تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
رجل أفعال
لقد رأينا الطبيب فيليب بينيل يصل بتواضع إلى دار بيلوم في عام 1786. كان يبلغ من العمر آنذاك 41 عاما. وكان متحمسا في البداية للمثل الثورية، ولكنه سرعان ما انضم إلى معسكر المعتدلين في عهد الإرهاب. وقد عين، بفضل توريه، في سبتمبر 1793 في بيستر؛ حيث مكث حتى أبريل 1795. في «القطاع السابع»؛ أي في المنطقة التي تضم الحجرات المخصصة للمجانين المصابين بالهياج، كان يلاحظ، أكثر من كونه يوجه، نشاط كبير المشرفين لديه، جان باتيست بوسان. ولقد أصبح هذا الأخير فيما بعد المنفذ الحقيقي لعملية تحرير المرضى عقليا الشهيرة من قيودهم، التي نادى بها فاعلو الخير منذ عقد من الزمن. سنعود إلى هذا الحدث البارز الذي وضع ركائز الطب النفسي وصنع مجد بينيل في الوقت ذاته.
جنى بينيل ثمار تأييده لأحداث ثرميدور (التي مثلت انتفاضة في الثورة الفرنسية ضد تجاوزات عهد الإرهاب)؛ فقد عين في وظيفة أستاذ مساعد في الفيزياء الطبية وعلم الصحة بالمدرسة الجديدة للصحة في باريس، وأستاذ في الباثولوجيا الباطنية، ثم رئيس أطباء بمشفى سالبيتريير، حيث واصل مسيرته المهنية حتى وفاته. ثم توالت نجاحاته؛ فقد كان من أوائل من تقلدوا وسام الشرف، وعين بعد ذلك في معهد فرنسا في عام 1803. تعرض لوصمة عار سياسية نسبية، في عام 1822، كما تعرض لبعض المشاكل الأسرية وهما عاملان ألقيا بظلالهما الداكنة على السنوات الأخيرة من حياته، التي انتهت في عام 1826.
وهكذا وضع بينيل مؤلفاته النظرية خلال فترة عمله في مشفى سالبيتريير، وكان أول أعماله «البحث الطبي-الفلسفي» الذي صدرت منه طبعتان. ولكن دعونا نتابع المسار الطبيعي للأحداث الذي يقودنا إلى «القيود التي تمت إزالتها». منذ قدومه إلى سالبيتريير، طالب بينيل «لاقتناعه بالمزايا الثمينة للنظام الداخلي الذي وضعه المواطن بوسان، وأشرف على تطبيقه بحزم ودقة، بشأن التعامل مع المختلين عقليا في بيستر»؛ بنقل هذا الأخير إلى سالبيتريير إلا أنه حصل بصعوبة بالغة على موافقة بتنفيذ قرار النقل. يشرح بينيل سبب طلبه هذا قائلا إنه منذ تعيينه في سالبيتريير، «لم يستطع مباشرة علاج الجنون بسبب الفوضى التي كان يشهدها هذا القطاع من المؤسسة.» ومن ثم كان لا بد له أن ينتظر حتى التاسع عشر من مايو 1802 لينضم إليه أخيرا بوسان؛ مما يعد دليلا في جميع الأحوال على أن بوسان (الذي عمل بمشفى سالبيتريير حتى وافته المنية في عام 1811) كان هو الجندي الحقيقي في الميدان، ولم يخف بينيل ذلك. كان دور بوسان، «بصفته مشرفا على المجانين في بيستر»، رسميا منذ بداية الثورة. فقد أرسل خطابات عديدة إلى لجنة مسئولي الإدارة المدنية، والشرطة والمحاكم، ليسأل عما إذا كان بإمكانه - دون أن يتسبب ذلك في تعرضه لأي عواقب - السماح للمرضى بالتنزه في الأفنية «عندما لا يكونون في حالة هياج شديد».
ولقد كتب بوسان، بينما كان لا يزال في بيستر، وبالتأكيد بناء على طلب من بينيل، «ملاحظات» عظيمة الفائدة.
2
لندع جانبا الإحصائيات - التي تركز ضمن أمور أخرى على نسبة الوفيات المرتفعة - والملاحظات الكلاسيكية حول أهمية العمل والنظام الغذائي والإلهاء، للوصول إلى القضية المركزية المتعلقة بالمراقبة، واستخدام القوة والقهر، والتقييد. يشرح بوسان كيف واجه صعوبة بالغة في منع «الخدام» من ضرب المجانين. ولكنه لم يسمح للمرضى، ولا للموظفين ولا لإدارة بيستر بالتأثير عليه، أو إثنائه عما اعتزم القيام به من اتباع نهج نموذجي قائم على العمل الخيري الإنساني «الشاق». فقد كان مؤمنا بأن المراقبة النشطة تغني عن عنف القيود. «لقد نجحت في إلغاء القيود (التي كانت تستخدم للسيطرة على المصابين بالهياج) والاستعاضة عنها بأقمصة التقييد التي تسمح للمريض بالتنزه وبالاستمتاع بأكبر قدر ممكن من الحرية، من دون أن يشكل خطرا على من حوله [...] لقد أثبتت لي التجربة، وما زالت تبرهن لي يوميا، أنه لإحراز أي تقدم في شفاء هؤلاء المساكين، لا بد من التعامل معهم قدر الإمكان باللين، والسيطرة عليهم بالرفق، وعدم إساءة معاملتهم، وكسب ثقتهم، ومكافحة سبب إصابتهم بالمرض، وتوجيه نظرهم نحو مستقبل أفضل وأكثر إشراقا وسعادة. خلاصة القول: طالما كافحت هذا المرض بشكل أساسي بالعلاجات المعنوية، وإذا كان الحظ قد حالفني في تحقيق نجاح، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى هذه الأساليب العلاجية المعنوية.»
نعود إلى الحدث المتعلق «بالقيود التي أزيلت». لقد ألغيت القيود رسميا في بيستر بعد رحيل بينيل، ويشير هو نفسه إلى هذا الحدث على أنه حادث سخيف، وهو كذلك بالفعل. فقد كان يتم دائما نزع قيود المجانين المصابين بالهياج ووضعها لهم من جديد. علاوة على ذلك، ظل التقييد بالقوة بسترة المجانين محل جدل كبير. ولكن المشكلة ليست في هذه المسألة. فما لا يرغب فاعلو الخير في سماعه قبل وبعد الثورة، هو صوت الأغلال الشنيع. لم يكن هذا الاشمئزاز المعلن ليكتفي تاريخيا بذلك التصرف الذي أقدم عليه بوسان - وهي بادرة بعيدة الاحتمال حتى بمفهومها المبالغ فيه - والذي يرمز بالأحرى إلى نهاية ممارسة سبق أن أدينت بالفعل. وبدا بينيل، باعتباره كبير الأطباء بسالبيتريير وصاحب البحث البارز، أكثر ملاءمة لمثل هذه البادرة «الإعلامية». ولقد نشر سيبيون بينيل - الابن - الأسطورة، في عام 1823، باستحضاره لذكريات مزعومة منسوبة إلى والده؛ حيث نرى بينيل يخلص المرضى عقليا واحدا تلو الآخر من قيودهم: «أيها القائد - يخاطب بينيل أحد المجانين - إذا نزعت عنك قيودك الحديدية ، وأعطيتك حرية التنزه في الفناء، أتعدني بأن تكون عاقلا وبألا تؤذي أحدا؟ أعدك، ولكنك بالتأكيد تمزح؛ فالجميع، بمن فيهم أنت، يخشونني.» وهكذا يحرر بينيل بشجاعة أول مجنون مصاب بهياج لديه، وقد كان رجلا عسكريا خطيرا، وعلاوة على ذلك، إنجليزيا. أما عن المريض عقليا الأكثر مهابة، فهو ذلك المدعو شوفنجيه، الذي ظل مكبلا بالأغلال لمدة عشر سنوات، «لم يحدث قط أن شهد أي عقل بشري مثل هذا الانقلاب المفاجئ، بمثل هذا القدر من الاكتمال. لدرجة أن الحراس أنفسهم تملكتهم دهشة بالغة وانحنوا احتراما أمام هذا المشهد الذي قدمه لهم شوفنجيه. فبمجرد أن تحرر من قيوده، صار لطيفا وخدوما، ومتنبها، ومتابعا بعينيه لجميع حركات بينيل لتنفيذ أوامره بمنتهى البراعة والسرعة.»
في عام 1849، صور شارل مولر في إحدى لوحاته، التي اشتهرت باسم «جنون هايدي» العظيم، بينيل وهو يقوم بنزع قيود المرضى عقليا في بيستر. في لوحة أخرى رسمها طوني روبرت فلوري، في عام 1878، يظهر بينيل وهو يقوم بتكرار هذه الحركة المهيبة نفسها مع المريضات العاقلات في سالبيتريير. هناك عمل فني آخر يتميز بهذا الطابع الأكاديمي نفسه، وهو ذلك التمثال المصنوع من البرونز لبينيل، والذي نجده قائما أمام المدخل الحالي لمشفى لابيتييه- سالبيتريير. عند قدمي هذا التمثال، وسط القيود المحطمة، تنظر فتاة شابة عارية الذراعين نحو بينيل بوجه يبدو عليه الشعور بالامتنان البالغ. ونقرأ على قاعدة التمثال العبارة التالية: «إلى الطبيب فيليب بينيل، المحسن إلى المرضى عقليا.»
وقد أسهم إسكيرول، من جانبه، في بناء تلك الأسطورة بالحديث عن بينيل - وفي هذا مفارقة - على النحو التالي: «ثمانون مصابا بالهوس، كانوا عادة يقيدون بالسلاسل، نزعت عنهم القيود وخضعوا لمعالجة أكثر هدوءا ونفعا، وكثيرون منهم نالوا الشفاء. لقد أعطت أفكار هذا العصر أهمية كبيرة لعملية تحرير المجانين المكبلين في بيستر.»
صفحه نامشخص