تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
أما الفكرة الثالثة، فتتعلق بإعادة ظهور الجنون ، بعد «الصمت الكلاسيكي الطويل»، في مجال اللغة (كما رأينا مع «ابن شقيق رامو») وإحيائه للغة تمثل توهجا غنائيا، «لغة لا تظهر من خلالها الصور غير المرئية للعالم، بل الحقائق السرية للإنسان.»
وأخيرا، نجد مشروع دراسة لاحقة، ولكنها محددة المعالم بدقة؛ حيث يشكل اتساق الفكر الأنثروبولوجي الكامن مرجعا للصراعات العلمية التي نشأت في القرن التاسع عشر حول الاستلاب العقلي (لا سيما بين القائلين بالأصل العضوي للمرض وبين أولئك القائلين بالأصل النفسي للمرض). وفقا لفوكو، بدأت المفاهيم التوصيفية للشلل العام، والجنون الأخلاقي والهوس الأحادي، في إنشاء حقل التجربة الطبية النفسية، على نطاق واسع، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لم يبال الفيلسوف بحقيقة أن هذه المصطلحات تعد من الناحية الطبية متباينة وغير متجانسة، وأن الجمع بينها ينطوي على مغالطة تاريخية؛ لأنه لا يريد أن يرى إلا ما يوجد تحت هذه الطبقة الطبية. إنه لا يريد أن يبصر هنا إلا «بنية جديدة للتجربة»، و«أنثروبولوجيا ضمنية تتكلم عن الذنب نفسه» (ها نحن نعود إلى تلك النقطة).
وهكذا نصل إلى الفكرة النهائية: «لقد كانت نهاية اللاعقل، في مكان آخر، تجسيدا لأشكال جديدة.» يود ميشيل فوكو للمرة الأخيرة أن يستسلم لسحر «تلك الصور المنسية للجنون» التي تتجلى في أعمال بوش، وجويا، ودي ساد، ونيتشه، وفان جوخ، وأرتو، إنه ليس جنونا يتسرب إلى العمل، ولكنه «ذلك الجنون الذي هو قطيعة مطلقة في العمل.» «حيلة وتفوق جديدان للجنون: فهذا العالم الذي كان يعتقد أنه يعرف حجم الجنون ويبرر وجوده من خلال السيكولوجيا، عليه الآن أن يبرر وجوده أمام الجنون، ذلك أن هذا العالم في سعيه ونقاشاته يقيس حجمه بلا محدودية عمل كعمل نيتشه وفان جوخ أو أرتو. ولا شيء داخله، وخاصة ما يمكن أن يعرفه عن الجنون، يضمن له أن أعمال الجنون هذه تبرره.» وهنا يجب أن نتساءل: عن أي مجانين وعن أي جنون يتحدث فوكو بالضبط؟ إنه لا يكف بالطبع عن الرجوع إلى تاريخ الطب النفسي، وهذا هو ما يجب أن تنصب عليه قراءتنا النقدية . بيد أن الفيلسوف يشير باستمرار إلى جنون «سابق»، إنه جنون لم تقض عليه الباثولوجيا؛ التي تعد في حد ذاتها تعبيرا عن السلطة، جنون كان يتحدث لغة اللاعقل. «في فضاء معد بهذا الشكل، لا يمكن للجنون أبدا أن يتكلم لغة اللاعقل [...] سيستوعب الجنون كلية داخل عالم الباثولوجيا. لقد اختزل القرن التاسع عشر الوضعي التجربة الكلاسيكية للاعقل في إدراك أخلاقي محض للجنون، سيكون لاحقا وبشكل خفي، نواة لكل التصورات التي سيثمنها القرن التاسع عشر باعتبارها علمية وإيجابية ومحسوسة.»
لقد أوضحنا بما فيه الكفاية استمرارية الجنون كمرض منذ أوائل العصور القديمة، وثبات التوصيف المرضي للاضطرابات العقلية الذي سرعان ما استقر (الهوس، السوداوية ...)، وعدم استيعاب العصور الوسطى للاستعارات والصور الرمزية الخاصة بالجنون، ومن ثم عدم الالتفات إلى «التجربة الكلاسيكية للحماقة» ولا إلى العبور التاريخي من مرحلة اللاعقل إلى مرحلة الجنون ذي الطابع الطبي. ومرة أخرى، ما المقصود بال «لاعقل» الذي يستدعيه ميشيل فوكو باستمرار ولكنه قلما يفسره؟ أي جنة للعقل، و«لحرية الكلام» تكمن في هذا الإطار النظري الغامض؟
الفصل الرابع
«بينيل» اسم صار علامة
وفقا لتصور غريب للتاريخ، ولكنه تصور كلاسيكي، «ظهر الرجل المعجزة ...» إذا أعدنا صياغة الجملة التي وردت على لسان لامارتين ولكن مع قلب معناها، ربما نجرؤ على القول: «إن ظهور كائن واحد، أعطى لكل شيء نبض الحياة!» هذا الرجل الذي ترك بصمة في تاريخ الطب النفسي والذي أرسلته العناية الإلهية يدعى بينيل، الطبيب فيليب بينيل. قبله، كان تاريخ الجنون محاطا بهالة من الغموض. وبعده، أو بالأحرى اعتبارا من مجيئه، بدأ تاريخ الطب النفسي. «لقد اهتم بينيل على وجه الخصوص بدراسة الأمراض العقلية، وكان له الفضل في إلغاء أساليب العلاج الوحشية التي كان يتم تطبيقها على المرضى عقليا» (قاموس روبير لأسماء الأعلام).
مثل هذا التصور سيجعلنا بالتأكيد ننظر إلى الدراسة السابقة بأكملها على أنها «قصة طريفة»، فضلا عن أن مؤرخي الطب النفسي التقليديين يتحاشون غالبا التحدث عنها. أما عن ذلك الجدال الدلالي الزائف المتعلق بالفصل بين تاريخ الجنون وتاريخ الطب النفسي ، فإن هذا سيكون من شأنه إغفال حقيقة أن مسيرة علاج المجنون، التي رأينا أنها قديمة قدم الجنون نفسه، أرست دعائم الطب النفسي. يبقى أن نبحث في الكلمة نفسها. ظهرت لفظة «طبيب نفسي» في اللغة الفرنسية في عام 1802 (وهي كلمة معاصرة على نحو ذي مغزى لبينيل)، بينما لم ترد لفظتا «الطب النفسي» و«طب عقلي» في القواميس إلا في عام 1842، وهو تاريخ يتعلق بطريقة أو بأخرى بالتنظيم المؤسسي.
سنذكر في هذا الصدد مقولة جلاديس سواين، صاحبة الأعمال التي أوضحت بشكل كبير هذا الفصل من الكتاب (والتي نحيي ذكراها الآن): «ما يجب أن يطلق عليه «ميلاد الطب النفسي» في القرن التاسع عشر بدا لأول وهلة كحدث غير متوقع غير في مسار الأحداث التالية. وبالطبع، لا نعني بهذا الحدث إنتاج أو بزوغ جذري لشيء جديد تماما، فالأمر ليس مماثلا لإنشاء خطاب ملهم طبيا حول الجنون من العدم؛ فهذا الخطاب كان موجودا قبله بكثير.»
1
صفحه نامشخص