تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
ذلك التقليد القائم على استخدام القوة في «معالجة» الجنون لم ينشأ فقط عن صوت الشعب (وفق التعبير اللاتيني
vox populi ) المستعد دائما لنبذ من يختلف عنه، وإنما ارتبط أيضا بالمدرسة الرواقية التي ترى أن الإنسان مسئول عن جنونه مثلما هو مسئول عن عواطفه (ويعتبر المصطلحان في هذه الحالة مترادفين). ولم يخش سيلسوس، رغم كونه طبيبا، من أن يذكر في كتابه «حول الطب»، إمكانية اللجوء عند الضرورة إلى التعنيف والتجويع والتقييد بالسلاسل والجلد بالسوط والضرب، ولا سيما إن كان الهدف من ذلك «قمع وقاحة وتجاسر المرضى.» وأيضا من وسائل العلاج الأخرى: «إثارة الذعر والفزع المفاجئ. خلاصة القول: كل ما من شأنه إحداث اضطراب كبير في ذهن المريض يعتبر مفيدا في علاج هذا المرض.» أما كاليوس، على الرغم من انتمائه إلى المذهب المنهجي مثل سيلسوس، فلم يوافقه الرأي (وذلك علما بأن ما ذكره سيلسوس لا يعني بالضرورة أنه يتبع بشكل أساسي مثل هذا الأسلوب العلاجي، ولكنها مجرد إمكانية.) وقد انتقد كاليوس بشدة (مثل سيلسوس أيضا) القيود التي تجرح، وفرض العطش والصوم الشاق على المريض بالطريقة نفسها التي يجري بها ترويض الحيوانات البرية، والحبس في مكان مظلم واستخدام الأغلال والسوط وإجراء عمليات الفصد بشكل مفرط فيه (بالفعل!) وتخدير المريض بالخشخاش لينام نوما عميقا. كما حرم كاليوس الموسيقى والخمر والحب، معللا ذلك بأنه لا يمكن الاستعانة بهذه الأشياء كعلاجات في الوقت نفسه الذي نعتقد فيه أن الإفراط فيها طالما كان يعد أحد أسباب الإصابة بالجنون. «من العبث التفكير في أن الحب ، الذي طالما اعتبر أحد أشكال الجنون، قادر على قمع نوبة هيجان.»
ولكن، ما هو العلاج الذي وصفه كاليوس للجنون؟ يقول كاليوس: إنه لا بد من وضع المصابين بالهوس أو الجنون في مكان هادئ على أن تكون جدرانه خالية من الرسوم. وتوخيا للسلامة، يوضعون بالطابق السفلي. ومنع المرور المتكرر ذهابا وإيابا في هذا الطابق، وخاصة بالنسبة إلى الغرباء. «وإذا انتابت المرضى نوبات هياج وأصبح من الصعب احتواؤهم، أو إذا تضايقوا لشعورهم بالوحدة، وجب في هذه الحالة اللجوء إلى عدد من المشرفين وتكليفهم بتولي زمام الأمور، ولكن دون أن يدرك المرضى ذلك [...] ويسمح فقط في بعض الحالات النادرة جدا، باستخدام الأربطة، ولكن مع توخي الحذر إلى أقصى درجة.» وبالإمكان إجراء عمليات فصد للدم إذا كانت قوى المريض تسمح بذلك. كما يجب اتباع نظام غذائي خفيف. «إذا ظل المرض متمكنا من الشخص، ينبغي حلق رأسه»، واستخدام الحجامة أو العلقات. وعندما يهدأ المريض، يمكن تشجيعه على ممارسة التمارين والتنزه، ومطالعة بعض القراءات البسيطة وإجراء حوارات غير مجهدة. أما عن المناقشات الأكثر جدية، فتأتي في مرحلة متقدمة من العلاج. «وبالنسبة إلى المرضى الأميين، فإننا نتحدث إلى الفلاح عن زراعة الحقول، ونتحدث إلى الملاح عن الإبحار.» ومع تحسن حالة المريض، يتم التنويع في نظامه الغذائي؛ فيمكن تدريجيا إضافة اللحم (ما عدا لحوم الطرائد) والخمر «على أن يكون خفيفا وضعيف الأثر». وفور اختفاء أعراض المرض وتحسن حالة المريض؛ بمعنى أن يصبح أقل حساسية ولا يكون سهل التأثر والانفعال، لا بد من التفكير في تغيير الجو والسفر «سواء بالبر أو بالبحر»، أو حتى الاهتمام بدروس الفلاسفة التي من شأنها «تبديد الحزن والخوف وفورات الغضب؛ ومن ثم المساهمة بقوة في استعادة الإنسان لصحته».
ولكن، مرة أخرى، لا يبين لنا التناول الطبي للجنون ما هي ردود الفعل الاجتماعية تجاه هؤلاء المرضى. ما هي درجة تساهل المجتمع، في الفترات المختلفة من العصور القديمة، مع هؤلاء المجانين؟ متى كان يتم حبسهم؟ ومن كان يقوم بذلك؟ يتضح من خلال نصوص كاليوس أن عزل الشخص المصاب بالهوس أو بالجنون كان يتم بشكل خاص وسري، في إطار محيط العائلة؛ لم يكن يوجد في ذلك الوقت مارستانات أو مستشفيات للأمراض العقلية. وهناك أيضا مسألة الرعاية الطبية التي تستوجب أن تكون العائلة قادرة على دفع أجرة الطبيب علما بأنه كان لا بد من دفع مبالغ مالية بشكل متكرر حتى يقوم كبار الأطباء بتكريس جهودهم لعمل أبحاث وأطروحات كاملة لمعالجة المريض.
هناك سؤال آخر يطرح نفسه، أولئك المرضى الذين كانت تجرى معالجتهم بألف طريقة، هل شفوا في بعض الأحيان؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال؛ نظرا لأن أبقراط وخلفاءه لم يتطرقوا إلى هذا الموضوع الحساس. وترك الأمر للفيلسوف الرواقي سينيكا الذي قدم إجابة جميلة عن هذا السؤال في رسالته الرابعة والتسعين إلى لوكيليوس، وهي إجابة تصلح لأن تكون شعارا في عصرنا هذا وهي: «ليس معنى أن الطب لا يشفي كل شيء، أنه لا يشفي أي شيء.»
الجزء الثاني
ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
الفصل الأول
الوضع الراهن للتفكير النظري
لم يتطور التفكير النظري بشأن الجنون على الإطلاق في العصور الوسطى، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الخصوبة غير العادية للفكر اليوناني واللاتيني في ذلك العصر. فعلى حد قول الكاتب مالرو: «لم نعد في زمن حضارة البحث والتساؤل.» أيتعين أن نرى في هذا العصر - كما رأينا مع إله العبرانيين - ثقل التوحيد؟ سنعود إلى هذه المسألة الحساسة فيما بعد عند التطرق إلى الشيطانية التي اجتاحت الغرب المسيحي في أواخر القرون الوسطى.
صفحه نامشخص