تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرها
إلا أن هذا النجاح للأدوية النفسية لم يكن ليمر دون عواقب. فقد كانت الأدوية العصبية تتسبب جميعها تقريبا في إدمان ذي أعراض عنيفة. كما كانت تسبب حالات من الهذيان غير مفهومة. وأخيرا - في معظم الحالات - كان العلاج بالنسبة إلى الذهان وقتيا وليس علاجا شافيا. «صحيح أن الفصامي الذي يشعر أن العالم من حوله يشكل تهديدا يستخدم هلوسته كنظرية لهذا التهديد وأيضا كحصن له ضده. وهكذا، فإن بعض الفصاميين الذين لا يشعرون بهلاوس يكونون كمثل الأرامل اللاتي في حالة عوز.»
5
كانت الأعراض الجانبية كثيرة وقوية: نعاس واضطرابات في الذاكرة واختلاط الأفكار واضطرابات في الكلام وسمنة ورعشة وحركات غير طبيعية كمرض باركنسون وسقوط وموت مفاجئ في بعض الحالات، أو أيضا آثار متعارضة (حيث يزيد العرض بدلا من أن يقل أو يختفي). أحيانا، تكون الآثار ضارة لدرجة تستدعي وقف الدواء. ولكن عادت هذه الأدوية من جديد في التسعينيات بعد أن انخفضت درجة سميتها؛ مثل البروزاك الذي يعد أشهر دواء من فئة السيروتونينات (التي تزيد من كمية السيروتونين في الجهاز العصبي المركزي)؛ مما زاد من استهلاكها (الذي تضاعف في فرنسا من عام 1992 وحتى 1997) بصورة أكثر من ذي قبل خارج المصحات، أو حتى من دون وصفة طبية. فعندما يكون هناك مواطن فرنسي من كل أربعة مواطنين يتعاطى أدوية نفسية (دفع التأمين الاجتماعي مقابل مائة وخمسين مليون علبة دواء عام 2000)، يصبح من الصعب تحديد المرض العقلي.
وفيما يتعلق بالمحتجزين في المصحات، ارتفعت أصوات منذ عام 1955 تندد بدواء لارجاكتيل «كأسبيرين نفسي». وبعد عشرة أعوام، انتشر الحديث عما يسمى «سترة المجانين الكيميائية» فيما يتعلق بالأدوية التي تؤثر على الجهاز العصبي. وأصبحت المشاكل الأخلاقية المتعلقة بالعلاجات البيولوجية تطرح بسهولة من قبل الأطباء النفسيين ذاتهم؛ مما ساهم في نشر نوع من الإحباط في نهاية الستينيات. فلم يتوصل الطب النفسي البيولوجي إلى تحديد طريقة عمل الاضطرابات التي تفسر المرض العقلي. ألدينا الحق في استخدام المريض عقليا كمادة للتجارب؟ ألم نتوصل عبر معركة مشكوك فيها إلى هذه «السلبية التي تحول على نحو مأساوي المريض عقليا الهائج - ولكن الحي - إلى كتلة طيعة من اللحم خالية من أي روح للمبادرة؟» (جي هوشمان). في النهاية، ألا يؤدي اللجوء العملي للعلاجات البيولوجية - على نحو مفارق - إلى تنحي الطب النفسي؟ «أي القول بالضبط أن التخلي عن العلاقة والرابطة النفسية مع المريض يصاحبه تضخم في استخدام العلاج الكيميائي.»
6
فحتى هنري لابوريت رائد الطرق العلاجية البيولوجية ساورته الشكوك حولها. فرأى فيها في البداية مستقبل الإنسان الذي تخلص أخيرا من «التعقيدات ما قبل الدماغية التي ينغمس فيها أكثر فأكثر.» ابتداء من السبعينيات، تغيرت لهجته في كتاباته، ربما بعد فشل أحد الأدوية العصبية الجديدة التي كان يروجها وهو الكانتور، بعد أن طغى عليه البروزاك. ويندد لابوريت : «يا له من عالم غير متماسك بسبب كثرة اليقينيات الرائعة! هذا العالم الذي له ضمير مرتاح؛ لأنه لا يمتلك ضميرا في أي شيء، هذا العالم الذي لا يبحث عن شيء؛ لأنه وجد كل شيء.»
7
بالطبع، تجاوزت ثورة الطرق العلاجية البيولوجية إطار الرعاية فقط لتشمل الجنون بأكمله. تغير الوضع، وفتح التقدم المذهل أبوابا جديدة، طارحا تساؤلات جديدة. «منذ ذلك الحين، أصبح الطب النفسي يرجع كثيرا إلى النموذج العصبي التشريحي - على المستوى المجهري - بطريقة عمله المعقدة كنموذج للمرض العقلي. وأعيد تشكيل تقسيمات وتصنيفات الأمراض. كان الطب النفسي كله مدعوا للتغيير، على مستوى تصور المرض العقلي وأيضا على مستوى بروتوكولات العلاج. ولكن لم يكن إكسير الهدوء مقبولا كعلاج ناجع للمعاناة النفسية، وفي مقابل اتساع مدى الثورة الدوائية، كانت هناك حركات واسعة مناهضة للتحليل النفسي والطب النفسي.»
8
أيمكن القول بأن الطرق العلاجية التقليدية قد اختفت فجأة؟ نعم ولا؛ فقد حدث تعديل بالغ في هذا المجال، ولكنها لم تختف تماما. فعلاجات النمساوي ساكيل لم تختف، ولا اختفت طريقة العلاج بالصدمات الكهربائية. واليوم أيضا - بعد مرور خمسين عاما على ظهور العلاجات البيولوجية - لا تزال الصدمات الكهربائية موجودة تحت اسم «العلاج الإليكتروكونفولسيفي»
صفحه نامشخص