا بد أن تملك لأنها زرعت، والثاني يقول بأن الأرض ينبغي أن تملك ليسهل زرعها. (3)
الدليل الثالث: أن حق الملك العقاري ضروري ما دام هناك حق الملك الشخصي؛ أي حق ملك المنقولات، وهذا من السفسطة بمكان؛ لأن هناك فرقا عظيما بين الحقين، فإن المنقولات وأهمها المال عرضة للتداول، أما ملك العقار فهو يغري أصحابه بالإبقاء عليه واستغلاله.
ثم إن الفيزوقراطيين سنوا على أصحاب الملك بضعة واجبات، قالوا بوجوب القيام بها نحو الهيئة الاجتماعية، ولكن لم يضعوا لها حدودا؛ أي لم يذكروا ما ينال من يفرط فيها من العقاب أو المسئولية، وهذه الواجبات هي: (1)
الاستمرار على إصلاح الأرض غير القابلة للزرع لتصلح لذلك. (2)
القيام بوظيفة الاقتصاد للهيئة الاجتماعية. (3)
أن يعطوا للهيئة الاجتماعية ما لديهم من الفراغ (؟!) (4)
دفع الضرائب. (5)
حماية الفلاحين والمزارعين.
هذا مجمل آراء الفيزوقراطيين، وبقي علي أن أذكر لكم أثر تلك الآراء في ثلاثة أشياء مهمة: الأولى أثرها في التجارة، ثانيا أثرها في وظيفة الحكومة، ثالثا أثرها في وضع الضرائب.
التجارة
التبادل في ذاته لا يخرج شيئا إنما هو نافع للفريقين، والفيزوقراطيون كانوا لا يفهمون الثروة إلا بقدر كونها مادية محسوسة ، فالتجارة الداخلية والخارجية لا تخرجان ثروة حقيقية، إنما تنتجان ربحا أو كسبا، وهذا الكسب كذلك ليس ثروة؛ لأن ما أكسبه أنا يفقده الذي كسبت منه. بل كانوا يعتقدون أن التجارة الخارجية ضرر لا بد منه ولا غنى لهم عنه، وقالوا بأن التبادل النافع حقيقة هو التبادل الذي ينتقل به المحصول من يد المزارعين إلى يد المستعملين أو الشارين الأصليين الذين ينتفعون بالمحصول مباشرة، أما التجارة - أي شراء الأشياء بثمن لبيعها بثمن أعلى - فليست إلا تبديدا للثروة؛ لأن أحد الفريقين على الدوام يخسر شيئا يربحه التاجر الذي لا عمل له في نظر الفيزوقراطيين إلا كعمل الوسيط، ولكن الفيزوقراطيين مع بغضهم للتجارة كما ذكرت كانوا يتركون الخلق للخالق، ثم إنهم ما كانوا ليخرجوا عن النظام الطبيعي الذي يقضي بترك الحرية لكل من يريد شراء أو بيعا، ثم إنهم كانوا يعتقدون أن الحرية في المعاملات ترفع الأثمان. وقد أدت بهم هذه الفكرة إلى حرية المعاملة، وحرية المعاملة إلى حرية التجارة الجمركية، ولم يقم أنصار مبدأ الحرية الجمركية دليلا مدة قرن كامل لم يقل به الفيزوقراطيون في كتبهم ورسائلهم. (1)
فإنهم أولا نقضوا نظرية ميزان التجارة. (2)
وثانيا نقضوا رأي القائلين بأن الرسوم الجمركية يدفعها التاجر الأجنبي.
وقد ساعد الفيزوقراطيون فكرة تنظيم المتاجر بالمال والتسليف، ولكنهم لم ينتجوا إلا القرض الزراعي.
وظيفة الحكومة
إن الفيزوقراطيين يطالبون بأقل ما يمكن من التشريع والتقنين، وفي الوقت نفسه بأكثر ما يمكن من السلطة، وكان النظام الحكومي الذي يعجبهم هو نظام الملكية الوراثية المطلقة، ووظيفة الملك في رأيهم كوظيفة رئيس الموسيقيين؛ أي إنه يحافظ على النظام الطبيعي، ويعلم المجموع ليستنير الرأي العام وأن يقوم بالأشغال العامة كمد طرق المواصلات، وتسهيل وسائل العمل.
ومبدؤهم يشبه من كل الوجوه مبدأ القائلين: بسقوط القيود الدولية، وجعل أمم الأرض أمة واحدة وهم الذين يسمون الآن بفريق
internationalistes .
الضرائب
إن الحكومة لا تفرض الضرائب إلا على المحصول الخالص الذي سبق الكلام عليه
، وكل الضرائب ينبغي أن يدفعها أصحاب الأملاك العقارية، وينبغي أن يكون مقدار الضريبة هو 3/1 المحصول أو 20/2 منه أو 30٪ من ذلك المحصول، وهذا التقدير مبني على رأيهم في أن من يشتري الأرض لا يشتري إلا سبعة أعشارها، وأن ثلاثة أعشارها تبقى ملكا للحكومة، وحقيقة الأمر أنه لا يخسر إلا الشاري الأول، أما من يخلفونه فإنهم لا يشعرون بالخسارة؛ لأنهم لا يدفعون إلا ثمن 7/10 الأرض ويأخذونها كلها.
أما فريق العمال فلا يدفع شيئا من الضرائب؛ لأن ديكوناي رئيس الفيزوقراطيين لا يسمح للأجراء بأجر أكثر مما يحتاجون إليه كنفقة للعيش. ورأيهم الصائب في الضرائب هو أنه ليس المطلوب موافقة الضرائب لاحتياجات الحكومة، إنما هو موافقة الحكومة لمصادر الثروة في البلاد، وفضيلة النظام الذي وضعه الفيزوقراطيون للضرائب ظاهرة في أنهم جعلوا للضرائب تقديرا على شيء معلوم محسوس، وهو المحصول الخالص، وهذا القانون عقبة في وجه الحاكم الذي يريد رفع الضرائب بدون حساب.
وإن الحكومة الجمهورية الفرنسوية التي جاءت بعد لويس السادس عشر، وبعد حوادث 1789 الشهيرة أخذت على كاهلها تنفيذ وتحقيق نظريات الفيزوقراطيين، فطلب المجلس التشريعي
assemblee Constituante
ضريبة قدرها 240 مليونا على أملاك عقارية قدرها 500 مليون فرنك فقط، وهذا النظام يعرف في التشريع المالي باسم الضريبة المفردة
impot unique ، ويسمونه في أمريكا
Single Tax System ، وقد فشل العمل به في سائر البلاد الديموقراطية، لا سيما في أمريكا فكان فشله سببا في فشل مشروعات وضع الضرائب المقررة أو المباشرة
Directe ، وضرائب المأكولات والمتاجر المنتفع بها في الحياة اليومية.
آدم سميث1
إن معظم الاقتصاديين في هذا الزمان يقولون بأن آدم سميث هو مكون علم الاقتصاد الحديث، وهم يستندون في قولهم هذا بأنه منذ انتشر كتابه المسمى بثروة الأمم
Wealth of Nations
قد نسيت كل الكتب التي وضعت قبله في هذا الفن، أو بعبارة أخرى أنه كسف من كان قبله من علماء الاقتصاد وفاق عليهم، أما أسباب ظهور كتابه على غيره من الكتب، فهي ما يأتي:
أولا:
أنه كان لكتابه في عهده قيمة أدبية كبرى.
ثانيا:
أن آدم سميث اقتبس من آراء من سبقوه من علماء الاقتصاد أهمها وكلون منها، ومما استفاده بالخبرة أو وصل إليه بالدرس نظاما جديدا شاملا. ويظهر أن المؤلفين الذين كان لهم عليه تأثير كبير في حياته، أو كانت أفكارهم من دواعي سلوكه الطريق التي سلكها هم هتشون وهيوم وماندفيل.
ثالثا:
أنه استفاد كثيرا من آراء الفيزوقراطيين، وقد عاشر أثناء إقامته بباريس عام 1765 اثنين من أقطاب المبدأ الفيزوقراطي، وهم تيرجو وديكناي، وقد اقتبس من الفيزوقراطيين رأيا من أهم آرائهم وأثمنها، وهو ما يتعلق بتقسيم الثروة ولكنه فاق عليهم بنظره الشامل في العلم وتفوقه يرجع؛ لأنه ترك النظامات الاقتصادية المفككة، ودخل بالاقتصاد في دائرة العلوم؛ أي إنه صيره علما قائما بذاته. وإنني أريد في هذا الدرس أن ألخص لكم كتاب سميث الشهير وهو ثروة الأمم، فأقول: إن أول ما يلاحظه القارئ الواقف على مبدأ الفيزوقراطيين، هو الفرق العظيم بين سميث وبينهم في ما يتعلق بقيمة العمل، فقد رأيتم في الدرس السابق أن الفيزوقراطيين الذين كانوا لا يعلقون أقل أهمية على العمل، إنما كل اهتمامهم كان قاصرا على الأرض، ولكن آدم سميث على عكسهم يؤكد لنا في أول كتابه أن العمل
Travil
هو مصدر الثروة الحقيقي. هذا هو الفرق الأول وهناك كذلك فرق أساسي بينه وبين الفيزوقراطيين قد جعله أساسا لكتابه، وهذا هو تقسيمه العمل، وجعل تقسيم العمل عاملا جديدا في الحياة الاقتصادية، بل يقول العلامة ريست الاقتصادي الفرنسوي الشهير إن نظرية تقسيم الأعمال هي الفكرة الأساسية الجديدة في تعاليم آدم سميث. ولآدم سميث صحيفة مشهورة وصف فيها تقسيم العمل في صناعة الدبابيس، وقد نقلها كل علماء الاقتصاد في مؤلفاتهم. قال: إن عاملا واحدا لو كان يعمل في معمل الدبابيس بمفرده، لا يمكنه أن يعمل أكثر من عشرين أو ثلاثين دبوسا على أن نحو عشرة لو اشتغلوا معا في معمل واحد، يمكنهم في يوم واحد أن ينجزوا نحو 48 ألف دبوس، وينسب سميث قوة تقسيم الأعمال إلى ثلاثة أسباب أولية:
أولا:
أن العامل إذا اختص بعمل فاز فيه بطول العمل وسهل عليه.
ثانيا:
أن العامل إذا اختص بعمل اقتصد كثيرا من الوقت.
ثالثا:
أن كثيرين ممن يختصون بعمل من الأعمال تطرأ على بالهم اختراعات تسهل عليهم مشاق العمل، وبذا تكثر الاختراعات المفيدة.
ولكن آدم سميث لم يخف عليه أن للإخصاص في حرفة من الحرف أضرارا كثيرة، كما أن له منافع، فمن أضراره مثلا ما يأتي:
أولا:
جهل العامل المختص بصنع رأس الدبوس بأمور كثيرة في الحياة؛ لعدم انقطاعه عن صنع رءوس دبابيس معظم أوقات حياته.
ثانيا:
بلادة العامل وانتقاله من الإنسانية للوحشية لانعكافه على عمل خاص.
ولكن كما يظهر لكم أن المضار أقل بكثير من المنافع، وهي شخصية والمنافع عامة. والقاعدة هي أنه إذا كثرت منافع شيء عن مضاره لزم العمل به؛ لأنه لا يخلو شيء من مضار. ثم إن آدم سميث قد فطن وأوصى بعلاج يزيل تلك المضار، وهو تعميم التعليم وأن تقوم بنفقته الأمة والحكومة.
ولأجل تشجيع تقسيم الأعمال ينصح آدم سميث بتوسيع أسواق التجارة، وسبب ذلك واضح؛ لأنه لا يمكن انقطاع ألف رجل لصنع دبوس إذا لم تكن الدبابيس تباع بألوف الملايين؛ لذا كانت المتاجرة مع المستعمرات والممالك الأجنبية التي توسع دائرة الصناعة الوطنية من أهم المشجعات على تقسيم العمل.
وقد امتاز آدم سميث على الفيزوقراطيين بأنه ينظر إلى المحصول الاجتماعي - أي إلى كل ما يخرجه الناس - نظرا شاملا، وأن هذا المحصول هو نتيجة سلسلة مشروعات متكافلة ومتضامنة مرتبطة بعضها ببعض بحلقة التبادل التجاري؛ لذا كان تقدم كل فرع من فروع الحركة الإنسانية مرتبطا بتقدم الفروع الأخرى.
وقد نشأ عن هذه النظرية نتيجة عملية، وهي ضرورة تقسيم الضرائب على سائر طبقات الأمة، وفي هذا ما ترونه من مخالفة مبادئ الفيزوقراطيين الذين كانوا يقولون بتوحيد الضرائب. وتقسيم الضرائب هو ما يسمى بنظام الضرائب المتعددة؛ أي أن الضرائب تؤخذ على الأرض من المزارع، وعلى رأس المال من أصحاب المال وعلى العمل ذاته من العمال، ولكن لم يزل هذا التقسيم مطلقا إنما قد وضع له آدم سميث نظرية مهمة، كان لها شأن عظيم، وهذه النظرية هي نظرية التناسب بين الأصل والضريبة؛ أي احتمال نفقات الحكومة بالنسبة لطاقة الفرد، لا كما كانت الحال في فرنسا قبل الثروة؛ أي إذ كان الفقراء يدفعون معظم الضرائب والأغنياء لا يدفعون شيئا.
وقد قال آدم سميث في هذا المعنى جملة مشهورة نصها: إن رعايا كل حكومة ينبغي لهم أن يشتركوا في نفقاتها على قدر ما يمكنهم، وبنسبة مقدرتهم الخاصة ودخلهم الذي يحصلون عليه تحت ظل الحكومة وحمايتها.
وآدم سميث يقسم العمال إلى فريقين: (1)
فريق العمال المخرجين. (2)
فريق العمال غير المخرجين.
وهو يعد الأعمال غير المخرجة تلك الأعمال التي تزول بعد تمامها، ولا يبقى لها أقل أثر مثل أعمال الخدم المنزلية، ولا تدهشوا إذا ذكرت لكم أنه يعد من الأعمال غير المخرجة أعمال القضاة والمحامين والمعلمين والأطباء، وسائر الصناعات الحرة. ولعلكم فطنتم أن هذا التقسيم قد سرى إليه من تأثير الفيزوقراطيين، بل إنه يسمي تعاليمهم أقرب تعاليم إلى الحقيقة.
وقد شاع رأي بين بعض الاقتصاديين قائل بأن آدم سميث هو أول الاقتصاديين الصناعيين؛ أي الذين قالوا بأهمية الصناعة على الزراعة، وبذلك يقارنون بين آدم سميث وبين الفيزوقراطيين، ويدعون بأنه مخالف لهم على خط مستقيم؛ لأن الفيزوقراطيين معروفون بأنهم حماة الزراعة، فيكون سميث زعيم حماة الصناعة. وهذا الرأي مردود؛ لأن الثروة الصناعية ابتدأت في وقت ظهور كتاب سميث، كما أننا عند مطالعة الدروس التي كان يلقيها في مدرسة جلاسجو الجامعة عام 1759، لا يمكننا أن نجد أقل علاقة بين أفكاره الجوهرية، وبين الأفكار التي دعت لظهور الصناعات الإنجليزية.
إن آدم سميث لم يختلف كثيرا في بعض المسائل المهمة عن الفيزوقراطيين، فإنه يوجه انتقادا مرا وسخرية مؤلمة نحو التجار والصناع، تذكرنا بانتقادات الفيزوقراطيين، ومع ذلك هو يدافع بقوة عن أصحاب الأملاك العقارية وعن العمال.
وإذا ورد ذكر العمال وأرباب الأموال أمام سميث؛ فإنه لا يتردد لحظة في إظهار عطفه على العمال، وهو كذلك يقول برفع أجور العمال؛ لأن الأجور المرتفعة تنفع الهيئة الاجتماعية بأسرها، لأن أغلبية الأمة من الأجراء، ولا يمكن لأية هيئة اجتماعية أن تكون سعيدة ما دام أغلب أعضائها فقراء وبائسين. وهو يرد على القائلين بأن الأجور المرتفعة ترفع قيمة نفقات الحياة بأن مكاسب أرباب الأموال الباهظة ترفع قيمة نفقات الحياة أكثر.
ومن الغريب أن آدم سميث قد تنبأ بما سوف يقوم بين العمال، وأرباب الأموال من الخلاف، فأشار على الطرفين بطريقة تريحهم إذا استحكم الخلف، وهذه الطريقة هي التحكيم، يقول آدم سميث: كلما قام خلاف بين العمال وأرباب الأموال، وقام القضاة بفصل هذا الخلاف كان مرشدوهم هم أرباب الأموال، فيجورون على الدوام على العمال، وبناء على ذلك ينبغي لنا أن نعتبر الحكم عادلا كلما كان في مصلحة العمال، ولكن إذا كان الحكم في جانب أرباب الأعمال، فيمكننا أن نشك في رأي المحكمين.
أما حب آدم سميث للزراعة، فيماثل حب الفيزوقراطيين لها، وهو يقول عنها إنها أصعب الفنون والصنائع ما عدا الفنون الجميلة، والفنون الحرة (القضاء والتعليم)، وهو ينصح لأصحاب الأموال والأعمال أن يضعوا أموالهم بحسب ما يقضيه القانون الطبيعي؛ أي أولا في الزراعة، وثانيا في الصناعة، وثالثا في التجارة الخارجية.
ومما يدهشنا في مبادئ سميث أنه رغما عن نظرية تقسيم الأعمال التي وضعها نراه إذا تكلم عن الزراعة لا يقدر، أو لا يريد أن يساويها بمصادر الثروة الأخرى، بل هو يضعها على رأس سائر الفنون، وهذا لا شك راجع إلى تأثير الفيزوقراطيين، وقد امتاز آدم سميث عدا عن تقسيم العمل بمبدأين آخرين: الأول رأيه في طبيعة الأشياء، ورأيه الثاني في حسن الظن بالأشياء.
ونقصد برأيه في طبيعة الأشياء قوله بأن النظامات الاقتصادية لا تأتي بعد تدبير إنما هي تأتي بطبيعتها عفوا وبدون تعليل، ونقصد بحسن ظنه بالأشياء رأيه القائل: بأن كل النظامات الاقتصادية والاجتماعية ترمي إلى غايات حميدة.
إن آدم سميث كان يظن أنه متى أثبت أن وجود النظامات الاقتصادية أمر طبيعي، أمكنه في الوقت نفسه أن يثبت اتجاهها في سبيل الخير الإنساني. وأنتم ترون أن هذا غلط واضح من الأستاذ العظيم؛ لأن إثبات صدور أمر من الطبيعة أمر، وإثبات اتجاه هذا الأمر نحو الخير أمر ثان، ولكن آدم سميث ما كان يفصل بينهما، ولكن العلماء الاقتصاديين الذين جاءوا بعده اتخذوا الرأي الأول؛ أي وجود النظامات الاقتصادية بطبيعتها، ورفضوا الرأي الثاني؛ أي اتجاه تلك النظامات نحو الخير العام.
إن آدم سميث يقول إن النظامات الاقتصادية الحالية لم تخرج عن عقل مدبر سائد ذي نظر شامل جميع الأشياء، أو عن فكرة هيئة اجتماعية أرادت تنفيذها بعد طول التفكير والإمعان، إنما النظامات الاقتصادية الحاضرة قد وجدت من تكوين عدة أعمال مختلفة وخطط متباينة قام بها الأفراد مطيعين غرائزهم التي تريد بهم الوصول إلى غرض معلوم، هذا هو منشأ النظامات الاقتصادية في نظر آدم سميث، وها هو يضرب لنا الأمثال ليثبت لنا صحة قوله. يقول: خذ لذلك مثل تقسيم الأعمال فإنه نتيجة غريزة مشتركة بين سائر البشر دفعتهم إليها رغبتهم في تبادل المصالح، ثم إن تبادل المصالح والتجارة هي أيضا نتيجة غريزة مشتركة في البشر، دفعت إليها غريزة النفع الذاتي.
ويضرب لنا مثلا آخر بالمال - أي النقود - فيقول: إن الإنسان منذ القدم رأى صعوبة التبادل النوعي؛ لذا نشأت في ذهن الرجال فكرة تكوين مادة لا ترفض في أوقات ما، وتكون على الدوام قابلة للتبادل، وإن الهيئة الحاكمة لم تتداخل في أمر النقود وتضربها باسم الحاكم أو الجمهورية إلا بعد زمن طويل؛ أي بعد أن انتشرت النقود المعدنية في سائر أنحاء العالم.
ومن الغريب كذلك أن يقول آدم سميث بأن المال هو سيد الصناعة؛ أي إنه بدونه لا يتم شيء، مع أنه هو الذي قال في بداية كتابه بشرف العمل على كل شيء سواه، وأنه هو مصدر الثروة المهم. على أنه يظهر لنا أنه لم يقل بذلك إلا ليثبت أن تكوين رءوس الأموال بصفة كونه نظاما اقتصاديا ليس إلا مظهرا من مظاهر الطبيعة؛ لأن الأموال الكثيرة لا تتكون إلا عند أفراد رأوا مصالحهم في الاقتصاد ولو قليلا.
ولكن فكرة صدور النظامات الاقتصادية عن الطبيعة لا تظهر بجلاء ووضوح إلا عندما يتكلم آدم سميث عن الأخذ والعطاء، أو الطلب والتوريد
Offre et demande ، فقد ردوا عليه بأن كل صانع أو زارع يزرع ويصنع وهو لا يدري مقدار ما يطلب منه في السوق، إلا أن سميث يقول: إن قيمة المتاجر تقدر بمقدار العمل الذي احتاج إليه العمل، أو المشقة التي تكبدها العامل.
فالعمل هو مقياس القيمة المتبادلة، هذا هو كما ترون منشأ الفكرة التي اعتمد عليها كارل ماركس في القرن التاسع عشر، عندما قال بأن عمل الإنسان هو المقياس الوحيد لكل شيء، وأخذ سلاحا قاتلا ضد مبادئ أنصار المال، ولكن كيف يمكن قياس العمل الذي ينفق على محصول من المحصولات؛ فإنه قد يتألم صانع دقي في ساعة أكثر مما يتألم صانع آخر له حرفة سهلة في ساعتين؛ ولذلك آدم سميث نفسه يعترف بأنه هذا مستحيل لأنه لا يمكن قياس الصعوبة ولا قياس المهارة، ولذا يقول بأن الهيئات البشرية الأولية هي وحدها التي كان العمل فيها بمفرده مقياسا لقيمة الأشياء، وهنا بدأ سميث يكون نظرية جديدة خلاصتها أن قيمة إخراج الشيء هو المقياس الصادق لقيمة تبادله، وهو يسمى الثمن الذي تكلفه الأشياء ثمنا طبيعيا لها، وبذا ترون أن سميث قد أوجد أداتين لتقدير أثمان الأشياء، الأولى: العمل الذي يستدعيه الشيء، والثانية: الثمن الطبيعي الذي يتكلفه الشيء. وقد اتخذ علماء الاشتراكية رأيه الأول وبنوا عليه مبادئهم، واتخذ كبار الاقتصاديين رأيه الثاني إلى عهد جيفونز الاقتصادي. أما آدم سميث فإنه لم يأخذ أحد الرأيين ويقل به قولا قطعيا بل بقي مترددا بينهما، ولكن يظهر أنه مال أخيرا إلى الرأي الثاني، ووضع للأشياء ثمنين: الأول قيمة تخريجها الطبيعية، ثم وضع ثمنا آخر سماه ثمن السوق؛ أي الثمن الذي يباع به الشيء، وقد يكون هذا الثمن إما أكثر وإما أقل من الثمن الطبيعي، وإما مساويا له. والأمر في ذلك راجع إلى الكمية التي يمكن وجودها من الشيء المعروض، فإن قلت ارتفعت قيمته وإن كثرت انحطت قيمته، وهذه هي نظرية الثمن، وبها يمكننا أن نقول: إن سميث أثبت كون النظامات الاقتصادية طبيعية المصدر؛ لأن سميث يقول إن كل كمية من المتاجر يؤتى بها إلى السوق تسير بطبيعتها نحو ثمن معلوم مقيد بالكمية وبالمطلوب. وهذه النتيجة المدهشة يقول عنها آدم سميث إنها نتيجة المصلحة الذاتية، وهذا القانون يجد تطبيقه في معظم الأحوال لا فيها كلها، وهذه النظرية تسمى نظرية التوفيق بين المطلوب وبين الكمية، وهي أساس نظرية التخريج
التي يعول عليها سائر علماء الاقتصاد في الوقت الحاضر.
وقد طبق آدم سميث نظريته هذه في مسألتين مهمتين: الأولى مسألة النسل، والثانية مسألة النقود. فقد قال عن السكان إن الناس ككل المتاجر يمكن تقليل طلبها أو تكثيره، فإن كثر طلب الناس كثر الناس وإن قل قل.
أما عن النقود فإن آدم سميث يقول: بأنها ليست إلا تجارة ككل المتاجر، بل إنها أقل قدرا من غيرها. إن ثروة البلاد الحقيقية لا تقدر بالمال إنما تقدر بما فيها من الأرض والعمارات والأشياء التي يمكن الانتفاع بها. أو بعبارة أخرى ثروة البلاد هي المحصول السنوي من أرضها وعملها، أما النقود فهي لا ينتفع بها كما ينتفع بالقمح، إنما هي أداة لتداول الثروة ليس إلا؛ لذا يقول آدم سميث بأهمية الأوراق المالية البنك نوت لأنها بوجودها وباستغناء الناس بقطع من الورق عن مقادير وافرة من الذهب والفضة، أمكن للأمة الانتفاع بما عندها من الذهب والفضة بإرساله خارج البلاد لزيادة الثروة الحقيقية. وخلاصة القول في هذا الباب أن السياسة التي تعمل على تكويم المال في بلد من البلاد هي مخالفة لفكرة ثراة الأمة؛ لأن المقدار الكثير من المال لا يزيد ثروة الأمة إنما هو على العكس يضايقها. وما يصدق على النقود المعدنية يصدق على الأوراق المالية؛ لذا كانت تلك الأوراق المالية تابعة لقانون ثابت، يقضي عليها بأن لا تزيد عن المطلوب وإلا هبطت قيمتها.
ما هي إذن هذه القوة الخفية التي تحرك الناس نحو هذه الأعمال الكبرى ونحو حياة التقدم؟ الجواب على ذلك هو المصلحة الذاتية، ورغبة الإنسان في تحسين حاله، وغريزة الفرد التي لا تفتأ تحثه على التقدم.
فخلاصة فكر آدم سميث في هذا الباب هي وجود نظامات اقتصادية بطبيعتها، وأن هذه النظامات محفوظة بمصالح الأفراد وشهواتهم ورغباتهم المختلفة.
فالفرق الأساسي بين آدم سميث وبين الفيزوقراطيين هو واضح جلي، فإن الفيزوقراطيين يقولون بنظام طبيعي ينبغي اكتشافه وتطبيقه بواسطة ملك مستبد عال. أما آدم سميث فيقول بأن هناك نظاما طبيعيا موجودا لا نحتاج للبحث عنه لأنه أمامنا ونشعر به في كل لحظة، وهو المصلحة الذاتية، وأن أمام هذا القانون عقبات كثيرة، ولكنه يفوز على كل عقبة.
2
وبقي علينا الفكرة الأساسية الثانية التي تظهر في مبادئ آدم سميث، وهي قوله بأن سائر النظامات الاقتصادية التي صدرت عن الطبيعة عفوا ليس لها وجهة إلا الخير المحض، فهو يجمع في جملة واحدة رأيين مختلفين: الأول صدور النظامات الاقتصادية عن الطبيعة، والثاني اتجاه تلك النظامات نحو سعادة الإنسان.
فإن النفع الذاتي لكل شخص يكون الحالة الاقتصادية ويحتفظ بها، ثم إنه يضمن مسير الأمة نحو التقدم والثروة، وبعبارة أخرى يريد سميث أن يقول إن النظامات الاقتصادية الطبيعية صادرة عن العناية الإلهية؛ لأن خيرها كما رأيتم لا يحد.
قال آدم سميث في نبذة تكلم فيها عن استعمال رءوس الأموال: إن الإنسان وهو يتبع نفعه الذاتي ترشده يد خفية إلى الوصول إلى نتيجة لم تكن في الحسبان. وهذا ما يطرأ له في شئون كثيرة. (ثروة الأمم الجزء الأول ص421 الكتاب الرابع الفصل الأول).
ومما ينبغي لنا ملاحظته أن الأمثلة التي أعطاها آدم سميث كلها تتعلق بنظامات اقتصادية، يظهر فيها الخير المحض حقيقة، ولا ريب في أنه اختار أمثالا من المسائل الاقتصادية التي يتوفر فيها الشرطان اللذان فرضهما، وهما صدور الشيء عن الطبيعة واتجاهه نحو الخير المحض، وغاية سميث من هذا واضحة؛ لأنه يريد أن يتأثر من يطالع كتابه برأيه، فذكر تقسيم الأعمال اختراع النقود تكون رءوس الأموال وما يشبه ذلك، وفي كلامه عن رءوس الأموال نراه يقول إن المال إذا تكون يبحث بذاته عن المصارف التي تكون ذات النفع الأعم للهيئة الإنسانية. وقد بلغ هنا المنتهى من الرغبة في الإدلال على رأيه؛ لأنه متى ذكرنا واعتقدنا صحة رأيه - أي إن المال إذا تكون يبحث بذاته عن المصارف التي تكون ذات النفع الأعم للهيئة - فهذا كذلك يدل على أن التحصيل كله (أي إخراج سائر الصناعات والزراعات والأعمال) مرتب ومنظم على أحسن نظام كافل لإسعاد البشر وإنجاحهم.
وقد ميز سميث أربعة مصارف للأموال: الأول الزراعة، والثاني الصناعة، الثالث التجارة بالجملة، الرابع التجارة بالقطاعي، وفي التجارة بالجملة يميز ثلاثة أنواع: التجارة الداخلية والتجارة الخارجية وتجارة النقل، وقد فضل سميث الزراعة على سائرها، ثم تلتها الصناعة ثم التجارة الداخلية وهكذا.
فإذا أرادت أمة أن تنتفع أعظم انتفاع بثروتها، فعليها أن تصرف أموالها في تلك المصارف حسب الترتيب الذي ارتآه سميث، فينبغي عليها أولا الاشتغال بالزراعة، ثم لا تضع أموالها في المصارف الأخرى إلا إذا احتاجت لذلك.
وقد ظهر لسميث أن هذا هو ما يفعله أصحاب الأموال بطبيعتهم؛ أي إنهم لا يخاطرون بأموالهم إلا في الزراعة أولا، ثم تتلوها سائر المصارف على التدريج، وبعبارة أخرى يظهر لنا أن رغبة أصحاب الأموال المزدوجة في حفظ الأموال أولا على مقربة منهم، وفي الانتفاع بأكثر ما يمكن الانتفاع به ثانيا هي التي تسيرهم في الطريق التي اختطها آدم سميث.
ولكن هذا الرأي الذي بنى آدم سميث عليه العلالي والقصور مردود لمن يمعن النظر فيه، وذلك أنه يعين أفضلية مصارف الأموال بكثرة ما فيها من الأموال، أو بعدد العمال الذين يعملون بها. ولكن المتأمل يرى انصراف رءوس الأموال واتجاه عدد عظيم من العمال نحو صناعة أو مصرف ما يدل على توفر الطلب، ومتى كان أيها الإخوان توفر الطلب دليلا على النفع الاجتماعي؟! إننا إذا رأينا بمصر ألف عبد يشترى، ثم رأينا ارتفاع أثمان الخصي، فهذا لا يدل - على الإطلاق - على شدة نفع الرق، وإن كان يدل على شدة الرغبة في الحصول على العبيد.
على أن الذي يعضدنا في ردنا على آدم سميث هو ما نراه أثناء تقريره هذا المبدأ من إبدائه ببساطة كنتيجة لأبحاثه ومشاهداته لا كأنه نظرية ثابتة لا تقبل الطعن. مثال ذلك أنه يقول في أغلب الأحيان: «يتفق النفع الذاتي والنفع العام.» أو يقول في معظم الأوقات يحدث الانسجام بين نفع الفرد ونفع المجموع ، كما أنه لم يتردد لحظة في ذكر الأحوال التي لا يتفق فيها النفع الفردي والنفع العام، وهي حال التجار وأصحاب المعامل.
ثم إن سميث لا يقول بإطلاق هذا المبدأ في كل الأشياء، وأنه قاصر على تحصيل الثروة، ولكن لا يشمل توزيعها، بل إنه لم يدع مرة في كتابه أن توزيع الثروة يتم على أعدل وأحسن حال. وقد قال عن الملاك وأصحاب رءوس الأموال إنهم يحبون أن يحصدوا حيث لم يغرسوا. ثم إنه ذكر نبذا كثيرة من كتابه أن الربح والإيراد مأخوذة من محصول العمل، ومجرد التصريح بهذا الرأي يكفي أن يكون داعيا لوصف سميث بأنه أول من قال بالأفكار الاشتراكية.
حرية التجارة
والنتيجة العملية لنظريات آدم سميث هي لا شك حرية التجارة؛ لأن سميث لم يرقه أي نظام اقتصادي يقضي بالتفاضل أو التقييد؛ لذا كان نظام الحرية المطلقة في التجارة هو النظام الذي تصبو إليه نفسه، وما دام الإنسان لا يخرق قوانين العدل فينبغي أن يترك وشأنه باحثا عن منفعته التي وجدها ومزاحما بماله وحذقه مال وحذق من يشاء من الناس. وبعبارة أخرى آدم سميث ينصح بعدم تداخل الحكومة في المسائل الاقتصادية، ومعزاه هو رأي الفيزوقراطيين بعينه إلا أن سميث وصل إليه بطريقة علمية أكثر وضوحا وتساهلا من طريقة الفيزوقراطيين. بل إن سميث يشرح حقيقة مهمة، وهي أن الحكومة غير صالحة بذاتها وبطبيعتها للقيام بالأعمال الاقتصادية، وقد استند على حججه في هذا الباب كل علماء الاقتصاد المخالفين لتداخل الحكومة في الحياة الاقتصادية.
وحيث إن سميث يطلق الحرية للفرد، ويمنع الحكومة من التداخل في الحياة الاقتصادية القومية، فقد امتاز بآراء خاصة به عن الفردية
individualisme ، فهو يقول: إنه لا بد لأي مشروع خاص يراد أن يعم نفعه المجموع من شرطين:
الأول:
أن يكون وراءه باعث النفع الذاتي الفردي.
الثاني:
أن تحيط به المزاحمات المطلوبة والضروري وجودها.
فلو عدم أحد هذين الشرطين من مشروع ما كانت العاقبة على الجمهور منه سيئة سوء عاقبة المشروعات التي تقوم بها أو تتداخل فيها الحكومة.
والذي نراه من مبادئ سميث أنه يبغض بعض المشروعات الخاصة الجماعية
collectivist
مثل الشركات المساهمة؛ وذلك لأن النفع الشخصي الفردي غير موجود فيها. ويستثني من هذه الشركات بعض المشروعات ذات النفع العام مثل المصارف (البنوك) وشركات التأمين على الحياة وشركات المياه، وهذا لأن المشروعات يقل فيها التغيير؛ لأن أعمالها تتحول إلى شكل دائم ثابت
routine .
ثم إن سميث حارب الاحتكار الذي يعطي امتيازه لفرد أو لشركة، وقد وقف فصلا كاملا من كتابه الممتع على محاربة الشركات الكبرى ذات الامتيازات الباهظة التي تأسست في القرنين السابع والثامن عشر لاستغلال المتاجر الاستعمارية، وأشهرها شركة الهند الشرقية.
ذكرت لكم أن سميث مخالف لتداخل الحكومة في الشئون الاقتصادية الداخلية، إلا أن هذا التحريم له حدود، فهو يبيح تداخلها في إدارة بعض المصالح التي لا يمكن انتظامها بدون هيمنة السلطة العمومية، وهي مصلحة البريد والتعليم الابتدائي الإجباري، وامتحانات الحكومة الضرورية للالتحاق بالوظائف العمومية.
ومن الغريب أن آدم سميث قد تنبأ بما سوف يقوم بين العمال وأرباب الأموال من الخلاف، فأشار على الطرفين بطريقة تريحهم إذا استحكم الخلف وهذه الطريقة هي التحكيم. يقول آدم سميث: كلما قام خلاف بين العمال وأرباب الأموال، وقام القضاة بفصل هذا الخلاف؛ كان مرشدوهم هم أرباب الأموال، فيجورون على الدوام على العمال؛ وبناء على ذلك ينبغي لنا أن نعتبر الحكم عادلا كلما كان في مصلحة العمال، ولكن إذا كان الحكم في جانب أرباب الأعمال، فيمكننا أن نشك في رأي المحكمين.
أما حب آدم سميث للزراعة فيماثل حب الفيزوقراطيين لها، وهو يقول عنها إنها أصعب الفنون والصنائع ما عدا الفنون الجميلة والفنون الحرة (القضاء والتعليم)، وهو ينصح لأصحاب الأموال والأعمال أن يصرفوا أموالهم بحسب ما يقتضيه القانون الطبيعي أي: أولا في الزراعة وثانيا في الصناعة، وثالثا في التجارة الخارجية من الخارج أقل قيمة من البضائع التي تصنع في الوطن؛ ولذا شراؤها بأثمان تافهة فيه خسران؛ لأنها لا تعادل أثمانها. وأما أن تكون الصنائع متأخرة في الوطن فينبغي أولا خلق الصنائع غير الموجودة، ثم تشجيعها ولو تكلفت الأمة مهما تكلفت في أول الأمر؛ لأنها بعد ذلك تعود فتربح من مصانعها ولا تحتاج للغير، ومثال ذلك ما حدث لليابان في تجارة الورق. فإن هذه الأمة الجليلة رأت أنها تنفق أموالا باهظة في شراء الورق من الخارج فقام بعض رجالها بتأسيس معامل للورق، ولما كانت الصناعة حديثة العهد كان المعمل الياباني يخرج ورقا أقل حسنا من الورق الخارجي، ولكنه أغلى ثمنا فقام بعض المتشرعين وأبدى الرأي الذي أبداه آدم سميث، فردوا عليه بأنه لا بد من تشجيع الصنائع الوطنية في أول الأمر، وفعلا كان هذا ولم يمض زمن طويل حتى أصبحت المعامل اليابانية تخرج ورقا أحسن في النوع، وأرخص في الثمن من الورق الخارجي، واقتصدوا كذلك ثمن النقل والسمسرة.
وقد تكلم سميث عن التجارة الدولية، فدافع عنها وشجعها، وذلك في مصلحة المخرجين الأصليين، ومن العجيب أن أثر تعاليم خصومه التجاريين مركنتيلست ظاهر في هذا الدفاع؛ لأنهم هم أول من اهتم بمصلحة المخرجين دون سواهم.
ثم ذكر قوانين الملاحة التي أصدرها كرومويل
Navigation Acts ، وغايتها مزاحمة الأساطيل الهولاندية والقضاء عليها، فقال عنها إنها ربما أفادت التجارة ولكنها بقطع النظر عن هذه الإفادة، فإنها أعقل القوانين التجارية الإنكليزية؛ لأن غايتها كانت حماية الأوطان وحماية الأوطان أعظم نفعا من حماية التجارة.
ومن النصائح العلمية المفيدة التي أبداها سميث بشأن حرية التجارة، هي إقلاع إنكلترا من وضع حقوق جمركية على سائر الواردات والصادرات، واكتفاؤها بوضع حقوق مرتفعة على بعض الواردات المهمة الكثيرة الورود، والتي لا يضر تغريمها كثيرا مثل الدخان والخمور والكاكو والسكر، وهذه الحقوق هي مالية لا جمركية.
وقد اتبعت إنكلترا هذه النصيحة، ولا تزال سائرة عليها من عهد آدم سميث إلى الآن.
ظهر لكم مما تقدم أيها الإخوان أن آدم سميث قد حاول فعلا في هدم النظامات الاقتصادية القديمة بما رتبة أهمها مثل الحماية الجمركية وما يشبه ذلك، ولكن يظهر لنا أن حوادث التاريخ ذاتها هي التي تحول الأشياء وتهدم المبادئ، وتفعل العجائب وتأتي بالمعجزات ، فإن الحرب التي قامت بين أميركا وإنكلترا المسماة بحرب الاستقلال هي التي أظهرت فساد النظامات الاقتصادية القديمة، وساعدت على تغييرها أكثر مما فعلت مؤلفات آدم سميث؛ لأن انفصال ولايات أمريكا الشمالية عن إنكلترا أظهر أمرين جليين:
أولا:
فساد النظامات الاستعمارية التي تدعو المستعمرات الناجحة إلى الثورة.
ثانيا:
عدم نفع نظام الحماية الجمركية؛ لأن تبادل التجارة بين إنكلترا والولايات المتحدة نما وزاد بعد استقلال الولايات بما لم يسبق له مثيل، وقد دل هذا على أن علاقة إنكلترا السياسية بالولايات المذكورة لم تكن هي الداعي لوجود العلاقة التجارية؛ لذا كتب جان باتيست ساي في 1803 أنها لم تعد خسارة على أمة بربح، مثل الربح الذي عادت به خسارة الولايات المتحدة على إنكلترا.
وقد ظهرت آثار مبادئ سميث في حياته؛ فإن اللورد نورث رئيس وزراء إنكلترا في عهده انتفع بآرائه، ولما كان في حاجة إلى أموال وضع ضرائب على منازل السكنى وغيرهما، مما أشار به سميث، ثم إن سميث أثر في بيت الوزير الإنكليزي الشهير، فعقد أول معاهدة تجارية بين فرنسا وإنكلترا وغايتها حرية التجارة.
وهذا ختام القول على آدم سميث
الاقتصاديون المرتابون أو البسيميست
سبق الكلام في الدروس السالفة على الفيزوقراطيين وعلى آدم سميث، وهم جميعا من الاقتصاديين المستبشرين أو الأوبتسيتت، أي الذين لا يرون من الأشياء إلا الجانب الحسن؛ ولذا رأيناهم ينشرون مبدأ الحرية الاقتصادية، ويزعمون وجود نظام للأشياء يؤدي بالإنسانية إلى السعادة المطلقة، وقد اتفق آدم سميث والفيزوقراطيون في هذه النقطة، وإن كان اختلف معهم في نقط أخرى.
وسنتكلم اليوم عن الاقتصاديين المرتابين الذين حاولوا نقض المبادئ المتقدمة، وزعموا أن لا قوانين ولا نظامات ترمي إلى سعادة البشر، وأن حظنا موكول إلينا، وخرج بالاقتصاد عن السبيل الذي سلكه المتقدمون حتى أصبح العلم الاقتصادي يسمى بالعلم المريع، أو العلم المخيف
dismal science ، وقد أطلق عليه هذا الاسم المؤرخ كارليل الإنكليزي لما رآه من انقياض المبادئ الجديدة، التي قال بها عالمان من أهل وطنه.
على أنه ليس في تسمية العلماء بالمرتابين من حرج عليهم أو ملام أو خطر من أقدارهم إنما هذا لتمييزهم عن المستبشرين، بل سترون أيها الإخوة أن مبادئ المرتابين كانت أقرب إلى الحقيقة من مبادئ سابقيهم.
لكل مدرسة اقتصادية أو مبادئ اقتصادية علماء يمثلونها؛ لأنم يكونون أشهر أو أقدر من قال به. كذلك أشهر وأقدر المرتابين عالمان إنكليزيان الأول اسمه مالتوس والآخر اسمه ريكاردو. وكان كلاهما محبا للإنسانية ساعيا جهده في العمل لخيرها، وليس لدى أعدائهم حجة تثبت على هذين العالمين الجليلين ضد ذلك. وإن كثيرا من النظريات التي قالوا بها جديرة بالانتقاد الشديد، وقد ظهر بالخبرة أن المرتابين قد قاموا بأعمال جليلة للإنسانية، طالما كانوا غير شاعرين بما بدا للمنتقدين من ارتيابهم؛ لأنهم مع إخلاصهم عملوا على حد قول الشاعر:
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على حذر
وسوف ترون أن كارل ماركس عالم الاشتراكية هو ابن روحي لريكاردوا، أو بعبارة أخرى أشد أتباعه تعلقا بمبادئه، وأقدرهم على تفسيرها وتنفيذها.
مالتوس
اشتهر مالتوس أولا برأي في نمو السكان نتكلم الآن عليه بإسهاب، وقبل ذلك أقول كلمة عن تاريخه، ولد مالتوس هذا في أواسط القرن الثامن عشر عام 1766، وكان أبوه غنيا فاختلط بعلماء عصره وفلاسفته أمثال هيوم الإنكليزي وجان جاك روسو، وبعد أن تخرج مالتوس من مدرسة كامبروج الجامعة اشتغل بالدين، فصار قسيسا بروستانتينيا ثم ألف كتبا كثيرة في الاقتصاد، وأشهرها كتابه عن السكان واسمه مقالة عن قانون نمو السكان وتأثيره في تقدم الهيئة الاجتماعية، وقد توفي عام 1836، وكانت لمؤلفاته آثار نافعة في أبناء وطنه ومعاصريه، فقد ذكر داروين العالم الطبيعي الإنكليزي الذي قال بمبدأ النشوء والترقي في مقدمة كتابه، أن الفضل راجع إلى مالتوس في إظهار مبدأ التنازع في سبيل الحياة، الذي هو مظهر من مظاهر الاختيار وبقاء الأنفع، وهذا المبدأ العلمي هو بلا نزاع أشهر المبادئ العلمية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر بقطع النظر عن ثبوته أو نقضه.
ففي عام 1793 كتب مؤلف إنكليزي اسمه جودوين كتابا اسمه العدل السياسي
political justice
قال فيه: إن أحسن الحكومات لا تأتي بالنتيجة المطلوبة من تقدم الأمة، ولكنه أظهر ثقة عظيمة في مستقبل الإنسانية، وقد سار جودوين هذا مع خياله شوطا بعيدا، فزعم أنه سيأتي يوم تكون فيه الحياة الاجتماعية محركة بالعقل لا بالحواس، فيقف النسل ويخلد الإنسان؛ أي يعيش على الأرض إلى الأبد.
وفي عام 1794 ظهر كتاب لعالم فرنسوي آخر اسمه كوندورسيه قال فيه إن العالم يسير نحو السعادة البشرية المطلقة، وإنه ليس هناك خطر يتهدد الحياة الإنسانية، وأنتم ترون أن هذين العالمين قالا بآراء المستبشرين، بل إن كوندورسيه قال إن الإنسان سيصل بالعلم إلى درجة قصوى، فإنه إن لم يفز في القضاء على الموت، فسوف يفوز في إقصائه عن الإنسان ومد الآجال إلى اللانهاية.
عند ذلك ظهر كتاب مالتوس الغريب، وقد جعله ردا على أقوال هذين العالمين، وقال إن مصدر الخطر هو تقدم الإنسان، وتمكنه بالعلم من الموت إقصاء ومد الآجال، بل هذا هو الخطر الأكبر والعقة التي لا يمكن التغلب عليها، وقد أبان مالتوس رأيه بعملية سوسيولوجية عجيبة أثبتت نمو عدد السكان نموا مهولا لو ترك النسل وشأنه، وأبان كذلك النسبة المنحطة التي تخرج بها المحصولات، التي يحتاج إليها الإنسان في قوام حياته، وقال: إن النسل ينمو بنسبة هندسية أي نسبة: 1 2 4 8 16 32 64 128 ...
والمحصولات الغذائية تنمو بنسبة حسابية: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 ...
وقد ثبت لعلماء علم الحياة صدق النسبة الأولى، فقد علم أن المرأة غير العاقر يمكنها أن تحمل عشرين مرة قبل نهاية مدة الخصب النسلي، وقد يزيد العدد فلم يبالغ مالتوس مطلقا في هذا الرأي.
ولكن ما يقال عن رأيه في نمو النسل لا يقال عن رأيه في نمو مواد الغذاء، فإنه لا يمكن الجزم بمقصود مالتوس منه، فهل يريد إثباته كقاعدة مقررة ثابتة لا تتغير، ولا تتحور أم يريد أنه قريب من الحقيقة الواقعة. وذلك الشك يطرأ علينا؛ لأن القاعدة التي قررها مالتوس لا تنطبق على قانون معروف مثل نمو النسل الذي يعرفه علماء علم الحياة بيولوجيا. وقد أثبت العلامة لافوازيه الكيماوي الفرنسوي أن نمو القمح بفرنسا يكفي سكانها؛ وذلك لقلة النسل فيها، ولكن القمح الذي ينمو في إنكلترا وفي ألمانيا لا يكفي سكانها على الإطلاق؛ لأنهم ينمون بسرعة شديدة، ولكن هذا هو قانون يسمونه المحصول غير النسبي
rendement nonproportionnelle ، وهو ليس ما ذكره مالتوس بل لم يشر إليه مطلقا.
على أن القواعد والقوانين التي قال بها خصوم مالتوس لا تنقض قانونه، ولا تقلل من قيمته العلمية.
والذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن يعيش في بقعة ما من الأرض عدد أكثر ممن يمكنهم أن يعيشوا من محصول هذه البقعة، وثبت أيضا أن في علم الحيوان وفي الجماعات المتوحشة يموت عدد عظيم من الأفراد جوعا (وفي لندن أيضا)، وقد أسهب مالتوس البحث في أحوال هؤلاء المتوحشين.
فرد عليه بعض منتقديه بأن ما كان يصح عند الحيوان أو الجماعات المتوحشة لا يصح في عهد المدنية، فأجاب مالتوس بأن الأمم المتمدنة حفظت أشياء كثيرة من عادات المتوحشين، وهذا حق لأن القحط إن لم تكن أثاره الفظيعة باقية إلى الآن في روسيا والهند، فإن له آثارا أشد فظاعة في البلاد المتمدنة، وهي تظهر بمظاهر مختلفة كلها ذات علاقة بالجسم البشري.
ففي المتمدنين أمراض مثل السل الذي أهم أسبابه هو سوء التعذية، ووفيات الأطفال، ووفيات العمال قبل الأوان، والحروب الفظيعة التي تغتال ألوف الألوف في أقل من لمح البصر، وقد شهد مالتوس بعينه حروب الثورة الفرنسية، وحروب بونابرت التي قتل أثناءها نحو عشرة ملايين من الرجال في مقتبل العمر. يقول مالتوس: إن هذه الحوادث الكبرى هي التي حفظت النسبة بين الناس وبين المحصول، ولكن هذه الحوادث كما ترون هي من آثار البربرية، وحيث إن المتوحشين كانوا مسوقين بطبيعتهم إلى حفظ النسبة بزيادة الوفيات، فالمتمدنون يحفظون هذه النسبة بعينها بتقليل النسل.
والطريقة الوحيدة في نظر مالتوس هي الامتناع الأدبي أو الصوم
moral restrain
عن العلاقة الجنسية، وبذا تحفظ النسبة بين المحصول وبين السكان. وهو يقصد بذلك الامتناع عن أي علاقة جنسية بين الرجل والمرأة بغير الحلال إذا كان الرجل أو المرأة متزوجين.
وقبل الزواج ينبغي للرجل والمرأة أن يعفا، وأن لا يتحملا مسئولية العيلة قبل أن يكون القيام بأعبائها ممكنا. فإذا لم يتيسر هذا فليمتنع الشخص عن الزواج مطلقا، وهو يقول بصريح العبارة في ص616 من كتابه السابق الذكر: إنني أرفض كل وسيلة مصطنعة غايتها تقليل النسل، وإن ما أوصي به من طرق التقليل هو نتيجة ما يأمر به العقل والدين، فإنه من السهل جدا بالطرق العلمية تقليل النسل، أو قطعه مرة واحدة، ولكن هذا وقوع في الطرف الأخرى أي تفريط.
ولا شك في أن مالتوس يحارب سائر وسائل منع النسل الأخرى مثل «الإسقاط الاغتصابي»، وقتل الأطفال، ووأد البنات، وإجراء عمليات البتر المؤدية لوجود الخصيان، واكتفاء جنس بأفراده، كل هذا نفاها وأنكرها وحرمها.
ولكنه في بعض النبذ من كتابه أشار إلى إمكان قضاء الحاجات بدون الوقوع في خطر من الأخطار السالفة، وقد مهد مثل هذا القول السبيل لخلفائه الذين ادعوا باطلا بأنه كان ينصح باستعمال الوسائل الصناعية، التي يتمكن بها الناس من شهواتهم بدون معاناة الحمل والولادة والتربية.
وقد قال كثير من الاقتصاديين الذين اشتهروا بالدفاع عن مالتوس أن مبادئه أدت إلى تقوية الأسرة؛ لأنها هي الوسيلة الوحيدة في عدم نمو النسل نموا زائدا، وكانت مبادئه كذلك حجة على القائلين بالارتباط الحر أو العلاقة اللازوجية؛ لأن مثل هذا النظام ومثل الكوميونزم؛ أي الحياة المشتركة يؤدي إلى ازدياد النسل لعدم مسئولية الوالدين عن النسل الذي يولد من علاقتهم.
على أنه منذ عهد مالتوس إلى الآن لم نر في العالم بلادا اشتكت من زيادة النسل، ولكن يرد على هذا بأن الأمم التي نما سكانها نموا عظيما قد هاجر أبناؤها إلى بلاد غنية سموها بالمستعمرات يستغلون ثروتها ويستنزفون أرزاقها. كما أن الأمم التي منحت أراضي واسعة مثل أمة الولايات المتحدة، التي قتل أسلافها أمة الهنود الحمر؛ ليتسع لهم مجال العيش سعت في فناء أهل البلاد.
ولا يخفى عليكم أن الأمتين اليونانية والرومانية كانت تعتقد بأن التناسل واجب على كل وطني نحو المدنية، وعلى كل متدين نحو الأرباب كما أن الأشراف في كل زمان يعتقدون بأن وجود نسل يرثهم، ويحفظ اسمهم كأعظم فخر لهم .
كذلك في الزمن الحاضر يعتقد العمال أن وجود الأطفال يعود على الأسرة بعد زمن قليل بمحصول أتعابهم، كل هذا عدا عن الفطرة الإنسانية التي جعلت حب الأطفال عند الكبار حبا مقدسا، وكل هذه أسباب تدعو إلى زيادة النسل، ولكنها أسباب اجتماعية؛ ولذا فهي أسباب زائلة إذا فقدت الأمم عقيدتها، أو حب الوطن أو صلحت حال العمال، ولكن هناك قانون ثابت لا يتحول ولا يتغير؛ لأنه غريزي في الإنسان. وهذا القانون هو اندفاع الرجل نحو المرأة، فإن الطبيعة تدفعه بظواهر الحب، وحقيقة الأمر غايتها إبقاء النسل، فجاء الإنسان أشد منها مكرا بتمكنه من شهواته، وعدم الوقوع في المسئولية. ولذا أصبحت مخاوف مالتوس بدون أهمية، بل أصبح أعداء مالتوس يقولون بأن مبدأه المسمى بالامتناع الأدبي
moral restraint
خال عن الآداب، ومخالف لها؛ لأنه يشجع مفاسد اجتماعية كثيرة، ولأنه مخالف لنظام الطبيعة، وقد زاد بعضهم في القول فقال إن الحرمان من الزواج أشد ألما من الحرمان من الطعام وهذا قول مبالغ فيه.
وكذلك مالتوس لم يحرم سعادة الحب والأسرة، إلا على الفقراء وحدهم الذين يطالبهم مالتوس بالعفة وبالصوم والامتناع؛ لأنه يجوز لهم أن يتمتعوا بملاذ الحياة الدنيا ما لم يستطيعوا أن ينفقوا على أسرة.
وقد أثبت الخبرة فساد قوانين مالتوس، ونحمد الله على ذلك؛ لأن صحتها والعمل بها كانت تؤدي بالعالم إلى الوقوع في مصائب جمة تتعلق بالآداب وبالعيشة القومية.
أما قلة النسل في هذا الزمان في بعض الممالك فليست من أيادي مالتوس على بني الإنسان إنما هي نتيجة التقدم، الذي يخلق للإنسان حاجات كان في سالف الزمن في غنى عنها، وهذا رأي العالم ليردابوليو.
انتهى الكلام عن مالتوس
صفحه نامشخص