تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
وتتجلى مقاربة معبرة إلى حد كبير من خلال كتيب ظهر في عام 1539م بعنوان «انتصار السيد العظيم والقوي: الزهري»، ويعد بمنزلة طباق حقيقي لكتاب «انتصار الجنون». وفي عام 1495، انتشر مرض مخيف وجديد في أوروبا. إنه مرض «الزهري»
3
الذي ظهر، إذا جاز لنا التعبير، في الوقت المناسب. وقد ألف الفارس أولريخ فان هيوتن، بعد إصابته هو نفسه بالزهري، كتابا عن هذا المرض في عام 1519؛ حيث نفث عن غضبه الشديد في صورة لعنات قائلا: «يتلذذ الله بإرسال هذا المرض إلى عصرنا بينما لم يعرفه قط أجدادنا. ويقول أولئك الذين يتحصنون بالكتاب المقدس: إن الزهري ناجم عن الغضب الإلهي.»
في الرسوم الواردة بكتاب «انتصار الزهري»، نجد المجانين ماثلين، ويجرون المركبة التي يستقلها السيد الجديد لرومانسيات البلاط: «الزهري»، وذلك على شاكلة «سيد الجنون». وكما أن الحب يحكمه الزهري، فالعالم يحكمه الجنون. ونجد أن الصور الاستعارية والرمزية، التي كانت منتشرة في ذلك الزمن، والتي تشير دائما إلى الموت والتعفن والانحلال، حتى ولو كانت تزينها ألوان الشهوة المبهجة على وجه الخصوص؛ قد استعانت بدورها بصورة الجنون. وهكذا، في عام 1540، صور لنا الفنان الماهر بيهام، والذي يضارع دورر في براعته، «مجنونا» مرتديا غطاء الرأس التقليدي المزين بجلاجل على شكل أذن حمار، وهو ينحني أمام امرأة ليقدم لها زهورا. في العام التالي، في إعادة تمثيل للفكرة نفسها، قدم لنا الفنان المشهد عينه ولكن مع بعض التعديلات البسيطة بحيث بدا المجنون مقطب الوجه، يرتسم على ملامحه تعبير الموت؛ وبدلا من الزهور، تلقت السيدة الجميلة ساعة رملية، وهي صورة تحمل رسالة ذات مغزى مزدوج: أن الجنون والموت وجهان لعملة واحدة، وأن الوقت يدمر كل شيء ما عدا الجنون.
في سياق أقل قتامة وكآبة، كتب إراسموس مؤلفا بعنوان «مديح الحماقة» ظهر عام 1511. وقد شرح إراسموس منهجه الفكري المتبع في إهدائه الموجه إلى توماس مور في مقدمة الكتاب كما يلي: «أردنا أن نرسمها [الرذيلة] بأسلوب مضحك وليس بأسلوب بشع وكريه.» مثلما حدث مع كتاب «السفينة»، يرجع جزء كبير من الفضل في نجاح ذلك الكتاب إلى الرسوم التوضيحية التي قدمها الفنان هولباين الصغير في بداية مسيرته المهنية. بيد أن إراسموس يبقى كما هو. فيصور الجنون، الذي يتخذ صورة امرأة (إلهة في الواقع) وهو يصعد على المنبر ليخاطب الإنسانية. ثم تشير هذه المرأة في خطابها المهيب إلى جنون الآلهة، وجنون البشر، دون أن تغفل النساء اللائي يتمثل جنونهن الأعظم في سعيهن إلى نيل إعجاب الرجال. وقد استهدف الكاتب من خلال كتابه رجال الدين والكنيسة بصفة عامة قائلا: «تأسست الكنيسة على الدم، وترسخت بالدم، وكبرت بالدم.» كما انتقد بحس ساخر الممارسات الخرافية، ومن بينها رحلات الحج العلاجي. وعد في مرتبة المجانين كلا من علماء اللاهوت واليسوعيين، ولا سيما الفلاسفة الذين يعتبرون في نظره الأكثر جنونا لادعائهم الحكمة. خلاصة القول: الجنون هو سمة الإنسانية، و«كلما زاد حيز الجنون عند الإنسان، كان سعيدا.»
ولكن، بصفة عامة، كان موضوع السوداوية أو الكآبة هو الذي ألهم فناني النهضة أكثر من موضوع الجنون. نذكر، على سبيل المثال، لوحة آلبرخت دورر الشهيرة «السوداء»، وهي عبارة عن لوحة منحوتة على قطعة نحاس، وقد أنجزها الفنان في سنة 1514، بالإضافة إلى لوحة الفنان كراناش الأكبر، ويوجد كثير من أوجه التشابه بين اللوحتين. يتجلى في هذين العملين الفنيين، ملاك خنثوي، كئيب وصامت، يبدو على ملامحه الإلهام والتفكير في إتمام عمل ما. إنها سوداوية أرسطو التي تعانقها العبقرية.
الفصل الرابع
جنون ودين
إذا لم يكن باستطاعة الجنون والأخلاق أن يجدا نقطة التقاء المجتمع المسيحي في القرون الوسطى، فماذا نقول إذن عن الجنون والدين؟ والمقصود هنا الدين ببعده الإسكاتولوجي [أي في سياق علم الأخرويات الذي يهتم بدراسة كل ما يتعلق بالآخرة والإنسان]. في أواخر العصور الوسطى، بعد مرور عدة أعوام من الألفية الأولى للميلاد، استحوذ القلق على عقول ونفوس البشر بشأن نهاية الأزمنة، من جراء ما حاق بهم من مصائب وكوارث، مثل؛ تلف المحاصيل، والمجاعات، والحروب، والأوبئة، وكذلك ضعف نفوذ الباباوات. ترسخ وسواس الخوف من الموت في قلب مجتمع قلق ومضطرب وحائر. وأثر ذلك الهاجس بشكل عميق على طابع التدين والتقوى الذي استنكر اضطرابات العالم. في فن الرسم، ازدهرت اللوحات التي تصور رقصة الموت؛ حيث تسحق عربة الموتى بلا شفقة ولا رحمة العظماء والمتواضعين على حد سواء. لم يبق أمام الإنسان إلا أن يتواضع كليا أمام الله، كما تحثه على ذلك المؤلفات الداعية للتقوى والورع والروحانية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، نقرأ في أحد تلك المؤلفات، في كتاب عنوانه «الاقتداء بالسيد المسيح» العبارات التالية: «فقد كثيرون تقواهم برغبتهم في كشف أسرار تفوق قدراتهم العقلية وذكائهم. فما هو مطلوب منك أيها الإنسان هو الإيمان والسلوك بطهارة ونقاء في الحياة، وليس التعمق في الفكر وسبر أغوار الأسرار الإلهية.»
الجنون والخطيئة
صفحه نامشخص