تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
واقترح أيضا اتباع طريقة «التعذيب بلا ضرر»، التي تقتضي ضمن أمور أخرى تعليق المريض عقليا على ارتفاع معين بواسطة الحبال وتركه على هذا النحو سابحا بين السماء والأرض. كان يتم أيضا ترويع المريض عن طريق إطلاق بعض الأعيرة أو تفجير بعض الألعاب النارية بالقرب منه. وإذا لم يكن كل ذلك كافيا، فلنسمعه بعض المقطوعات الموسيقية الأوبرالية!
قد يتصور البعض أن القرن الثامن عشر كان أقل «رجعية»، ولكن الأمر ليس كذلك. فقد كان الأطباء الذين يستشهدون بالعلاجات التقليدية القديمة؛ بغية التنفير منها وإبراز أهمية وفعالية العلاجات الحديثة مقارنة بها هم الأقل عددا. بينما كان الباقون يكتفون بالإشارة من جديد إلى تلك العلاجات القديمة؛ متسببين بذلك في زيادة الفوضى وتفاقم الوضع. من بين العلاجات التي كانت تستخدم لمعالجة الصرع وحده، نذكر دون ترتيب «دود الأرض (الذي كان يؤخذ على الريق في شهر يونيو قبل شروق الشمس)، وحافر حيوان الموظ، وعقب الأرنب البري، ومخ الغراب، وقرن الكركدن، وعظيمات أذن العجل، وصفراء الكلب الأسود الطازجة، وزبل الطاوس، وروث الأسد، وشوكة (بنية تشريحية عظمية) للعمود الفقري لسحلية متآكلة في عش نمل.» أما عن «القاموس الدوائي» الذي ظهر في عام 1757 بتوقيع طبيب مشكوك في أمره وهو الدكتور جيه جي،
12
فإليكم الدواء الذي يقترحه لعلاج الهوس: «خذ مخ كلب، وقم بإذابته في ثمن جالون من النبيذ الأبيض، ثم بعد مرور أربع وعشرين ساعة قم بتقطيره. ويعطى المريض ملء ملعقة صغيرة من هذا الخليط مضافا إليه دم حمار بالمقدار نفسه، في كوب من مغلي البطونيقا، كل صباح.» بل لقد كان من الممكن في بعض الأحيان استخدام مكونات من أصل بشري مثل: كشاطات فقرات ودماغ رجل مات ميتة عنيفة، والمشيمة أو الحبل السري لطفل حديث الولادة. ولكننا نقترب هكذا من السحر الأسود، وتلك قصة أخرى. فقد كان يطلب من الساحر أو المشعوذ أي شيء، بما في ذلك شفاء أحد المجانين، ولكن الطلبات من هذا النوع كانت قليلة للغاية، وهي أقل بكثير من طلبات الرغبة في الفوز بقلب أحدهم أو موت والد ما للحصول على الميراث.
قد يصعب تفهم ما يشيعه البعض اليوم عن سذاجة النظام القديم دون أن نأتي على ذكر «أنصار المدرسة التجريبية». فالنظام القديم ليس ساذجا، ولكنه مؤمن. إن جميع فئات المجتمع على اختلاف مستوياتها، تؤمن بالله، والشيطان، والمعجزات الكبيرة والصغيرة. وكان أنصار المذهب التجريبي، الذين لا يحصى لهم عدد، يتباهون بقدرتهم على الشفاء دون الحاجة إلى مساعدة الأطباء الذين ليس في وسعهم الكثير. كان لكل مؤمن بالمذهب التجريبي سره الخاص. كان هناك اعتقاد في قوة الأسرار. كان الجميع يلجئون إلى التجريبيين، بالرغم من الحرب التي كانت دائرة على استحياء بينهم وبين الأطباء. «الطبيب - كما كتب مرسييه في مؤلفه «لوحة باريس» - بوجه شاحب وصوت مزماري النغم، وعين حائرة، يجس نبضكم بفتور، وينطق بتلك الجمل اللبقة التي تشعركم مع ذلك بالفراغ والخواء. ويبدو وكأنه يريد المماطلة مع المرض [...] أما التجريبي، فيتمتع على العكس من ذلك بجرأة في الكلام، ويملك نظرة واثقة [...] الطبيب بارد، أما الآخر؛ ذلك التجريبي الدافئ والعاطفي والمتقد الحماس، فيقول لك: خذ، ولتنعم بالشفاء!» يعد الجنون حقلا مناسبا تماما لأنصار المدرسة التجريبية. في عام 1772، كتب حاكم كاين تقريرا في منتهى الجدية إلى وزيره يخبره فيه بوجود أحد أتباع المدرسة التجريبية في المنطقة الإدارية الخاضعة لسلطته؛ حيث كان ذلك الشخص الشهير معروفا بقدرته على شفاء داء الكلب «بواسطة سر قديم للغاية متوارث في عائلته ». «السيد دوميسنيل لديه أيضا سر خاص بشفاء الجنون، ولكنه يمتلك من النزاهة والأمانة ما يجعله يعترف بأن النجاح لا يكون حليفه دائما. في الواقع، من بين عشرة أشخاص مصابين بالجنون، لم يشف العلاج إلا خمسة فقط. أعرف بشكل شخصي مثالين بارزين وحديثين للغاية لحالتين حظيتا بالشفاء بتلك الطريقة.» وأخيرا، ألم يرغب الملك في امتلاك هذا السر؟ في مكان آخر، كان هناك قس هو الذي «يعالج بنجاح الصرع »، وكان يطلب أيضا مساعدات من الملك.
لا يمكن للطب إلا أن يكون تجريبيا. لقد أبرأ شيراك - الطبيب الأول للويس الخامس عشر - رجلا إنجليزيا من السوداء بواسطة رحلة على متن عربة خفيفة يجرها حصان. وهنا يطرح السؤال نفسه، أيرجع الشفاء إلى السفر أم إلى العربة؟ ينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن كاليوس كان يقوم بالفعل بهدهدة مرضاه في أسرة معلقة، أو كان يهزهم بقوة باصطحابهم للتنزه في طرق وعرة (الرجرجة). تجدر الإشارة إلى أن خاصية الارتجاج والتحرك كانت توفرها «كراسي الاهتزاز» الأولى (1734) التي كان بوسع المرضى الأغنياء استخدامها في المنزل. وقد ذكر فولتير تلك الكراسي في رسالة موجهة إلى كونت أرجنتال. وماذا عن اللجوء إلى الحيلة والخديعة في علاج الجنون؟ ألا يعني ذلك تشجيع الجنون بغية محاربته؟ سوف تكون هذه المسألة محل جدال في القرن التاسع عشر ولكن ليس تحت مظلة النظام القديم. يروي أمبرواز باريه - الجراح الكبير في القرن السادس عشر - أنه شفى أحد المختلين عقليا كان يعتقد أن هناك ضفادع داخل بطنه، وذلك بإجراء عملية تطهير له (من خلال إفراغ الأمعاء بالمطهرات)، وألقى خلسة بعض الضفادع في وعاء موجود بغرفته. إنه المبدأ نفسه، ولكن بصورة أقل إيلاما، الذي تنبع منه عملية حصوات الجنون.
أبإمكاننا الحديث عن المدرسة التجريبية فيما يتعلق بمسمر (1734-1815) وب «المغناطيسية الحيوانية» التي تمثل الخطوة الأولى على طريق التقدم العلمي الذي تم إحرازه في اتجاه التطور اللاحق الذي شهده فيما بعد الطب النفسي الديناميكي؟ تأكدت الخصائص الطبية للمغناطيسية، التي تم استشعارها منذ العصور القديمة، إبان القرن السابع عشر ، وأشار إليها في القرن الثامن عشر فرانز أنطون مسمر - الطبيب النمساوي - بعد أن عرج على اللاهوت والفلسفة والقانون. وضع مسمر نظريته بشأن «المغناطيسية الحيوانية» في فيينا؛ حيث رفع زواجه من امرأة ثرية من قدره وجعل منه طبيبا اجتماعيا مرموقا متخصصا في معالجة أهل النخبة والأغنياء. يقول مسمر: إن الكون مفعم بسائل رقيق، يعمل كوسيط بين الإنسان والكون. سوء توزيع هذا السائل هو المسئول عن إصابة الإنسان بالمرض ويكفي توجيه السائل المذكور نحو مراكز معينة عن طريق إحداث «أزمات» لتحقيق الشفاء. مثل هذه النظرية، المتناغمة تماما مع نظرية الأبخرة، كان مقدرا لها النجاح في باريس، حيث وصل مسمر في عام 1778. هرعت سيدات الطبقة الراقية «المصابات باضطرابات وخلل عقلي بفعل اختلال الأخلاط وتصاعد الأبخرة السيئة إلى الدماغ» إلى عيادته الفخمة الكائنة في حي لويس لو جراند [ميدان فوندوم]. وقد ساعده شارل ديسلون - الطبيب الأول للكونت دارتوا - الذي ربطته به علاقة وثيقة، على أن يحظى بإنعامات البلاط الملكي، على الرغم من العداء الواضح الذي أظهرته الكلية تجاهه. في شقة فسيحة مزينة بديكور أنيق، حيث يتسلل ضوء خافت رقيق قائم على تقنية الجلاء والقتمة، وضع «سطل» (أصبح فيما بعد أربعة)، وهو عبارة عن إناء معدني كبير ذي فوهة مغلقة مستوحى من قوارير ليدن [المكثفات الكهربائية الأولى] تنبثق منه القضبان الموصلة التي يمسك بها المرضى. يتيح هذا الجهاز العبقري معالجة عدد من المرضى يصل إلى عشرين مريضا في وقت واحد، حيث يربطون بحبل حول الخاصرة، ويشكلون دائرة ممسكين بعضهم بأيدي بعض. ثم يقترب مسمر، مرتديا زيا رائعا من الصوف المطرز بالورد الأرجواني بألوانه المتباينة، وواضعا شعرا مستعارا مصففا بعناية، برفقة المساعدين المتخصصين في المسمرية أو العلاج بالقوة المغناطيسية، شباب وسيم وقوي يطلق عليهم «الخدم ذوو اللمسة الشفائية». يوجه مسمر بعصاه الحديدية، السحرية بقدر ما هي ممغنطة، السائل نحو أحد المشاركين، متسببا في إحداث الأزمة الشافية. وهكذا دشن مسمر أسلوب العلاج الجماعي الذي كان ينتظره مستقبل مشرق. ثم يندفع أحد «الخدم من ذوي اللمسة الشفائية» ليسيطر على المريض الذي انتابته التشنجات ويقتاده إلى غرفة مجاورة؛ حيث يسمح للأزمة المخلصة بالتعبير عن نفسها بمنتهى الحرية. «كانت هناك بعض النساء اللاهثات اللاتي تعرضن لخطر الاختناق؛ ولذا كان لا بد من فك وثاقهن. وهناك أخريات كن يضربن الجدران أو يتدحرجن على الأرض، كما لو كان هناك ما يطبق على حناجرهن، وكن يشعرن بتدفق الأبخرة الباردة أو الملتهبة في ثنايا الاقتصاد الحيواني، تبعا للمسار الذي رسمته العصا القادرة.»
13
لا تقتصر المغناطيسية الحيوانية على علاج الهستيريا الاجتماعية، ولكنها تشمل أيضا الأمراض العصبية كافة، وكذلك جميع الأوجاع والآلام بشكل عام، ويمكن تطبيقها على الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء على حد سواء. وقد خصص مسمر للفقراء سطلا، وذلك قبل أن يقوم بمغنطة شجرة من أجلهم تقع في نهاية شارع بوندي. وقد جنى ثروة تقدر ب 340 ألف جنيه في عام 1783 بعد أن أسس جمعية الانسجام، التي كان يحق لكل مساهم فيها أن يكشف له عن «سر» من أسرار المغناطيسية، بشرط أن يقسم على أن يحتفظ بهذا السر لنفسه ولا يبوح به لأحد. وكان رسم الانضمام إلى هذه الجمعية يبلغ مائة لويسية (2400 جنيه). انتقد مرسييه بشدة نزوع الإنسان الطبيعي إلى كل ما هو عجيب وخارق وساحر ومثير للدهشة (فالفضول هو ما جعل الناس يتهافتون على الذهاب إلى المنومين المغناطيسيين). وبدأت الكلية في التحرك. ففي عام 1784، عين لويس السادس عشر لجنتين لتقصي الحقائق. وكانت إحدى هذه اللجان تضم لافوازييه، وبنجامين فرانكلين وطبيبا يدعى جيوتن، كان يشغل حينئذ منصب أستاذ بكلية الطب في باريس، وكان مشهورا «بتفانيه في خدمة الإنسانية المعذبة». جاءت النتائج الختامية للتقارير حاسمة؛ فلا وجود للسائل المغناطيسي الحيواني، وجميع الآثار الملاحظة «تحدث بفعل اللمس، والخيال». وهكذا انتهت مسيرة مسمر المهنية وغادر فرنسا في عام 1785. وسنترك كلمة النهاية لشارل ديسلون: «إذا كان طب الخيال هو الأفضل، فلم لا نمارسه؟»
14 «انطلاق» العلاج المعنوي
صفحه نامشخص