تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
4
وهكذا يمكن أن نتحدث عن الأضواء الأخيرة لعصر الباروك بدلا من الحديث عن مجيء العصر الكلاسيكي . وهكذا يمكن القول إن العصر الكلاسيكي - العزيز على فوكو - قد أعاق مشروع المشفى العام أكثر مما أسهم في تأسيسه.
المؤسسات الاستشفائية في الأقاليم
إنه لأمر تقليدي أن نكتب قائلين إن إنشاء المشفى العام في باريس كان له أثر ملهم فيما يتعلق بتأسيس المشافي المحلية العامة. هذا القول صحيح جزئيا فقط؛ إذ إن الحالات التي تدل على أسبقية بناء المشافي في الأقاليم كثيرة، ولم تكن أيضا مبنية على مبادرة اتخذتها السلطة المركزية، التي لم تكن قد توطدت بعد، وإنما على إجراء بادرت إليه السلطات المحلية، كما حدث في مولان على سبيل المثال، من أجل مجابهة مشكلة المتشردين؛ حيث شكلت هذه التدابير حركة عامة غالبا ما ترجع جذورها إلى القرن السادس عشر. في عام 1585، أصدر مجلس بلدية أنجيه أمرا إلى الجلاد «بإلقاء القبض على جميع الفقراء الأصحاء القادرين على العمل واقتيادهم إلى الخنادق»، ومن الجلي أن هذا الأمر سبق بوقت طويل إنشاء «مشفى المحتجزين» في عام 1622. لنذكر مثالا آخر: في روان، على الرغم من أن تاريخ تأسيس المشفى العام رسميا يعود إلى عام 1681، فإن هذه المدينة تصدت منذ وقت طويل لمشكلة التسول، كما تشهد على ذلك التدابير المتمثلة في تنظيم مكتب للفقراء في عام 1534، وبناء أول دار لإيواء الفقراء في عام 1601، أعقبها إنشاء مؤسسات الاحتجاز الأولى، في عام 1645 للفتيات الفقيرات، وفي عام 1650 للمشردين الريفيين، وفي عام 1653 للأطفال.
5
نرى بوضوح من خلال هذه الفئات أن الحجز في القرن السابع عشر لا يمت بصلة لمفهومنا الحديث للسجن. فتلك المؤسسة ليس لها نظير اليوم؛ إذ إنها تجسد شكلا من أشكال المساعدة «البوليسية» (وفق مفهوم «البوليس» في القرن السابع عشر، والمقصود به «الإدارة العامة»)، وهي بعيدة كل البعد عن السجن بمعناه الذي يتضمن عقابا بدنيا قاسيا، ولم يكن موجودا في ظل النظام القديم.
في عام 1617، في أعقاب فشل المحاولة الكبرى الأولى لإنشاء المشفى العام في باريس، كان تيوفراست رونودو، طبيب الملك وسكرتيره والمفوض العام لشئون الفقراء بالمملكة (قبل أن يخلد اسمه بتأسيس مجلة لاجازيت دو فرانس )؛ قد اقترح تعميم إجراءات الحجز على جميع أرجاء المملكة؛ بغية منع استمرار تدفق الضالين والمشردين على العاصمة.
6
تجدر الإشارة أيضا في هذا السياق إلى تأثير جمعيات سان ساكرمن السرية، التي كانت تتبع نهجا فكريا مماثلا لجماعة باريس، والتي يبدو أن أقدم فروعها هو ذاك الفرع الذي كان قد تأسس في ليون. وهكذا، عقب إنشاء مؤسستين إحداهما في ليون فيما بين عامي 1613-1614، والأخرى في مارسيليا في 1641 (حيث كان قد تقرر تطبيق الاحتجاز منذ منتصف القرن السادس عشر)؛ شيدت مشاف عامة في المدن التالية: أميان (في عام 1640 تقريبا)، ونانت في 1650، وكاين وسينليس في 1655. ثم تسارعت وتيرة الحركة بعد عام 1656، وسارت هذه المرة على نسق النموذج الباريسي، وبنيت العديد من المشافي في المدن التالية: بونتواز، وسواسون، وسان فلور، ونويون، وإيسودن، وكليرمون فيران، وبورج في عام 1657، وبوفيه، ولو مان، وريوم، وتور، وبلوا في عام 1658، ومون بريسون في عام 1659، وكاليه ومولان في عام 1660 ... معظم هذه المؤسسات هي نتاج مبادرات اتخذتها المجالس البلدية، ولا يحركها أي هدف لتحقيق المركزية. ومن الجدير بالذكر أنه حال قيام مدينة ما بإنشاء دار للحجز، يتراجع متسولوها نحو المدن المجاورة التي تشهد تبعا لذلك تزايد الحاجة الملحة إلى إنشاء مؤسسة خاصة بها. «انتشر جو عام في أرجاء المملكة يدعو لممارسة أعمال الخير والإحسان العامة تجاه أولئك الذين اشتدت بهم الفاقة وصاروا يعانون من البؤس والشقاء.»
في بداية صيف 1662، إثر وقوع أزمة دورية ضربت بشدة النصف الشمالي من فرنسا، اكتظت مدينة باريس من جديد بالمتسولين الذين اضطرتهم المجاعة إلى ترك المقاطعات التي كانوا يعيشون فيها. وهو ما دفع السلطة الملكية إلى تعميم المرسوم الصادر في أبريل 1656، على نحو رسمي هذه المرة، على جميع المدن والبلدات بالمملكة، وذلك من خلال إصدار إعلان يونيو 1662. يكشف هذا الإعلان على الفور عن وجود اختلاف بينه وبين المرسوم السابق من حيث الحجم: فلم يذكر في هذا البيان إلا المتسولون العاجزون؛ مما يعني أن السلطة الحاكمة وعت جيدا الدروس المستفادة من سنوات الاحتجاز الخمس في مستشفى باريس العام ، وسجلت وجود أعداد هائلة من العاجزين والمعاقين، ووصل الأمر إلى درجة إخفاء الوجود الكثيف للمتسولين الأصحاء سليمي البنية والقادرين على العمل ووضع مسألة المساعدة في الصدارة.
صفحه نامشخص