تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
ما زلنا في عام 1790، ولم يكن أحد يتخيل أن البنية التحتية الدينية قد تختفي في يوم من الأيام. بالطبع كانت النذور الرهبانية محظورة (فبراير)، ولكن استثنيت من ذلك الراهبات اللواتي كن يخدمن في دور التعليم العام والمؤسسات الخيرية. ومع ذلك، كانت لجنة التسول يساورها القلق حيال ما ستصدره الجمعية الوطنية من «قرارات تمس مصير الأخوات اللائي كرسن حياتهن لخدمة المرضى».
فراغ قانوني
السؤال الذي طرحته لجنة التسول بقلق بالغ، تلقت عنه إجابة في الثامن عشر من أبريل 1792 مع صدور قرار بإلغاء الجماعات الدينية؛ تمهيدا لتنفيذ عمليات إقصاء وطرد في الأعوام التالية. بعد إبطال الأوامر الملكية، أدى إلغاء دور الاحتجاز الجبري بحكم الواقع (كلها تقريبا) إلى تدمير نظام احتجاز المختلين عقليا المعقد وغير المرضي الذي كان سائدا في ظل النظام القديم. بيد أن الجنون استمر. اختفى الجانحون كسرب من الطيور، بينما بقي المجانين. أما فيما يتعلق بطلبات الاحتجاز الجديدة، فإنها لم تتوقف بسبب الثورة. ما هي إذن الأحكام القانونية الجديدة التي ظهرت بعد طي صفحة الماضي الموصوم؟ في الحقيقة، لم تكن هناك أي نصوص قانونية جديدة في هذا الصدد، أو لنقل: إنها لم تتخذ شكلا محددا ومعرفا في إطار قانون كبير، على الرغم من أنه كان أمرا منتظرا في أعقاب أعمال لجنة التسول. القوانين الوحيدة التي صدرت في سياق الجمعية التأسيسية والمجلس التشريعي والمتعلقة بشكل غير مباشر بالمرضى عقليا تتمثل في حكمين قانونيين مختصين بالشرطة - أحدهما في الفترة من 16 إلى 24 أغسطس والآخر من 19 إلى 22 يوليو 1791 - ينصان على معاقبة أولئك الذين يتركون المختلين عقليا مشردين هائمين على وجوههم. ولكن أيعني هذا أن المختلين عقليا عادوا من جديد يجوبون الشوارع بلا مأوى ولا هدف؟
كان الفراغ القانوني، الذي لم تستطع الثورة ولا الإمبراطورية ملأه، جليا. فإذا كان المرسوم الصادر في أغسطس 1790 يشير إلى إجراءات إدارية للحبس وفقا للشرطة العامة، يجدر القول إن هذه الإجراءات كانت مشددة بصورة استثنائية، بحجة «أننا ينبغي ألا نعيد إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد». على سبيل المثال، في مكان ما في فرنسا، في تسعينيات القرن الثامن عشر، أبلغ عن مجنون يتجول في الطرقات وأصبح يمثل «آفة المقاطعة». فكيف يمكن احتجازه؟ لكي يتم ذلك، كان لا بد من أن يحصل النائب العام المسئول عن البلدية على قرار رسمي من مجلس البلدية، ومحضر تحقيق لإثبات حالة الجنون موقع من قبل اثنين من مفتشي الصحة. ومن ثم يمكن للنائب العام المسئول عن هذا القسم الإداري أن يطلب من مجلس المديرين التابع لهذه الدائرة أو المقاطعة إصدار أمر بالحبس في «أحد مستودعات الأمن».
لم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، ولكن بداية، ما المقصود بمستودع الأمن؟ لقد شكل موضوعا بارزا في التشريع الثوري، ولا سيما فيما يتعلق بالمجالين الجنائي والقضائي؛ فقد صنفت المؤسسات العقابية المدنية إلى ثلاث فئات: السجن التابع لمحكمة الجنح، ومستودع الأمن الخاص بالدائرة والتابع لمحكمة الشرطة (المختصة بالجرائم البسيطة)، و«دار الاحتجاز الجبري والحبس»، الذي تأسس بموجب التشريع الصادر في الخامس والعشرين من سبتمبر 1791 من قانون العقوبات، في كل مقاطعة. في الواقع، بسبب نقص الأماكن والموارد، لم يكن هناك مفر من الالتجاء معظم الوقت إلى مستودعات التسول القديمة. فإذا كانت الجمعية التأسيسية قد ألغت التسول رسميا، فإن المستودعات لم تغلق أبوابها. في الرابع والعشرين من شهر فنديميير من العام الثاني للتقويم الجمهوري الفرنسي (الموافق 15 أكتوبر 1793 في التقويم الميلادي)، أنشأ المؤتمر الوطني - متبنيا هذه المرة مشروع مرسوم صادر عن لجنة التسول بشأن قمع التسول - «دارا للقمع» في المقر المركزي الإداري الخاص بكل مقاطعة. جل ما حدث هو أن مستودعات التسول غيرت اسمها، ولفترة وجيزة فحسب؛ نظرا لأنه سيعاد استغلالها فيما بعد إبان عهدي حكم المديرين والإمبراطورية. كان المتسولون هم المعنيين وحدهم بهذا المرسوم، عدا أن المادة السابعة من الباب الثالث ذكرت «أولئك [أي المتسولين] المحتجزين في الوقت الحالي بسبب الجنون، وحددت أن الآباء سيكون لهم مطلق الحرية في المطالبة باستعادة ذويهم الذين يقيمون في هذه الدور على نفقتهم الخاصة أو بتركهم في بيوت القمع.» بينما أمرت المادة التالية بإرسال المصابين بالأمراض التناسلية، الذين ما زالوا في المستودعات، إلى المستشفيات. وهكذا بدا أن الوضع الطبي للمجانين الذي طالبت به بإلحاح لجنة التسول قد طواه النسيان تماما.
لنعد إلى «آفة المقاطعة» التي ذكرناها سلفا. فقد تم حبس هذا المجنون في المستودع الأقرب ولكن الثورة لم تستطع - ليس أكثر من النظام القديم - اعتبار ذلك المجنون «كواحد من السجناء» (تلك هي الكلمة الرسمية) المحبوسين هناك بسبب التسول؛ ولذا، لم يكن هذا الحبس إلا مؤقتا، في انتظار قيام المحكمة بإصدار حكم بشأن جنونه ومن ثم توجيهه إلى أحد الملاجئ أو المشافي، أما مسألة تقرير أيهما، فتلك مشكلة أخرى ... ولكن كثرة التدابير الاحترازية تضر بمبدأ الحيطة، فقد انتهى المآل بتلك الإجراءات الإدارية المشددة إلى التوقف في منتصف الطريق، ولم يتبق إلا القرار الإداري. وهكذا كان أمام «آفتنا» كل الفرص، إذا جاز التعبير، ليرى وضعه المؤقت يتحول ليصبح نهائيا. في اليوم الموافق 15 ثيرميدور من العام التاسع بحسب التقويم الثوري الفرنسي، كتب وزير العدل رسالة إلى وزير الداخلية ليذكره بأن إيداع المختل في أحد مستودعات الأمن هو «تدبير مؤقت أساسا ولا يمكن أن يغني أبدا عن قيام المحاكم بإصدار حكم نهائي بشأن حالته. وللمحاكم فقط الحق في إصدار حكم لإعلان حالة الجنون لدى الأفراد الذين أبلغ عن إصابتهم به، وذلك بعد استجوابهم وسماع الشهود ومضاهاة حالاتهم بما ورد في تقارير مفتشي الصحة.» كما أن السلطة القضائية، وليست التنفيذية، هي من تمتلك وحدها صلاحية السماح بالإيداع المباشر داخل إحدى المصحات، إذا كان الأمن العام لا يستلزم الحبس التمهيدي، أو الأمر بإخلاء السبيل، «إذا كان الشخص الذي أقرت حالة الجنون لديه بموجب الحكم الصادر قد استعاد عقله».
ولكن، مرة أخرى، يطرح السؤال نفسه، عن أي مصحات بالضبط يتحدثون؟ في الثالث والعشرين من نوفمبر 1792، انكب المؤتمر الوطني لفترة على دراسة هذه المسألة، وانتهى بالرجوع إلى نقطة الصفر. وقد كلف المؤتمر الوطني وزير العدل بتخليص الدولة من دور الاحتجاز كافة، «أيا كانت»، حيث يوجد أشخاص مسجونون بسبب «الجنون، أو السخط والهياج أو لأي سبب آخر». يعد هذا اعترافا مسبقا بأن هذه الدار كانت متعددة الأنواع. وكنا نعثر على مختلين عقليا حتى في السجون، التي ظلوا بها غالبا لمدة طويلة؛ لأنه بمجرد دخولهم هناك، يصبح من العسير للغاية إيجاد مأوى لإيداعهم فيه بشكل دائم. هكذا في مقاطعة نييفر، في العام السادس، لم ندر أين نضع ذلك الشاب المختل الفقير البالغ من العمر تسعة عشر عاما، إن لم يكن في باريس. لم يعر وزير الداخلية الأمر اهتماما وأرسل مفوضين للتأكد من أنه لا يوجد مآو قائمة في تلك المنطقة. وكان هذا هو الوضع بالفعل. لم توافق الوزارة إلا بشكل جزئي. وكان المقرر ألا تتكفل بنفقات السفر، ولا سيما أنه ينبغي التحقق أولا من أن الجنون قابل للشفاء، وإلا فلن يرسل هذا الأحمق إلى باريس، وإنما إلى دار القمع الأقرب؛ «حيث كانت هذه المؤسسات معدة، في حالة الافتقار إلى مآو، بحيث تكون بمنزلة ملاجئ لجميع أولئك الذين لا يستطيعون العيش داخل المجتمع بسبب عاهاتهم أو إعاقاتهم.»
لم يمر هذا الحدث باعتباره حدثا معزولا، بل إنه كشف عن مفارقة تتجلى في أن هذه الأماكن «الجديدة» المعدة للحفاظ على السلامة أصبحت مخصصة لاحتجاز المجانين بصفة مؤقتة، وبعضها بصفة دائمة، وهو ما يثبت سيادة حالة من عدم الاتساق والتضارب بين المؤسسات آنذاك. ظل المجانين متفرقين هنا وهناك ومنتشرين في كل مكان تقريبا، كما في أسوأ أيام النظام القديم. ها نحن نجدهم في المشافي، وقد أصبحوا منسيين أكثر من أي وقت مضى، و«مهملين ومعزولين في الحجرات الأكثر قذارة والأبعد عن الخدمة ومتروكين لمواجهة مصيرهم البشع» (تقرير دوبليه عن منطقة الألزاس في نهاية عام 1789). وكنا نجد بالفعل بعض المجانين منبوذين ومطروحين في مخازن الغلال أو إسطبلات المستشفيات، «لعدم وجود مكان أفضل».
وفيما يتعلق بدور الاحتجاز الجبري الدينية، التي ألغيت مبدئيا، فقد استمر الكثير منها في العمل بشكل غير رسمي. فلنلق نظرة أخرى على دار بون سوفور بكاين؛ إطلاق سراح النزلاء المحتجزين بالقوة، ثم حظر النذور الرهبانية، وأخيرا إلغاء الجماعات الدينية، كل هذا كان من المفترض أن يمثل نهاية تلك الطائفة. بيد أنها بعد أن طردت من مقراتها في عام 1792، انزوت في العديد من المنازل بضاحية كاين. وقد كان أحد هذه المنازل يؤوي بين جنباته اثنتي عشرة فتاة حمقاء كن باقيات من عهد النظام القديم ولم يكن بالإمكان إطلاق سراحهن. أما السلطات المحلية، إذ كان يساورها القلق حيال التكفل بهؤلاء المختلات؛ ونظرا لأنها كانت في نهاية المطاف معادية للجبليين في العاصمة، فقد أغلقت عيونها عما يحدث. وشهد على ذلك الوضع الراهن التعميم الذي أرسله وزير الداخلية إلى مديري مكتب المشافي المدنية بمقاطعة الكالفادوس، بتاريخ 30 فينتوز (شهر الرياح) من السنة الرابعة، فيما يتعلق بمستودع بوليو (ما زال يطلق عليه «مستودع» لا «دار القمع»). ورد في هذا التعميم بشأن المجانين من الرجال والنساء الموجودين في مستودع بوليو، أنه يجب عدم الإبقاء إلا على الفقراء المعوزين منهم، ولا ينبغي «أن يسمح المستودع لأولئك الذين يعيشون عالة عليه بالبقاء طويلا ما داموا يستطيعون سواء بأنفسهم أو بمساعدة عائلتهم الحصول على المساعدات والمعونات التي يحتاجون إليها من مكان آخر»، ذلك «المكان الآخر» مثير حقا للدهشة؛ لأنه يشير ضمنيا إلى مؤسسات ملغاة (ولا سيما جمعية بونتورسون الخيرية للرجال، ومشفى بون سوفور بكاين وسان لو للنساء). ها نحن نشهد في عام 1805، عقب حيازة المباني القديمة التابعة للجماعة الرهبانية الكبوشية، عملية النقل - الرسمية هذه المرة - للجماعة الرهبانية وللخمس عشرة امرأة المحتجزات «سرا» لديها (ثلاث نزيلات جديدات أتين في تلك الأثناء). وهكذا نجت من الثورة المؤسسة التي مثلت النواة المستقبلية لمشفى بون سوفور الكبير للأمراض العقلية.
انطبق الأمر عينه على دير نوتردام دو لا جارد للرهبان الفرنسيسكان «سابقا»، الكائن في مقاطعة واز. أغلق هذا الدير بصورة رسمية ولكن ظل المختلون عقليا، وأصبح الرئيس الأسبق للدير - الذي تحول بحكم الواقع إلى المواطن تريبو - مديرا ل «دار دو لا جارد». في عام 1799، ترك تريبو منزل دو لا جارد، بعد بيعه بوقت قصير، ليستقر - مع المرضى عقليا الأواخر الذين تبقوا - في كليرمون، في المقر الذي أصبح فيما بعد أكبر مصحة في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر. بإمكاننا مضاعفة الأمثلة على هذا النحو. أثبتت مؤسسة لا ترينيتيه الاستشفائية بإكس بنجاح «أنها ليست دارا للاحتجاز الجبري وإنما مؤسسة خيرية يديرها مواطنون، بمنزلة مأوى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»
صفحه نامشخص